منتدايات أولاد ابو سيفين

Hهلا بكم فى منتداكم اولاد ابو سdفين

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدايات أولاد ابو سيفين

Hهلا بكم فى منتداكم اولاد ابو سdفين

منتدايات أولاد ابو سيفين

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

إجتماع شباب وشابات كنيسة أبو سيفين

المواضيع الأخيرة

» عظات لأبونا أرميا بولس فى تفسير الكتاب المقدس
انجيل متى Emptyالخميس مايو 08, 2014 5:59 pm من طرف القرينى

» لعبة الترانيم
انجيل متى Emptyالخميس يناير 13, 2011 3:48 am من طرف Bello Fiore

» اخر اكله للى بعدك
انجيل متى Emptyالأحد أكتوبر 24, 2010 11:24 am من طرف تامر ابن البابا

» اهلا بكم كل واحد يدخل يعرفنا بيه باسمه الحقيقي
انجيل متى Emptyالأحد أكتوبر 24, 2010 11:18 am من طرف تامر ابن البابا

» توقع اللى بعدك والد وله بنت
انجيل متى Emptyالأحد أكتوبر 03, 2010 12:47 pm من طرف سالي

» لعبة المحلات
انجيل متى Emptyالأحد أكتوبر 03, 2010 12:44 pm من طرف سالي

» يقربلك ايه الاسم ده
انجيل متى Emptyالأحد أكتوبر 03, 2010 12:42 pm من طرف سالي

» كله يكتب جنسيته
انجيل متى Emptyالأحد أكتوبر 03, 2010 6:51 am من طرف سالي

» تدريبات على الهدوء =لقداسة البابا شنودة الثالث
انجيل متى Emptyالأحد أغسطس 22, 2010 8:37 am من طرف Bello Fiore

تصويت

افتقاد خاص لكل اعضاء المنتدى احباء الله المكرمين

الإثنين مايو 24, 2010 1:05 pm من طرف تامر ابن ابى سيفين

+++ أخوتي الأحباء في الرب +++








سلام المسيح يسوع الذي بالمجد تمجد يملأ قلوبكم أفراح سماوية لا تزول
بمسرة أكتب إليكم رسالة محبة ، بشوق لكل الغائبين عنا ، وفرح بكل الموجودين معنـــــا ،
مناشداً محبتكم باسم مخلصنا وراعي …


[ قراءة كاملة ]

3 مشترك

    انجيل متى

    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad السبت مايو 22, 2010 1:23 pm


    الأصحاح الأول
    نسب الملك وميلاده
    إذ يكتب القدّيس متّى الإنجيلي لليهود عن شخص ربّنا يسوع المسيح بكونه المسيّا الملك الذي طالما ترقبه الآباء والأنبياء ليقدّم لنا الخلاص الحقيقي، أعلن عن نسبه وميلاده:
    1. نسب المسيح 1.
    2. شجرة الأنساب 2-16.
    3. عدد الأجيال 17.
    4. مريم المخطوبة 18.
    5. حلم يوسف 19-24.
    6. ميلاد المسيح المبكّر 25.
    1. نسب المسيح
    ربّما يتساءل البعض: لماذا يهتمّ الكتاب المقدّس بنسب السيّد المسيح، فيذكره الإنجيلي متّى في الافتتاحيّة، والإنجيلي لوقا بعد عماد السيّد (لو 3)؟
    أولاً: نحن نعلم أن الغنوسيّة وإن كان قد ظهر كبار رجالها في القرن الثاني الميلادي لكن جذورها بدأت في وقت مبكر جدًا، فقد أنكرت حقيقة التأنُس، مدّعية أن السيّد المسيح قد ظهر كخيالٍ أو وهم، إذ يكرهون الجسد ويعادونه كعنصر ظلمة. ذكر الأنساب هو تأكيد لحقيقة التجسّد الإلهي، فيؤكّد الوحي الإلهي أن ذاك الذي هو فوق الأنساب قد صار حسب الجسد له نسب. يقول القدّيس ساويرس الأنطاكي: [لكي نعرف الذي لا يُحصى في الأنساب، إذ مكتوب عنه: من يعرف جيله؟! (إش 53: انجيل متى Icon_cool، وبالأكثر هذا الذي كان قبل الدهور مساويًا في الأزليّة للآب ذاته، هو نفسه الذي حُسب في الأنساب حسب الجسد، لأنه إذ هو إله في الحقيقة، صار هو ذاته في آخر الأزمة إنسانًا بدون تغيير، وقد أظهره متّى مشتركًا في طبيعتنا حتى لا يقول أحد أنه ظهر كخيالٍ أو وهمِ.]
    ثانيًا: أراد القدّيس متّى تأكيد أن يسوع هو المسيّا الملك المنتظر، لهذا يفتح سلسلة الأنساب بقوله: "كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم" [1]. يقول القدّيس جيروم: [لقد ترك متّى كل الأسماء ليذكر داود وإبراهيم، لأن الله وعدهما وحدهما (بصراحة) بالمسيح، إذ قال لإبراهيم: "ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تك22: 18)، ولداود "من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك" (مز132: 11).] لقد ركّز على داود الملك وإبراهيم أب الآباء ليُعلن أنه الملك الموعود به، ابن داود. إنه الملك المختفي وراء طبيعتنا البشريّة والمتخلّي عن كمال مجده وبهائه، حتى يعطي للشيطان فرصة الدخول معه في معركة كسائر البشر، فيغلب السيّد لحسابنا. هذا من جانب، ومن الجانب الآخر فإن اختفاءه يهبنا الفرصة لقبولنا إيّاه فلا نهاب بهاءه ونهرب من جلال عظمته، بل نقبل اللقاء معه والاتّحاد به والثبوت فيه. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لا يظهر الملك على الدوام بالمظهر الخاص به، إنّما يُلقي الأرجوان جانبًا ومعه التاج متنكرًا في زيّ جندي عادي حتى لا يركّز العدوّ هجماته عليه، أمّا هنا فحدث العكس، فقد فعل (الرب) ذلك حتى لا يعرفه العدوّ ويهرب من الدخول معه في معركة، ولكي لا يرتبك شعبه (أمام بهائه)، إذ جاء ليخلّص لا ليرعب.]
    جاء الملك الحقيقي متأنّسًا كابن لداود الملك مع أن الأخير في حقيقته عبد، لقد رضي أن يكون العبد أبًا له، حتى نقبل نحن العبيد الإله أبًا لنا، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [سمح لنفسه أن يُدعى ابن داود ليجعلك ابن الله! سمح لعبد أن يصير له أبًا، حتى يكون لك أيها العبد الرب أبًا لك!... وُلد حسب الجسد لتُولد أنت حسب الروح! وُلد من امرأة لكي تكف عن أن تكون ابنًا لامرأة.]
    ثالثًا: أراد بهذا النسب تأكيد أنه من نسل إبراهيم، أب جميع المؤمنين، الذي نال المواعيد إنه بنسله تتبارك جميع أمم الأرض. كأنه قد جاء كسّر بركة لجميع الأمم، مقدّمًا أبوة فائقة لا تقف عند علاقة الجسد والدم كما حصرها اليهود في علاقتهم بإبراهيم، إنّما قدّم الأبوة السماويّة لكل مؤمن من كل أمة!
    2. شجرة الأنساب
    قدّم لنا معلّمنا متّى نسب الملك قبل عرضه أحداث الميلاد، بينما قدّمه معلّمنا لوقا بعد عرضه للعماد المقدّس (لو 3)، وقد اهتم كثير من الآباء بشرح هذا النسب في شيء من الإطالة، لكنّني أجد نفسي ملتزمًا بعرض مبسّط له، ألخصه في النقاط التالية:
    أولاً: جاء النسب هنا في ترتيب تنازلي يبدأ بإبراهيم وينتهي بيوسف رجل مريم الذي وُلد منها يسوع الذي يُدعى المسيح، أمّا في إنجيل معلّمنا لوقا فجاء النسب في ترتيب تصاعدي من يسوع الذي على ما كان يظن ابن يوسف (لو 3: 23) إلى آدم ابن الله. يتحدّث الأول قبل أحداث الميلاد ليُعلن أن كلمة الله المتجسّد هذا وإن كان بلا خطيّة وحدث لكنّه جاء من نسل خاطئ ليحمل عنّا الخطايا التي ورثناها أبًا عن جد، لذا جاء الترتيب تنازليًا... كأن الخطايا تنحدر من جيل إلى جيل ليحملها السيّد على كتفيه. أمّا الإنجيل الآخر فيلتزم بالترتيب التصاعدي إذ يأتي بعد المعموديّة معلنًا عطيّة الرب خلالها، يرفعنا حتى يردنا إلى حالتنا الأولى "آدم ابن الله" (لو3: 38). فالإنجيلي متّى يُعلن المسيّا حامل خطايانا، والإنجيلي لوقا يُعلن تمتّعنا بالبنوّة لله فيه.
    ثانيًا: اختلاف النسب في القائمتين مرجعه أن متّى وهو يُعلن عن السيّد المسيح كحامل لخطايانا يذكر النسب الطبيعي، حسب اللحم والدم، أمّا لوقا إذ يُعلن عن بنوتنا لله في المسيح يسوع يذكر النسب الشرّعي حيث يمكن لإنسان أن يُنتسب لأب لم يُولد منه جسديًا. نذكر على سبيل المثال كان القدّيس يوسف ابنًا ليعقوب جسديًا، لكنّه ابن هالي شرعًا، لأن هالي مات دون أن ينجب ابنا، فتزوّج يعقوب امرأته لينجب له نسلاً فلا يُمحى اسمه من إسرائيل (تث 25: 5-6؛ مت 22: 24). وكأن القدّيس يوسف خطيب القدّيسة مريم هو ابن لداود الملك حسب القائمتين: سواء النسب الطبيعي أو الشرّعي، بالرغم من اختلافهما.
    ثالثًا: إذ كان متّى البشير يتحدّث إلى اليهود ليؤكّد أن يسوع هو المسيّا المنتظر، بدأ النسب بإبراهيم المختار، أمّا لوقا إذ يكتب للأمم انتهى النسب بآدم ابن الله، ليضم البشريّة كلها للبنوة لله.
    رابعًا: جاء النسب خاصًا بالقدّيس يوسف لا القدّيسة مريم، مع أن السيّد المسيح ليس من زرعه، ذلك لأن الشريعة الموسويّة تنسب الشخص للأب وليس للأم كسائر المجتمعات الأبوية. فإن كان يوسف ليس أبًا له خلال الدم لكنّه تمتّع ببركة الأبوة خلال التبنّي. لذلك نجد القدّيسة مريم نفسها التى أدركت سرّ ميلاده العجيب تقول للسيد: "لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنّا نطلبك معذّبين" (لو 2: 48). فإن كانت الشريعة تقيم للميّت ابنا (تث 25: 5) متى أنجبت امرأته من الوَلي، فبالأولى ينسب السيّد المسيح كابن ليوسف وهو ليس من زرعه، وقد أعطاه الملاك حقوق الأبوّة كتلقيبه، إذ يقول له: "فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع".
    خامسًا: لم يذكر النسب أسماء نساء عظيمات يفتخر بهنّ اليهود كسارة ورفقة وراحيل، إنّما ذكر ثامار التي ارتدَت ثياب زانية (تك 38)، وراحاب الكنعانيّة الزانية (يش 2: 1) وبَتْشبْع التي يلقّبها "التي لأوريّا" مُظهرًا خطيّتها مع داود الملك. وكما يقول القدّيس ساويرس الأنطاكي: [ليكشف أن طبيعتنا التي أخطأت وسقطت، ودارت وتعثّرت في الشهوات غير اللائقة، هي التي جاء المسيح لعلاجها، حتى أنها عندما هربت ضُبطت، وعندما اندفعت وفي ثورتها أسرعت في الابتعاد أمسكها وأوقفها، وأتى بها وقادها إلى الطريق"، "المسيح إذن وضع على ذاته نسب هذه الطبيعة التي تنجّست لكي يطهّرها؛ هذه التي مرضت لكي يشفيها؛ هذه التي سقطت لكي يقيمها، وكان ذلك بطريقة فيها تنازل ومحبّة للبشر.] ويقول القدّيس جيروم: [لم يذكر في ميلاد المسيح ونسبه اسم قدّيسة، بل ذكر من شَجَبهنّ الكتاب، وهو يريد القول بأن من جاء من أجل الخطاة وُلد من خاطئات ليمحو خطايا الجميع.]
    لقد بشر الإنجيلي بنسب الملك في حرّية دون أن يخفي ما يبدو مخزيًا، كاسرًا تشامخ اليهود الذي يكرّرون القول أنهم نسل إبراهيم؛ جاء كطبيب يعالج ضعفنا لا كديّان!
    سادسًا: ذكر معلّمنا متّى في النسب بعض النساء الأمميّات مثل راعوث الموآبيّة وراحاب الكنعانيّة، ليُعلن أنه جاء من أجل البشريّة كلها ليخصّ الأمم كما اليهود. ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم في راعوث رمزًا لكنيسة الأمم التي تركت بيت أبيها والتصقت بكنيسة الله وقبلت العضويّة فيها، إذ يقول: [أنظر كمثال ماذا حدث لراعوث، كيف أنها تحمل شبهًا للأمور الخاصة بنا. لقد كانت غريبة الجنس، انحطت إلى الفقر المدقع، ومع هذا لما رآها بوعز لم يحتقر فقرها، ولا اشمأز من مولدها الدنيء هكذا إذ يتقبّل المسيح الكنيسة بكونها غريبة وفي فقر شديد، يأخذها كشريكة في البركات العظيمة، لكن يجب أن تكون كراعوث، فإن لم تترك أولاً أباها وترفض بيتها وجنسها ومدينتها وأقرباءها لن تحصل على هذا الزواج. هكذا إذ تترك الكنيسة أيضًا العادات التي تقبلها الناس عن آبائهم عندئذ - وليس قبل ذلك - تصير محبوبة لدى عريسها. في هذا يحدّثها النبي قائلاً: "اِنسي شعبك وبيت أبيك، لأن الملك اشتهى حسنك" (مز 45: 10-11). هذا ما فعلته راعوث فصارت أمّا للملوك كما يحدّث مع الكنيسة".
    سابعًا: من بين أسلاف المسيح أشخاص لهم إخوة، ويلاحظ أن السيّد جاء بصفة عامة منحدرًا، لا من الأبناء البكر، بل ممن هم ليسوا أبكارًا حسب الجسد، مثل إبراهيم ويعقوب ويهوذا وداود ويوناثان. لقد جاء السيّد ليُعلن أن البكوريّة لا تقوم على الولادة الجسديّة، وإنما على استحقاق الروح. لقد جاء السيّد (آدم الثاني) بكر البشريّة كلها، فيه يصير المؤمنون أبكارًا، وتُحسب كنيسته كنيسة أبكار.
    ثامنًا: ذكر معلّمنا متّى في نسب السيّد فارص دون زارح، لأن فارص يمثّل كنيسة الأمم التي صارت بكرًا باتّحادها بالسيّد المسيح البكر، بينما زارح يمثّل اليهود الذين فقدوا البكوريّة برفضهم الاتّحاد مع البكر. لقد أخرج زارح يده أولاً بكونه الابن البكر، لكنّه لم يولد أولاً، بل تقدّمه فارص، فاحتل مركزه، ونعِمَ بالبكوريّة. هكذا ظهر اليهود أولاً كبكر للبشريّة، لكنهم حُرموا من البكوريّة، وتمتّع بها الأمم عوضًا عنهم.
    تاسعًا: ذكر سبي بابل ليؤكّد أنه بالرغم من تأديبات الشعب بالسبي زمانًا طويلاً لكنّه حافظ على أنسابه، ليتحقّق الوعد الإلهي بمجيء المخلّص. يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على ذكر السبي دون الإشارة إلى التغرّب في مصر، قائلاً: [لأنهم لم يعودوا بعد يخافون المصريّين، وإنما كانوا لا يزالون يخافون البابليّين. الأول (النزول إلى مصر) أمر قديم، أمّا الثاني فكان لا يزال جديدًا، حدث مؤخّرًا. الأول لم يحدث بسبب خطايا ارتكبوها، أمّا الآخر فبسبب معاصيهم.]
    3. عدد الأجيال
    يقسّم الإنجيلي الأجيال من إبراهيم إلى مجيء السيّد إلى ثلاث حقبات، كل حقبة تضم 14 جيلاً:
    أ. من إبراهيم إلى داود، تنتهي الحقبة بالمجد الملوكي مُعلنًا في داود.
    ب. من داود إلى سبي بابل، تنتهي بالعار في السبي.
    ج. من السبي إلى السيّد المسيح، تنتهي بتحقيق الخلاص، ونزع العار حيث يملك المسيّا. في دراستنا لسفر الخروج (ص 33) لاحظ العلاّمة أوريجينوس أن عدد المحطات التي توقّف عندها الشعب قديمًا من رعمسيس إلى الجانب الشرقي لنهر الأردن 42 محطة، تمثّل الأجيال التي ذكرها متّى البشير (3 حقبات ×14 جيلاً = 42)، وكأن الرحلة تمثّل عبور البشريّة كلها في برّيّة هذا العالم، لتنطلق من أرض العبوديّة وأسر فرعون الحقيقي، أي إبليس، والدخول إلى أرض الموعد حيث ننعم بمجد أولاد الله. مجيء السيّد من امرأة يقدّم لكل مؤمن إمكانيّة هذا العبور ليدخل به بالروح القدس إلى حضن الآب السماوي.
    وقد لاحظ القدّيس أغسطينوس في هذا النسب أن يكنيا قد تكرّر مرّتين في نهاية الحقبة الثانية، وبدْء الحقبة الثالثة [11-12]، فقد عاصر يكنيا السبي البابلي بعد أن عُين ملكًا عوضًا عن أبيه. لم يذكر الكتاب المقدّس شيئًا عن خطاياه، وإنما ذكر خطايا الشعب والرؤساء. لقد نُزع عنه الملك، وأُقتيد إلى السبي من أجل خطايا الشعب. وكأن يكنيا يمثّل السيّد المسيح الذي يُحصى مرّتين، جاء لليهود ليخلّصهم، وإذ رفضوه عبر إلى الأمم (بابل) ليخلّصهم. إنه حجر الزاوية المرفوض (مز 118: 22) ربط حائط الأمم بحائط اليهود، ليُقيم كنيسة واحدة للجميع.
    يرى G. G. Box أن الإنجيلي متّى قسّم الأجيال إلى ثلاثة مجموعات، كل مجموعة تقوم على أساس الرقم الفلكي لاسم داود الذي في مجموع حروفه بالعبريّة "14"، وكأن القدّيس أراد تأكيد نسب السيّد المسيح لداود الملك ثلاث مرّات، أو كأن السيّد هو الملك لكل الحقبات الزمنيّة.
    4. مريم المخطوبة
    "وأما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا:
    لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا
    وُجدت حبلى من الروح القدس" [18].
    أكدّ الكتاب المقدّس أن الحبل به في أحشاء القدّيسة مريم تحقّق بالروح القدس، الذي هيّأها وقدّسها ليحل كلمة الله فيها، ابن الله الوحيد. إنه ليس من زرع بشر، إذ تحقّق الحبَل وهي مخطوبة للقدّيس يوسف. وكانت الخطبة ليوسف البار أمرًا ضروريًا، لأسباب كثيرة منها ما ذكره القدّيس جيروم:
    أولاً: لكي يُنسب للقدّيس يوسف قريب القدّيسة مريم، فيظهر أنه المسيّا الموعود به من نسل داود من سبط يهوذا.
    ثانيًا: لكي لا تُرجم القدّيسة مريم طبقًا للشريعة الموسويّة كزانية، فقد سلّمها الرب للقدّيس البار الذي عرف برّ خطيبته، وأكّد له الملاك سرّ حبلها بالمسيّا المخلّص.
    ثالثًا: لكي تجد القدّيسة معها من يعزّيها، خاصة أثناء هروبها إلى أرض مصر.
    أما لماذا وُلد السيّد من امرأة أو عذراء؟ فيجيب القدّيس أغسطينوس، قائلاً:

    v لو تجنّب الميلاد منها، لظننا كما لو كان الميلاد منها ينجِّسه، مادام جوهره لا يتدنّس فلا خوف من الميلاد من امرأة.
    v بمجيئه رجلاً دون ولادته من امرأة، يجعل النساء ييأسْنَ من أنفسهن متذكّرات الخطيّة الأولى... وكأنه يخاطب البشريّة، قائلاً: ينبغي أن تعلموا أنه ليس في خليقة الله شرًا، إنّما الشهوة المنحلّة هي التي أفسدت الخليقة. انظروا، لقد وُلدت رجلاً، ووُلدت من امرأة، فأنا لا احتقر خليقتي، بل ازدري بالخطيّة التي لم أجبلها... لنفس السبب نجد النساء هن أول من بشرن بالقيامة للرسل. ففي الفردوس أعلنت المرأة عن الموت لرجلها، وفي الكنيسة أعلنت النساء الخلاص للرجال.
    القدّيس أغسطينوس
    يُعلّق هلفيديوس في أواخر القرن الرابع على قول الإنجيلي: "قبل أن يجتمعا وُجدت حبلى"، بأنفي هذا دليل ضمني على اجتماعهما بعد ولادة السيد، ناكرًا بتوليّة القدّيسة مريم، وقد سبق لي معالجة هذا الأمر في شيء من التوسّع، لذا أكتفي ببعض عبارات للقدّيس جيروم في الرد عليه: [لو أن انسانًا قال: قبل الغذاء في الميناء أبحرت إلى أفريقيا"، فهل كلماته هذه لا تكون صحيحة إلا إذا أرغم على الغذاء بعد رحيله! وإن قلت أن "بولس الرسول قُيّد في روما قبل أن يذهب إلى أسبانيا"، أو قلت "أدرك الموت هلفيديوس قبل أن يتوب" فهل يلزم أن يحلّ بولس من الأسر ويمضي مباشرة إلى أسبانيا، أو هل ينبغي لهلفيديوس أن يتوب بعد موته؟... فعندما يقول الإنجيلي "قبل أن يجتمعا" يُشير إلى الوقت الذي سبق الزواج مظهرًا أن الأمور قد تحقّقت بسرعة حيث كانت هذه المخطوبة على وشك أن تصير زوجة... وقبل حدوث ذلك وُجدت حُبلى من الروح القدس... لكن لا يتبع هذا أن يجتمع بمريم بعد الولادة.]
    5. حلم يوسف
    "فيوسف رجلها إذ كان بارًا ولم يشأ أن يشهرها،
    أراد تخليتها سرًا" [19].
    كانت علامات الحمل قد بدأت تظهر على القدّيسة مريم، الأمر الذي كان كافيًا لإثارة الغضب، بل وتعطيه الشريعة حق تقديمها للكهنة لمعاقبتها بالرجم، لكنّه إذ كان بارًا، وقد لمس في القدّيسة عفّتها وطهارتها ارتبك للغاية. في حنو ولطف لم يفتح الأمر مع أحد حتى مع القدّيسة نفسها، ولا فكّر في طردها وإنما "أراد تخليتها سرًا" أيضًا تطليقها. فنحن نعرف أن الخطبة في الطقس اليهودي تعطي ذات الحقوق والالتزامات الخاصة بالزواج فيما عدا العلاقة الزوجيّة الجسديّة. هذا هو السبب لدعوة الملاك إيّاها "امرأتك" [20]، الأمر الذي سبق لنا دراسته.
    يُعلّق القدّيس يعقوب السروجي على هذا التصرّف النبيل من جانب القدّيس يوسف، قائلاً:
    [نظر الشيخ إلى بطنها، تلك المخطوبة له، وتعجّب الصِدّيق!
    رأى صبيّة خجولة عاقلة، فبقى داهشًا في عقله!
    شكلها متواضع، وبطنها مملوءة، فتحيّر ماذا يصنع؟!
    منظرها طاهر، ورؤيتها هادئة، والذي في بطنها يتحرّك!
    طاهرة بجسدها، وحبلها ظاهر، فتعجّب من عفّتها والمجد الذي لها، وبسبب حبلها كان غاضبًا...
    كان البار حزين القلب على حبل العذراء النقيّة، وأراد أن يسألها فاستحى... وفكّر أن يطلّقها سرًا.]
    ربّما يتساءل البعض، وهل من ضرورة لتخليتها سرًا؟ يجيب القدّيس جيروم بأن العلامات كانت واضحة، فإن لم يتخلَ عنها يُحسب مذنبًا حسب الشريعة، فإنه ليس فقط من يرتكب الخطيّة يتحمّل وزرها، وإنما من يشاهدها ولا يتخذ موقفًا منها.
    "ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور،
    إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم، قائلاً:
    يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك،
    لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس" [20].
    إذ رأى الله ارتباك هذا البار مع سلوكه بحكمة ووقار أراد أن يطمئنه، فأظهر له ملاكًا في حلم يكشف له عن سرّ الحبل. إنه لم يقدّم له رؤيا في يقظته، [إذ كان متزايدًا جدًا في الإيمان وليس في حاجة إلى الرؤية ]، كقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم.
    يُعلّق القدّيس جيروم على دعوة الملاك للقدّيسة مريم أنها امرأة يوسف، قائلاً: [نحن نعرف أنه من عادة الكتاب المقدّس أن يعطي هذا اللقب للمخطوبات. هذا ما يؤكّده المثل التالي من سفر التثنية: "إذ كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها، فاخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة ورجموهما حتى يموتا؛ الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فتنزع الشرّ من وسطك" (تث 22: 23-24) راجع (تث 20: 7)] كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هنا يدعو الخطيبة زوجة، كما تعوّد الكتاب أن يدعو المخطوبين أزواجًا قبل الزواج. وماذا تعني "تأخذ"؟ أي تحفظها في بيتك، لأنه بالنيّة قد اخرجها. احفظ هذه التي اخرجتها، كما قد عُهد بها إليك من قبل الله، وليس من قبل والديها.]
    "فستلد ابنًا وتدعو اسمه يسوع،
    لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم.
    وهذا كلّه كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل:
    هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعون اسمه عمانوئيل
    الذي تفسيره الله معنا" [21-23].
    لقد أعطى الملاك ليوسف البار هذه الكرامة أن يمارس الأبوة مع أن السيّد المسيح ليس من زرعه، فأعطاه حق تسُمّيته، وإن كان الاسم ليس من عنديّاته بل بإعلان إلهي. إنه "يسوع" التي تعني في العبريّة "يهوه يخلّص"، وكما يقول الملاك " لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم". يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [شعبه ليس هم اليهود وحدهم، وإنما يشمل كل من يقتربون إليه، ويتقبّلون المعرفة الصادرة عنه.]
    أما كلمة "عذراء" ففي العبريّة "آلما Olmah"، هي تخص فتاة عذراء يمكن أن تكون مخطوبة لكن غير متزوجة، وجاءت مطابقة على القدّيسة مريم تمامًا".
    6. ميلاد المسيح المبكّر
    "لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر،
    ودعا اسمه يسوع" [25].
    اعتمد هلفيديوس في إنكاره دوام بتوليّة القدّيسة مريم على هذه العبارة، قائلاً بأن كلمة "حتى" تعني أنه عرفها بعد الميلاد، وأن عبارة "ابنها البكر" تُشير إلى وجود أبناء آخرين ليسوا أبكارًا. يجيب القدّيس جيروم بأن كلمة "يعرفها" لا تعني حتمًا المعاشرة الزوجيّة، وإن كان يمكن أن تعني هذا، وكأن القدّيس يوسف لم يعرف القدّيسة مريم فيما نالته من نعم عظيمة حتى ولدت يسوع المسيح. أما كلمة "حتى" فلا تعني أن معرفته لها - بالجانب الجسدي - تحقّق بعد الولادة، وقد أعطى القدّيس جيروم أمثله لذلك. عندما يقول الرسول: "لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه" (1 كو 15: 25)؛ هل سيملك الرب حتى يصير أعداؤه تحت قدميه وعندئذ يتوقّف ملكه؟ أيضًا يقول المرتّل: "أعيننا إليك يا الله حتى يتراءف علينا" (مز 123: 2)، فهل يتطلّع النبي نحو الله حتى ينال الرأفة وعندئذ يحول عينيّه عنه إلى الأرض؟! يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [استخدم هنا كلمة "حتى" لا لكي تشك وتظن أنه عرفها بعد ذلك، إنّما ليخبرك أن العذراء كانت هكذا قبل الميلاد لم يمسها رجل قط. ربّما يقال: لماذا استخدم كلمة "حتى"؟ لأنه اعتاد الكتاب أن يستعمل هذا التعبير دون الإشارة إلى أزمنة محدّدة. فبالنسبة للفَلك قيل إن الغراب لم يرجع حتى جفت الأرض (تك 8: 7) مع أنه لم يرجع قط.]
    أما من جهة تعبير: "البكر" فلا يعني أن السيّد المسيح له إخوة أصغر منه من مريم وأنه هو بكرها. فإن كل فاتح رحم يُحسب بكرًا حتى ولو لم يكن بعده إخوة أصغر منه. يقول القدّيس جيروم في ردّه على هلفيديوس: [كل ابن وحيد هو بكر، ولكن ليس كل بكر هو ابن وحيد. فإن تعبير "بكر" لا يُشير إلى شخص له إخوة أصغر منه، وإنما يُشير إلى من يسبقه أخ أكبر منه يقول الرب لهرون: "كل فاتح رحم من كل جسد يقدّمونه إلى الرب: من الناس والبهائم يكون لك. ولكن بكر الإنسان ينبغي لك أن تقبل فداءه. وبكر البهائم النجسة تقبل فداءه" (عد 18: 15). قول الرب هنا يّعرف البكر على كل فاتح رحم.] لو كان يلزم أن يكون له اخوة أصاغر لكان ينبغي ألا يقدّم البكر من الحيوانات الطاهرة للكهنة إلا بعد ولادة أصاغر بعده، وما كانت تدفع فدية الإنسان والحيوان النجس إلا بعد التأكّد من إنجاب اخوة أصاغر.
    1 كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم
    2 ابراهيم ولد اسحق و اسحق ولد يعقوب و يعقوب ولد يهوذا و اخوته
    3 و يهوذا ولد فارص و زارح من ثامار و فارص ولد حصرون و حصرون ولد ارام
    4 و ارام ولد عميناداب و عميناداب ولد نحشون و نحشون ولد سلمون
    5 و سلمون ولد بوعز من راحاب و بوعز ولد عوبيد من راعوث و عوبيد ولد يسى
    6 و يسى ولد داود الملك و داود الملك ولد سليمان من التي لاوريا
    7 و سليمان ولد رحبعام و رحبعام ولد ابيا و ابيا ولد اسا
    8 و اسا ولد يهوشافاط و يهوشافاط ولد يورام و يورام ولد عزيا
    9 و عزيا ولد يوثام و يوثام ولد احاز و احاز ولد حزقيا
    10 و حزقيا ولد منسى و منسى ولد امون و امون ولد يوشيا
    11 و يوشيا ولد يكنيا و اخوته عند سبي بابل
    12 و بعد سبي بابل يكنيا ولد شالتئيل و شالتئيل ولد زربابل
    13 و زربابل ولد ابيهود و ابيهود ولد الياقيم و الياقيم ولد عازور
    14 و عازور ولد صادوق و صادوق ولد اخيم و اخيم ولد اليود
    15 و اليود ولد اليعازر و اليعازر ولد متان و متان ولد يعقوب
    16 و يعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح
    17 فجميع الاجيال من ابراهيم الى داود اربعة عشر جيلا و من داود الى سبي بابل اربعة عشر جيلا و من سبي بابل الى المسيح اربعة عشر جيلا
    18 اما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا لما كانت مريم امه مخطوبة ليوسف قبل ان يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس
    19 فيوسف رجلها اذ كان بارا و لم يشا ان يشهرها اراد تخليتها سرا
    20 و لكن فيما هو متفكر في هذه الامور اذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا يا يوسف ابن داود لا تخف ان تاخذ مريم امراتك لان الذي حبل به فيها هو من الروح القدس
    21 فستلد ابنا و تدعو اسمه يسوع لانه يخلص شعبه من خطاياهم
    22 و هذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل
    23 هوذا العذراء تحبل و تلد ابنا و يدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا
    24 فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما امره ملاك الرب و اخذ امراته
    25 و لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر و دعا اسمه يسوع
    </FONT>
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 7:26 am

    الأصحاح الثاني

    سجود الملوك للملك

    إذ وُلد المسيّا الملك جاء المجوس يمثّلون كنيسة الأمم المنجذبة لعريسها الملك، تقبل حبّه وتتعبّد له، تقدّم له حياتها تقدمة حب مقابل ذبيحة حبّه اللانهائي:

    1. مجيء المجوس 1-6.

    2. ثورة هيرودس 7-8.

    3. سجود المجوس 9-11.

    4. انصراف المجوس 12.

    5. الهروب إلى مصر 13-15.

    6. قتل أطفال بيت لحم 16-18.

    7. العودة إلى الناصرة 19-23.

    1. مجيء المجوس

    حقًا إن مجيء كلمة الله متجسّدًا قد شغل ذهن الله قبل خلقتنا، وقد هيأ له وسط شعبه بالآباء والأنبياء والناموس، بطرق متنوّعة، ومع هذا إذ تحقّق الأمر تجاهله الشعب تمامًا اللهمّ إلا القليل النادر. لهذا قدّم الله توبيخًا خلال الغرباء، فجاء إليه المجوس كباكورة كنيسة الأمم. جاءوا إلى بلدٍ غريبٍ ليسجدوا لطفل بسيط في مزود، وليس مولود قصر ملكي، لكن يقود موكبهم نجم سماوي، يُعلن عن وجود سرّ خفي فيه.

    والمجوس هم كهنة وفي نفس الوقت ملوك كلدانيون أو فارسيون يقضون جل وقتهم في دراسة الظواهر الفلكية والتكهن بالحوادث المقبلة.

    غالبًا ما جاء المجوس في موكب عظيم يتقدّمهم ثلاثة من كبارهم يحملون الهدايا للملك العجيب، هؤلاء يمثّلون كل أجناس البشريّة المتسلسلة عن أولاد نوح الثلاثة: سام وحام ويافث. وكأنهم بكور الشعوب الأممية جاءوا يلتفون مع بسطاء اليهود - الرعاة - في السجود للمسيّا، فيضمهم معًا كنيسة واحدة له. يقول القدّيس أغسطينوس: [من هم هؤلاء المجوس إلا بكور الأمم؟ لقد كان الرعاة إسرائيليّين والمجوس أمميّين. كان الأوّلون ملاصقين له، والآخرون جاءوا إ ليه من بعيد. لقد أسرع الكل إلى حجر الزاوية".]

    وما هو هذا النجم؟ يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنه لم يكن نجمًا حقيقيًا كسائر النجوم، إنّما هو ملاك ظهر في شكل نجم أرسله الله لهداية المجوس العاملين في الفلك، ويعلّل ذلك بالآتي:

    أولاً: أن مسار النجم الذي ظهر مختلف عن مسار حركة النجوم الطبيعيّة.

    ثانيًا: كان النجم ساطعًا في الظهيرة والشمس مشرقة، وليس كبقيّة النجوم تسطع ليلاً.

    ثالثًا: كان يظهر أحيانًا ويختفي أحيانًا أخرى.

    رابعًا: كان منخفضًا، قادهم إلى حيث المزود تمامًا.

    ويرى العلاّمة أوريجينوس أنه نجم حقيقي لكنّه من نوع فريد، إذ يقول: [إننا نعتقد أن الذي ظهر في المشرق كان نجمًا جديدًا، ليس كالنجوم العاديّة... لكنّه يُحسب في عداد المذنبات التي تشاهد في أحيان كثيرة، أو النيازك، أو النجوم الملتحمية أو النجوم التي على شكل الجرار، أو أي اسم ممّا يصف به اليونانيّون أشكالها المختلفة.]

    لماذا استخدم النجم؟

    أولاً: استخدم الله كل وسيلة للحديث مع شعبه موضّحًا لهم أسرار التجسّد الإلهي وأعماله الخلاصيّة، لكن إذا أظلمت عيون قلوبهم بظلمة الشرّ وتقسّى قلبهم، بعث إليهم غرباء الجنس كعطشى للحق يوبّخونهم. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لتوبيخ اليهود على قسوتهم، ولينزع عنهم كل عذر يحتجّون به على جهلهم الإرادي.] ويقول القدّيس جيروم: [لكي يعرف اليهود بنبأ ميلاد المسيح من الوثنيّين حسب نبوّة بلعام أحد جدودهم، بأن نجمه يظهر من المشرق. وإذ أرشد النجم المجوس حتى اليهوديّة وتساءل المجوس عنه، لم يبقَ لكهنة اليهود عذر من جهة مجيئه.] حقًا في كل عصر إذ يتقسّى قلب المؤمنين أبناء الملكوت يحدّثهم الرب أحيانًا خلال الملحدين والأشرار الذي يقبلون الإيمان في غيرة متّقدة توبّخهم.

    ثانيًا: الله الذي يحب البشريّة كلها يُعلن ذاته للجميع، محدثًا كل واحدٍ بلغته. فقد تحدّث مع اليهود بالناموس والنبوّات، واستخدم الفلسفات اليونانيّة بالرغم ممّا ضمّته من أضاليل كثيرة كطريق خلاله قبل كثير من الفلاسفة إنجيل الحق. وها هو يحدّث المجوس رجال الفلك بلغتهم العمليّة.

    يحدّث الله كل إنسان باللغة التي يفهمها، فأرسل للرعاة ملائكة وللمجوس نجمًا يقول القدّيس أغسطينوس: [أظهر الملائكة المسيح للرعاة، وأعلن النجم عنه للمجوس. الكل تكلم من السماء!... الملائكة تسكن السماوات، والنجم يزيّنها، وخلال الاثنين تُعلن السماوات مجد الله.] ويقول الآب غريغوريوس الكبير: [كان من اللائق أن كائنًا عاقلاً، أي ملاكًا هو الذي يخبر هؤلاء الذين استخدموا عقولهم في معرفة الله، أمّا الأمم فإذ لم يعرفوا أن يستخدموا عقولهم في معرفته لم يقدهم الصوت الملائكي بل العلاّمة (النجم). لهذا السبب يقول بولس أن النبوّة ليست لغير المؤمنين بل للمؤمنين، وأما الآية (العلامة) فليست للمؤمنين بل لغير المؤمنين (1 كو 14: 22).] ويرى بعض الآباء مثل العلاّمة أوريجينوس أن المجوس أدركوا أن تعاويذهم قد بطلت، وشعروا أثناء عملهم أن أمرًا يفوق السحر قد حدث في العالم، فتطلّعوا إلى النجوم ليروا علامة من الله في السماء، عندئذ أدركوا كلمات بلعام: "يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل... " (عد 24: 17). يقول القدّيس جيروم: [تعلّموا عن ظهور هذا النجم من نبوّة بلعام إذ هم من نسله.]

    ثالثًا: يرى البعض أن المجوس تسلّموا هذا التقليد الخاص بظهور النجم عند مجيء الملك المخلّص عن دانيال النبي الذي عينه الملك كبيرًا للمجوس حين كان في السبي البابلي، وفد حدّد في نبوّاته موعد مجيئه.

    رابعًا: أراد الله أن يخرج من الآكل أكلاً، ومن الجافي حلاوة، فالنجوم التي اُستخدمت كوسيلة للتضليل يعبدها الناس (عا 5: 26) صارت وسيلة للدخول بهم إلى الالتقاء مع الله. حقًا ما أعجب معاملات الله معنا، إنه لا يحطّم ما لنا حتى إن صار طريقًا للشرّ إنّما يغيّر مساره ويحوّله إلى الخير؛ عِوض أن يكون خادمًا لمملكة الظلمة يصير آلة برّ لحساب مملكة النور. كل ما وهبنا الله من طاقات ومواهب ومشاعر ودوافع إن تدنّست لا يحطّمها الله، بل بروحه القدّوس يجدّدها ويقدّسها لتصير سرّ بنياننا الروحي ووسائط للشهادة له.

    والعجيب أن الله استخدم النجوم للكرازة بين الفلكيّين، فإذا ببعضهم أرادوا تأكيد مفاهيمهم الشرّيرة بذات العمل الإلهي الفائق، فادّعوا أن لكل إنسان نجمه الذي يُسيّر حياته لا يقدر أن ينحرف عنه. وقد انبرى كثير من الآباء يواجهون هذه الادعاءات مثل الآباء غريغوريوس الكبير، يوحنا الذهبي الفم، وأغسطينوس.نذكر على سبيل المثال بعض عبارات للقدّيس أغسطينوس: [لم يكن للنجم الذي رآه المجوس السلطان على المسيح المولود حديثًا، لم يكن هذا النجم أحد النجوم التي خُلقت في بدء الخليقة ويجرى في مساره حسب قانون خالقه، إنّما كان نجمًا جديدًا ظهر في هذا الميلاد العجيب من عذراء، وعكس خدمته على المجوس الباحثين عن امرأة، فتقدّمهم ليضيء لهم الطريق حتى قادهم إلى الموضع حيث فيه كان كلمة الرب كطفل. لم يُولد الطفل لأن النجم كان هناك، وإنما جاء النجم لأن المسيح قد وُلد. إن كان يجب أن نتحدّث عن المصير بالأحرى دعنا نقول لم يحدّد النجم مصير المسيح (كما يدَّعي المنجّمون) بل المسيح الذي حدّد مصير النجم.]

    خامسًا: جاء النجم يكمّل شهادة الطبيعة للسيّد المسيح. إن كانت البشريّة العاقلة لم تعرف كيف تستقبله كما يجب انطلقت الطبيعة الجامدة تشهد له بلغتها الخاصة. يقول القدّيس أغسطينوس: [شهدت له السماوات بالنجم، وحمله البحر إذ مشى عليه (مت 14: 25)، وصارت الرياح هادئة ومطيعة لأمره (مت 23: 27)، وشهدت له الأرض وارتعدت عند صلبه (مت 27: 51).] هكذا قدّمت الطبيعة تمجيدًا لخاِلقها بلغتها، ونحن أيضًا إذ صرنا سماءً يليق بنا أن نشهد له بظهور نجمه فينا يقود الخطاة إلى المسيّا المخلّص، ينحنون له ويتعبّدون بالحق. ما هو هذا النجم إلا سِمة الصليب الحيّ المعلن في حياتنا الداخليّة وتصرّفاتنا في الرب. يقول القدّيس أغسطينوس: [عرفه المجوس بواسطة نجم كعلامة سماويّة وجميلة قدّمها الرب، لكنّه لا يرغب فينا أن يضع المؤمن نجمًا على جبهته بل صليبًا. بهذا يتّضع المؤمن ويتمجّد أيضًا، فيرفع الرب المتواضعين، هذا الذي في تواضعه تنازل.]

    متى بدأ ظهور النجم؟

    يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن النجم قد ظهر مبكرًا قبل الميلاد ربّما بحوالي سنتين، حيث قاد المجوس ليبلغوا بيت لحم في وقت الميلاد. ويرى البعض أنه ظهر عند ميلاده، وقد أخذ المجوس بعض الوقت حتى بلغوا بيت لحم، لهذا إذ تحقّق هيرودس الأمر أمر بقتل الأطفال من سنتين فما دون، إذ حسب المدّة بناءً على ظهور النجم.

    بالنجم التقَى المجوس باليهود

    يروي لنا الإنجيلي اللقاء الذي تمّ بين المجوس واليهود على كل المستويات، خاصة الملك ورؤساء الكهنة وكتبة الشعب، إذ يقول: "ولما وُلد يسوع في بيت لحم اليهوديّة في أيام هيرودس الملك، إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم، قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ فإنّنا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له. فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجميع أورشليم معه. فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم: أين يُولد المسيح؟ فقالوا له: في بيت لحم اليهوديّة، لأنه هكذا مكتوب بالنبي: وأنتِ يا بيت لحم أرض يهوذا لستِ الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل" [1-6].

    لقد وُلد السيّد في "بيت لحم" التي تعني "بيت الخبز"، فجاء إلينا خبزًا سماويًا يتناوله الجياع والعطاش إلى البرّ. للأسف جاء المجوس من المشرق يحتملون آلام الطريق وأتعابه، يبحثون عن غذاء نفوسهم، بينما بقيَ الملك ورؤساء الكهنة والكتبة في أماكنهم يرشدون الغرباء للخبز الحيّ، وأما هم فلا يقتربون إليه. لعلّهم صاروا كالعاملين في بناء فلك نوح، الذين هيّأوا فلك الخلاص ولم يدخلوه!

    حقًا ما أبعد الفارق بين المجوس ورؤساء اليهود، فقد تمتّع الغرباء بسرّ الحياة، وحُرم الرؤساء منه.

    يقول القدّيس أغسطينوس: [صار اليهود أشبه بالنجّارين الذين صنعوا فلك نوح، فأقاموا لغيرهم طريق النجاة، أمّا هم فهلكوا في الطوفان. إنهم يشبهون المعالم التي توضع للكشف عن الطريق لكنها تعجز عن السير فيه. السائلون تعلّموا وكمّلوا الطريق، والمعلّمون نطقوا بالتعليم وبقوا متخلّفين.] ويقول القدّيس يعقوب السروجي: [صاروا كارزين له وهم سائرون في الطريق، يبشّرون بأن ملكًا للعالم كلّه قد أشرق. انبسطت كرازتهم لأميال في الطريق، وكسروا قلوب الملوك الذين جازوا في تخومهم، حثّهم الحق ليكونوا له كارزين. الذين هم من الخارج صاروا شهوده وبلغوا أرض اليهوديّة... نظروها فإذا هي هادئة والسكوت يخيّم على حكمائها الذين لم يُدركوا الملك الآتي لخلاصهم. أتى البعيدون ليبشّروا القريبين بميلاد الملك. ابنة الكلدانيّين أرسلت الهدايا للمخلّص، وابنة إبراهيم التي في بيته لم تكرمه.]

    2. ثورة هيرودس

    تكرّر اسم هيرودس بين عدد من حكّام فلسطين وملوكها أو بعض أجزاء منها أو المناطق القريبة إليها، وفي العهد الجديد ذُكر أربعة ملوك بهذا الاسم، وكان ذلك أثناء الحكم الروماني على فلسطين، من بينهم هيرودس الكبير هذا. وكان هيرودس هذا أدوميًا مولدًا، تجري في عروقه العداوة ضدّ اليهود. لم يكن له حق المُلك، لكنّه صار ملكًا على اليهوديّة، بمساعدة الرومان الذين تحالف معهم أبوه، وكان عنيفًا وشاذًا صار في أواخر أيّامه عرضة للهواجس. كان محبًا لسفك الدماء، قتل الكثير من أعضاء السنهدرين، كما قتل ابنيه الإسكندر وأرسطوبولس، وقبل موته بخمسة أيام قتل ابنه أنتياباتير. وفيما هو يسلّم أنفاسه الأخيرة أمر بقتل جميع عظماء أورشليم حتى يعم الحزن المدينة، ولا يجد الملك الجديد مجالاً للبهجة، لكنّه مات قبل أن تتحقّق أمنيته الأخيرة.

    مات هيرودس بعد قتل أطفال بيت لحم بثلاثة شهور، وقد وصف المؤرخ اليهودي يوسيفوس، كيف اشتدّت شراهته في الفترة الأخيرة في أكل اللحم بدرجة بالغة، وأصيب بمرض النقرس وداء الاستسقاء، وقد تصاعدت منه رائحة كريهة جدًا، حتى لم يقدر أحد أن يقترب إليه.

    هذه الصورة تكشف لنا عن مشاعر هذا الوحش المفترس، عند سماعه عن موكب المجوس ومجيئهم للسجود لملك اليهود. لقد جمع عدوّ اليهود رؤساء الكهنة والكتبة يسألهم خشية أن يسحب الكرسي من تحته. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد خشيَ أن ترجع المملكة إلى يهودي، فيطرده اليهود هو وذرّيته ويقطعونهم من الملوكيّة. حقًا كثيرًا ما يتعرّض السلطان العظيم لمخاوف شديدة. فإن الأفنان (أعالي الأشجار) يمكن أن تحرّكها ريح خفيف، وهكذا الذين يسكنون الأماكن العالية تهزّهم كل إشاعة! أمّا الذين يقطنون الأماكن المنخفضة، أيّا كانت، فيكونون كالأشجار التي في الوادي غالبًا ما لا تؤثّر فيها الرياح.] ويقول الأب غريغوريوس الكبير: [اضطرب الملك الأرضي عندما وُلد الملك السماوي، لأن السيادة الأرضيّة تضطرب عندما تظهر العظمة السماويّة.]

    اضطرب هيرودس الأرضي الذي اتسم بالشرّ عندما أدرك أن من تخدمه النجوم السماويّة قد جاء. حقًا إن تجلِّي رب المجد يسوع في القلب كما في مزود يزعزع هيرودس (الشيطان) الطاغية، الذي يملك بالشرّ. وكأنه إذ يملك الرب بصليبه فينا تنهار مملكة إبليس ولا تقدر أن تثبت.

    أخفى هيرودس اضطرابه بمظاهر الخداع، إذ يقول الإنجيلي: "حينئذ دعا هيرودس المجوس سرًا. وتحقّق منهم زمان النجم الذي ظهر. ثم أرسلهم إلى بيت لحم، وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي، ومتى وجدّتموه فأخبروني، لكي آتي أنا أيضًا وأسجد له" [7-8]. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لكي يغريهم على ذلك تظاهر بالتقوى، مخفيًا السيف وراءها. رسم بالألوان شكل البساطة على حقد قلبه. هذا هو طريق كل فاعلي الشرّ، إذ يخطّطون في الخفاء ليجرحوا الآخرين، فيتظاهرون بالبساطة والصداقة.]

    3. سجود المجوس

    "فلما سمعوا من الملك ذهبوا،

    وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدّمهم

    حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي.

    فلما رأوا النجم فرحوا فرحًا عظيمًا جدًا.

    وأتوا إلى البيت،

    ورأوا الصبي مع مريم أمه،

    فخّروا وسجدوا له،

    ثم فتحوا كنوزهم،

    وقدّموا له هدايا ذهبًا ولبانًا ومرًا" [9-11].

    إذ تركوا الملك ظهر لهم النجم وصار يتقدّمهم ليدخل بهم إلى حيث كان السيّد المسيح مضجعًا. ما أحوجنا أن نخرج من دائرة هيرودس الخفي، أي دائرة الخطيّة عمل إبليس، لتتكشّف لنا علامات الطريق الملوكي بوضوح.

    يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن النجم الذي رآه المجوس وتقدّمهم إلى بيت لحم إنّما هو خدمة الفقراء والمحتاجين، إذ يقول: [رأوا النجم وكانوا فرحين، وها أنت ترى المسيح نفسه غريبًا وعريانًا ولا تتحرّك!... هم قدّموا ذهبًا وأنت بالكاد تقدّم قطعة خبز!]

    برؤيتهم للسيّد استراحت قلوبهم وزالت عنهم كل المتاعب، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [قبل رؤيتّهم الطفل كانت المخاوف والمتاعب تضغط عليهم من كل جانب، أمّا بعد السجود فحلّ الهدوء والأمان... لقد صاروا كهنة خلال عمله التعبُّدي، إذ نراهم يقدّمون هدايا.]

    ماذا تعني هدايا المجوس؟

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لم يقدّموا غنمًا ولا عجول، بل بالأحرى قدّموا الأمور التي تقترب بهم إلى قلب الكنيسة، إذ جاءوا إليه ببداءة التقدمة: معرفة وحكمة وحبًا.]

    ويقول الأب غريغوريوس الكبير: [يقدّم الذهب كجزية الملك، ويقدّم البخور تقدمة لله، ويستخدم المرّ في تحنيط أجساد الموتى. لهذا أعلن المجوس بعطاياهم السرّيّة للذين يسجدون له بالذهب أنه الملك، وبالبخور أنه الله، وبالمرّ أنه يقبل الموت... لنُقدّم للرب المولود الجديد ذهبًا، فنعترف أنه يملك في كل موضع، ولنقدّم له البخور إذ نؤمن أنه الله ظهر في الزمان، مع أنه قبل كل زمان. ولنقدّم له المرّ، مؤمنين أنه وإن كان في لاهوته غير قابل للألم، فقد صار قابلاً للموت في جسدنا. ويمكننا أيضًا بهذه العلامات أن نفهم شيئًا آخر. الذهب يرمز للحكمة كما يشهد سليمان: "كنز مشتهى في فم البار" (أم 21: 20 الترجمة السبعينيّة). والبخور الذي يُحرق أمام الله يرمز لقوة الصلاة كقول المزمور: "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك" (مز 141: 2)، والمرّ يرمز لإماتة أجسادنا، حيث تقول الكنيسة المقدّسة لعامليها الذين يعملون فيما لله حتى الموت: "يداي تقطران مرًا" (نش 5:5). إننا نقدّم للملك الجديد الذهب، إن كنّا في عينيّه نضيء بنور الحكمة السماويّة، ونقدّم له بخورًا إن كنّا نحرق أفكار الجسد على مذبح قلوبنا، فنرفع لله اشتياقاتنا السماويّة رائحة طيّبة. ونقدّم له المرّ عندما نُميت بالنسك شرور (شهوات) الجسد، فنقول إنه بالمرّ نحفظ الجسد الميّت من الفساد، كما نقول عن الجسد بأنه فسد متى غلبته الخلاعة، إذ قيل بالنبي، "تعفّنت الحيوانات في روثها". الحيوانات التي تهلك في روثها تُشير إلى الجسدانيّين الذي يختمون حياتهم وسط غباوة شهواتهم. إذن فلنقدّم لله مرًا لحماية أجسادنا المائتة من فساد الخلاعة ويحفظ في الطهارة.]

    4. انصراف المجوس

    "ثم إذ أوحي إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس،

    انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم" [2].

    في بساطة الإيمان قبِل هؤلاء الرجال ما أُوحيَ إليهم في حلم، ولم يتشكّكوا في الطفل. بالإيمان تركوا طريقهم الذي قدموا منه، ليسيروا في طريق أخرى، حتى لا يلتقوا بهيرودس، مقدّمين للمؤمنين مثلاً حيًا للنفس عندما تلتقي بالسيّد المسيح، إذ لا تعود تسلك في طريقها القديم حيث هيرودس (إبليس) يملك. ويرى الأب غريغوريوس الكبير إن هذا الطريق الجديد إنّما هو طريق الفردوس، الذي تلتزم النفس أن تسلكه خلال لقائها مع ربّنا يسوع. ويقول القدّيس أمبروسيوس: [لنرجع بعيدًا عن هيرودس صاحب السلطان الزمني إلى حين، فنأتي إلى المسكن الأبدي، إلى مدينتنا السمائيّة.]

    في مرارة أقول إنه ليس شيء يحزن قلب الله مثل أن يرى منّا مجوسًا قد شاهدوا النجم السماوي، واستنار قلبهم وانطلقوا إلى حيث يوجد المخلّص، فانتزع عنهم كل تغرّب عن الله، وصاروا قريبين جدًا للآب، يحلّ فيهم ويجعلهم مقدّسا له بروحه القدّوس، لكنهم للأسف بعد أن قدّموا حياتهم هدايا ثمينة يفرح بها الرب، عادوا مرتدّين إلى طريق هيرودس، أيضًا إلى أعمال إنسانهم القديم وخضوعهم لإبليس، وكأنه - إن صح هذا التعبير - يسلّمون مسيحهم الداخلي لهيرودس، فيبيد منهم العدوّ ثمر نعمة الله السماويّة فيهم. في مرارة يوبّخهم الرسول بولس، قائلاً: "من خالف ناموس موسى، فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة، فكم عقابًا أشرّ تظنّون أنه يُحسب مستحقًا من داس ابن الله، وحَسِبَ دم العهد الذي قُدِّس به دنسًا، وازدرى بروح النعمة؟" (عب 10: 28-29). إذن ليتنا لا نرتدّ إلى طريق هيرودس المخادع، فلا نسلّم يسوعنا الداخلي في يديه فيصلب مرّة ثانية - إن صح التعبير - ويشهّر به بسببنا، وينطفئ الروح الذي فينا.

    5. الهروب إلى مصر

    "وبعدما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم، قائلاً:

    قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر،

    وكن هناك حتى أقول لك،

    لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه.

    فقام وأخذ الصبي وأمه ليلاً وانصرف إلى مصر" [13-14].

    يلاحظ القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن الملاك لم يقل عن القدّيسة مريم "امرأتك"، بل قال "أمه"، فإنه إذ تحقّق الميلاد وزال كل مجال للشك. صارت القدّيسة منسوبة للسيّد المسيح لا ليوسف. لقد أراد الملاك تأكيد أن السيّد المسيح هو المركز الذي نُنسب إليه. يرى القدّيس أغسطينوس أن النفس التي ترتبط بالسيّد المسيح خلال الإيمان الحيّ العامل بالمحبّة تحمله فينا روحيًا، وكأنها قد صارت له كالقدّيسة مريم التي حملته روحيًا كما حملته بالجسد!

    لماذا هرب السيّد المسيح إلى مصر؟

    أولاً: الهروب إلى مصر يمثّل حلقة من حلقات الألم التي اجتازها القدّيس يوسف بفرحٍ، فإن كان الوحي قد شهد له بالبرّ، فإن حياة البرّ تمتزج بالآلام دون أن يفقد المؤمن سلامة الداخلي. يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على كلمات الملاك ليوسف، قائلاً: [لم يتعثّر يوسف عند سماعه هذا، ولا قال: هذا أمر صعب، ألم يقل لي إنه يخلّص شعبه، فكيف لا يقدر أن يخلّص نفسه، بل نلتزم بالهروب، ونقطع رحلة طويلة، ونقطن في بلد آخر؟ فإن هذا يناقض ما وعدت به! لم يقل شيئًا من هذا، لأنه رجل إيمان! بل ولا سأل عن موعد رجوعه، إذ لم يحدّده الملاك، بل قال له: "وكن هناك حتى أقول لك". لم يحزن بل كان خاضعًا ومطيعًا يحتمل هذه التجارب بفرح. هكذا يمزج الله الفرح بالتعب، وذلك مع كل الذين يتّقونه... مدبّرًا حياة الأبرار بمزج الواحدة بالأخرى. هذا ما يفعله الله هنا... فقد رأى يوسف العذراء حاملاً، فاضطرب وبدأ يشك... وفي الحال وقف به الملاك وبدّد شكّه ونزع عنه خوفه. وعندما عاين الطفل مولودًا امتلأ فرحًا عظيمًا، وتبع هذا الفرح ضيق شديد إذ اضطربت المدينة، وامتلأ الملك غضبًا يطلب الطفل. وجاء الفرح يتبع الاضطراب بظهور النجم وسجود الملوك. مرّة أخرى يلي هذا الفرح خطر وخوف لأن هيرودس يطلب حياة الطفل، والتزم يوسف أن يهرب إلى مدينة أخرى.]

    هذه هي صورة الحياة التقويّة الحقيقية، هي مزيج مستمر من الضيقات مع الأفراح، يسمح بها الرب لأجل تزكيتنا ومساندتنا روحيًا، فبالضيق نتزكّى أمام الله، وبالفرح نمتلئ رجاءً في رعاية الله وعنايته المستمرّة.

    ثانيًا: هروب السيّد المسيح من الشرّ أكّد حقيقة تجسّده، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لو أنه منذ طفولته المبكّرة أظهر عجائب لما حُسب إنسانًا.]

    ثالثًا: هروبه كممثّل للبشريّة يقدّم لنا منهجًا روحيًا أساسه عدم مقاومة الشرّ بالشرّ، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن النار لا تطفأ بالنار بل بالماء.

    رابعًا: كانت مصر رائدة العالم الأممي، فكانت بفرعونها تُشير في العهد القديم إلى العبوديّة، بخصوبة أرضها تُشير إلى حياة الترف ومحبّة العالم. كان يمكن للسيّد أن يلتجئ إلى مدينة في اليهوديّة أو الجليل، لكنّه أراد تقدّيس أرض مصر، ليقيم في وسط الأرض الأمميّة مذبحًا له. في هذا يقول إشعياء النبي: "هوذا الرب راكب على سحابة خفيفة سريعة، وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها... في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر، وعمود للرب عند تُخُمها، فيكون علامة وشهادة لرب الجنود في أرض مصر... فيُعرف الرب في مصر، ويَعرف المصريّون الرب في ذلك اليوم، ويقدّمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذرًا ويوفون به... مبارك شعبي مصر" (إش 19). اهتم الوحي بهذه الزيارة الفريدة، بها صارت مصر مركز إشعاع إيماني حيّ. وكما خزن يوسف في مصر الحنطة كسندٍ للعالم أثناء المجاعة سبع سنوات، هكذا قدّم السيّد المسيح فيض نعم في مصر لتكون سرّ بركة للعالم كله، ظهر ذلك بوضوح خلال عمل مدرسة الإسكندريّة وظهور الحركات الرهبانيّة والعمل الكرازي. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هلمّوا إلى برّيّة مصر لتروها أفضل من كل فردوس! ربوات من الطغمات الملائكيّة في شكل بشري، وشعوب من الشهداء، وجماعات من البتوليّين... لقد تهدّم طغيان الشيطان، وأشرق ملكوت المسيح ببهائه! مصر هذه أم الشعراء والحكماء والسحرة... حصّنت نفسها بالصليب! السماء بكل خوارس كواكبها ليست في بهاء برّيّة مصر الممتلئة من قلالي النُسّاك... على أيّ الأحوال، من يعترف بأن مصر القديمة هي التي حاربت الله في برود فعبدت القطط، وخافت البصل، وكانت ترتعب منه، مثل هذا يدرك قوّة المسيح حسنًا.]

    يتحدّث أيضًا القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن هذه الزيارة المباركة لمصر لتقديسها، فيقول: [إذ كانت مصر وبابل هما أكثر بلاد العالم ملتهبتين بنار الشرّ، أعلن الرب منذ البداية أنه يرغب في إصلاح المنطقتين لحسابه، ليأتي بهما إلى ما هو أفضل، وفي نفس الوقت تمتثل بهما كل الأرض، فتطلب عطاياه، لهذا أرسل للواحدة المجوس، والأخرى ذهب إليها بنفسه مع أمه.] كما يقول: [تأمّل أمرًا عجيبًا: فلسطين كانت تنتظره، مصر استقبلته وأنقذته من الغدر.]

    6. قتل أطفال بيت لحم

    "حينئذ لما رأى هيرودس أن المجوس سخروا به غضب جدًا،

    فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها،

    من ابن سنتين فما دون بحسب الزمان الذي تحقّقه من المجوس.

    حينئذ تمّ ما قيل بإرميا النبي القائل:

    صوتٌ سُمع في الرامة، نوح وبكاء وعويل كثير.

    راحيل تبكي على أولادها، ولا تريد أن تتعزّى،

    لأنهم ليسوا بموجودين" [16-18].

    قتل أطفال بيت لحم لم يتم بمحض الصدفة، لكنّه يمثّل جزءً لا يتجزأ من حياة المخلّص، اهتم الوحي بإعلانه في العهدين القديم والجديد. لقد رأى إرميا النبي راحيل زوجة يعقوب المدفونة هناك تبكي على أولادها (أحفادها) من أجل قسوة قلب هيرودس عليهم.

    ربّما يتساءل البعض: لماذا سمح ملك السلام أن تحدث هذه الكارثة بسبب ميلاده؟ في الوقت الذي فيه انطلقت الملائكة بالتسبيح تطوّب البشريّة لتمتّعها بالسلام السماوي، وجاء الغرباء يحملون الهدايا إلى طفل المزود، إذا بالأطفال العبرانيّين يُقتلون بلا ذنب. لقد قدّم هؤلاء الأطفال عملاً كرازيًا وشهادة حق أمام العالم كله، فإنهم يمثّلون كنيسة العهد الجديد التي حملت بساطة الروح كالأطفال، التي لا يطيقها هيرودس فيضطهدها، لكنّه لا يقدر أن يكتم صوت شهادتها، إذ انطلق الأطفال كأبكار لينعموا بالوحدة مع الحمل الإلهي أينما وُجد.

    عبور أطفال بيت لحم إلى فوق يمثّلون كنيسة الأبكار كموكب روحي مقدّس يتقدّمهم المصلوب البكر، يرتفعون به ومعه خلال البذل الحق ليشاركوا السمائيّين ليتورجيّاتهم وتسابيحهم العلويّة الجديدة.

    في اختصار أقول أن هذا الحدث بما فيه من نحيبٍ وعويلٍ مع مرارةٍ قاسيةٍ لا يمكن إنكارها، يحمل كشفًا عن كنيسة العهد الجديد ككنيسة بسيطة بلا تعقيد، تحمل الصليب كعلامة جوهريّة تمسّ طبيعتها، كنيسة أبكار، مرتفعة إلى فوق تمارس حياتها السماويّة خلال ثبوتها في الرأس السماوي المصلوب!

    7. العودة إلى الناصرة

    أوحي للقدّيس يوسف أن ينصرف إلى ناحية الجليل، فأتى وسكن في مدينة يُقال لها "ناصرة"، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيّدعي ناصريًا.

    يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذا الحدث بقوله: [عاد يوسف إلى الناصرة، لكي يتجنب الخطر من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي يبتهج بالسكنى في موطنه.]

    ذهابه إلى الناصرة، وهي بلد ليست بذي قيمة أراد به أن يحطّم ما اتسم به اليهود من افتخارهم بنسبهم إلى أسباط معيّنة، أو من بلاد ذات شهرة. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لأن الموضع كان قليل الأهمّية، بل بالأحرى ليس فقط الموضع وإنما كل منطقة الجليل. لهذا يقول الفرّيسيّون: "فتش وانظر، إنه لم يقم نبي من الجليل" (يو 7: 52). إنه لم يخجل من أن يُدعى أنه من هناك، ليظهر أنه ليس بمحتاج إلى الأمور الخاصة بالبشر، وقد اختار تلاميذه من الجليل... ليتنا لا نستكبر بسبب سموّ مولدنا أو غنانا، بل بالأحرى نزدري بمن يفعل هكذا. ليتنا لا نشمئز من الفقر، بل نطلب غنى الأعمال الصالحة. لنهرب من الفقر الذي يجعل الناس أشرارًا، هذا الذي يجعل من الغِنى فقرًا (لو 16: 24)، إذ يطلب متوسّلاً بلجاجة من أجل قطرة ماء فلا يجد.]

    كلمة "ناصرة"، منها اشتقّت "نصارى" لقب المسيحيّين؛ وهي بالعبريّة Natzar وتعني غصن، ومنها الكلمة العربيّة "ناضر"، وقد سمّيَ السيّد المسيح في أكثر من نبوّة في العهد القديم بالغصن. فجاء في إشعياء النبي: "ويخرج قضيب من جذع يسّى، وينبت غصن من أصوله، ويحل عليه روح الرب روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح المعرفة ومخافة الرب..." (إش 11: 1-2). وجاء في إرميا: "ها أيام تأتي يقول الرب، وأُقيم لداود غصن برّ، فيملك ملك، وينجح، ويُجري حقًا وعدلاً في الأرض" (راجع إر 33: 15) وفي زكريا: "هأنذا آتي بعبدي الغصن" (زك 3: انجيل متى Icon_cool، "هوذا الرجل الغصن اسمه، ومن مكانه ينبت، ويبني هيكل الرب" (زك 6: 12)... هكذا كان اليهود يترقّبون في المسيّا أنه يُدعى "الغصن"... أي "ناصري".

    1 و لما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في ايام هيرودس الملك اذا مجوس من المشرق قد جاءوا الى اورشليم
    2 قائلين اين هو المولود ملك اليهود فاننا راينا نجمه في المشرق و اتينا لنسجد له
    3 فلما سمع هيرودس الملك اضطرب و جميع اورشليم معه
    4 فجمع كل رؤساء الكهنة و كتبة الشعب و سالهم اين يولد المسيح
    5 فقالوا له في بيت لحم اليهودية لانه هكذا مكتوب بالنبي
    6 و انت يا بيت لحم ارض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا لان منك يخرج مدبر يرعى شعبي اسرائيل
    7 حينئذ دعا هيرودس المجوس سرا و تحقق منهم زمان النجم الذي ظهر
    8 ثم ارسلهم الى بيت لحم و قال اذهبوا و افحصوا بالتدقيق عن الصبي و متى وجدتموه فاخبروني لكي اتي انا ايضا و اسجد له
    9 فلما سمعوا من الملك ذهبوا و اذا النجم الذي راوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء و وقف فوق حيث كان الصبي
    10 فلما راوا النجم فرحوا فرحا عظيما جدا
    11 و اتوا الى البيت و راوا الصبي مع مريم امه فخروا و سجدوا له ثم فتحوا كنوزهم و قدموا له هدايا ذهبا و لبانا و مرا
    12 ثم اذ اوحي اليهم في حلم ان لا يرجعوا الى هيرودس انصرفوا في طريق اخرى الى كورتهم
    13 و بعدما انصرفوا اذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا قم و خذ الصبي و امه و اهرب الى مصر و كن هناك حتى اقول لك لان هيرودس مزمع ان يطلب الصبي ليهلكه
    14 فقام و اخذ الصبي و امه ليلا و انصرف الى مصر
    15 و كان هناك الى وفاة هيرودس لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل من مصر دعوت ابني
    16 حينئذ لما راى هيرودس ان المجوس سخروا به غضب جدا فارسل و قتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم و في كل تخومها من ابن سنتين فما دون بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس
    17 حينئذ تم ما قيل بارميا النبي القائل
    18 صوت سمع في الرامة نوح و بكاء و عويل كثير راحيل تبكي على اولادها و لا تريد ان تتعزى لانهم ليسوا بموجودين
    19 فلما مات هيرودس اذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر
    20 قائلا قم و خذ الصبي و امه و اذهب الى ارض اسرائيل لانه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي
    21 فقام و اخذ الصبي و امه و جاء الى ارض اسرائيل
    22 و لكن لما سمع ان ارخيلاوس يملك على اليهودية عوضا عن هيرودس ابيه خاف ان يذهب الى هناك و اذ اوحي اليه في حلم انصرف الى نواحي الجليل
    23 و اتى و سكن في مدينة يقال لها ناصرة لكي يتم ما قيل بالانبياء انه سيدعى ناصريا
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 7:57 am


    الاصحاح الثالث

    حفل التتويج

    عِمَاد الملك

    قبل أن يبدأ السيّد المسيح عمله بين شعبه كملك روحي كان يلزم إقامة حفل تدشين أو تتويج للملك الحقيقي عند نهر الأردن بعد أن هيّأ له سابق الملك ـ القدّيس يوحنا المعمدان ـ الذي تقدّم كملاك الرب يهيّئ له الطريق:

    1. سابق الملك 1-6.
    2. تهيئة الطريق 7-12.
    3. عماد المسيح 13-17.

    1. سابق الملك

    كان من عادات الشرق أن يسبق الملك رسول يهيئ له الطريق، والسيّد المسيح كملكٍ روحيٍ أعد لنفسه رسولاً سبق فأنبأ عنه بإشعياء النبي: "صوت صارخ في البرّيّة، اعدّوا طريق الرب، قوِّموا في القفر سبيلاً لإلهنا" (إش 40: 3)، وبملاخي النبي: "هأنذا أُرسل إليكم إيليّا النبي قبل مجيء يوم الرب" (مل 4: 5).
    يقول الإنجيلي: "في تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في بريّة اليهوديّة" [1].لا يفهم من قوله: "في تلك الأيام" أنه بعد رجوع العائلة المقدّسة من مصر مباشرة، وإنما يقصد بها "في ذلك العصر" أو "في ذلك الزمان" وقد حدّد القدّيس لوقا عماد السيّد بنحو ثلاثين من عمره حسب الجسد (لو 3: 23)، وقد سبقه القدّيس يوحنا بأشهرٍ قليلة حينما بلغ الثلاثين من عمره، السن القانوني للخدمة الكهنوتيّة عند اليهود.
    كان القدّيس يوحنا يكرز "في برّيّة اليهوديّة"، ولم تكن برّيّة قاحلة، إنّما كانت تضم ست مدن مع ضياعها (يش 15: 61-62)، لكنها منطقة غير مزدحمة ولا مُحاطة بالحقول والكروم كبقيّة البلاد.
    لم يخدم القدّيس يوحنا ككاهنٍ في هيكل سليمان، لكنّه خرج إلى البرّيّة ليفضح ما وصلت إليه الطبيعة البشريّة، التي تخلّت عن عملها المقدّس كهيكل لله فصارت مملوءة جفافًا؛ صارت برّيّة قاحلة وقفرًا محتاجة إلى المسيّا الملك أن ينزل إليها ليرويها بمياه روحه القدّوس، فيجعلها فردوسًا تحمل ثمار الروح. يقول إشعياء النبي على لسان الطبيعة البشريّة المتعطّشة لعمل المسيّا الملك: "يسكب علينا روح من العلاء، فتصير البرّيّة بستانًا" (إش32: 15)، "تفرح البرّيّة والأرض اليابسة ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس، يزهر إزهارًا، ويبتهج ابتهاجًا ويُرَنِّم" (إش 35: 1-2). هكذا يقدّم القدّيس يوحنا البشريّة كقفرٍ للملك، فيحوّلها فردوسًا أبديًا، بل ويجعلها هيكله المقدّس. لقد حُرم يوحنا المعمدان من خدمة الهيكل الكهنوتية ليهيّئ الطريق لرئيس الكهنة الأعظم ربّنا يسوع، الذي يجعل من برّيتنا هيكلاً جديدًا سماويًا.
    لعلّ داود النبي قد رأى بروح النبوّة هذا المنظر، فتهلّلت نفسه فيه، إذ قدّم لنا في ذات البرّيّة مزموره الثالث والستين، فيه يقول: "عطشت إليك نفسي، يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء... التصقت نفسي بك. يمينك تعضدني" (مز 63: 1، انجيل متى Icon_cool. لقد رأى داود النبي جموع التائبين على يديّ يوحنا المعمدان في هذه البرّيّة، وقد التهبت قلوبهم بالعطش، وعطش جسده لمياه نعمته... فجاء السيّد لتلتصق هذه النفوس به، وتستند بقوّته بكونها يمين الرب.
    ويرى القدّيس أمبروسيوس أن البرّيّة التي كرز فيها القدّيس يوحنا المعمدان هي الكنيسة التي قال عنها النبي إشعياء "لأن بنيّ المستوحشة أكثر من بنيّ ذات البعل" (إش 54: 1) فقد جاء كلمة الله حتى تثمر من كانت قبلاً مستوحشة وبرّيّة.
    كيف هيّأ القدّيس يوحنا المعمدان الطريق الملوكي؟ بالمناداة بالتوبة، قائلاً: "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات" [2]. كان كأسد يزأر في البرّيّة، فخرجت إليه أورشليم وكل اليهوديّة وجميع الكورة المحيطة بالأردن [5]. كانت كلماته أصيلة، ينطق بكلمة الرب كما هي بلا تنميق بشري أو مداهنة أو تدليل، تنبع عن قلب أمين وصادق، يحيا بما ينطق به اللسان، فكان للكلمة فاعليّتها. حقًا إن سرّ جاذبيّة رسالة يوحنا هو اختفاؤه في كلمة الله، وإعلان رسالته خلال حياته العمليّة.
    "التوبة" في اليونانيّة "ميتانية" وتعني تغيير الاتّجاه، فيعطي الإنسان لله الوجه لا القفا خلال اتّحاده بالمسيّا وذلك بعدما حوّل القفا لا الوجه نحو الله (إر 2: 27). لقد التقى شاول الطرسوسي بالآب خلال المسيّا القائم من الأموات، فتغيّر قلبه وفكره وكل اشتياقاته.
    لقد "اقترب ملكوت السماوات"، فصار على الأبواب، إذ جاء السيّد المسيح ليسكن فينا، ولم يعد بعيدًا عنّا. وكما يقول الرسول بولس: "الكلمة قريبة منك، في فمك وفي قلبك" (رو 10: انجيل متى Icon_cool. أمّا طريق التمتّع بهذا الملكوت فهو إدراكنا بالحاجة إلى عمل المسيّا فينا؛ فإذ يَدين الإنسان نفسه ينفتح القلب لاستقبال عمل المسيّا فيه. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [جاء يوحنا ليقودهم إلى التوبة لا لكي يُعاقَبوا، وإنما خلال التوبة يدينون أنفسهم مسرعين إلى نوال المغفرة... فإنهم ما لم يدينوا أنفسهم لا يقدرون أن يطلبوا نعمته، وبعدم طلبهم هذا لا يمكنهم نوال المغفرة.]
    يقول القدّيس أمبروسيوس: [كثيرين يتطلّعون إلى يوحنا كرمز للناموس، بكونه يقدر أن ينتهر الخطيّة، لكنّه لا يقدر أن يغفرها.]
    لقد وصف إشعياء النبي القدّيس يوحنا المعمدان، قائلاً: "صوت صارخ في البرّيّة، أعدّوا طريق الرب. اصنعوا سبله مستقيمة" [3]. إنه الصوت الذي يسبق "الكلمة الإلهي"، وكما يقول الآب غريغوريوس الكبير: [من حديثنا تعرفون أن "الصوت" يكون أولاً عندئذ تُسمع "الكلمة"، لهذا يُعلن يوحنا عن نفسه أنه "صوت"، إذ هو يسبق "الكلمة". فبمجيئه أمام الرب دُعى "صوتًا"، وبخدمته سمع الناس "كلمة الرب" إنه يصرخ معلنًا: "اصنعوا سُبله مستقيمة"... إن طريق الرب للقلب يكون مستقيمًا متى استقبل بتواضعٍ كلماته للحق، يكون مستقيمًا إن مارسنا حياتنا في توافق مع وصاياه. لذلك قيل: "إن أحبّني أحد يحفظ كلامي ويحبّه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23). أمّا من يرفع قلبه بالكبرياء، ومن يلتهب بحُمّى الطمع، ومن يلوث نفسه بدنّس الشهوة يغلق باب قلبه ضدّ مدخل الحق، ولئلا يقتني الرب المدخل فإنه يحكم الإغلاق بالعادات الشرّيرة.]
    يكمّل معلّمنا لوقا البشير هذه النبوّة بقوله: "كل وادٍ يمتلئ، وكل جبل وأكمة ينخفض، وتصير المعوجّات مستقيمة، والشعاب طرقًا سهلة، ويبصر كل بشرٍ خلاص الله" (لو 3: 5-6). ما هذه الوديّان التي تمتلئ خلال التوبة إلا وديان الأمم المنسحقة والمعترفة بحاجتها للمخلّص، هذه التي تمتلئ بمياه الروح القدس الواهبة للحياة. وما هذه الجبال والأكَمَة التي تنخفض إلا كبرياء إسرائيل ويهوذا، فقد تشامخ اليهود وظنّوا أنهم أبرار. فقد جاء يوحنا ليحطّم هذا الكبرياء والتشامخ حتى يستقبل المتّواضعون خلاص الله، فيصلح حال النفوس المعوجّة، وتتغيّر طبيعتها التي كانت كالشعاب القاسية لتصير سهلة. بهذا فإن خلاص الله مقدّم لكل البشر، اليهود والأمم!
    v ليُعدّ طريق الرب في قلوبنا، فإن قلب الإنسان هو عظيم ومتّسع، كما لو كان هو العالم. انظر إلى عظمته لا في كمّ جسداني، بل في قوّة الذهن التي تعطيه إمكانيّة أن يحتضن معرفة عظيمة جدًا للحق. إذن فليُعد طريق الرب في قلوبكم خلال حياة لائقة وبأعمال صالحة وكاملة، فيحفظ هذا الطريق حياتكم باستقامة، وتدخل كلمات الرب إليكم بلا عائق.

    العلاّمة أوريجينوس

    كانت صرخات يوحنا لا تخرج من فمه فحسب، وإنما تنطلق من كل حياته، تعلنها حياته الداخليّة ومظهره الخارجي، حتى ملبسه كان أشبه بعظة صامتة وفعّالة، وأيضًا طعامه. يقول الإنجيلي: "كان لباسه من وبَر الإبل وعلى حقويه منطقة من جلد، وكان طعامه جرادًا وعسلاً برّيًا" [4].
    يندهش القدّيس يوحنا الذهبي الفم كيف يتحدّث الإنجيلي عن رسالة القدّيس يوحنا المعمدان التي تنبأ عنها إشعياء النبي ليعود فيتحدّث عن ملابسه وطعامه! لقد قدّم هذا المظهر ليتذكّر اليهود إيليّا النبي الغيور، فقد جاء كإيليّا يسبق الرب. بهذا المظهر أيضًا قدّم لنا درسًا في الحياة النسكيّة والبعد عن الحياة المدلّلة، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ليتنا ننسى هذا النوع من الحياة المدلّلة والمخنّثة، فإنه لا يمكن أن تقوم الندامة مع الحياة المترفة في وقت واحد. ليعلِّمك يوحنا هذا الأمر بثوبه وطعامه مسكنه.]
    لم يلبس يوحنا الملابس الطويلة كالفرّيسيّين، ولا الملابس الناعمة كحاشية الملك، وإنما ارتدى الملابس اللائقة بالدعوة للتوبة.
    "واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم" [6].
    إذ كان يوحنا يكرز بالتوبة كانت الجموع تأتي إليه تطلب العماد على يديه، معترفين بخطاياهم. لقد عرف اليهود أنواعًا من المعموديّات منها معموديّة المتهوّدين الدخلاء. أمّا معموديّة يوحنا فجاءت رمزًا للمعموديّة المسيحيّة، جاء بها القدّيس يوحنا المعمدان ليهيّئ بها الطريق أمام معموديّة العهد الجديد. لم يكن لمعموديّة يوحنا أن تهب البنوّة لله، الأمر الذي انفردت به المعموديّة المسيحيّة لدخول السيّد المسيح "الابن الوحيد" إليها؛ ولم تكن تحمل في ذاتها القدرة على غفران الخطايا والتقدّيس، إنّما ما حملته من قوّة فقد استمدّته كرمز من قوّة المرموز إليه، كما حملت الحيّة النحاسيّة قوّة الشفاء خلال الصليب الذي ترمز إليه.
    v كان يوحنا يعمدّ بالماء لا بالروح القدس، فبكونها عاجزة عن غفران الخطايا، تغسل أجساد من يعتمدون بالماء، أمّا نفوسهم فلا تقدر أن تغسلها. إذن لماذا كان يوحنا يعمّد؟... إنه في ميلاده كان سابقًا لمن يولد، وبالتعميد كان سابقًا للرب الذي يعمّد، وبكرازته صار سابقًا للمسيح!

    الأب غريغوريوس (الكبير)
    v لنعالج باختصار الأنواع المختلفة للمعموديّة:
    موسى كان يعمدّ لكن في الماء، في السحابة والبحر، لكنّه فعل هذا بطريقة رمزيّة.
    يوحنا أيضًا عمّد، حقًا ليس بطقس اليهود، وليس فقط في الماء وإنما لمغفرة الخطايا، لكنها لم تكن بطريقة روحيّة كاملة، إذ لم يضف أنها "في الروح".
    يسوع عمّد ولكن في الروح، وهذا هو الكمال!
    توجد أيضًا معموديّة رابعة، تتم بالاستشهاد والدم، الذي اعتمد بها المسيح نفسه والتي هي مكرّمة جدًا عن الباقين...
    ومع ذلك توجد معموديّة خامسة وهي عاملة بالأكثر، معموديّة الدموع، حيث كان داود يُعوّم كل ليلة سريره ويغسل فراشه بدموعه (مز 6: 6).

    القدّيس غريغوريوس النزينزي

    2. تهيئة الطريق

    كان يوحنا يهيّئ الطريق للرب في القلوب، ليس بجمع الناس حوله ولحسابه، وإنما بالدخول بجماهير الشعب إلى حياة التوبة، معترفين بخطاياهم. وقد جاء الفرّيسيّون والصدّوقيّون إلى معموديّته بأجسادهم دون قلوبهم، لذا صار يوبّخهم هكذا: "يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي" [7].لم يكن يوحنا بالقصبة التي تحرّكها الريح فيهتز أمام هؤلاء القادة متملقًا إيّاهم، وإنما بقوّة كان يشتهي خلاصهم، فاضحًا الشرّ الذي فيهم، بدعوتهم "أولاد الأفاعي".
    اتفق القادة المتضادّون معًا ضدّ يوحنا كما اتفقوا معًا ضدّ المسيح نفسه، فقد كان الفرّيسيّون يمثّلون السلطة الكنيسة اليهوديّة والتقليد بطريقة حرفيّة قاتلة. وكان الصدّوقيّون يمثّلون الجانب المضاد للسلطة، ضدّ التقليد، ينكرون القيامة ولا يقبلون فكرة وجود الأرواح. كان الفرّيسيّون يتطلّعون إلى يوحنا أنه أكثر خطرًا من الصدّوقيّين في الثورة على السلطة، فقد خرجت الجماهير من كل المدن لترى مثالاً حيًا للحياة التائبة العمليّة، الأمر الذي يفضح الفرّيسيّين وكل رجال السلطة الدينيّة. أمّا الصدّوقيّون فإنهم مع مقاومتهم كانوا يرون في يوحنا من هو أخطر من رجال السلطة الدينيّة، فقد كسب الجماهير لصفّه، مقدّمًا لهم مفاهيم روحيّة تهدم أفكار الصدّوقيّين.
    على أي الأحوال، وقف القدّيس يوحنا أمام الفرّيسيّين والصدّوقيّين بكل قوّة يوبّخهم، ملقّبًا إيّاهم: "يا أولاد الأفاعي". وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [حسنًا دعاهم أولاد الأفاعي، إذ يُقال أن ذلك الحيوان عند ولادته تأكل الصغار بطن أمها وتهلكها فيخرجون إلى النور، هكذا يفعل هذا النوع من الناس، إذ هم قتلة آباء وقتلة أمهات (1 تي 1: 9) يبيدون معلّميهم بأيديهم.]
    يكمّل القدّيس يوحنا المعمدان حديثه مع الفرّيسيّين والصدّوقيّين، قائلاً: "فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة. ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا، لأني أقول لكم أن الله قادر أن يُقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" [8-9].
    إن كان اليهود عامة، وقادتهم الروحيّين بصفة خاصة، يتّكلون على نسبهم جسديًا لإبراهيم أب الآباء، فقد أوضح القديس يوحنا لهم بطلان هذه الحجّة. فإن كانوا يدعون أنهم "أبناء إبراهيم" ففي الحقيقة هم "أولاد الأفاعي"، لأنهم لا يحملون إيمان إبراهيم الحيّ ولا يسلكون على منواله، وإنما حملوا شرّ الأفاعي فيهم. فالإنسان حسب فكره وتصرفاته يظهر ابن من هو؟ فالسالكون بغير حكمة يدعون "أبناء الحماقة" (أي 30: انجيل متى Icon_cool، والذين يسلكون في المعصية يحسبون "أبناء المعصية" (كو 3: 6)، ومن لا يبالي بهلاك نفسه يسمى "ابن الهلاك" (يو 17: 12)، وعلى العكس الذين يختبرون الحياة الجديدة المُقامة مع المسيح وفيه يعتبرون "أبناء القيامة" (لو 20: 36)، والذين يحبّون النور الإلهي، ويسعون نحوه فيدعون: "أبناء النور" (يو12: 36) و"أبناء النهار" (1 تس 5: 5) الخ.
    إن كان هؤلاء القادة قد اعتمدوا على نسبهم لإبراهيم، فيلزمهم تأكيد هذه البنوّة بذات الروح الذي عمل به أبونا إبراهيم، وإلا فإن الله يُقيم له أولادًا من الحجارة، وقد أقام فعلاً. لقد أخرج الله من الأمم التي تحجّرت قلوبهم أبناء لإبراهيم خلال الإيمان بالسيّد المسيح، الذي رأى إبراهيم يومه فتهلّل (يو 8: 56).
    يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن هذا التشبيه جاء عن ولادة هذا الشعب خلال اسحق الموهوب لإبراهيم خلال رحم سارّة العقيم كما لو كان متحجّرًا. كان كالحجر في حالة موت غير قادر على الإنجاب، فأقام الله منه أولادًا لإبراهيم خلال قوّة وعده الإلهي وإيمان إبراهيم بالله القادر على الإقامة من الأموات. هذا ما قصده النبي عندما قال: "انظروا إلى الصخر الذي منه قُطعتم، وإلى نقرة الجب التي منها حُفِرتُم. انظروا إلى إبراهيم أبيكم، وإلى سارّة التي ولدتكم" (إش 51: 1-2). ها هو يذكرهم الآن بهذه البنوّة، فقد جعله الله أبًا لهم بطريقة معجزيّة كمن يُقيم من الحجارة أولادًا. الآن أيضًا يمكنه أن يفعل ذلك.
    ويرى القدّيس أغسطينوس أن الحجارة التي صارت أولادًا لإبراهيم إنّما تُشير إلى الأمم الذين عبدوا الأوثان فصاروا حجارة، وإذ قبلوا الإيمان الذي كان لإبراهيم صاروا من نسله روحيًا. إنه يقول: [يُقصد بالحجارة كل الأمم ليس من أجل قدرتهم على الاحتمال كالحجر الذي رفضه البنّاءون، وإنما من أجل غباوتهم وبلادتهم الباطلة، فصاروا كالأشياء التي اعتادوا أن يعبدوها، إذ عبدوا الصور الجامدة صاروا هم أنفسهم بلا حس؛ "مثلها يكون صانعوها بل كل من يتّكل عليها" (مز 115: انجيل متى Icon_cool. لكنهم إذ بدأوا يعبدون الله، ماذا سمعوا بخصوصهم؟ "لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين" (مت 5: 45) إذ يصير الإنسان مشابهًا لمن يعبده. إذن ماذا يقصد بالقول: "الله قادر أن يُقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" (مت 3: 9)؟... أي نصير أولادًا لإبراهيم بامتثالنا بإيمانه وليس بميلادنا من جسده.] كما يقول: [كنّا في آبائنا حجارة إذ عبدنا الحجارة كآلهة، من هذه الحجارة يخلقنا الله عائلة لإبراهيم.]
    ويقول القدّيس جيروم: [يستطيع الله أن يجعل من الحجارة أولادًا لإبراهيم؛ يُشير هنا إلى الأمم، إذ هم‎‎‎ حجارة بسبب قسوة قلوبهم. لنقرأ: "وأنزع قلب الحجر من لحمكمk وأعطيكم قلب لحم" (حز 36: 26). فالحجر صورة القسوة، واللحم رمز اللطف. لقد أراد أن يظهر قوّة الله القادر أن يخلق من الحجارة الجامدة شعبًا مؤمنًا.]
    "والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر.
    فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تُقطع، وتُلقى في النار
    " [10].
    ماذا يقصد بالفأس التي يضرب بها الشجر غير المثمر، أو الشجر الذي يحمل ثمارًا غير جيّدة إلا صليب ربّنا يسوع المسيح الذي يضرب أصل طبيعتنا الفاسدة ليهلك الإنسان القديم، مقيمًا الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه الذي يقدّم ثمر الروح القدس المفرح. إنه يدفن الإنسان العتيق في مياه المعموديّة كما في القبر مع السيد، أو يُلقي به كما في النار ليقدّم لنا خبرة الحياة. لهذا فلا عجب إن كمَّل النبي حديثه بخصوص المعموديّة المسيحيّة، بكونها طريق هدم الإنسان القديم وقيامة الإنسان الجديد، إذ يقول: "أنا أعمّدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي من هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه، هو سيعمّدكم بالروح القدس ونار" [11].

    يقول القدّيس مار يعقوب السروجي: [المعموديّة هي الكور العظيم الممتلئ نارًا، فيها يُسبك الناس ليصيروا غير أموات.]
    يقول القدّيس كبريانوس: [إنها المعموديّة التي فيها يموت الإنسان القديم، ويولد الإنسان الجديد كما يُعلن الرسول مؤكّدًا أنه خلصنا بغسل التجديد.]
    يرى القدّيس يوحنا المعمدان أنه غير مستحق أن يحمل حذاء السيّد المسيح، وفي موضع آخر يُعلن أنه غير مستحق أن يحلّ سيور حذائه (يو 1: 27)، ماذا يعني بهذا؟ إن كان كلمة الله غير المُدرَك قد صار كمن يلبس حذاء بتجسّده، إذ صار كواحدٍ منّا يسير بيننا، فإن القدّيس يوحنا يُعلن أنه غير مستحق أن يحمل هذا السرّ الفائق الذي للتجسّد، ولا أن يحلّ أختامه (سيوره) إذ لا يمكن التعبير عنه.
    يقول الأب غريغوريوس (الكبير): [من لا يعرف أن الحذاء يُصنع من جلد الحيوانات الميّتة؟! إذ صار الرب متجسّدًا، يظهر بين الناس كمن هو محتذي، إذ لبس لاهوته غطاءً قابلاً للموت لذلك يقول النبي: "على أدوم أطرح نعلي" (مز 60: انجيل متى Icon_cool. لقد أُشير للأمم بأدوم... خلال الجسد صار معروفًا لدى الأمم، كما لو أن اللاهوت قد جاء إلينا بقدم محتذي. لكن لا يمكن للعين البشريّة أن تخترق سرّ التجسّد. فإنه ليس من طريق به يتحقّق إدراك كيف صار الكلمة متجسّدًا، وكيف انتعش الروح العلوي واهب الحياة داخل أحشاء أم، وكيف حُبل بذاك الذي بلا بداية وصار إلى الوجود. إذن فسيور الحذاء إنّما هي أختام السرّ. لم يكن يوحنا مستحقًا أن يحلّ حذاءه إذ كان عاجزًا عن البحث في سرّ تجسّده... إني أعرف أنه وُلد بعدي، لكنّني أعجز عن فهم سرّ هذا المولود. انظر! فإن يوحنا الممتلئ بالروح - روح النبوّة - والمستنير بالمعرفة يُعلن أنه لا يعرف شيئًا بخصوص هذا السر.]
    سر نجاح القدّيس يوحنا المعمدان هو تواضعه؛ فبقوله إنه غير مستحق أن يحلّ سيور حذاءه يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم كأنما يقول: [إنه عالٍٍ عليِّ جدًا، ولا استحق أن أُحسب أقل عبد عنده، فإنّ حلّ سيور الحذاء هي أكثر الأعمال وضاعة.]
    بعد أن طالبهم بالتوبة العمليّة الحاملة للثمر الروحي، مقدّمًا لهم المعموديّة كسِّر صلب إنسانهم العتيق والتمتّع بالحياة الجديدة، متّحدثًا في تواضع أنه غير مستحق إدراك أسرار الحمل الفائق، أوضح مجيء هذا الحمل كديّان: "الذي رَفْشه في يده، وسينقّي بيْدره، ويجمع قمحه إلى المخزن، وأما التبن فيحرقه بنار لا تُطفأ" [12].

    هكذا يقدّم لهم القدّيس يوحنا المعمدان السيّد المسيح كديّان، فإن كان بلطفه يترك الحنطة مع التبن إنّما إلى حين، وسيأتي الوقت حتمًا ليذَرّي الحصاد، ويفصل القمح إلى المخزن، والتبن إلى النار. الآن يعيش الأبرار مع الأشرار، والمؤمنون مع غير المؤمنين، حتى يأتي يوم الرب العظيم الذي يقوم بنفسه بالتذرية. يمسك رفشه في يده ولا يسلّمه لآخر، فإنه وحده العارف القلوب والقادر أن يفصل الحنطة من التبن بحكمة دون أن يخطئ.
    يطمئننا القدّيس أغسطينوس أنه وإن وُجدت الحنطة مختلطة بالتبن هنا، لكن هذا لن يؤذي الحنطة ولا يفقدها إكليلها، فسيأتي الوقت لعزلها عن التبن حيث يحرق التبن في النار: [هذا التبن لا يُهلك من هم حنطة الرب، والذين هم قليلون إن قورنوا بالآخرين، لكنهم هم جمع عظيم. لا يهلك مختارو الله الذين يُجمعون من أقاصي العالم، من أربعة رياح، من أقصى السماء إلى أقصاها (مت 24: 31). ويصرخ المختارون قائلين: "خلِّص يا رب، لأنه قد انقرض التقي، لأنه قد انقطع الأمناء من بني البشر" (مز 12: 1). فيقول لهم الرب: "من يصبر إلى المنتهى (حيث يُقيد الشرّ) فهذا يخلُص" (مت24: 13).]

    3. عماد المسيح

    "حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه.
    ولكن يوحنا منعه قائلاً:
    أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ.
    فأجاب يسوع وقال له: اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمِّل كل برّ.
    حينئذ سمح له.
    فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء.
    وإذ السماوات قد انفتحت له،
    فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتيًا عليه.
    وصوت من السماوات، قائلاً:
    هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت
    " [13-17].
    تحتفل الكنيسة بعيد عماد المسيح بكونه عيد الظهور الإلهي، حيث أعلن الثالوث القدّوس ذاته فيه. فإن كان عند نهر الأردن جاء كثيرون معترفين بخطاياهم، فإنه بدخول السيّد إلى المياه انكشفت حقيقته أنه أحد الثالوث القدّوس. دخل بين الخطاة لينكشف، فندرك أسراره، لا لمجرّد المعرفة العقليّة، وإنما لنختبر عمله الفائق فينا.
    يتحدّث القدّيس أغسطينوس عن ظهور الثالوث القدّوس في العماد، قائلاً: [بجوار نهر الأردن ننظر ونتأمّل كما في منظر إلهي موضوع أمامنا. لقد أعلن لنا إلهنا نفسه بكونه الثالوث. جاء يسوع اعتمد بواسطة يوحنا، الرب بواسطة العبد، مثالاً للتواضع. أظهر لنا في تواضع أن المحبّة قد كملت. وعندما قال له يوحنا: "أنا محتاج أن اعتمد منك، وأنت تأتي إليّ. أجاب: اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل برّ" [14-15].
    عندما انفتحت السماوات ونزل الروح القدس في شكل حمامة، تبعه صوت من السماء، قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" [17]. إذن هنا أمامنا الثالوث متمايزًا، الواحد عن الآخر: الآب في الصوت، الابن في الإنسان، والروح القدس في شكل حمامة. إنهم الله الواحد، ومع ذلك فإن الابن غير الآب، والآب غير الابن، والروح القدس ليس بالآب ولا بالابن. نحن نعلم أن هذا الثالوث الذي لا يُنطق به، يسكن في ذاته، يجدّد الكل، يخلق، يدعو، يدين ويخلّص، هذا الثالوث هو كما نعلم لا يُنطق به وغير منفصل.
    نستطيع أن ندرك مدى اهتمام الكنيسة بالمعموديّة من كلمات القدّيس جيروم: [لم يكرز المخلّص نفسه بملكوت السماوات إلاّ بعد تقديسه الأردن بتغطيسه في العماد.]
    1 و في تلك الايام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية
    2 قائلا توبوا لانه قد اقترب ملكوت السماوات
    3 فان هذا هو الذي قيل عنه باشعياء النبي القائل صوت صارخ في البرية اعدوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة
    4 و يوحنا هذا كان لباسه من وبر الابل و على حقويه منطقة من جلد و كان طعامه جرادا و عسلا بريا
    5 حينئذ خرج اليه اورشليم و كل اليهودية و جميع الكورة المحيطة بالاردن
    6 و اعتمدوا منه في الاردن معترفين بخطاياهم
    7 فلما راى كثيرين من الفريسيين و الصدوقيين ياتون الى معموديته قال لهم يا اولاد الافاعي من اراكم ان تهربوا من الغضب الاتي
    8 فاصنعوا اثمارا تليق بالتوبة
    9 و لا تفتكروا ان تقولوا في انفسكم لنا ابراهيم ابا لاني اقول لكم ان الله قادر ان يقيم من هذه الحجارة اولادا لابراهيم
    10 و الان قد وضعت الفاس على اصل الشجر فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع و تلقى في النار
    11 انا اعمدكم بماء للتوبة و لكن الذي ياتي بعدي هو اقوى مني الذي لست اهلا ان احمل حذاءه هو سيعمدكم بالروح القدس و نار
    12 الذي رفشه في يده و سينقي بيدره و يجمع قمحه الى المخزن و اما التبن فيحرقه بنار لا تطفا
    13 حينئذ جاء يسوع من الجليل الى الاردن الى يوحنا ليعتمد منه
    14 و لكن يوحنا منعه قائلا انا محتاج ان اعتمد منك و انت تاتي الي
    15 فاجاب يسوع و قال له اسمح الان لانه هكذا يليق بنا ان نكمل كل بر حينئذ سمح له
    16 فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء و اذا السماوات قد انفتحت له فراى روح الله نازلا مثل حمامة و اتيا عليه
    17 و صوت من السماوات قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 7:59 am

    الأصحاح الرابع

    انتصار الملك

    إذ تُوّج الملك كان لابد أن يقدّم لشعبه شيئًا يليق بعمله الملوكي، لهذا دخل في معركة علانيّة ضدّ الشيطان لحساب شعبه ليهبهم النصرة؛ ينزعهم عن مملكة إبليس ويقيمهم ملكوتًا له. دخل السيّد هذه المعركة لحساب شعبه حتى كل غلبة له إنّما تقدّم لحسابهم.

    1. التجربة 1-11.

    2. انصرافه إلى الجليل 12-17.

    3. دعوة التلاميذ 18-22.

    4. الكرازة والعمل 23-25.

    1. التجربة

    إذ تحتل تجربة السيّد المسيح دورًا رئيسيًا في خلاصنا بكونها جزءً لا يتجزأ من عمله الإلهي الخلاصي، تحدّث عنها الإنجيلي في شيء من التفصيل موضّحًا موعد التجربة، ودور الروح القدس فيها، وموضع التجربة، ومن هو المُجرّب، وارتباط التجربة بالصوم، وأنواع التجارب الثلاث: كيف تهاجم، وكيفيّة الغلبة، وثمار التجربة.

    أولاً: موعد التجربة

    "ثم أُصعد يسوع إلى البرّيّة من الروح،

    ليجرّب من إبليس" [1].

    يبدأ الإنجيلي حديثه عن التجربة بكلمة "ثم"، وكأن التجربة أمر طبيعي كان لزامًا للسيّد الذي قبل أن يدخل إلى مياه المعموديّة نيابة عنّا، فاتحًا لنا طريق الملكوت، واهبًا إيّانا حق البنوّة للآب فيه، أن يدخل في صراعٍ مفتوحٍ مع إبليس رئيس مملكة الظلمة. وكأن ملكوت السموات الذي قدّمه لنا المسيّا لنا الملك قد كلّفه الكثير، فلم يقف الأمر عند تجسّده ودخوله مياه المعموديّة، وإنما دخل معركة طويلة ظهرت إحدى صورها في التجربة على الجبل، وتلألأت في كمالها على الصليب. ونحن أيضًا إذ ندخل المعموديّة، ونلبس المسيح نلتزم بالدخول في المعركة التي تثيرها الظلمة، فوراء كل نعمة إلهيّة حرب روحيّة. أو كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [حيثما وُجد المسيح لابد من معركة روحيّة. لقد فتح لنا السيّد بنفسه طريق التجربة، قائلاً: "قد دُستُ المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 3)، حتى يشتهي كل منّا أن يصعد بقيادة الروح القدس أرض المعركة وحده، ليس من أبٍ يسند أو أمٍ، إنّما يحمل فيه السيّد المسيح الغالب، الذي وحده يقدر أن يحارب بنا وعنّا لحساب مملكته فينا.]

    رأى الرسول بولس في السيّد مثالاً حيًا لكل نفس تدخل برّيّة التجارب، لكنّه ليس مثالاً خارجيًا بعيدًا عنّا نتمثل به، إنّما هو المثل الحيّ الذي يفيض علينا بإمكانيّات النصرة، فتُحسب إمكانيّاته إمكانيّاتنا، إذ يقول: "من ثَمّ كان ينبغي أن يشبه إخوته في كل شيء، لكي يكون رحيمًا، ورئيس كهنة أمينًا في ما لله حتى يكفر عن خطايا الشعب، لأنه في ما هو قد تألّم مُجرَّبًا يقدر أن يعيّن المجرّبين" (عب 2: 17-18). أمّا سرّ نصرة السيّد فهي أنه دخل المعركة دون أن يُوجد لإبليس موضعًا فيه، فلا يقدر أن يدخل فيه أو يغتصب ما له، إذ يقول السيد: "رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شيء" (يو 14: 30)، ويقول الرسول بولس: "مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطيّة" (عب 4: 15).

    v أعطانا الرب بمثاله كيف نستطيع أن ننتصر كما انتصر هو حين جُرِّب.

    الأب سرابيون

    v إذ هو شفيعنا يساعدنا أن نغلب في التجربة وقد صار مثالاً لنا.

    v يسوع قائدنا سمح لنفسه بالتجربة حتى يُعلِّم أولاده كيف يحاربون.

    القدّيس أغسطينوس

    v حقًا كان لائقًا بذاك الذي جاء ليحل موتنا بموته، أن يغلب أيضًا تجاربنا بتجاربه.

    الأب غريغوريوس (الكبير)

    ثانيًا: دور الروح القدس

    يقول الإنجيلي: "أُصعد يسوع إلى البرّيّة من الروح" [1]. كأن الروح القدس هو الذي اقتاده إلى المعركة، ليس اعتباطًا، وإنما لتحقيق الخطة الإلهيّة، التي هي موضوع سرور الآب والابن أيضًا. إنه لم يصعد كمن يُقتاد لاإراديًا، فإن الروح القدس إنّما هو روح القدّوس، واحد معه في الجوهر، فما يفعله إنّما يحقّق إرادة الروح التي هي واحدة مع إرادة الآب وإرادة الابن.

    v لم يُصعد (إلى البرّيّة) كمن هو مُلزم أو من هو أسير إنّما أُقتيد باشتياق إلى المعركة.

    القدّيس جيروم.

    v ذهب الشيطان إلى الإنسان (آدم) ليجرّبه، لكن إذ لا يستطيع الشيطان أن يهاجم المسيح، بل ذهب المسيح إليه.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    إن كان الحب الإلهي قد دفع السيّد المسيح إلى الدخول إلى معركة ضدّ إبليس من أجلنا ولحسابنا، هكذا يلهب الروح القدس قلب المؤمن، ليس فقط أن يحتمل التجربة بفرحٍ مجاهدًا بالسيّد المسيح الساكن فيه، وإنما أيضًا ينحني بالحب ليحسب تجارب إخوته تجاربه، وقيودهم قيوده، يئن لسقطاتهم ويتألّم من أجل كل نفسٍ متهاونة في طريق خلاصها. وبعدها كانت التجارب علامة غضب الله صارت هبة يسمح الله بها لأولاده لكي يحملوا نصرة المسيح نفسه فيهم.

    v تُوجَّه تجارب الشيطان بالأكثر ضدّ الذين تقدّسوا، لأنه يشتاق بالأكثر أن ينال نصرة على الأبرار.

    القدّيس هيلاري أسقف بواتييه

    v ليس المسيح وحده هو الذي أُصعد بالروح إلى البرّيّة، وإنما كل أولاد الله الذين فيهم الروح القدس. فإنهم لا يقتنعون ببقائهم كسالى، إنّما يحثّهم الروح القدس أن يقوموا بعملٍ عظيمٍ، فيخرجون إلى البرّيّة كمن يصارعون إبليس حيث توجد أعمال ظلم يثيرها الشيطان. لأن كل الصالحين هم خارج العالم والجسد، ليست لهم إرادة العالم ولا إرادة الجسد، يخرجون إلى البرّيّة هكذا ليجرّبوا.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    لا ينزع الله التجارب، بل يسمح لنا بها، ويقدّم لنا القدّيس يوحنا الذهبي الفم الأسباب لذلك:

    أولاً: ليعلمك أنك قد صرت أكثر قوّة.

    ثانيًا: لكي تستمر متواضعًا، فلا تنتفخ بعظمة مواهبك، إذ تضغط التجارب عليك.

    ثالثاً: لكي يتأكّد الشيطان الشرّير الذي قد يشك للحظة أنك قد تركته، فبمَحَكْ التجارب يتأكّد أنك تركته تمامًا وقد أفلتّ من بين يديه.

    رابعًا: بها تصير أكثر قوّة وصلابة من الصلب نفسه.

    خامسًا: لكي تحصل على دليل واضح للكنوز المعهود بها إليك. فإن الشيطان لا يريد محاربتك ما لم يراك في كرامة أعظم. على سبيل المثال في البداية هاجم آدم، لأنه رآه يتمتّع بكرامة عظيمة. ولهذا السبب أيضًا هيّأ الشيطان نفسه للمعركة ضدّ أيوب لأنه رآه مكلّلاً، يزكّيه الجميع.

    ويقدّم الأب تادرس عدة أسباب لسماح الله لنا بالتجارب، منها تزكيتنا أو إصلاحنا، أو بسبب خطيّة ارتكبناها، أو لإظهار مجد الله أو علامة عقاب إلهي:

    [أ. من أجل اختبارهم، كما نقرأ عن الطوباويّين إبراهيم وأيوب وكثير من القدّيسين الذين تحمّلوا تجارب بلا حصر...

    ب. من أجل الإصلاح، وذلك عندما يؤدب (الله) أبراره من أجل خطاياهم البسيطة (اللاإرادية) والهفوات، ولكي يسمو بهم إلى حال أعظم من النقاء. وذلك كالقول "يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تخُرْ إذا وبّخك، لأن الذي يحبّه الرب يؤدّبه ويجلد كل ابن يقبله... فأي ابن لا يؤدّبه أبوه؟ ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه، فأنتم نغول لا بنون" (عب 12: 5-انجيل متى Icon_cool.

    ج. كعقاب من أجل الخطيّة وذلك كما هدّد الله بأن يرسل أوبئة على بني إسرائيل (لشرّهم): "أرسل فيهم أنياب الوحوش مع حُمَةِ زواحف الأرض" (تث 32: 24).

    د. بالحقيقة أيضًا نجد سببًا رابعًا ذكره الكتاب المقدّس، وهو أن الأتعاب تُجلَب علينا ببساطة من أجل إظهار مجد الله وأعماله، وذلك كقول الإنجيلي: "لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه" (يو 9: 3)، وأيضًا: "هذا المرض ليس للموت، بل لأجل مجد الله ليتمجّد ابن الله به" (يو 11: 4).

    هـ. وهناك أنواع أخرى للنقمات التي يبُتلى بها الذي يغفلون رباطات الشرّ في حياتهم، إذ نقرأ عن داثان وأبيرام وقورح الذين عوقبوا، وعن الذين قال عنهم الرسول: "أسلمهم الله إلى أهواء الهوان... وإلى ذهن مرفوض" (رو 1: 26، 28). وهذه تعتبر أمر العقوبات... لأنهم صاروا غير مستأهلين لأن يشفوا بالافتقاد الإلهي واهب الحياة.]

    نستطيع أن نضيف إلى التعليلات السابقة أمرًا هامًا في حياة المؤمن، ألا وهو أن التجربة هي المناخ المناسب لتجلّي المسيّا المصلوب في حياة المؤمن. ففي بدء التجربة كان الشيطان متشكّكا في شخص ربّنا يسوع، فكان دائم السؤال: "إن كنت ابن الله... "، لكن إذ غلب السيّد جاءت الملائكة تخدمه، وطُرد إبليس من وجهه إلى حين، فأدرك أنه المسيّا لا بالكلام وإنما خلال العمل. هكذا بقدر ما ندخل في صراع مع عدوّ الخير ينكشف المسيّا الذي في داخلنا، ويُعلن ملكوته فينا، حيث تقوم ملائكة بخدمتنا وينفضح ضعف الشيطان أمامنا، بل أمام السيّد المسيح العامل فينا. حقًا إن ما يقتنيه المسيحي الحكيم من بركات في تجربة ما لا توازيها ما يناله بسبب العبادة لسنوات طويلة في فترات الراحة! الصليب هو مجال ظهور المسيّا المصلوب في عروسه المقدّسة!

    ثالثًا: موضع التجربة

    اختار السيّد المسيح "البرّيّة" لتكون مكان التجربة، أو بمعنى آخر ميدان المعركة بينه وبين إبليس بطريقة علنية. اختيار هذا المكان يقدّم لنا مفاهيم روحيّة تمسّ حياتنا مع الله، منها:

    أ. بحسب التقليد اليهودي يُنظر إلى الشيطان والأرواح الشرّيرة أنها تأوي إلى البراري والأماكن الخربة والقبور الخ. وكأن السيّد أراد أن يدخل بنفسه إلى المعركة مع إبليس في أرضه، أي كمن هو في عرين الأسد. لقد رأينا في حديثنا عن القدّيس يوحنا المعمدان في الأصحاح السابق أنه انطلق يكرز في "برّيّة اليهوديّة"، مقدّمًا للمسيّا الملك الطبيعة البشريّة كبرّيّة قاحلة لكي يحولها إلى فردوس بمياه روحه القدّوس. أستطيع بهذا أن أقول إن أرض المعركة في الواقع هي "برّيّة الطبيعة البشريّة" التي صارت قاحلة ومسكنًا للشيّاطين، دخل إليها السيّد لكي يغتصبها ممن قد ملك عليها ليقيم مملكته فيها. بهذا يدرك كل خاطئ أن المعركة الروحيّة ليست معركته، إنّما هي معركة الله مع الشيطان، وأما هو فمجرد أرض المعركة وميدانها، إن اختفى وراء المسيّا فسيغلب به!

    ب. لقد أُصعد السيّد إلى البرّيّة ليجرّب، معلنًا أنه حيث يكون الشخص في عزلة، أي في البرّيّة تتجرّأ عليه الشيّاطين لمحاربته. لكن السيّد لم يكن في عزلة داخليّة، إذ لم ينفصل قط عن أبيه وروحه القدّوس ولا اعتزل البشريّة بل كانت في قلبه. بمعنى آخر، كان في عُزلة حسب الجسد في الظاهر لا في الداخل، لهذا لم يكن للعدو مكان فيه، وهكذا فإنّنا نحن إن صرنا في عزلة من الله والناس يجد الشيطان له فينا مكانًا... أقصد العزلة الداخليّة، أي فقدان الحب لله والعضويّة الكنسيّة الروحيّة، إنه ينفرد بنا ويغلبنا، أمّا إن كنّا في وحدة الحب مع الله والناس، فحتى وإن كنّا في عزلة ظاهرة فإنّنا نغلبه.

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [انظر أين يصعده الروح عندما أخذه لا إلى مدينة ولا إلى مسرح عام، بل إلى برية. بهذا كان يجتذب الشيطان معطيًا إيّاه فرصة ليس فقط بجوعه وإنما خلال الموضع أيضًا. وعندئذ، على وجه الخصوص، يحارب الشيطان عندما يرى الناس متروكين وحدهم بمفردهم. هكذا فعل أيضًا مع المرأة (حواء) في البداية عندما اصطادها وحدها، إذ وجدها بعيدة عن زوجها. فإنه عندما يرانا مع الآخرين، متّحدين معًا لا تكون فيه الثقة الكافية لمهاجمتنا. إننا في حاجة عظيمة أن نجتمع معًا باستمرار حتى لا نتعرّض لهجمات الشيطان.]

    العزلة هنا لا تعني مجرّد انفصالنا عن الآخرين جسديًا، إنّما هي عزلة القلب المملوء أنانيّة، الذي لا يقدر أن يحمل آخرين في داخله؛ يطلب ما هو لذاته لا ما للغير، وكما يقول الحكيم: "المعتزل يطلب شهوته" (أم 18: 1). وعندما وبّخ الله إسرائيل على شرّه قال: "صعدوا إلى أشور مثل حمار وحشي معتزل بنفسه" (هو 8: 9). ويصف القدّيس يهوذا الهراطقة بأنهم "معتزلون بأنفسهم نفسانيّون لا روح لهم" (يه 19).

    رابعًا: من هو المجرّب؟

    بعدما أكّد الإنجيلي أن الروح هو الذي أصعد السيّد إلى البرّيّة ليُجرّب أوضح أن المجرّب هو "إبليس" نفسه. يسمى في اليونانيّة "ديافولوس" أي المُشتكي، لا عمل له إلا أن يشتكي علينا، ليصدّ مراحم الله عنّا. وقد دُعي أيضًا بالشيطان أي المقاوم، فهو خصم لا يتوقّف عن مقاومتنا، وكما يقول الرسول: "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (1 بط 5: انجيل متى Icon_cool.

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد يئس الشيطان عندما رأى المسيح صائمًا أربعين يومًا، لكنّه إذ أدرك أنه جاع بعد ذلك استعاد رجاءه "فتقدّم إليه المجرِّب" [3]... وأنت إن صُمت وعانيت من تجربة، فلا تقل في نفسك لقد فقدت ثمرة صومي. فإنك إن صمت ودخلت في تجربة، فلتنل النصرة على التجربة.]

    خامسًا: ارتباط الصوم بالتجربة

    بدأت الحرب مع بدء الصوم الأربعيني كقول الإنجيلي لوقا: "كان يُقتاد بالروح في البرّيّة أربعين يومًا يُجَرَّب من إبليس" (لو 4: 1-2). وقد اشتدّت عندما جاع، فكان الجوع بمثابة استدراج الشيطان لمنازلته، وفي نفس الوقت كان الصوم هو السلاح الذي يقدّمه السيّد لمؤمنيه لكي يتذرّعوا به أثناء الحرب الروحيّة ممتزجًا بالصلاة. لم يكن السيّد محتاجًا للصوم، إذ لم يكن يوجد فيه موضع للخطيّة، إنّما صام ليقدّس أصوامنا بصومه، مشجعًا إيّانا عليه كالأم التي تتذوّق الدواء أمام طفلها المريض حتى يشرب منه.

    v في جوعه (المسيح) اقترب إليه؛ ليعلّمك ما هي عظمة الصوم، وكيف أنه أقوى درع ضدّ الشيطان. لهذا يلزم بعد الجرن (جرن المعموديّة) أن يصعدوا لا إلى حياة الترف والشرب والمائدة الممتلئة، بل إلى الصوم. لقد صام لا عن احتياج وإنما لتعليمنا... فإنه بدون ضبط البطن طُرد آدم من الفردوس، وحدث الطوفان في أيام نوح وحلّت الرعود بسدوم. فمع ارتكابهم الزنا جاء التحذير يخصّ ضبط البطن. هذا ما عناه حزقيال بقوله: "هذا كان إثم سدوم الكبرياء والشبع من الخبز ووفرة الترف" (حز 16: 49). هكذا تعمق اليهود أيضًا في الشرّ العظيم بانسحابهم إلى المعصية خلال شربهم وترفهم (إش 5: 11ـ12).

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v عندما يوجد صراع متزايد من المجرّب يلزمنا أن نصوم، حتى يقوم الجسد بالواجب المسيحي في حربه ضدّ (شهوات) العالم، بالتوبة وحث النفس على النصرة في تواضع!

    القدّيس أغسطينوس

    ويقول الآب هيلاري أسقف بواتييه: [جاع بعد أربعين يومًا... لا بمعنى أنه هُزم من أثر الزهد، وإنما خضوعًا لقانون ناسوته.]

    لقد صام السيّد أربعين يومًا، والكنيسة أيضًا تقدّس هذا الصوم الأربعينيّ بكونه قد تقدّس بالسيّد نفسه، وتُقدّم موضوع "التجربة" في بداية قراءات الصوم لتُعلن لأولادها أنه حيث يوجد جهاد تقوم الحرب، وحيث توجد الحرب يلزم الجهاد الروحي بالصوم والصلاة.

    لماذا جاع السيّد في نهاية الأربعين يومًا؟ تأكيدًا لناسوته، فلو أنه صام أكثر من موسى (خر 24: 18) وإيليّا (1 مل 19: انجيل متى Icon_cool لحسبوه خيالاً، لا يحمل جسدًا حقيقيًا مثلنا. وقد جاع لكي يعطي الفرصة لتجديد الحرب مع الشيطان، إذ يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [يئس إبليس عندما رأى المسيح صائمًا أربعين يومًا، لكنّه إذ رآه جائعًا بدأ الأمل يدب فيه من جديد، وعندئذ تقدّم إليه المجرّب.]

    أما رقم 40 فيحمل معنى رمزيًا، فيرى القدّيس أغسطينوس أن رقم 40 يحوى رقم "عشرة" أربع مرّات، ولما كان رقم 10 يُشير إلى كمال تطويبنا أو إلى المعرفة و"أربعة" تُشير إلى الزمن، فإن رقم 40 يُشير إلى كمال زماننا في حياة مطوّبة أو في حياة مملوءة معرفة.

    رقم 4 يُشير إلى الزمن لأن دوران السنة يحوي أربعة فصول زمنيّة (صيف وشتاء وخريف وربيع)، ودوران اليوم يحوي أربع فترات زمنيّة (باكر والظهيرة وعشية والليل).

    رقم 10 يُشير إلى كمال المعرفة والتطويب لأنه يضم معرفة الخالق (3) أي الثالوث القدّوس بجانب خلقه الإنسان (رقم 7= النفس على مثال الثالوث + الجسد من العالم: أربعة أركان العالم).

    10 (كمال المعرفة) = 3 (معرفة الله) + 7 (معرفة الإنسان الكاملة).

    هذا وصوم السيّد المسيح أربعين يومًا يُشير إلى التزامنا بالزهد كل أيام غربتنا، لكي نحيا في حياة مطوّبة كاملة، وتكون لنا معرفة صادقة من نحو الله وخليقته.

    ويقدّم لنا الآب غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا آخر لرقم 40، إذ يقول: [هذا الجسد المائت يتكوّن من أربعة عناصر، ولما كنّا خلال هذا الجسد عينه نخضع لوصايا الله ووصايا الناموس التي أعطيت لنا خلال الوصايا العشرة، فإنّنا خلال شهوات الجسد احتقرنا الوصايا العشرة، فمن العدل أن نؤدب ذات الجسد أربع مرّات عشر مرّات.]

    سادسًا: التجربة الأولى أي تجربة الخبز

    "فتقدّم إليه المجرِّب وقال له:

    إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا.

    فأجاب وقال: مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان،

    بل بكل كلمة تخرج من فم الله" [3-4].

    لعلّ الشيطان قد صار في حيرة إذ رأى ذاك الذي قال عنه الآب السماوي: "هذا هو ابني الحبيب" أثناء العماد، يجوع! فتشكّك في أمره، لهذا في كل تجربة كان يودّ أن يتأكّد من بنوّته لله، قائلاً: "إن كنت ابن الله" وكما يقول القدّيس جيروم: [يقصد إبليس بكل هذه التجارب أن يعرف إن كان هو بحق ابن الله، ولكن المخلّص كان مدققًا في إجابته، تاركًا إيّاه في شك.] ولعلّه أراد أن يستخدم ذات السلاح الذي يهاجم به البشريّة، سلاح التشكيك في أُبوّة الله لنا ورعايته وعنايته بنا... أمّا سلاح السيّد المضاد فهو كلمة الله. إذ كان في كل تجربة يستند على الكلمة الإلهيّة المكتوبة بقوله: "مكتوب..."، وهو بهذا يحملنا إليه ككلمة الله المتجسّد لنختفي فيه، ونتمسّك بالكلمة المكتوبة التي بها ندين الشيطان نفسه، كقول الرسول: "ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة؟" (1 كو 6: 3)

    كانت التجربة الأولى هي تجربة الخبز، أو تجربة البطن، لكن النفس الشبعانة تدوس العسل، فلا يستطيع العدوّ أن يجد له في داخلنا موضعًا مادامت نفوسنا ممتلئة بالسيّد نفسه، في حالة شبع بل وفيض. إذ بهذا ندخل إلى شبه الحياة الملائكيّة فلا يكون للبطن السيادة علينا!

    v الإنسان الأول إذ أطاع بطنه لا الله، طُرد من الفردوس إلى وادي الدموع.

    القدّيس جيروم

    v كما أن القيامة تقدّم لنا حياة تتساوى مع الملائكة، ومع الملائكة لا يوجد طعام، فإن هذا يكفي للاعتقاد بأن الإنسان الذي سيحيا على الطقس الملائكي يتبرّر من هذا العمل (العبوديّة للطعام والشراب).

    القدّيس غريغوريوس النيسي

    v تأكّد تمامًا أن العدوّ يهاجم القلب عن طريق امتلاء البطن.

    الأب يوحنا من كرونستادت

    لقد طلب إبليس منه أن يحوّل الحجارة خبزًا، لكن كما يقول القدّيس جيروم: [اعتزم المخلّص أن يقهر إبليس لا بالجبروت (تحويل الحجارة خبزًا)، وإنما بالتواضع.] لقد رفض أيضًا تحويل الحجارة خبزًا ليُعلن [أن من لا يتغذّى بكلمة الله لا يحيا.]

    v كن سيدًا على معدتك قبل أن تسود هي عليك، الذي يرعى شرّهه ويأمل في التغلب على روح الفجور يشبه من يحاول أن يخمد النار بزيت.

    القدّيس يوحنا كليماكوس

    v عيسو خلال النهَم فقد بكوريته وصار قاتلاً لأخيه!

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    سابعًا: التجربة الثانية، على جناح الهيكل

    "ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدّسة،

    وأوقفه على جناح الهيكل.

    وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل،

    لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك،

    فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك.

    قال له يسوع: مكتوب أيضًا لا تُجرِّب الرب إلهك" [5-7].

    يقدّم لنا الشيطان تجاربه بكلمات معسولة مملوءة سمًا، فإن كلماته "أنعم من الزيت وهي سيوف مسلولة". يستخدم كلمة الله بعد أن يحرّفها، فما جاء في المزمور: "لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك" (مز 91: 11-12) كعلامة عن رعاية الله لنا المستمرّة، استخدمها الشيطان لكي يدفع السيّد المسيح ليجرِّب أباه، أو لكي يفسد رسالته بعيدًا عن حمل الصليب، مهتمّا باستعراض إمكانيّاته، بطلب الملائكة لتحفظه عِوض الدخول في حياة الألم.

    يقول القدّيس جيروم: [يفسّر الشيطان المكتوب تفسيرًا خاطئًا... كان يليق به أن يكمّل ذات المزمور الموجَّه ضدّه إذ يقول: "تطأ الأفعى وملك الحيّات وتسحق الأسد والتنين". فهو يتحدّث عن معونة الملائكة كمن يتحدّث إلى شخص ضعيف محتاج للعون ولكنه مخادع إذ لم يذكر أنه سيُداس بالأقدام.]

    الأمر المرير هو أن الشيطان يدخل لمحاربة أولاد الله في المدينة المقدّسة على جناح الهيكل، وفي أعلى الأماكن المقدّسة؛ هكذا لا يتوقّف عن محاربتنا أينما وجدنا!

    كانت كلمات إبليس "اطرح نفسك إلى أسفل"... وكما يقول القدّيس جيروم: [هذه هي كلمات إبليس دائمًا إذ يتمنى السقوط للجميع.]

    اهتزّ القدّيس يوحنا الذهبي الفم أمام طول أناة السيّد المسيح حتى في تعامله مع إبليس أثناء التجربة، إذ يقول: [لم يسخط ولا ثار، إنّما برقّة زائدة تناقش معه للمرة الثانية من الكتاب المقدّس... معلّما إيّانا أننا نغلب الشيطان لا بعمل المعجزات، وإنما بالاحتمال وطول الأناة، فلا نفعل شيئًا بقصد المباهاة والمجد الباطل.]

    ثامنًا: التجربة الثالثة، الطريق السهل

    "ثم أخذه إبليس إلى جبل عالٍ جدًا،

    وأراه جميع ممالك العالم ومجدها.

    وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي.

    حينئذ قال له يسوع اذهب يا شيطان،

    لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" [8-10].

    دُعي إبليس بالكذاب وأبو الكذاب، فإنه لا يكف عن أن يخدع بكذبه. هذه هي طبيعته التي لا يقدر أن يتخلّى عنها. لقد ظنّ أنه قادر أن يخدع السيّد بقوله "أعطيك هذه جميعها" فلا حاجة إلى الصليب، إنّما يكفي أن تخر وتسجد لي. هذه أمر الضربات التي يصوّبها العدوّ للكثيرين، وهو فتح الطريق السهل السريع لتحقيق أهداف تبدو ناجحة وفعّالة. لكن السيّد لم ينخدع، لأنه يعرف حقيقة سلطان أبيه، وأن ما لأبيه إنّما هو له، فهو ليس في عوز. هكذا إذ يُدرك المؤمن غنى أبيه السماوي، وتنفتح بصيرته ليرى أنه وارث مع المسيح، لن يمكن للعدو أن يغويه بطريق أو آخر، مهما بدا سهلاً أو سريعًا أو محقّقًا لغنى أو كرامة زمنيّة.

    يقول القدّيس جيروم: [أراه مجد العالم على قمّة جبل، هذا الذي يزول، أمّا المخلّص فنزل إلى الأماكن السفليّة ليهزم إبليس بالتواضع.] كما يقول: [يا لك من متعجرف متكبّر! فإن إبليس لا يملك العالم كلّه ليعطي ممالكه وإنما كما تعلم أن الله هو الذي يهب الملكوت لكثيرين!]

    ويرى القدّيس أنبا أنطونيوس في كلمات السيد: "اذهب يا شيطان" مِنحة يقدّمها السيّد لمؤمنيه، يستطيعون كمن لهم سلطان أن ينطقوا بالمسيح الذي فيهم ذات الكلمات، إذ يقول: [ليخزى الشيطان بواسطتنا، لأن ما يقوله الرب إنّما هو لأجلنا، لكي إذ تسمع الشيّاطين منّا كلمات كهذه تهرب خلال الرب الذي انتهرها بهذه الكلمات.]

    هذه التجارب الثلاث التي واجهها السيّد وغلب، إنّما هي ذات التجارب التي واجهت آدم وسقط فيها وهو في الفردوس، ألا وهي: النهم، والمجد الباطل، والطمع، فقد أغواه العدوّ بالأكل ليملأ بطنه ممّا لم يسمح به له، وأن يصير هو وزوجته كالله، وبالتالي أن يملك شجرة معرفة الخير والشر. ما سقط فيه آدم الأول غلب فيه آدم الثاني، حتى كما صار لنا الهلاك الأبدي خلال آدم الترابي، يصير لنا المجد الأبدي خلال آدم الأخير.

    يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن هذه التجارب الثلاث تحوي في طيّاتها كل بقيّة التجارب: [يبدو لي أنه بالإشارة إلى التجارب الرئيسيّة يتحدّث عن جميع التجارب كما لو كانت محواة فيها. لأن قادة الشرّير غير المحصيّة هي هذه: عبوديّة البطن، والعمل من أجل المجد الباطل، والخضوع لجنون الغنى.]

    ختم الإنجيلي حديثه عن التجارب بقوله: "ثم تركه إبليس، وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه" [11]. يقول لوقا الإنجيلي أن إبليس "فارقه إلى حين" (لو 4: 13). فالحرب لا تهدأ قط، لكن مع كل نُصرة تفرح الملائكة، فتتقدّم إلينا لتحمل هذه النصرة كإكليل مجد ترفعه إلى السماء لحسابنا الأبدي. إنها تخدمنا هنا ـ لا خدمة الجسد ـ وإنما خدمة الروح، فتعتزّ بنا بكونهم حراسًا لنا.

    وكما يقول القدّيس جيروم: [التجربة تسبق لكي تتبعها نصرة، وتأتي الملائكة فتخدم لتثبت كرامة المنتصر.]

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [بعد انتصاراتك النابعة عن انتصاراته تستقبلك الملائكة أيضًا وتمدحك وتخدمك كحرّاس لك في كل شيء.]

    ويتحدّث الأب سيرينوس عن عدم توقّف حرب الشيّاطين ضدّنا، قائلاً: [تسقط الأرواح (الشرّيرة) في الحزن، إذ تهلك بواسطتنا بنفس الهلاك الذي يرغبونه لنا، ولكن هزيمتهم لا تعني أنهم يتركوننا بلا رجعة.]

    2. انصرافه إلى الجليل

    انصرف السيّد المسيح إلى الجليل. لقد ترك الناصرة وأتى وسكن في كفرناحوم، التي عند البحر في تخوم زبولون ونفتاليم: "لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل. أرض زبولون وأرض نفتاليم، طريق البحر عبر الأردن، جليل الأمم. الشعب الجالس في ظلمة أبصر نورًا عظيمًا، والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور" [14-16].

    منطقة "الجليل" عبارة عن دائرة تضم عشرين مدينة أهداها سليمان إلى حيرام ملك صور، وكان اليهود فيها قليلي العدد، أكثر سكانها من الفينيقيّين واليونان والعرب، ولهذا سُمّيت "جليل الأمم". كان حال سكان هذه المنطقة قد بلغ أردأ ما يكون، فجاء السيّد المسيح، معلّم البشريّة وشمس البرّ ليضيء على الجالسين في الظلمة (إش 9: 1-2).

    أما منطقة كفرناحومالتي تعني "المعزّي" فتعتبر من أهم مناطق الجليل، وهي قلعة رومانيّة بها حامية من قواد الرومان.

    3. دعوة التلاميذ

    عند بحر الجليل دعا السيّد الأخوين سمعان بطرس وأندراوس، وأيضًا الأخوين يعقوب ابن زبدي ويوحنا.

    بحر الجليل هو بحيرة عذبة يبلغ طولها 13 ميلاً، يحدّها الجليل غربًا ويصب فيها نهر الأردن من الشمال. ويُسمّى بحيرة جنيسارت وبحر طبرية، وهو يستمد أسماءه من البلاد التي يتصل بها من جهات متعدّدة.

    من منطقة الجليل حيث الظلام الدامس، وحيث المكان المُزدرى به، دعا السيّد أربعة من تلاميذه، كانوا صيادي سمك، وكما يقول الرسول بولس: "يختار جهّال العالم ليخزى الحكماء" (1 كو 1: 27). يقول العلاّمة أوريجينوس: [يبدو لي أنه لو كان يسوع قد اختار بعضًا ممن هم حكماء في أعين الجموع، ذوي قدرة على الفكر والتكلم بما يتّفق مع الجماهير، واستخدمهم كوسائل لنشر تعليمه، لشك البعض كثيرًا في أنه استخدم طرقًا مماثلة لطرق الفلاسفة الذين هم قادة لشيعة معيّنة، ولما ظهر تعليمه إلهيًا.]

    ويقول القدّيس جيروم: [كان أول المدعوّين لتبعيّة المخلّص صيّادين أميّين أرسلهم للكرازة حتى لا يقدر أحد أن ينسب تحوّل المؤمنين، إلى الفصاحة والعلم بل إلى عمل الله.]

    4. الكرازة والعمل

    إذ دعا السيّد المسيح تلاميذه للعمل في ملكوته أراد توضيح رسالته أنه لم يأتِ لملكوت أرضي وخلاص من نير الرومان السياسي كما ظنّ اليهود، وإنما لتحرير القلب من سلطان الخطيّة ليملك هو عليه.


    1 ثم اصعد يسوع الى البرية من الروح ليجرب من ابليس
    2 فبعدما صام اربعين نهارا و اربعين ليلة جاع اخيرا
    3 فتقدم اليه المجرب و قال له ان كنت ابن الله فقل ان تصير هذه الحجارة خبزا
    4 فاجاب و قال مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله
    5 ثم اخذه ابليس الى المدينة المقدسة و اوقفه على جناح الهيكل
    6 و قال له ان كنت ابن الله فاطرح نفسك الى اسفل لانه مكتوب انه يوصي ملائكته بك فعلى اياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك
    7 قال له يسوع مكتوب ايضا لا تجرب الرب الهك
    8 ثم اخذه ايضا ابليس الى جبل عال جدا و اراه جميع ممالك العالم و مجدها
    9 و قال له اعطيك هذه جميعها ان خررت و سجدت لي
    10 حينئذ قال له يسوع اذهب يا شيطان لانه مكتوب للرب الهك تسجد و اياه وحده تعبد
    11 ثم تركه ابليس و اذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه
    12 و لما سمع يسوع ان يوحنا اسلم انصرف الى الجليل
    13 و ترك الناصرة و اتى فسكن في كفرناحوم التي عند البحر في تخوم زبولون و نفتاليم
    14 لكي يتم ما قيل باشعياء النبي القائل
    15 ارض زبولون و ارض نفتاليم طريق البحر عبر الاردن جليل الامم
    16 الشعب الجالس في ظلمة ابصر نورا عظيما و الجالسون في كورة الموت و ظلاله اشرق عليهم نور
    17 من ذلك الزمان ابتدا يسوع يكرز و يقول توبوا لانه قد اقترب ملكوت السماوات
    18 و اذ كان يسوع ماشيا عند بحر الجليل ابصر اخوين سمعان الذي يقال له بطرس و اندراوس اخاه يلقيان شبكة في البحر فانهما كانا صيادين
    19 فقال لهما هلم ورائي فاجعلكما صيادي الناس
    20 فللوقت تركا الشباك و تبعاه
    21 ثم اجتاز من هناك فراى اخوين اخرين يعقوب بن زبدي و يوحنا اخاه في السفينة مع زبدي ابيهما يصلحان شباكهما فدعاهما
    22 فللوقت تركا السفينة و اباهما و تبعاه
    23 و كان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم و يكرز ببشارة الملكوت و يشفي كل مرض و كل ضعف في الشعب
    24 فذاع خبره في جميع سورية فاحضروا اليه جميع السقماء المصابين بامراض و اوجاع مختلفة و المجانين و المصروعين و المفلوجين فشفاهم
    25 فتبعته جموع كثيرة من الجليل و العشر المدن و اورشليم و اليهودية و من عبر الاردن
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 8:05 am



    الأصحاح الخامس
    [size=25]
    دستور الملك 1

    قدّم لنا الإنجيلي دستور الملك الذي أعلنه للشعب أو خطاب العرش، لكي تلتزم به مملكته، وقد دُعيَ بالموعظة على الجبل، إذ ألقاه السيّد المسيح جالسًا على الجبل.
    1. مقدّمة الدستور 1-2.
    2. التطويبات 3-12.
    3. رسالة المسيحي 13-16.
    4. تكميل الناموس 17-20.
    5. القتل 21-26.
    6. الزنا 27-30.
    7. التطليق 31-32.
    8. القسَم 33-37.
    9. مقاومة الشرّ بالخير 38-41.
    10. محبّة الأعداء 42-48.
    1. مقدّمة الدستور

    شغلت "الموعظة على الجبل" الأصحاحات الثلاثة من إنجيل معلّمنا متّى [5-7]، وقد اهتم بها آباء الكنيسة الأولى، كما شغلت أذهان الحكماء من غير المسيحيّين، بكونها تمثل دستورًا حيًا للحياة الكاملة. يقول القدّيس أغسطينوس: [فيها كل المبادئ السامية اللازمة للحياة المسيحيّة الكاملة.]
    بدأ الإنجيلي إعلانه هذا الدستور بهذه المقدّمة: "ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل، فلما جلس تقدّم إليه تلاميذه، ففتح فاه وعلّمهم قائلاً: [1-2]. التقى المسيّا الملك بشعبه على الجبل ليتحدّث معهم معلنًا دستور مملكته. في القديم صعد موسى النبي على الجبل ليتسلّم الشريعة بعد صوم دام أربعين يومًا، مع استعدادات ضخمة التزم بها الكهنة واللاويون والشعب، ولم يكن ممكنًا لأحد غير موسى أن يتسلّم الشريعة أو يسمع صوت الله، إنّما يرون الجبل يدخن والسحاب الكثيف يحيط به والرعود ترعب، أمّا الآن فقد نزل كلمة الله في شكل العبد ليجلس مع بنيّ البشر على الجبل يتحدّث معهم مباشرة وفي بساطة.
    يقول القدّيس أغسطينوس [يُشير(الجبل) إلى النفس العالية، هذه التي ارتفعت فوق الأمور الزمنيّة محلِّقة في السماويات. على هذا الجبل تظهر مدينة الله المقدّسة التي لا يمكن إخفائها، فتظهر الكنيسة المقدّسة متحلّية في حياة القدّيسين. وعلى هذا الجبل المقدّس يصعد الرب بنفسه ليتحدّث مع شعبه، فيكون الجبل شاهد حق له خلال الحياة المقدّسة العمليّة.]
    يُشير الجبل أيضًا إلى تلك النفوس العالية التي للآباء والأنبياء في العهد القديم وللتلاميذ والرسل في العهد الجديد بكونهم جميعًا يمثّلون جبلاً واحدًا مرتفعًا إلى الأعالي، فقد جلس السيّد عليه يتحدّث، لأن هذا هو غاية الناموس والنبوّات أن يقودنا إلى المسيّا المخلّص، وهذا هو غاية كرازة التلاميذ والرسل أن ندخل إلى المسيّا ونسمع له.
    إذ جلس السيّد على الجبل "تقدّم إليه تلاميذه". وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [ليكونوا قريبين منه بالجسد ليسمعوا كلماته، كما هم قريبون منه بالروح بتنفيذ وصاياه.] حقًا كلما دخلنا إلى الوصيّة الإلهيّة خلال ممارستها يدخل بنا الروح القدس الذي يسندنا في تنفيذها إلى أعماقها كما إلى جبل عالٍ لنجد يسوعنا يتحدّث معنا بفمه الإلهي، يناجينا ونناجيه.
    "ففتح فاه وعلّمهم قائلاً..." لم يعتد الله أن يحدّثنا بفمه الإلهي مباشرة، إنّما كان يعلّمنا خلال أعماله معنا ورعايته الدائمة، كما حدّثنا خلال النبوّات المستمرّة، أمّا الآن فقد جاء يحدّثنا بفمه حديثًا مباشرًا. تعبير "ففتح فاه" في اليونانيّة يُشير إلى أهمّية الحديث ووقاره من ناحية، ومن الناحية الأخرى أن ما يُقال يصدر عن المتكلّم مباشرة، ليس نقلاً عن الآخرين، أي أنه من وحي فكره ومن أعماق قلبه. لقد فتح السيّد فاه ليحدّثنا عن أهم رسالة وهي دستوره، تكشف عمّا في داخله وتُعلن أسراره الداخليّة من نحونا. إنها تفتح قلبه لنا.
    وقد جاء الفعل "علّمهم" في اليونانيّة بصيغة الماضي المستمر، وكأن معلّمنا متّى الإنجيلي يقول بأن يسوع فتح قلبه وكان دائم التعليم. إنه يريد أن يدخل بكل شعبه إلى أسراره القلبية ليتعلّموا أسرار محبّته لهم.
    2. التطويبات

    بدأ المسيّا الملك دستوره بالجانب الإيجابي، فلم يتحدّث عن الممنوعات بل جذبهم إلى "الحياة الفاضلة"، كاشفًا لهم عن مكافأتها، ليحثّهم عليها. يقول القدّيس أغسطينوس: [مادمنا نحب المكافأة، يلزمنا ألا نهمل الجهاد لبلوغها. لنلتهب شوقًا نحو العمل للحصول عليها.]
    أ. طوبى للمساكين بالروح

    ما هي "المسكنة بالروح" إلا حياة التواضع، خلالها يدرك الإنسان أنه بدون الله يكون كلا شيء، فينفتح قلبه بانسحاق لينعم ببركاته. فإن كانت خطيّة آدم الأولى هي استغناءه عن إرادة الله بتحقيق إرادته الذاتيّة، لذلك جاء كلمة الله الغني بحق مفتقرًا من أجلنا، ليس بالإخلاء عن أمجاده فحسب، وإنما بإخلائه أيضًا عن إرادته التي هي واحدة مع إرادة أبيه. كنائبٍ عنّا افتقر ليتقبّل غنى إرادة أبيه الصالح، قائلاً: "لتكن لا إرادتي بل إرادتك".
    إن كان الكبرياء هو أساس كل سقطة فينا، فإن التواضع أو مسكنة الروح هو مدخلنا للملكوت: "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات" [3].
    v كما أن الكبرياء هو ينبوع كل الشرور هكذا التواضع هو أساس كل ضبط للنفس.
    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v بالحق ليس للتطويبات أن تبدأ بغير هذه البداية، مادامت موضوعة لأجل بلوغ الحكمة العالية "رأس الحكمة مخافة الرب" (مز 111: 10)، ومن الناحية الأخرى "الكبرياء أول الخطايا" (حكمة يشوع 10: 15). إذن ليبحث المتكبّر عن الممالك الأرضيّة ويحبّها، ولكن "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات".
    القدّيس أغسطينوس

    v حقًا أي فقر أشد وأقدس من أن يعرف إنسان عن نفسه أنه بلا قوّة ليدافع بها عن نفسه، طالبًا العون اليومي من جود غيره، وهكذا يعلّم أن كل لحظة من لحظات حياته تعتمد على العناية الإلهيّة... فيصرخ إلى الرب يوميًا : "أما أنا فمسكين وبائس، الرب يهتم بي" (مز 40: 17).
    الأب إسحق

    v لقد وضع هذا (التواضع) كأساس يقوم عليه البناء في أمان، فإن نُزع هذا عنّا حتى وإن بلغ الإنسان السماوات ينهار تمامًا، ويبلغ إلى نهاية خطيرة، بالرغم من ممارسته الأصوام والصلوات والعطاء والعفّة وكل عمل صالح. بدون التواضع ينهار كل ما تجمعه داخلك ويهلك.
    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v المسكين بالروح وديع، يخاف كلمة الله، ويعترف بخطاياه، ولا يغتر باستحقاقاته وببرّه.
    المسكين بالروح هو من يسبّح الله حين يأتي عملاً صالحًا، ويشكو نفسه حين يأتي سوءًا.
    المسكين بالروح هو من لا يرجو سوى الله، لأن الرجاء فيه وحده لا يخيب.
    المسكين بالروح يتخلّى عن كل ماله ويتبع المسيح... وإذ يتحرّر من كل حمل أرضي يطير إليه كما على أجنحة.
    القدّيس أغسطينوس
    ب. طوبى للحزانى

    الإنسان المتواضع ينطلق بالروح القدس إلى "الحزن الروحي"، حيث يدرك خطاياه ويشعر بثقلها مقدّمًا التوبة الصادقة. إنه يتلمّس أيضًا الضعف البشري فيحزن من كل نفس ساقطة.
    وإن كان السيّد بلا خطيّة، لكنّه انطلق بنا أيضًا إلى هذا الباب "الحزن الروحي"، فكان في لقائه مع الأشرار، "حزينًا على غلاظة قلوبهم" (مر 3: 5). وعند دخوله أورشليم بكى من أجل قسوة قلوبهم. وهكذا وُجد السيّد باكيًا، لكنّه لم يوجد قط ضاحكًا! حقًا لقد كان بشوشًا يسكب سلامه على الآخرين، لا يعرف العبوسة، لكنّه لم يُوجد قط ضاحكًا.
    حمل القدّيس بولس روح سيّده، فقضى سنوات خدمته يبكي بدموع من أجل خلاص كل إنسان، فيقول: "إن لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي... لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد" (رو 9: 2-3). كما يقول: "لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة" (2 كو 2: 4).
    v الحزن هو التأسّف بسبب فقدان أشياء محبوبة، غير أن الذين يهتدون إلى الله يفقدون تلك الأشياء التي اعتادوا اقتنائها في هذا العالم كأشياء ثمينة، لأنهم لا يفرحون فيما بعد بما كانوا يبتهجون به قبلاً. فإذا وُجدت فيهم محبّة الأشياء الأبديّة. فإنهم يكونون مجروحين بقدرٍ ضئيل من الحزن. لهذا يتعزّون بالروح القدس الذي دعي بسبب ذلك "الباركليت" أي المعزّي، حتى يتمتّعوا إلى التمام بما هو أبدي بفقدانهم المتع الوقتيّة.
    القدّيس أغسطينوس

    v لا يُشير هنا ببساطة إلى كل الذين يحزنون بل الذين يحزنون على الخطايا، حيث أن النوع الآخر من الحزن هو ممنوع بالتأكيد، هؤلاء الذين يحزنون لأجل أمر يخصّ هذه الحياة (الزمنيّة). هذا ما أعلنه بولس بوضوح بقوله: "حزن العالم ينشئ موتًا، وأما الحزن الذي بحسب مشيئة الله فينشئ توبة لخلاص بلا ندامة" (راجع 2 كو 7: 10)... إنه يأمرنا أن نحزن ليس فقط على أنفسنا، وإنما أيضًا من أجل شرور الآخرين. هذه النزعة اتّسمت بها نفوس القدّيسين مثل موسى وبولس وداود. نعم هؤلاء جميعًا كانوا يحزنون مرّات كثيرة عن خطايا لا تخصّهم... حينما يهب الله تعزية فإنه وإن حلّت بك أحزان بالآلاف تصير كطبقات ثلجيّة تقف فوقها (تهبك برودة). حقًا إن ما يقدّمه الله أعظم بكثير جدًا ممّا نتحمّله من أتعاب!
    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v سفر طويل بدون دموع لا يكشف عن الرغبة في رؤية الوطن. إن كنت ترغب فيما لست فيه فأسكب دموعك. وإني أسألك أن تقول لله: لقد وضعت دموعي أمام وجهك (مز55: 9). وأن تقول له: أصبح دمعي خبزي ليلاً ونهارًا! أصبح دمعي خبزًا لي: تعزّيت به حين انتحبت، واغتذيت منه حين جُعتُ. وأي بار خلا من هذه الدموع؟ إن من لم تكن له هذه الدموع لا يكتئب على غربته.
    v أطفئ لهيب الخطيئة بدموعك، وابْكِ أمام الرب! اِبكِ مطمئنًا أمام الله الذي صنعك، والذي لا يحتقر ما صنعته يداه.
    v إن من يبكي ههنا يلقى تعزيته حيث يخشى أن يبكي من جديد!
    v لتكن الدموع نصيبي الآن حتى تتعرّى نفسي من أوهامها ويلبس جسمي الصحّة الحقّة التي هي الخلود. ولا يقل لي أحد: أنت سعيد؛ لأن من يقول لي أنت سعيد يريد أن يغويني!
    القدّيس أغسطينوس

    v كما أنه إذا سقط المطر على الأرض أنبتت وأنتجت الثمار، وفي ذلك راحة وفرح للناس، كذلك الدموع إذا ما وقعت على قلب أثمرت ثمارًا روحيّة وراحة للنفس والجسد معًا.
    القدّيس مقاريوس الكبير

    v الإنسان المتسربل بثوب الأنين المقدّس الذي أنعم به الله عليه، يكون كمن ارتدى ملابس العُرس ويعرف فرح النفس الروحي.
    v لا يستطيع أحد أن يعارض في أن الدموع التي تُسكب من أجل الله مفيدة ومُجْدية، سوف ندرك فائدتها وقت رحيلنا من هذا العالم.
    v الشخص الذي يطوي طريقه في حزن وأنين مستمر من أجل حب الله، هذا لا ينقطع عن السعادة والفرح كل يوم.
    القدّيس يوحنا الدرجي
    [/size]
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 8:06 am


    ج. طوبى للودعاء
    الحزن الدائم على خطايانا وخطايا الآخرين يصقل النفس فيجعلها وديعة، لا يقدر أمر ما - مهما بلغت خطورته - أن يفقدها سلامها الداخلي، فالوداعة في حقيقتها ليست استكانة، لكنها قوّة الروح الداخلي الذي يدرك أسرار الخلاص الأبدي فلا تربكه الأمور الزمنيّة. يتفهّم رسالته الحقيقية، فلا يتأثّر بالتفاهات الباطلة. إنه كالأسد الذي لا يهتز أمام من يظن أنه يستفزّه، وليس كالعصفور الذي يتأثّر جدًا لأية حركة تصدر عن طفل صغير، هكذا النفس الوديعة إذ تدرك إمكانيّات الله فيها، وتتفهّم قوّة الروح، تحيا بوداعة داخليّة تنعكس على التصرّفات الخارجيّة.
    الكلمة اليونانيّة هنا المترجمة "ودعاء" إنّما تستخدم لوصف الحيوانات المستأنسة، وكأن السيّد يطوّب طبيعتنا التي كانت قبلاً شرسة، وقد خضعت لله مروّضها، فتحوّلت إلى كائن أليف بعدما كانت عنيفة مع الآخرين بل ومع نفسها صارت وديعة وخاضعة، قد رُوِّضت غرائزها ودوافعها. أمّا المكافأة فهي أن ترث الأرض التي هي "الجسد الترابي"، فبعدما كان شرسًا ومقاومًا للروح صار خادمًا لها ملتهبًا بنار الروح القدس.
    ولئلا تُفهم الوداعة كحياة خنوع أو ضعف قدّم السيّد نفسه مثالاً للوداعة، بقوله: "تعلّموا منّي لأني وديع ومتواضع القلب"، ليس لأنه كان محتاجًا إلى ترويض، بل بوداعته الطبيعيّة غير المكتسبة يُروِّضنا. يهبنا حياته فينا فتحمل وداعته داخلنا.
    إذ يحسب العالم أن الشخص الوديع يفقد الكثير بسبب خبث الأشرار ومكائدهم، لهذا أكّد السيّد أن المكافأة هي "ميراث الأرض". وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [أن الأرض هنا تُفهم بالمعنى الحرفي، بينما يظن أن الوديع يفقد ماله، يعد المسيح عكس ذلك، إنه لا يحثّنا بالبركات العتيدة فحسب بل وبالبركات الحاضرة أيضًا... لكن ما يقوله لا يعني أنه يحدّد المكافأة في الأمور الحاضرة، وإنما يربطها بالعطايا الأخرى أيضًا. ففي حديثه عن الأمور الروحيّة لا يستبعد الأمور الخاصة بالحياة الزمنيّة، ولا أيضًا بوعده بالأمور الخاصة بالحياة الحاضرة يُحد الوعد عند هذا.]
    ويرى القدّيس أغسطينوس: [أن الأرض هنا إنّما تعني أرض الأحياء الواردة في سفر المزامير (142: 5)، حيث تستقرّ فيها النفس بالتدبير، وذلك كما يستريح الجسد على الأرض ويتقوّت بطعامها.]
    ويمكننا تفسير "الأرض" هنا رمزيًا بكونها الأشرار الذين يرتبطون بالأرضيّات، فإنّنا إذ صرنا بالمسيح يسوع ربّنا سماءً نستطيع بوداعة المسيح السماوي أن نربح هذه الأرض ونرثها لكي تصير هي أيضًا سماءً، إذ يتقبّل الأشرار الحياة السماويّة فيهم.
    وتُشير الأرض إلى الجسد، فإنه خلال الوداعة الداخليّة والمنعكسة على تصرفاتنا مع الآخرين ليس فقط يخضع لنا الآخرون روحيًا ويتحوّلون إلى سماء بالروح القدس العامل فيهم، وإنما يخضع حتى جسدنا لنا فلا يكون مقاومًا للروح.
    ويحذّرنا القدّيس أغسطينوس من أن يصير ميراثنا للأرض بالمفهوم الحرفي هو هدفنا، إذ يقول: [إنكم ترغبون في امتلاك الأرض، ولكن احذروا من أن تمتلككم هي. إنكم ستمتلكونها إن صرتم ودعاء، وستمتلككم إن لم تكونوا هكذا. عند سماعكم هذه الجعالة، أي امتلاك الأرض، لا تبيحوا لأنفسكم الطمع الخفي.]
    v تريد الآن أن ترث الأرض، حذار من أن ترثك الأرض.
    إن كنت وديعًا ورثتها، أو قاسيًا ورثَتكََ...
    سوف ترث الأرض حقًا متّى استمسكت بصانع السماء والأرض!
    v ماذا ينفعك صنع العجائب بكبرياء، إذا لم تكن وديعًا ومتواضع القلب؟! ألم توضع في مصاف القائلين أخيرًا: ألسنا باسمك تنبّأنا؟ وباسمك صنعنا آيات كثيرة؟ وماذا يسمعون؟ لا أعرفكم، ابعدوا عني يا فاعلي الإثم.
    القدّيس أغسطينوس
    v يجد الرب راحة في القلوب الوديعة، أمّا الروح المضطربة فهي كرسي للشيطان. الودعاء يرثون الأرض، أو بالأحرى يسيطرون عليها، أمّا ذوو الخلق الشرّير فيطردون من أرضهم.
    القدّيس يوحنا كليماكوس

    يتحدّث القدّيس أمبروسيوس في كتابه الأول عن "واجبات الكهنة" عن الوداعة التي يلتزم بها المسيحي خاصة الكاهن كحياة داخليّة تمسّ كيانه في الداخل، وتمتد إلى كل تصرفاته، حتى في عبادته وكرازته، نقتطف منها:
    v ما أجمل فضيلة الوداعة، وما أعذب رقَّتها حتى تبدو لا في تصرفاتنا فحسب، بل وفي كلماتنا أيضًا حتى لا تتجاوز الحدود اللائقة في أحاديثنا، بل وحتى لا تكون نبرات هذه الكلمات ونغماتها مستهجنة، بل تصبح كلماتنا مرآة تعكس صورة الذهن...
    حتى في التسبيح والترتيل ينبغي أن ندرك أن الوداعة هي القاعدة الأولى الجديرة بالأتباع...
    ومن أهم مظاهر الوداعة الصمت، حتى تستقرّ كل الفضائل الأخرى. ولا يُلام الصمت إلا إذا كان نابعًا عن روح الكبرياء أو أعمال الطفولة...
    لا شك أن هناك وداعة في نظرات العين؛ وهذه الوداعة بدورها تنزع من المرأة تلك الرغبة في التملّي بطلعة الرجال، أو الرغبة في أن يتطلّع إليها الرجال...
    وفي صلواتنا نفسها تكون الوداعة مقبولة ومرضيّة جدًا، وتكسبنا نعمة عظيمة لدى الله...
    وأكثر من ذلك، يجب أن نتمسّك بالوداعة في حركاتنا وملامحنا وفي طريقة سيرنا ومشينا، لأنه - في الغالب - تفصح حركات الجسد عن حالة العقل.
    القدّيس أمبروسيوس
    د. طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ

    إذ يحمل المؤمن وداعة المسيح في داخله يرث الأرض التي تطلب بالأكثر أن ترتوي بالمسيح نفسه، برّنا، فيصرخ قائلاً: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله" (مز 42: 1). يدخل بنا الروح القدس خلال هذا الجوع والعطش إلى اتّحاد أعمق مع السيّد المسيح برّنا، ويرتفع بنا إلى حضن الآب لنراه فنشبع به. لهذا يقول المرتّل: "أمّا أنا فبالبرّ (أي بالمسيح) انظر وجهك، أشبع إذا استيقظت بشبهك" (مز 17: 15). بالسيّد المسيح ندخل إلى حضن أبيه، فنرى وجهه، ونشبع إذ نستيقظ من غفلتنا حاملين شبهه فينا.
    إذ نعطش لله يتقدّم إلينا السيّد المسيح بكونه الصخرة المضروبة تفيض لنا مياه الحياة. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [يروي ظمأنا بواسطة الصخرة في البرّيّة، فإن ضربت الصخرة في البرّيّة، فإن الصخرة هي المسيح التي ضُربت بالعصا لتفيض ماءً. ولكن لكي تفيض، ضُربت الصخرة مرّتين لأن للصليب عارضتين.]
    ويمكننا أن نتفهّم هذه العبارة إن رجعنا إلى الشعب القديم في البرّيّة حين جاءوا وعطشوا؛ لم يكن الجوع بالنسبة لهم مجرّد إحساس بالمعدة الفارغة بين الوجبات، ولا العطش مجرّد رغبة في التمتّع بقليل من الماء لإرواء ظمأ عادي، إنّما كان الأمر يمثّل حياة أو موت، كان الجوع والعطش في البرّيّة ليسا أمرين كماليّين أو عاديّين، وإنما صراع من أجل الحياة ضدّ الموت. هكذا اشتياقنا إلى السيّد المسيح برّنا، لا يكون ثانويًا في حياتنا، إنّما هو يمثّل حياتنا إلى الأبد أو هلاكنا الأبدي.
    وفي اليونانيّة جاء تعبير "إلى البرّ" بمعنى "إلى كل برّ"، فجوعنا وعطشنا ليس إلى نصيب من البرّ، بل إلى التمتّع بكمال البرّ، أي التمتّع بالسيّد المسيح نفسه برّنا الكامل.
    v ليت إنساننا الداخلي يجوع ويعطش، فيكون له الطعام والشراب الخاصين به. فقد قال السيّد المسيح: "أنا هو الخبز الذي نزل من السماء" (يو 6: 41)، فهذا هو خبز الجياع. لنشتاق إلى الشرّاب كالعطشى "لأن عندك ينبوع الحياة" (مز 36: 9).
    v إن كنّا نودّ أن نمتلئ يلزمنا أن نجوع ونعطش، فنسأل ونطلب ونقرع كجائعين وعطشى... الشبع لابد أن يسبقه جوع حتى لا يشمئز الإنسان من الخبز المقدّم له.
    v فليكن فيك عطش إلى الحكمة والبرّ؛ لن تشبع من الحكمة وتمتلئ من البرّ قبل أن تنتهي حياتك هذه وتبلغ حيث وعدك الله!
    القدّيس أغسطينوس
    هـ. طوبى للرحماء

    إن كان الجوع الروحي يدفعنا بالروح إلى التمتّع بالسيّد المسيح وانطلاقنا إلى حضن الآب، فإن علامة هذا الشبع هو تمتّعنا بسماته فينا خاصة الرحمة المملوءة حبًا. يقول السيد: "كونوا رحماء كما أن أباكم أيضًا رحيم" (لو 6: 36)، ليس كوصيّة نلتزم بها بقدر ما هي هبة إلهيّة ننعم بها خلال شركتنا مع الله الرحيم في ابنه.
    الرحمة هي وصيّة الله لنا وعطيّته المجّانيّة، تفتح قلبنا لا عند حد العطاء المادي للفقراء، وإنما يحمل طبيعة الرحمة في كل تصرفاتنا. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هنا يبدو أنه يتحدّث ليس فقط عن الذين يظهرون الرحمة بتقديم المال، وإنما أيضًا الذين هم رحماء في تصرفاتهم، فإن إظهار الرحمة متعدّد الأشكال، والوصيّة واسعة.]
    لا تصدر الرحمة عن ضعف واستكانة وإنما عن قوّة. نذكر في هذا تصرف أدريانوس قيصر إذ قيل أن شخصًا أهانه قبل أن يصير ملكًا، فلما صار ملكًا قال له: "لقد نجوت يا إنسان، لأني أنا اليوم ملك". هكذا إذ يدرك الإنسان مركزه الملوكي باتّحاده مع ملك الملوك، يحمل في داخله الرحمة حتى بالنسبة للمسيئين إليه، بكونها سِمة ملوكيّة سماويّة.
    ويلاحظ أن كلمة "الرحمة" هنا لا تُشير إلى مجرّد العطاء المادي أو حتى العاطفة وإنما المشاركة الفعليّة للآخرين، وكأننا نحتل مكانهم، فنشعر بآلامهم وأتعابهم، كما فعل السيّد المسيح نفسه الذي رحمنا باقترابه إلينا وقبوله طبيعتنا وحمله آلامنا، لذلك يوصينا الرسول بولس قائلاً: "اذكروا المقيّدين كأنكم مقيّدون معهم والمذلّين كأنكم أنتم أيضًا في الجسد" (عب 13: 3). فإن كنّا ندخل مع إخوتنا تحت آلامهم لنسندهم بالحب والرحمة يدخل إلينا ربّنا يسوع نفسه تحت آلامنا ليهبنا حبّه ورحمته! وعلى العكس "الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة، والرحمة تفتخر على الحكم" (يع 2: 13).
    v أعمال الرحمة بذار حصاد الآتي. إن من يزرع بالشُحّ فبالشُحّ يحصد أيضًا، ومن يزرع بكثرة فبكثرة يحصد أيضًا، ومن لا يزرع شيئًا لا يستغل شيئًا...
    v اعط ما لكَ فتستحق أن تأخذ ما ليس لك!
    القدّيس أغسطينوس

    v
    من لا يرحم لا يستحق مراحم الله، ولا يتحصّل على أي نصيب من العطف الإلهي بصلواته!
    الشهيد كبريانوس

    v
    من يرحم إنسانًا يصير باب الرب مفتوحًا لطلباته في كل ساعة.
    الشيخ الروحاني

    v
    إن رأيت إنسانًا بائسًا فأذكر... أنه وإن كان الظاهر ليس هو المسيح، لكنّه هو الذي يسألك ويأخذ منك في زيّ ذاك. إنك تستحي وتستنكف إن سمعت أن المسيح يسأل، لكن لتستنكف إن سأل ولم تعطه.
    القدّيس يوحنا الذهبي الفم
    و. طوبى لأنقياء القلب

    من يتشبّه بالرب حاملاً سِمة الرحمة المملوءة حبًا، يعمل الله في قلبه بلا انقطاع لتنفتح بصيرته الداخليّة على معاينة الله. القلب النقي هو العين الروحيّة الداخليّة التي ترى ما لا يُرى.
    "النقاوة" كما جاءت في التعبير اليوناني إنّما تُشير إلى الغسل والتطهير كإزالة الأوساخ من الملابس، وتعني أيضًا تنقية ما هو صالح ممّا هو رديء كفصل الحنطة عن التبن، وتطهير الجيش من الخائفين. وتستخدم أيضًا بمعنى وجود مادة نقيّة غير مغشوشة، كتقديم لبن بلا مادة غريبة. هكذا القلب الذي ينحني على الدوام عند أقدام ربّنا يسوع المسيح يغتسل على الدوام بالدم المقدّس فيتنقّى من كل شائبة، يقوم الروح القدس نفسه الذي تمتّع به خلال سرّيّ العماد والميرون بحراسته، فلا يترك مجالاً لفكرٍ شريرٍ أو نظرةٍ رديئة أن تقتحمه، ولا يسمح لشهوة رديئة أن تسيطر عليه... وهكذا يصفو القلب ويتنقّى بكل اشتياقاته وأحاسيسه ودوافعه فلا يطلب في كل شيء إلا الله وحده، فيعاينه خلال الإيمان بالروح القدس الساكن فيه.
    v لنُنقِّ قلوبنا بالإيمان، لكي تتنهيأ لذاك الذي لا يُوصف، أي للرؤيا غير المنظورة.
    v لنجاهد بالعفّة حتى يتطهّر ذاك الذي يرفع الإنسان لله.
    القدّيس أغسطينوس

    v
    هنا يدعو "أنقياء" من حصلوا على كل فضيلة، أو الذين لا يحملون أي مشاعر شرّ فيهم، أو الذين يعيشون في العفّة. فإنه ليس شيء نحتاج إليه لمعاينة الله مثل الفضيلة الأخيرة. لهذا يقول بولس أيضًا: "اتبعوا السلام مع الجميع، والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عب 12: 14).
    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v
    هذا هو غاية حبّنا، هذه هي النهاية التي بها نصير كاملين غير هالكين... فإنّنا إذ نُعاين الله لا نحتاج بعد لشيء من أفعالنا وأعمالنا الصالحة واشتياقاتنا ورغباتنا الطاهرة. لأنه ماذا نطلب بعد مادام الله حاضرًا؟ ماذا يُشبع الإنسان ما لم يشبعه الله؟...
    سبق رب المجد فعدّد المطوّبين وأسباب تطويبهم، ذاكرًا أعمالهم وجزاءاتهم واستحقاقاتهم دون أن يذكر عن أحدهم أنه "يعاين الله"، ولكن عند ذكره نقاوة القلب وعد بمعاينة الله، ذلك لأن القلب يحوي العيون التي تُعاين الله هذه العيون يتحدّث عنها الرسول بولس قائلاً: "إنارة عيون قلوبكم" (أف 1: 18). أنها تستنير الآن بالإيمان، إذ يتناسب مع ضعفنا، أمّا في الأبديّة، فتستنير بمعاينة الله بسبب قوّتها: "فإذ... نحن مستوطنون في الجسد، فنحن متغرّبون عن الرب. لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان" (2 كو 5: 6-7). وإذ نسلك الآن بالإيمان يُقال عنّا: "فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز، ولكن حينئذ وجهًا لوجه" (1 كو 13: 12).
    القدّيس أغسطينوس

    v
    إن كل ما تقدّمه الكتب المقدّسة الإلهيّة لا يهدف إلا إلى تنقية النظر الباطني ممّا يمنعه عن رؤية الله. وكما أن العين خُلقت لكي ترى هذا النور الزمني حتى إذا داخلها جسم غريب عكّر صفوها وفصَلها عن رؤية ذلك النور، كذلك هي عين قلبك فإنها إن تعكّرت وجُرحت، مالت عن نور البرّ وما تجاسرت أو تمكّنت من النظر إليه... وما الذي يُعكّر صفاء عين قلبك؟ الشهوة والبُخل والإثم واللذّة العالميّة؛ هذا كلّه يُعكّر عين القلب ويغلقها ويعميها.
    القدّيس أغسطينوس
    هل نُعاين الله بصورة مجسّمة؟

    يحذّرنا الآباء من التفكير في اللاهوت بصورة مجسّمة تُعاينه العين الجسديّة، إنّما هو فوق كل الحواس، يُعلن ذاته في القلب بطريقة فائقة، بالطريقة التي يمكن للقلب أن يحتملها وينعم بها كمن في مجد.
    v لقد طوَّب الرب الكثيرين لكنه لم يعد بمعاينة الله سوى أنقياء القلب... إننا لا نعاين الله في مكان ما بل نعاينه في القلب النقي. لا نبحث عنه بالعين الجسديّة، فإنه لا يُحد بالنظر ولا بسمع الأذن، ولا يُعرف بخطواته، وإنما وهو غائب (بالجسد) نراه، وقد يكون موجوداً (بالجسد) ولا نراه. لم يره جميع التلاميذ لذلك قال: "أنا معكم زماناً هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس؟" (يو 14: 9) أما من استطاع أن يدرك ما هو العرض والطول والعمق والعلو ويعرف محبّة المسيح الفائقة المعرفة (أف 3: 18-19) فإنه يرى المسيح ويرى الآب أيضًا. لأننا "الآن لا نعرف المسيح حسب الجسد" (1 كو 5: 16) بل حسب الروح... فليترآف الله علينا ويرحمنا ويملأنا إلى ملء الله حتى نستطيع أن نعاينه.
    القدّيس أمبروسيوس

    v
    لا تستسلّموا للتفكير بأنكم سترون الله وجهًا جسديًا، لئلا بتفكيركم هذا تهيّئون أعينكم الجسديّة لرؤيته فتبحثون عن وجه مادي لله... تنبّهوا من هو هذا الذي تقولون له بإخلاص: "لك قال قلبي... وجهك يا رب أطلب"... فلتبحثوا عنه بقلوبكم.
    يتحدّث الكتاب المقدّس عن وجه الله وذراعه ويديه وقدميه وكرسيه وموطئ قدميه... ولكن لا تظنّوا أنه يقصد بها أعضاء بشريّة. فإن أردتم أن تكونوا هيكل الله، فلتكسروا تمثال البهتان هذا (أي تصوّر الله بصورة مجسّمة بشريّة)! إن يد الله يُقصد بها قوّته، ووجهه يقصد به معرفته، وقدميه هما حلوله، وكرسيه هو أنتم إن أردتم... نعم، لأنه ما هو كرسي الله سوى الموضع الذي يسكنه؟ وأين يسكن الله إلا في هيكله؟ "لأن هيكل الله مقدّس الذي أنتم هو" (1 كو 3: 17). اسهروا إذن لاستقبال الله!
    "الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يو 4: 24). ليدخل تابوت العهد قلوبكم وليسقط داجون إن أردتم (1 صم 5: 3).
    القدّيس أغسطينوس
    ز. طوبى لصانعي السلام

    معاينة الله بالقلب النقي لا يعني مجرّد اكتشاف أسرار الله فكريًا، وإنما هو دخول إلى الحياة الإلهيّة، وتمتّع بالشركة مع الله، لنعمل عمل السيّد المسيح أي "السلام" بكوننا أبناء الله. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [نعم قد صار هذا هو عمل الابن الوحيد أن يُوحِّد المنقسمين ويصالح الغرباء.] لقد دعي السيّد "رئيس السلام" (إش 9: 6)، إنجيله هو "إنجيل السلام" (أف6 : 15)، وملكوته ملكوت "برّ وسلام وفرح في الروح" (رو 14: 17)، أمّا ثمن هذا السلام فهو دمه الثمين المبذول على الصليب.
    ويرى القدّيس أغسطينوس أن صنع السلام ليس عملاً خارجًا يمارسه الإنسان، وإنما هو طبيعة ينعم بها أولاد الله في داخلهم، خلال السلام الداخلي الذي يحلّ بين الروح والجسد بالروح القدس في المسيح يسوع، فيظهر ملكوت السماوات داخلنا.
    v يكون كمال السلام حيث لا توجد مقاومة. فأبناء الله صانعوا سلام، لأنه ينبغي للأبناء أن يتشبّهوا بأبيهم. إنهم صانعوا سلام في داخلهم، إذ يسيطرون على حركات أرواحهم ويخضعونها للصواب أي للعقل والروح، ويُقمعون شهواتهم الجسديّة تمامًا، وهكذا يظهر ملكوت الله فيهم فيكون الإنسان هكذا: كل ما هو سامٍِ وجليل في الإنسان يسيطر بلا مقاومة على العناصر الأخرى الجسدانيّة... هذا وينبغي أن يخضع ذلك العنصر السامي لما هو أفضل أيضًا، ألا وهو "الحق" ابن الله المولود، إذ لا يستطيع الإنسان السيطرة على الأشياء الدنيا، ما لم تَخضع ذاته لمن هو أعظم منها هذا هو السلام الذي يعطي الإرادة الصالحة، هذه هي حياة الإنسان الحكيم صانع السلام!
    القدّيس أغسطينوس

    v
    السلام هو قوّة المسيحيّين: "سلام الله الذي يفوق كل (فهم) عقل" (في 4: 7). طوبى لصانعي السلام، لا بإعادة السلام بين المتخاصمين فحسب، وإنما للذين يقيمون سلامًا في داخلهم... فإنه إن لم يوجد سلام في قلبي ماذا يفيدني أن يكون الآخرون في سلام؟!
    v المسيح ربّنا هو السلام... لنحفظ السلام فيحفظنا السلام في المسيح يسوع.
    القدّيس جيروم

    v
    الكمال في السلام حيث كل شيء مقبول؛ ولذا فإن فاعلي السلامة هم أبناء الله، إذ لا شيء يخالف الله، وعلى الأولاد أن يتشبّهوا بأبيهم.
    فاعلوا السلامة في نفوسهم هم الذين يسيطرون على جميع ميولهم النفسيّة ويخضعوها للعقل، أي للفكر والروح، وقد كبحوا جماح شهواتهم اللحميّة، وصاروا ملكوت الله، حيث انتظم كل شيء وراح ما هو سامٍ في الإنسان ورفيع يأمر ما دونه المشترك بين الإنسان والحيوان، ثم أن ما سما في الإنسان، أي الفكر والروح، هو عينه خاضع للأسمى منه، أي الله.
    في الواقع يستحيل عليك أن تحكم من هم دونك، إن لم تخضع لمن هو أعلى منك، وذاك هو السلام الذي يهبه الله في الأرض لذوي الإرادة الصالحة...
    أتريد السلام؟ اعمل برًا يكن لك السلام، "السلام والبرّ تعانقا" (مز 85: 10).
    v ليكن السلام حبيبًا لك وصديقًا؛ واجعل قلبك مضجعًا له نقيًا. ولتكن لك معه راحة مطمئنة بدون مرارة، وعناق عذب، وصداقة لا تنفصم عراها.
    القدّيس أغسطينوس
    v "سلامًا أترك لكم. سلامي أعطيكم" (يو 14: 27). لقد أعطانا هذا ميراثًا، فقد وعدنا بكل العطايا والمكافآت التي تحدّث عنها خلال حفظ السلام. إن كنّا ورثة مع المسيح فلنسكن في سلامه، إن كنّا أبناء الله يلزمنا أن نكون صانعي سلام... إذ يليق بأبناء الله أن يكونوا صانعي سلام، ذوي قلب حنون، بسطاء في الكلام، متّحدين في المحبّة، مترابطين معًا رباطًا وثيقًا بربط المودّة الأخويّة.
    القدّيس كبريانوس
    ح. طوبى للمطرودين من أجل البرّ

    "طوبى للمطرودين من أجل البرّ، لأن لهم ملكوت السماوات.
    طوبى لكم إذا عيّروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شرّيرة من أجلي كاذبين.
    افرحوا وتهلّلوا لأن أجركم عظيم في السماوات،
    فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم" [10-12].

    إذ ننعم بالبنوّة لله خلال اتّحادنا مع ابن الله الوحيد في مياه المعموديّة نمارس عمله الذي هو السلام، الأمر الذي يقابله الشيطان بالمقاومة فيثير حتى الأقرباء ضدّنا.
    يلاحظ أنه في التطويبات السابقة وجه السيّد الحديث بصفة عامة، أمّا هنا فيوجّه الحديث بصفة خاصة للحاضرين، وذلك لأن الضيق إنّما يتقبّله المؤمن - كراع أو من الرعيّة - كهديّة شخصيّة مقدّمة من الله لنا.
    إن كان السيّد قد ختم التطويبات باحتمال التعيير والطرد أي الاضطهاد فقد اشترط لنوال المكافأة السماويّة أن نحتمل ذلك "من أجل البرّ" أو كما يقول "من أجلي" إذ هو برّنا، وأن ما يُقال عنّا من تعييرات يكون كذبًا.
    كتب العلاّمة أوريجينوس إلى القدّيسين أمبروسيوس وبروتكتيتوس وهما تحت المحاكمة في ظل الاضطهاد الذي أثاره مكسيميانوس تراكس، يقول لهما: [في أثناء محاكمتكما القائمة الآن بالفعل، أودّ أن تتذكّرا دائمًا تلك المجازاة العُظمى التي يعدّها الآب في السماء من أجل المظلومين والمُزدرى بهم بسبب البرّ، ومن أجل ابن الإنسان. افرحا بالله وابتهجا كما فرح الرسل وابتهجوا، لأنهم حُسبوا أهلاً أن يهانوا من أجل اسم المسيح (أع 5 : 41)، وإذا شعرتما بالحزن، فاستغيثا بروح المسيح الذي فينا، لكي يردّ روح الحزن وينزع القلق من قلبيكما. "لماذا أنت حزينة يا نفسي، لماذا تزعجينني؟ ترجّي الرب لأني أقدّم له التسبيح" (مز 42: 5)، إذن فلا تجزع أرواحنا، بل حتى أمام كراسي القضاء وفي مواجهة السيوف التي شحذت لكي تقطع رقابنا، تظل أرواحنا محفوظة في سلام الله الذي يفوق كل عقل، نستطيع أن نشعر بالطمأنينة والهدوء، عندما نتذكّر أن الذين يفارقون الجسد، يعيشون مع إله الكل (2 كو 5: Cool.]
    عندما عانى القدّيس يوحنا الذهبي الفم الآلام والاضطهاد من أفدوكسيا يعاونها رجال الدين أنفسهم كتب من سجنه إلى الأسقف قرياقوص:

    [عندما اُستبعدت من المدينة لم أقلق، بل قلت لنفسي: إن كانت الإمبراطورة ترغب أن تنفيني، فلتفعل ذلك، فإنه "للرب الأرض"!
    وإن كانت تود أن تنشرني، فإني أرى إشعياء مثلاً!
    وإن أرادت إغراقي في المحيط، أفكر في يونان!
    وإن أُلقيت في النار، أجد الثلاثة فتية قد تحمّلوا ذلك في الأتون!
    إن وُضعت أمام وحوش ضارية، أذكر دانيال في جبّ الأسود!
    إن أرادت رجمي، فإن استفانوس أول الشهداء أمامي!
    إن طلبت رأسي، فلتفعل، فإن المعمدان يشرق أمامي!
    عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أترك العالم.
    بولس يذكّرني: إن كنت بعد أرضي الناس لست عبدًا للمسيح.]
    وكتب القدّيس كبريانوس إلى بعض المعترفين يقول لهم: [في كل هذه الأمور نحن أعظم من غالبين لذاك الذي أحبّنا.]
    ترتيب التطويبات

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [في كل مثال الوصيّة تهيئ الطريق للوصيّة اللاحقة، والوصايا كلها معًا تكون أشبه بسلسلة ذهبيّة تُقدّم لنا. فالمتواضع بالتأكيد يحزن على خطاياه، والحزين يكون وديعًا وبارًا ورحومًا، والشخص الرحوم والبار والنادم يكون بالتأكيد نقي القلب، مثل هذا يصنع أيضًا السلام. ومن يحصل على هذه جميعها، إنّما يتهيّأ للصراع ضدّ المخاطر، ولا يرتبك عندما ينطقون عليه بالشرّ، محتملاً التجارب المحزنة غير المحصيّة.]
    ويتحدّث القدّيس أغسطينوس في شرحه الموعظة على الجبل عن ارتباط التطويبات ببعضها البعض، كما يربط بينها وبين أعمال روح الرب السبعة كما وردت في إشعياء النبي (إش 11: 2-3).
    ترتيب الجزاءات

    ربّما يتساءل البعض هل الجزاءات الواردة في هذه التطويبات كمكافآت هي أمور متنوّعة؟ أو بمعنى آخر هل المسكين بالروح يتمتّع بملكوت السماوات ولا ينعم بالتعزية أو الشبع أو الرحمة أو معاينة الله الخ؟ وإن كان الجزاءات كلها إنّما هي مكافأة واحدة، فلماذا يميّز السيّد بينها؟ لكي نفهم هذه المكافآت يلزمنا أولاً أن ندرك معنى "تطويب". فإنها في الحقيقة لا تعني مجرّد غبطة أو سعادة، وإنما هي سِمة تمسّ طبيعة الشخص، لهذا كان اليونان يلقّبون آلهتهم بالمطوّبين أو "مكاريوس" وليس بالسعداء. التطويب هي حالة تمسّ حياة الإنسان الداخلي، وليس مجرّد سعادة تنبع عن ظرف خارجي يحيط به. وكأن السيّد بالتطويبات لم يقدّم لنا جزاءات خارجيّة، إنّما مكافآت تمسّ طبيعتنا الداخليّة. كأن نصير نحن أنفسنا ملكوت الله، نحمل طبيعة الرحمة التي لله فينا وسلامه ونقاوته. بهذا تكون الجزاءات متنوّعة، لكنها متكاملة، تمسّ حياتنا الداخليّة الواحدة من جوانب مختلفة.
    لعلّ هذا هو ما قصده عندما أجاب القدّيس أغسطينوس على التساؤل: هل يُحرم المطوّبون الآخرون من معاينة الله؟ إذ يقول: [لا تفهموا من هذه الوصايا وجزاءاتها على أن المساكين بالروح أو الودعاء أو الحزانى أو الجائعين والعطاش إلى البرّ أو الرحماء لا يعاينون الله. لا تحسبوا أن أنقياء القلب سيعاينون الله بينما يُحرم المطوّبون الآخرون من معاينته، لأن هذه الصفات جميعها لنفس الأشخاص. جميع المطوّبين سيعاينون الله، ولكنهم لا يعاينوه بسبب مسكنهم بالروح أو وداعتهم أو حزنهم أو جوعهم أو عطشهم للبرّ أو رحمتهم، إنّما يعينوه بسبب نقاوة قلبهم. مثال ذلك أعضاء الإنسان. الجسديّة متعدّدة، ولكل منها عملها الخاص بها. فنقول مثلاً: طوبى لمن لهم أقدام لأنهم يمشون، ولمن لهم أيدي لأنهم يعملون، ولمن لهم صوتًا فيصرخون، ولمن لهم فمًا ولسانًا فيتحدّثون، ولمن لهم أعينًا فإنهم ينظرون. هكذا أيضًا بالنسبة للروح... فالتواضع يؤهل لامتلاك ملكوت السماوات، والوداعة تؤهل لامتلاك الأرض، والحزن لنوال التعزية، والعطش والجوع إلى البرّ للشبع، والرحمة لنوال الرحمة أيضًا من الرب، ونقاوة القلب لمعاينة الله.]
    القدّيس أغسطينوس
    التطويبات ويسوعنا الداخلي

    في الوقت الذي فيه يوصينا السيّد بالوداعة قائلاً: "طوبى للودعاء" إذ به يقول: "تعلّموا منّي لأنيوديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29)، وبينما يقول: "طوبى لصانعي السلام" إذا بالرسول يُعلن عن رب المجد يسوع أنه "جعل الاثنين واحدًا ونقض حائط السياج المتوسّط، أي العداوة" (أف 2: 14-15)، وبينما يقول السيّد "طوبى للمطرودين من أجل البرّ" إذ بالسيّد نفسه يُطرد خارج أورشليم ليحمل عار الصليب. وهكذا أيضًا إذ يقول "طوبى للحزانى" نراه حزينًا على أورشليم يبكيها من أجل ثقل خطايانا (لو19: 42)... في اختصار نقول إن السمات التي ننال خلالها الطوبى إنّما هي سمات السيّد المسيح نفسه، وليست مجرّد ممارسات نجاهد فيها بذواتنا، لذا فإن دخولنا إلى الحياة المطوّبة إنّما يكون خلال يسوعنا الداخلي الذي وحده يهبنا شركة سماته فينا، يكون هو سرّ وداعتنا وسلامنا واحتمالنا الضيّق وحزننا على خطايانا وخطايا الآخرين! لنقتنيه فنقتني الشركة في أمجاده في عربونها هنا وفي كمالها في يوم الرب العظيم. نتمسّك به فننعم بالحياة المطوّبة الحقّيق
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 8:07 am

    . رسالة المسيحي
    "أنتم ملح الأرض،
    ولكن إن فسد الملح فبماذا يُملح؟!
    لا يصلح بعد لشيء إلا لأن يطرح خارجًا، ويُداس من الناس" [13].
    بعد أن تحدّث عن التطويبات كسُلّم روحي يرتفع عليه المؤمن بالروح القدس لينعم بالحياة المقدّسة في المسيح يسوع ربّنا أوضح التزام المؤمن بالعمل في حياة الآخرين، مشبّهًا إيّاه بالملح الذي لا يُستغنى عنه في كل وجبة. دعاه ملح الأرض، لأنه يعمل في حياة البشر الذين صاروا أرضًا خلال ارتباطهم بالفكر الأرضي.
    لملح الطعام أو كلوريد الصوديوم خصائص وسمات فريدة تنطبق على حياة المؤمن الحقيقي، نذكر منها:
    أ. هو الملح الوحيد بين كل الأنواع الذي يتميّز بأنه متى اُستخدم في حدود معقولة وباعتدال لا يظهر طعمه ومذاقه في الطعام، وإنما يُبرز نكهة الطعام ذاته، وإذا وضعت كميّة كبيرة منه في طعام يفقد الطعام لذّته ومذاقه وتظهر ملوحة الملح هكذا، وإن كان يليق بالمسيحي أن يذوب في حياة الغير لكن في اعتدال دون أن يفقدهم شخصياتهم ومواهبهم وسماتهم الخاصة بهم، فلا يجعل منهم صورة مطابقة له، فيكون أشبه بقالبٍ يصب فيه شخصيّات الآخرين، ويفقدهم حيويّتهم، الأمر الذي يجعلهم كالطعام المالح. المسيحي الروحي هو من كان كالنسيم الهادئ يعبر ليستنشق الآخرون نسمات الحب، لا عواطف الرياح الشديدة.
    ب. يتكوّن كلوريد الصوديوم من عنصرين هما الكلور والصوديوم وكلاهما سام وقاتل، لكن باتّحادهما يكوّنان الملح الذي لا غنى لنا عنه في طعامنا اليومي. والمسيحي أيضًا يتكوّن من عنصري النفس والجسد، إن انقسما بالخطيّة فقدا سلامهما، وصارا في حكم الموت، وصار الإنسان معثرًا. لهذا تدخّل السيّد المسيح واهبًا السلام الحقيقي بروحه القدّوس مخضعًا النفس كما الجسد في وحده داخليّة، ليكون الإنسان بكلّيته سرّ عذوبة الآخرين، يشهد للحق. إن كانت النفس تتسلّم قيادة الجسد في روحانيّة، فإن الجسد بدوره إذ يتقدّس يسند النفس ويعينها، فيحيا الإنسان مقدّسًا نفسًا وجسدًا، ويُعلن بوحدته الداخليّة في الرب عمل الله أمام الآخرين.
    ج. ملح الطعام من أرخص أنواع الأطعمة يسهل استخراجه في أغلب بقاع العالم، لكن لا يمكن الاستغناء عنه. هكذا يليق بالمؤمنين أن يعيشوا بروح التواضع كسيّدهم، مقدّمين حياتهم رخيصة من أجل محبّتهم لكل إنسان في كل موضع.
    ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على قول السيّد لتلاميذه: "أنتم ملح الأرض" هكذا: [لا أرسلكم إلى مدينتين أو عشرة مدن أو عشرين مدينة، ولا إلى أمة واحدة كما أرسلت الأنبياء، إنّما أرسلكم إلى البرّ والبحر والعالم كله، الذي صار في حالة شرّيرة. فبقوله: "أنتم ملح الأرض" عني أن الطبيعة البشريّة كلها قد فقدت نكهتها، وأننا قد فسدنا بسبب خطايانا.]
    لكن يحذّرنا السيّد لئلا نفسد نحن الذين ينبغي أن نكون كالملح، فلا نجد من يملِّحنا وينزع عنّا الفساد. هذا الحديث موجّه بصفة عامة لكل مؤمن، وعلى وجه الخصوص للرعاة والخدّام:
    v إن كنتم أنتم الذين بواسطتكم تحفظ الأمم من الفساد، تخسرون ملكوت السماوات بسبب الخوف من الطرد الزمني، فمن هم الذين يرسلهم الرب لخلاص نفوسكم، إن كان قد أرسلكم لأجل خلاص الآخرين؟!
    القدّيس أغسطينوس
    v يشفع الكاهن لدي الله من أجل الشعب الخاطئ، ولكن ليس من يشفع في الكاهن (متى أخطأ).
    القدّيس جيروم
    v إن سقط الآخرون ربّما يستطيعون أن ينالوا العفو، ولكن إن سقط المعلّم، فإنه بلا عذر، ويسقط تحت انتقام غاية في القسوة.
    القدّيس يوحنا الذهبي الفم
    بعدما تحدّث عن المؤمنين كملح الأرض وجّهنا إلى رسالتنا كنورٍ للعالم، قائلاً: "أنتم نور العالم. لا يمكن أن تُخفي مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة، فيضيء لجميع الذين في البيت. فيضيء نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات" [14-16].
    إن كنّا في محبتنا للبشر نشتهي أن نخدمهم ونذوب فيهم كالملح في الطعام لنقدّمهم خلال التوبة طعامًا شهيًا يفرح به الله، فإن الله لا يتركنا نذوب في الأرض، وإنما يرتفع بنا ويحسبنا كنور يضيء للعالم. إنه يقيمنا كالقمر الذي يستقبل نور شمس البرّ، ليعكس بهاءها على الأرض، فتستنير في محبّته. يعكس نوره على المؤمن، فيصير أكثر بهاءً من الشمس المنظورة، لا يقدر أحد أن يخفيه حتى وإن أراد المؤمن نفسه بكل طاقاته أن يختفي. لا يقدر أحد أن يسيء إليه، حتى مقاوميه الأشرار، يقول الرسول بولس: "لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولاد الله بلا عيب في وسط جيل معوجّ وملتوٍِ تضيئون بينهم كأنوار في العالم" (في 2: 15) ويقول الرسول بطرس "أطلب إليكم... أن تكون سيرتكم بين الأمم حسنة، لكي يكونوا فيما يفترون عليكم كفاعلي شرّ يمجّدون الله في يوم الافتقاد من أجل أعمالكم الحسنة التي يلاحظونها" (1 بط 2: 11-12).
    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [الحياة التي نقدّمها أمامهم هي أكثر بهاءً من الشمس فإن تكلم علينا أحد بشرٍ، لا نحزن كمن شُوهت صورته، بل بالأحرى نحزن إن شوهت بعدلٍ.] هذا ويكشف السيّد بقوله هذا عن فاعلية الكرازة، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إنهم كما لو كانوا بأجنحة يعبرون كل الأرض أكثر سرعة من أشعة الشمس، ينشرون نور الصلاح.]
    إذ تقوم كلمة الله على الحق تعلنها الكنيسة علانيّة كسراج موضوع على منارة، أما الهرطقات فتنتشر خفية بطرق ملتوية خلال الظلمة. هذا ما أكّده البابا أثناسيوس الرسولي في خطابه إلى أساقفة مصر حيث أوضح لهم منهج الأريوسيّين وأسلوبهم المخادع في العمل.
    يشبّهنا السيّد المسيح بالمدينة القائمة على جبل، فلا يُمكن إخفائها. ما هي هذه المدينة التي تقوم على جبل إلا الإنسان الذي يحمله الروح القدس إلى الرب نفسه، ليجلس معه على الجبل يسمع وصاياه ومواعظه؟! هناك يلتصق به ويجلس عند قدميه، فيصير أشبه بمدينة مقدّسة يسكنها الله نفسه، ويضم إليها مملكته من ملائكة وقدّيسين، وخلالها يلتقي الخطاة بالمسيّا الملك بالتوبة. يصير المؤمن وهو يتقدّس على الجبل المقدّس أورشليم التي يراها الكل ويفرحون. هذا المفهوم يذكرنا بكلمات القدّيس جيروم في إحدى رسائله: [ما يستحق المديح ليس أنك في أورشليم، إنّما تمارس الحياة المقدّسة (كمدينة مقدّسة)... المدينة التي نبجِّلها ونطلبها، هذه التي لم تذبح الأنبياء (مت23: 37)، ولا سفكت دم المسيح، وإنما تفرح بمجاري النهر، وهذه القائمة على الجبل فلا تُخفي (مت 5: 14)، يتحدّث عنها الرسول كأمٍ للقديسين (غل 4: 26)، ويبتهج الرسول أن تكون له المواطنة فيها مع البرّ (في 3: 20).]
    بهذا التشبيه أيضًا، المدينة القائمة على جبل والتي لا يمكن أن تُخفى، أراد السيّد تشجيع تلاميذه على خدمة البشارة بالكلمة مؤكّدًا لهم أن المضايقات لا يمكن أن تخفي الحق أو تُبطل عمل الله. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [أظن أنه لا يمكن لمدينة كهذه أن تُخفي، هكذا يستحيل أن ينتهي ما يكرزون به إلى السكون والاختفاء.]
    يشبّهنا أيضًا بالسراج الذي لا يُخفي تحت المكيال بل يُوضع على المنارة، فيضيء لجميع الذين في البيت. ما هو هذا المكيال الذي يطفئ سراج النور الداخلي إلا الخضوع للمقاييس الماديّة في حياتنا الروحيّة، فإنه "ليس بكيل يعطي الله الروح" (يو 3: 34). كثيرًا ما تقف حساباتنا البشريّة الماديّة عائقًا أمام الإيمان، الأمر الذي يفقد صلواتنا وطلباتنا حيويّتها وفاعليّتها، لهذا عندما أرسل السيّد المسيح تلاميذه للكرازة سحب منهم كل إمكانيّات ماديّة، فلا يكون لهم ذهب ولا فضّة ولا نحاس ولا مزود ولا ثوبان ولا أحذية ولا عصا (مت 10: 9-10)، لكي ينزع عنهم كل تفكير مادي، تاركًا كل الحسابات في يديّ السيّد نفسه، فيكون هو غناهم وطعامهم وشربهم وملبسهم وحمايتّهم!
    والمكيال يُشير أيضًا إلى حجب النور الروحي، حيث يغلف الإنسان روحه بالملذّات الجسديّة الكثيفة والزمنيّة، فيحبس الروح ويحرمها من الانطلاق لتحلق في الاشتياقات الأبديّة. يتحوّل الجسد إلى عائق للروح، عِوض أن يكون معينًا لها خلال ممارسته العبادة، وتقدّيس كل عضو فيه لحساب الملك المسيّا.
    ليتنا لا نحبس النور الروحي فينا في غلاف الشهوات الجسديّة، وإنما ننطلق به لنضعه فوق المنارة، أي فوق الجسد بكل حواسه، فلا يكون الجسد مسيطرًا بل مستعبدًا للنور الحق. لقد وضع الرسول بولس سراجه على المنارة حينما قال: "أضارب كأني لا أضرب الهواء، بل أقمع جسدي واستعبده، حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 9: 26-27). بهذا يضيء السراج في البيت. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [أظن أن الذي دُعي بالبيت هنا هو مسكن البشر، أي العالم نفسه، وذلك كقوله "أنتم نور العالم". إلاّ أنه إذا فهم شخص ما البيت على أنه الكنيسة فهذا صحيح كذلك.]
    ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على السراج المتّقد على لسان السيّد نفسه، قائلاً: [حقًا أنا الذي أوقد النور، أمّا استمرار إيقاده فيتحقّق خلال جهادكم أنتم... بالتأكيد لا تقدر المصائب أن تعطِّل بهاءكم إن كنتم لا تزالون تسلكون الحياة الدقيقة، فتكونون سببًا لتغيير العالم كله. إذن، فلتُظهروا حياة تليق بنعمته، حتى إذ تكرزون في أي موضع يصاحبكم هذا النور.]
    بهذا يضيء نورنا، الذي ليس هو إلا نور الروح القدس الساكن فينا، قدام الناس، لكي يروا أعمال الله فينا، فيتمجّد أبونا الذي في السماوات. لسنا نقدّم العمل الروحي طلبًا لمجد أنفسنا بل لمجد الله. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [لم يقل "لكي يروا أعمالكم الحسنة" فقط، بل أضاف: "ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات"، لأن الإنسان يُرضي الآخرين بأعماله الحسنة، لا لأجل إرضائهم في ذاته، بل لتمجيد الله. فيرضي البشر ليتمجّد الله في عمله، لأنه يليق بالذين يعجبون بالأعمال الحسنة أن يمجّدوا الله لا الإنسان، وذلك كما أظهر ربّنا عند شفاء المفلوج، إذ يقول معلّمنا متى: "تعجّبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا مثل هذا" (مت9: Cool.]
    ومما يجب تداركه أن الله وهو يدعو تلاميذه "نور العالم" لا يشعر التلاميذ أنهم هكذا وإلا فقدوا تواضعهم وانطفأ النور الروحي فيهم، فموسى النبي لم يكن يعرف أن وجهه كان يلمع، وإنما من أجل طلب الشعب كان يغطِّي وجهه بالبرقع. ما أحوجنا لا أن نشهد لأنفسنا، بل يشهد الله نفسه والآخرون بنوره فينا!
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 8:09 am


    4. تكميل الناموس
    إن كان المسيّا الملك يطالبنا أن نعلن النور الإلهي الساكن فينا خلال حياتنا العمليّة، فتصبح حياتنا كسراجٍ على منارة يضيء لكل من في البيت، ويتمجّد أبونا السماوي أمام الجميع، فما هي الوصايا المسيحانيّة التي نلتزم بها في حياتنا؟ هل هي وصايا غير الشريعة الموسويّة؟ وهل تتعارض معها؟
    يجيب السيّد مؤكدًا: "لا تظنّوا إني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل" [17].
    لقد ظنّ اليهود خاصة قادتهم أنهم حفظة الناموس والحارسون له، مع أنهم كانوا ينقضونه بأعمالهم المخالفة له، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [مع أنهم لم يكمِّلوا الناموس، إلا أنهم كانوا يتطلّعون إليه بضمير حيّ عظيم. وبينما كانوا يفسخونه كل يوم بأعمالهم، لكنهم يحافظون على حروفه لتبقى كما هي بلا تغيير، ولا يضيف عليه أحد شيئًا. لكنهم بالحقيقة أضافوا هم ورؤساؤهم إليه لا ما هو أفضل بل ما هو أردأ، إذ اعتادوا أن يتركوا التكريم اللائق بالوالدين جانبًا بإضافات من عندهم.] أمّا السيّد المسيح فقد جاء ليكمّل الناموس والأنبياء بطرق متنوّعة، منها:
    أولاً: تحقّقت النبوّات في شخص المسيّا، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد أكمل الأنبياء بقدر ما أكّد بأعماله كل ما قيل عنه، فقد اعتاد الإنجيلي أن يقول في كل حالة: "لكي يتم ما قيل بالنبي" (مت 1: 22-23)، وذلك عندما وُلد، وعندما ترنم له الأطفال بالتسبحة العجيبة، وعندما ركب الأتان (مت 21: 5-16)، وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة. لقد حقّق هذه الأمور التي ما كان يمكن تحقيقها لو لم يأتِ.]
    ثانيًا: أكمل السيّد الناموس بخضوعه لوصايا دون أن يكسر وصيّة واحدة. يقول ليوحنا المعمدان: "لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل له كل برّ" (مت 3: 15)، ويقول لليهود: "من منكم يبكّتني على خطيّة؟" (يو 8: 46)، كما يقول لتلاميذه: "رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شيء" (يو 14: 30). هذا وقد شهد عنه النبي، قائلاً: "إنه لم يعمل ظلمًا، ولم يكن في فمه غش" (إش 53: 9).
    ثالثًا: يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد المسيح لم يكمّل الناموس في نفسه فحسب، وإنما يكمّله أيضًا فينا، قائلاً: [هذا هو العجب ليس أنه هو حقّق الناموس، بل وهبنا نحن أيضًا أن نكون مثله، الأمر الذي أعلنه بولس بقوله: "لأن غاية الناموس هي المسيح للبرّ لكل من يؤمن" (رو 10: 4)، كما قال: "دان الخطيّة في الجسد، لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد" (رو 8: 3-4) وأيضًا: أفنُبطل الناموس بالإيمان؟! حاشا! بل نثبِّت الناموس" (رو 3: 31). فإنه مادام الناموس كان عاملاً لكي يبرّر الإنسان، لكنّه عجز عن تحقيق ذلك. جاء (المسيح) ودخل بالإنسان إلى طريق البرّ بالإيمان مثبتًا غاية الناموس. ما لم يستطع الناموس أن يتمّمه بالحروف تحقّق بالإيمان، لهذا يقول: "ما جئت لأنقض بل لأكمل".]
    رابعًا: أكمل أيضًا السيّد الناموس بتكميل نصوصه، بالدخول إلى أعماقه. ففي القديم أمر الناموس بعدم القتل، فجاء السيّد ليؤكّد الوصيّة لا بمنع القتل فحسب، وإنما بمنع الغضب باطلاً، أي نزع الجذر، فتبقى الوصيّة في أكثر أمان، إنه بهذا لم ينقضها، بل قدّمها في أكثر حيويّة وقوّة. يقول القدّيس يوحنا كاسيان: [تأمرنا كلمة الإنجيل باستئصال جذور سقطاتنا، وليس نزع ثمارها، فعند إزالة جميع الدوافع بلا شك لن تقوم من جديد.]
    يؤكّد السيّد عدم نقضه للناموس بقوله: "فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف (i) واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل" [18]. ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على هذه العبارة، قائلاً: [إن كانت الإضافة كاملة فبالأولى تكون البداءة كاملة، لذلك يفهم قوله: "لا يزول حرف (i) واحد أو نقطة واحدة من الناموس" على أنه تعبير عن كمال الناموس. لقد أشار بحرف صغير، لأن حرف (i) أصغر الحروف يتكون من خط صغير، ثم أشار إلى النقطة التي توضع على الحرف، مظهرًا بذلك أن لأصغر الأجزاء في الناموس قيمة.]
    يؤكّد السيّد قدسيّة الناموس حتى في أصغر حروفه أو نقطة، أي في أصغر وصاياه، معلنًا التزامنا بتكميله في حياتنا العمليّة كما في التعليم. يقول: "فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلّم الناس هكذا يُدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما من عمل وعلَّم فهذا دُعي عظيمًا في ملكوت السماوات. فإني الحق أقول لكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفرّيسيّين لن تدخلوا ملكوت السماوات" [19-20].
    لقد ظنّ الفرّيسيّون أنهم يحفظون الناموس خلال غيرتهم بالتعليم، ولم يدروا أنهم ينقضونه بحياتهم الشرّيرة، فالتعليم بغير عمل يُحسب كنقضٍ للناموس، ولا يكون للتعليم فاعليته، وأيضًا العمل بغير الشهادة أمام الآخرين يقلّل المكافأة.
    v كما أن التعليم بدون عمل يدين المعلّم، كذلك العمل دون مساندة الآخرين يقلّل من المكافأة.
    v من لا يقدر أن يُعلّم نفسه ويحاول إصلاح الآخرين يسخر به الكثيرون، أو بالأحرى مثل هذا لا يكون له أي قوّة للتعليم نهائيًا، لأن أعماله تجعل كلماته ضدًا له.
    القدّيس يوحنا الذهبي الفم
    إذ دخل السيّد بالناموس إلى الكمال، لهذا يلتزم أبناء الملكوت أن يرتفعوا إلى حياة أكمل ممّا للكتبة والفرّيسيّين. يقدّم لنا الآباء تفسيرًا لذلك:
    v برّ الفرّيسيّين هو عدم القتل، وبرّ المُعَدّين لملكوت السماوات هو عدم الغضب باطلاً. لذلك فالوصيّة الصغرى هي أن لا تقتل، ومن ينقضها يُدعى أصغر في ملكوت السماوات، وأما من عمل بها فليس من الضروري أن يكون عظيمًا، بل يرتفع إلى درجة أسمى من الأولى، ولكنه يصير كاملاً إن كان لا يغضب باطلاً، وبالتالي سوف لا يكون قاتلاً.
    القدّيس أغسطينوس
    v حيث إن المكافأة هنا أعظم والقوّة الممنوحة بالروح أغزر، لذا يجب أن تكون فضائلنا أيضًا أعظم. فإنه لم يعدنا هنا بأرض تفيض لبنًا وعسلاً، ولا براحة طول العمر، ولا كثرة الأطفال، ولا (ببركة) الحِنطة والخمر والغنم والقطعان، إنّما صارت لنا السماء والسماويّات والتبنّي والأخوة للابن الوحيد وشركة الميراث معه، وأن نتمجّد معه ونملك معه، وغير دلك من الجزاءات غير المحصيّة. أمّا بخصوص تمتّعنا بعونٍ أعظم، فاسمع ما يقوله بولس: "إذًا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح، لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطيّة والموت" (رو 8: 1-2).
    القدّيس يوحنا الذهبي الفم
    بين التطويبات وتكميل الناموس
    قبل أن ندخل في الحديث عن تكميل الناموس، نودّ أن نشير إلى ما قاله القدّيس يوحنا الذهبي الفم من وجود ارتباط قوي بين التطويبات الواردة في مقدّمة العظة وما جاء هنا. فالتطويبات قدّمت لنا الجانب الإيجابي للحياة الفاضلة في المسيح يسوع ربّنا ومكافآتها، أمّا هنا فيقدّم لنا السيّد الجانب السلبي بالامتناع عن الشرّ، لا في التصرّفات الظاهرة فحسب، وإنما باقتلاعه من القلب في الداخل، مهدّدًا بالجزاءات.
    فالمسكنة بالروح إنّما تطابق عدم الغضب، لأن المسكين بالروح أو متواضع القلب لا يجد الغضب فيه موضعًا. ونقاوة القلب تقابل عدم النظر إلى امرأة بقصد الشهوة، وعدم وضع الكنز على الأرض، فإن القلب النقي الطاهر لا يشتهي الجسديّات من زنا ومحبّة مال. صُنع الرحمة، والحزن الروحي، واحتمال التعيير والطرد، هذه جميعها تقابل الدخول من الباب الضيق، حيث يشتهي الإنسان أن يحتمل آلامًا من أجل المسيح، فيمتلئ قلبه رحمة، ويتألّم لآلام الآخرين، ويقبل إهاناتهم وشرهم، مقدّمًا الخير عِوض شرّهم. الجوع والعطش إلى البرّ يقابله الوصيّة الإلهيّة، بأن تفعل ما يريد الناس أن يفعلوا بنا، فالنفس التي تتوق إلى السيّد المسيح لا تقدر إلا أن تقدّم السيّد المسيح للآخرين، معلنًا في تصرفاتهم الظاهرة كما في أحاسيسهم الداخليّة. صنع السلام يقابل ترك القربان، حيث لا يقدر إنسان أن يلتقي مع الله مقدّمًا القرابين المقدّسة بغير تمتّعه بالمصالحة مع الآخرين.
    5. القتل
    بعدما أكّد السيّد عدم نقضه للناموس بل تكميله، حوّل هذا الحديث العالم إلى التطبيق في الوصايا الناموسيّة، موضّحًا كيف يدخل بها إلى الكمال، مبتدئًا بوصيّة عدم القتل، إذ يقول: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم أن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم" [21-22].
    v من يعلّمنا عن عدم الغضب لا ينقض الوصيّة الخاصة بعدم القتل، بل بالأحرى يكمّلها، إذ في عدم الغضب نتنقّى، من الداخل في قلوبنا، ومن الخارج أيضًا بعدم القتل.
    القدّيس أغسطينوس
    v القول "اقتل" يضاد الوصيّة "لا تقتل"، أمّا أن المسيح لا يسمح بالغضب، فبهذا يثبت فكر الناموس بصورة أكثر كمالاً، فإن من يطلب تجنّب القتل لا يوقفه مثل من يستبعد حتى الغضب، فإن الأخير يبعد بالأكثر عن الجريمة.
    القدّيس يوحنا الذهبي الفم
    ماذا يقصد السيّد بقوله "باطلاً"؟ إنه يريدنا ألا نخسر إخوتنا بسبب أمور زمنيّة تافهة وباطلة، مهما بدت ذات قيمة. أمّا إن كان من أجل أبديّتهم، فيليق بالأب أن يغضب على ابنه، والمعلّم على تلميذه، ليس غضب الانتقام، بل غضب التأديب النابع عن الحب. فإنه لا يقدر أحد أن يُعلّم الآخرين بغضب الكراهيّة، فالحق لا يُعلَن بالباطل، ولا يفقد الإنسان نفسه فيما يظن أنه يُصلِح الآخرين. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لا تقف في جانب نفسك في المعركة، ولا تنتقم لذاتك، فإن رأيت إنسانًا يرتكب خطأ قاتلاً ابسط يدك لتعينه.] إذ يثور الإنسان بالغضب لأن أخاه ارتكب شرورًا ضدّه فلينظر إلى أخيه أنه يقتل نفسه ويهلكها، فيسنده باللطف والحنو حتى يعينه للخروج من شروره لا أن يطلب ما لذاته.
    v ليس شيء أكثر خطورة من الحنق، ولا أقسى من الغضب!
    v يوجد سُكر بالغضب أكثر خطورة من السُكر بالخمر!
    القدّيس يوحنا الذهبي الفم
    ينتقل بنا السيّد من الغضب كانفعال داخلي خفي إلى الغضب الذي يصاحبه تعبير خارجي عنه بكلمة لا تحمل معنى قبيحًا، وإنما مجرّد تحقير، إذ يقول: "ومن قال لأخيه رقّا، يكون مستوجب المجمع" [22]. يقول القدّيس أغسطينوس أنه سأل رجلاً عبرانيًا عن كلمة "رقا Raca" فأجابه أنها لا تعني سوى مجرّد تعبير عن انفعال الغضب يصعب ترجمته إلى لغة أخرى. ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنها تعبير سرياني كان مستخدمًا في الحديث مع الخدم والأشخاص الذين من الطبقات الدنيا، وذلك بدلاً من قوله "أنت" في هذا التعبير نوع من عدم الاحترام للشخص الموجّه إليه الحديث.
    إذ يدخل الإنسان إلى مرحلة أردأ بالإعلان عن غضبه بكلمة تدل عليه يصير مستحقًا المجمع وليس فقط الحكم. ففي الحكم يكون الاتهام مشكوكًا فيه، فيبحث القاضي في الاتهام ليتأكّد من صحّته، أمّا المجمع فيحمل نوعًا من التأكّد أن الاتهام ثابتًا على المتهم، فيحدّد القضاة الجزاء الذي يسقط تحته. ففي النظام اليهودي كانت تقام محاكم في القرى والمدن يتراوح أعضاؤها ما بين 3 و23 شيخًا، يقف أمامها المتّهمون بجريمة معيّنة. أمّا المجمع فهو أعلى من هذه المحاكم إذ هو أعلى هيئة قضائيّة في ذلك الحين ويسمى "مجمع السنهدرين". وواضح من كلمات السيّد أنه يقتبس التشبيه ليبرز خطورة الغضب المصحوب بكلمة، فلا يقف الإنسان أمام محكمة صغرى يمكن نقض حكمها، وإنما أمام أكبر هيئة قضائيّة للبت في أمره!
    أما المرحلة الثالثة ففيها الغضوب، وقد التهب فيه الغضب، لا ليعبّر عنه بكلمة بلا معنى أو مجرّد تعبير عن الاستياء، إنّما ينطق بكلمات جارحة، فإنه يستحق عقابًا أعظم: "ومن قال يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنّم" [22].
    كلمة "جهنّم" تتركّب من كلمتين عبريّتين: "جه، هنوم" أي "داخل هنوم". هنوم هو وادي فيه كانت تُلقى مخلّفات الذبائح بميازيب خاصة، فكانت دائمًا مملوءة دودًا من مخلّفات الحيوانات، وكانت النار مشتعلّة فيها بلا انقطاع، لهذا جاءت رمزًا لعقاب إبليس وجنوده الأبدي، إذ قيل "دودها لا يموت ونارها لا تُطفأ". في هذا الوادي أجاز أحاز ومنسي أولادهما بالنار (2 مل 16: 3، 2 أي 28: 3؛ 33: 6).
    إن كانت جهنّم، موضع العقاب الأبدي لإبليس الذي صار بطبعه قتالاً، فإن من يترك نفسه لروح الغضب في استسلام فلا يقف عند الانفعال الداخلي ولا التعبير عنه بكلمة دون معنى، إنّما ينطلق إلى كلمات جارحة، هذا يسلّمه الله لسيّده فيبقى معه في جهنّم، يتركه لمشتهى قلبه الذي يستسلم للغضب!
    إن كان الغضب يحمل هذه الخطورة، فكيف نستطيع أن نضبط لساننا عن كلمات الغضب؟
    يجيب القدّيس أغسطينوس: [إننا نرتعب... لأنه مَنْ من الناس لا يخاف من قول الحق: "من قال لأخيه يا أحمق يكون مستحق نار جهنّم"، وفي نفس الوقت يقول الكتاب المقدّس: "اللسان لا يستطيع أحد من الناس أن يذله" (يع 3: Cool. يستطيع الإنسان ترويض الوحوش المفترسة، أمّا لسانه فلا يقدر أن يلجمه... يستطيع أن يهذب كل ما يخاف منه، وكل ما ينبغي أن يخشاه، لكنّه لا يقدر أن يهذّب نفسه التي لا يخافها... إذن لنلجأ إلى الله الذي يستطيع أن يلجمه!... لنبحث بدورنا عن الله لكي يروّضنا... أنتم تروِّضون الأسد الذي لم تخلقوه، أفلا يستطيع خالقكم أن يروّضكم؟!... من أين أتيتم بهذه القوّة التي بها تُخضِعون الحيوانات المفترسة؟! هل تستطيع صورة الله (الإنسان) أن تروض الأسد المفترس، ولا يستطيع الله ترويض صورته؟]
    أخيرًا يختم السيّد حديثه عن عدم الغضب بمصالحة الإخوة قبل تقديم ذبيحة حب له، إذ يقول: "فإن قدّمت قربانك إلى المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقدّم قربانك. كن مراضيًا لخصمك سريعًا مادمت معه في الطريق، لئلا يسلّمك الخصم إلى القاضي، ويسلّمك القاضي إلى الشرّطي، فتلقى في السجن. الحق أقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير" [23-26].
    يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة: [يا للصلاح! يا للحب المتزايد نحو الإنسان! فإن الله لا يهتم بالكرامة الخاصة به من أجل محبتنا لأخينا!... هذه هي إرادته أن يعطي المحبّة تقديرًا عظيمًا حاسبًا إيّاهم أعظم ذبيحة وبدونها لا تُقبل ذبيحة!... فإن كنت تقدّم بذهنك صلاة، فمن الأفضل أن تترك صلاتك وتصطلح مع أخيك وعندئذ تقدّم صلاتك.]
    يقول القدّيس أغسطينوس: [إن كنت في عداوة فاصطلح. إن جاءتك الفرصة للوصول إلى مصالحة، لا تترك نفسك في نزاع.]
    إن كان الله يفرح بنا ككنيسة واحدة، عروس مقدّسة، فإنه يتقبّل تقدمة كل عضو خلال حياة الشركة القائمة على المحبّة... وبدون المحبّة لا يمكن أن تقوم الشركة ولا تُقبل تقدمة. ما أجمل العبارة التي قالها القدّيس جيروم التي يعبّر بها عن الكنيسة أو حياة الشركة: [لا أعرف سلامًا بغير حب، ولا شركة بدون سلام.]
    يُعلّق القدّيس يوحنا كاسيان على قول الرسول: "اغضبوا ولا تخطئوا، لا تغرّب الشمس على غيظكم" (أف 4: 26)، قائلاً: [كيف يمكننا الاعتقاد بأن الرب لا يسمح باستبقاء الغضب، ولو إلى لحظة في حين أنه لا يأذن لنا بتقديم قرابين صلواتنا الروحيّة إن تذكرنا ثمة أحدًا يشعر بمرارة من نحونا... ويوصينا الرسول، قائلاً: "صلّوا بلا انقطاع" (1 تس 5: 17)، وأيضًا: "في كل مكان رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال" (1 تي 2: Cool. إذن، إمّا أننا لا نصلّي على الإطلاق محتفظين بسمّ الغضب في قلوبنا، فنكون مذنبين ضدّ الوصيّة الرسوليّة أو الإنجيليّة التي تأمرنا بالصلاة في كل حين بلا انقطاع، أو نتجاسر ونقدّم صلواتنا خادعين أنفسنا، غير آبهين بوصيّته الإلهيّة (مت 5: 23-24)، وعندئذ يليق بنا أن ندرك أننا لا نقدّم صلوات لله، بل سلوكًا عنيدًا بروحٍ متمردٍ.]
    ترك الرداء
    يقدّم السيّد مثلاً آخر لمقابلة الشرّ بالخير، قائلاً: "ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضًا" [40]. إن كان إنسان قد أخذ منك الثوب ودخل معك في خصومة، وأراد أن يسحبك إلى المحكمة ويسبّب لك متاعب، فاشتري راحتك وسلامك بترك الرداء أيضًا. بهذا تربح وقتك وقلبك وفكرك كما تربح المخاصم وتقتنيه بالحب والعطاء. يقول القدّيس أغسطينوس: [ليتنا نحتقر كل تلك الأشياء التي نحسبها ملكًا لنا وبسببها يخاصمنا إخوتنا... ليتنا ننقل ملكيتها لهم.]
    الثوب هو القميص الذي يلبسه الإنسان تحت ردائه أو عباءته، عادة يُصنع من القطن، أمّا الرداء فهو العباءة الثقيلة وهي أثمن من الثوب، يرتديها الإنسان في النهار ويستدفئ بها في الليل. فإن كان ثوبك الرخيص قد اغتصب بغير إرادتك، فإنك تحمل حرّية الحب لتقدّم معه ما هو أثمن منه. المسيحي في اتّساع قلبه وحرّية نفسه الداخليّة لا يئن بسبب حقوقه المغتصبة، وإنما يقدّم ما لديه للآخرين بفرح. هذا هو كمال الحرّية الداخليّة!
    يأمر السيّد الإنسان الغضوب أن يسرع بمصالحة خصمه مادام معه في الطريق، لئلا يسلّمه الخصم إلى القاضي، ويسلّمه القاضي إلى الشرطي، فيلقى في السجن ولا يخرج من هناك حتى يوفي الفلس الأخير. ما هو هذا الخصم إلا "الوصيّة الإلهيّة"، فإنها تدخل كطرفٍ في الخصومة مع الإنسان الغضوب. تقف "وصيّة الحب" كخصم حقيقي له، تدينه في يوم الرب أمام الديان، أي السيّد المسيح، (يو 5: 22)، الذي يسلّمه إلى الملائكة كشرطي ليلقيه في "الظلمة الخارجيّة" (مت 8: 12)، ولا يخرج من هناك حيث لا يقدر أن يفي العدل الإلهي حقّه.
    يقول القدّيس أغسطينوس: [أي شيء سيكون خصمًا لمحبي الخطيّة مثل وصايا الله، أي شريعته المدوّنة في الكتاب المقدّس، ذلك الكتاب الذي وُهب لنا ليكون معنا في الطريق، أي في الحياة الحاضرة، لكي ننفذ تعاليمه سريعًا ولا نخالفها. حتى لا يسلّمنا إلى القاضي؟! فعلينا أن نخضع له سريعًا، لأنه من يَعلَم متى نرحل من هذه الحياة؟ من يستطيع أن يخضع للكتاب المقدّس غير الذي يقرأه ويستمع له بتقوى، خاضعًا له كما لو كان لسلطانٍ عظيمٍ، غير متضايق ممّا يجده معارضًا لخطاياه، بل بالأحرى يحبّه لأنه يبكِّته عليها، ويفرح به لأنه يشفي أمراضه، ويصلّي ليفهم ما بدا له غامضًا أو غير مقبول، عالمًا أنه ينبغي تقديم كل وقار لسلطان كهذا.]
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 8:10 am


    6. الزنا
    "قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن،
    وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها
    فقد زنى بها في قلبه" [27-28].
    يقول القدّيس أغسطينوس: [إن الخطيّة تكمل على ثلاث مراحل: إثارتها، التلذّذ بها، ثم إرضائها.] فإن كان الناموس قد حرّم إرضاء الخطيّة أي تنفيذها، فإن السيّد المسيح جاء ليقتلع جذورها بمنع الخطيّة من المرحلة الأولى. إن كانت الخطيّة تبدأ بالإثارة خلال النظرة الشرّيرة، ليتقبّلها الفكر ويتلذذ بها ثم تدخل إلى الإرضاء بالتنفيذ العملي، فإنه يسهل على المؤمن أن يواجهها في مرحلتها الأولى قبل أن يكون لها موضع في الذهن أو لذّة خلال الممارسة للخطأ.
    v يجب أن نلاحظ أنه لم يقل "من اشتهى امرأة"، بل "من ينظر إلى امرأة ليشتهيها" أي ينظر إليها بهذه النيّة، فهذه النظرة ليست إثارة للذّة الجسديّة بل تنفيذًا لها، لأنه بالرغم من ضبطها فستتم لو سمحت الظروف بذلك.
    القدّيس أغسطينوس
    v لم يخلق الله لك عينيّن لكي تدخل بهما إلى الزنا، وإنما لكي برؤيتك خلائقه تعجب...
    v إن رغبت أن تنظر بلذّة فتطلّع إلى زوجتك وحبّها باستمرار، فإن الشريعة لم تمنعك من هذا. أمّا إن كنت محبًا للاستطلاع نحو جمال من هنّ لغيرك، فإنك بهذا تؤذي زوجتك، لأن عينيّك تجولان في كل موضع، وتؤذي من تتطلّع إليها بالاقتراب منها بطريقة دنسة. فإنك وإن كنت لا تمسّها بيديك لكنك تلاطفها بعينيّك فيحسب ذلك زنا... ليست هي التي صوّبت سهمها إليك، وإنما أنت الذي سبّبت لنفسك حرجًا مميتًا بنظرك إليها.
    القدّيس يوحنا الذهبي الفم
    v الله دائمًا يقطع جذور الخطايا بطريقة عجيبة، فإذ يقول: "لا تزن" (خر 20: 14) يقول أيضًا "لا تشته"، لأن الزنا هو ثمرة الشهوة التي هي جذرها الشرّير.
    القدّيس إكليمنضس السكندري
    إذ يتحدّث السيّد عن الشهوة والنظرة يتطرّق إلى الحديث عن العثرة، قائلاً: "فإن كانت عينك اليُمنى تعثّرك فاقلعها واِلقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك، ولا يُلقي جسدك كلّه في جهنّم، وإن كانت يدك اليُمنى تعثّرك فاقطعها واِلقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقي جسدك كلّه في جهنّم" [29].
    v من يتعثّر بعينه اليُمنى يسقط بالتأكيد في ذات الشرّ بعينه اليُسرى أيضًا. إذن لماذا أشار إلى العين اليُمنى كما أضاف إليها اليد؟ إنّما لكي يظهر أنه لا يتحدّث عن الأعضاء بل على من هم أقرباء لنا.
    القدّيس يوحنا الذهبي الفم
    v إن كنّا نحتاج إلى شجاعة عظيمة لبتر أحد أعضائنا، لذلك فهو يقصد بالعين شيئًا محبوبًا، فلقد اعتاد الراغب في التعبير عن محبّته لآخر أن يقول: "إنّني أحبّه كعينيّ أو حتى أكثر من عينيّ"، لذلك ربّما قصد الرب من العين شدّة المحبّة...
    ليس هناك تفسير للعين اليُمنى أكثر ملاءمة من أن يقصد بها الصديق المحبوب حبًا شديدًا، الذي تصبح علاقته كعلاقة العضو بالجسد. هذا الصديق يكون مشيرًا حكيمًا لصاحبه، كما لو كان عينًا يرى بها الطريق، ويكون مشيرًا مخلصًا في الأمور الإلهيّة، لأنه عين يُمنى. أمّا العين اليُسرى فتُشير إلى صديق يُشير في الأمور الخاصة باحتياجات الجسد، الذي لا يلزم الحديث عنه كعثرة مادامت العين اليُمنى أهم من اليُسرى (أي أنه إذا أعثرتنا العين اليُمنى نقلعها، فكم تكون اليُسرى إن أعثرتنا). ويكون المشير عثرة إذا قاد صاحبه إلى هرطقة خطيرة في زيّ التديّن والتعليم.
    أما اليد اليُمنى فإنها تُشير إلى الشخص الذي يساعد ويعمل في الأمور الروحيّة. فالتبصُّر في الأمور الروحيّة له مكانه العين اليُمنى، كذلك العمل في الأمور الروحيّة له مكانه اليد اليُمنى، وبالتالي فاليد اليُسرى تعني الأمور الضروريّة لاحتياجات الجسد.
    القدّيس أغسطينوس
    7. التطليق
    "وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق،
    أمّا أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلّة الزنا، يجعلها تزني،
    ومن يتزوج مطلّقة فإنه يزني" [31-32].
    كان الزواج قد انحط تمامًا عند الأمم، فالرومان الذين كانوا قبلاً يقدّسون الزواج فيحترم الرجل أسرته وتقوم المرأة أو الزوجة بدور رئيسي في الأسرة، قد تأثّر باليونان فكريًا، فصار الطلاق شائعًا جدًا. قيل عن امرأة أنها تزوّجت ثماني مرّات في خمس سنوات. أمّا اليونان فقد عرفوا في ذلك الوقت بالفساد حتى كان الرجال يحاولون عزل نساءهم خشية ممارستهم الشرّ، وفي كورنثوس تكرّست ألف كاهنة لبناء هيكل آخر لأفروديت إلهة الحب، فيجمعن المال بطريقة مملوءة خلاعة. أمّا بالنسبة لليهود فقد حملوا تقديسًا للزواج، فكان الطلاق مكروهًا لديهم. يقول الرب: "فاحذروا لروحكم ولا يغدر أحد بامرأة شبابه، لأنه يكره الطلاق قال الرب" (مل 2: 15-16). ومن أمثال الربيين: "يفيض المذبح دموعًا عندما يطلق إنسان امرأة شبابه". هكذا كان الطلاق مكروهًا جدًا، لكن الله سمح لهم به من أجل قسوة قلوبهم. وقد اختلفت مدارس التفسير اليهوديّة في تقديم الأسباب التي تبيح الطلاق. فمدرسة شمعي تميل إلى التضييق، فلا تسمح بالطلاق إلا في حالة فقدان العفّة. أمّا مدرسة هليل فكانت متحرّرة للغاية. يمكن للرجل أن يطلق امرأته لأي سبب مهما كان تافهًا مثل افسادها الطعام أو خروجها برأس عارية، بل ويستطيع أن يطلقها بلا سبب إن جذبته إنسانة أخرى.
    جاء السيّد المسيح يرتفع بالمؤمنين إلى مستوى النضوج الروحي والمسئولية الجادة فلا يطق الرجل امرأته إلا لعلّة الزنا. ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على كلمات السيّد بخصوص عدم التطليق قائلاً: [لم تأمر الشريعة الموسويّة بالتطليق، إنّما أمرت من يقوم بتطليق امرأته أن يعطها كتاب طلاق، لأنه في إعطائها كتاب طلاق (تطليق) ما يهدئ من ثورة غضب الإنسان. فالرب الذي أمر قساة القلوب بإعطاء كتاب تطليق أشار عن عدم رغبته في التطليق ما أمكن. لذلك عندما سُئل الرب نفسه عن هذا الأمر أجاب قائلاً: "إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم" (مت 19: Cool، لأنه مهما بلغت قسوة قلب الراغب في تطليق زوجته إذ يعرف أنها بواسطة كتاب التطليق تستطيع أن تتزوج بآخر، لذلك يهدأ غضبه ولا يطلقها. ولكي يؤكّد رب المجد هذا المبدأ - وهو عدم تطليق الزوجة باستهتار - جعل الاستثناء الوحيد هو علّة الزنا. فقد أمر بضرورة احتمال جميع المتاعب الأخرى بثبات من أجل المحبّة الزوجيّة ولأجل العفّة، وقد أكّد رب المجد نفس المبدأ بدعوته من يتزوج بمطلّقة "زانيًا.]
    8. القسم
    "وأيضًا سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث، بل أوْف للرب أقسامك،
    وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتّة،
    لا بالسماء لأنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه،
    ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم.
    ولا تحلف برأسك، لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء،
    بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا،
    وما زاد على ذلك فهو من الشرّير" [33-37].
    لم يكن ممكنًا في العهد القديم أن يمتنع المؤمنون وهم في الطفولة الروحيّة عن القسم، لهذا طالبهم أن لا يحنثوا بل يوفوا للرب أقسامهم. أحيانًا كان يأمرهم أن يقسموا به ليس لأنه يودّ القسم، وإنما علامة تعبّدهم له وحده دون الآلهة الغريبة، بهذا كان يمنعهم من القسم بآلهة الأمم المحيطين به.
    في العهد الجديد إذ دخلنا إلى النضوج الروحي يأمرنا السيّد ألا نقسم مطلقًا بل ليكن كلامنا نعم نعم ولا لا. ويعلّل القدّيس يوحنا الذهبي الفم هذا بقوله إن القسم أشبه بالريح بالنسبة لسفينة الغضب، بدونه لا يمكنها أن تبحر في حياة الإنسان. إنه يقول: [ضع قانونًا على إنسان كثير الانفعال ألاّ يقسم قط فلا تكون هناك حاجة لتعليمه الاتّزان.] ويعتبر القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن عدم القسم هو العلامة التي تميّز المسيحي ولغته الخاصة: [لنتقبّل هذا كختم من السماء، فيُنظر إلينا في كل موضع أننا قطيع الملك. ليتنا نعرف من نحن خلال فمنا ولغتنا.]
    9. مقاومة الشرّ بالخير
    "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن،
    وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرّ،
    بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا" [38-39].
    في القديم منع الله شعبه من مقاومة الشرّ بشرٍ أعظم سامحًا لهم بذلك من أجل قسوة قلوبهم، أمّا وقد دخلنا العهد الجديد فقد ارتفع بنا إلى مقابلة الشرّ لا بشر مماثل أو أقل أو حتى بالصمت وإنما نقابله بالخير مرتقبًا بنا إلى أعلى درجات الكمال.
    يرى القدّيس أغسطينوس أن السيّد المسيح قد دخل بنا إلى درجة الكمال المسيحي كأعلى درجات الحب التي تربط الإنسان بأخيه، إذ يرى العلاقة التي تقوم بين البشر تأخذ ست درجات:
    الدرجة الأولى: تظهر في الإنسان البدائي الذي يبدأ بالاعتداء على أخيه.
    الدرجة الثانية: فيها يرتفع الإنسان على المستوى السابق، فلا يبدأ بالظلم، لكنّه إذا أصابه شر يقابله بشرٍ أعظم.
    الدرجة الثالثة: وهي درجة الشريعة الموسويّة التي ترتفع بالمؤمن عن الدرجتين السابقتين فلا تسمح له بمقاومة الشرّ بشر أعظم، إنّما تسمح له أن يقابل الشرّ بشر مساوٍ. أنها لا تأمر بمقابلة الشرّ بالشرّ، إنّما تمنع أن يرد الإنسان الشرّ بشرٍ أعظم، لكنّه يستطيع أن يواجه الشرّ بشر أقل أو بالصمت أو حتى بالخير إن أمكنه ذلك.
    الدرجة الرابعة: مواجهة الشرّ بشرٍ أقل.
    الدرجة الخامسة: يقابل الشرّ بالصمت، أي لا يقابله بأي شر، أي عدم مقاومته.
    الدرجة السادسة: التي رفعنا إليها السيّد وهي مقابلة الشرّ بالخير، ناظرين إلى الشرّير كمريض يحتاج إلى علاج.
    يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على مقاومة الشرّ بالخير، قائلاً: [لا تُطفأ النار بنارٍ أخرى، وإنما بالماء... ليس ما يصد صانعي الشرّ عن شرّهم مثل مقابلة المضرور ما يصيبه من ضرر برقّة. فإن هذا التصرّف ليس فقط يمنعهم عن الاندفاع أكثر، وإنما يعمل فيهم بالتوبة عما سبق أن ارتكبوه، فإنهم إذ يندهشون بهذا الاحتمال يرتدّون عما هم فيه. هذا يجعلهم يرتبطون بك بالأكثر، فلا يصيروا أصدقاءً لك فحسب، بل وعبيدًا عِوض كونهم مبغضين وأعداء.]
    ماذا يقصد بالخد الأيمن والآخر؟
    قدّم لنا السيّد أمثلة لمقابلة الشرّ بالخير في مقدّمتها إنه إذا لطمنا شخص على خدّنا الأيمن نحوّل له الآخر أيضًا. ولقد أوضح الآباء أن السيّد في تقديمه الوصيّة لم يقصد مفهومها بطريقة حرفيّة، لأن الإنسان لا يُلطم على خدّه الأيمن بل الأيسر اللهم إلا إذ كان الضارب أشولاً. إنّما الخدّ الأيمن يُشير إلى الكرامة الروحيّة أو المجد الروحي، فإن كان إنسان يسيء إلينا ليحطّم كرامتنا الروحيّة فبالحب نقدّم له الخد الأيسر أيضًا، أي الكرامة والأمجاد الزمنيّة والماديّة.
    ويحذّرنا الأب يوسف من تنفيذ الوصيّة حرفيًا بينما لا يحمل القلب حبًا حقيقيًا نحو الضارب، خاصة وأن البعض يعملون على إثارة الآخرين ليضربوهم، الأمر الذي يسيء إلى الوصيّة الإلهيّة. ويختم حديثه بقوله: [إن كان خدّك الأيمن الخارجي يستقبل لطمة من الضارب فليقبل الإنسان الداخلي بتواضع أن يتقبّل الضربة على خدّه الأيمن. بهذا يحتمل الإنسان الخارجي بلطف، ويخضع الجسد لمضايقات الضارب فلا يضرب الإنسان الداخلي.]
    v كثيرون تعلّموا كيف يقدّمون الخدّ الآخر، ولكنهم لم يتعلّموا كيف يحبّون ضاربهم. المسيح رب المجد، واضع الوصيّة ومنفّذها الأول، عندما لُطم على خدّه بواسطة عبد رئيس الكهنة ردّ قائلاً: "إن كنت قد تكلَّمت رديًا فاشهد على الردي، وإن حسنًا فلماذا تضربني؟!" (يو 18: 23). فهو لم يقدّم الخدّ الآخر، ومع ذلك فقد كان قلبه مستعدًا لخلاص الجميع لا بضرب خده الآخر فقط من ذلك العبد، بل وصلب جسده كله.
    القدّيس أغسطينوس
    الميل الثاني
    "ومن سخرك ميلاً واحدًا فاذهب معه اثنين،
    ومن سألك فاعطه،
    ومن أراد أن يقترض منك فلا تردّه" [41-42].
    تظهر أهمّية هذه الوصيّة من دعوة المسيحيّة بديانة الميل الثاني، حيث يقدّم المؤمن للآخرين أكثر ممّا يطلبون، لكي يربح نفسه ويربحهم بحبّه. سير الميل الثاني علامة قوّة الروح وانفتاح القلب بالحب، فلا يعمل الإنسان ما يطلب منه عن مضض، وإنما يقدّم أكثر ممّا يطلب منه.
    كان اليهودي - تحت الحكم الروماني - مهدّدًا في أية لحظة أن يسخره جندي روماني ليذهب حاملاً رسالة معيّنة على مسافة بعيدة أو يقوم بعمل معين، وذلك كما فعل الجند حي سخروا سمعان القيرواني لحمل الصليب. فإن كان تحت العبوديّة القاسية يتقبّل الإنسان الميل المطلوب سيره، فإنه تحت نعمة الحرّية الكاملة يقدّم بكل سرور الميل الثاني دون أن يُطلب منه، إنّما هو علامة حرّيته.
    v بالتأكيد إن الرب لا يقصد كثيرًا تنفيذ هذه الوصيّة بالسير على الأقدام، بقدر ما يعني إعداد الذهن لتنفيذ الوصيّة.
    القدّيس أغسطينوس
    كشف السيّد مفهوم العطاء بقوله "من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تردّه" ولعلّه أراد بذلك أن تكون لنا طبيعة العطاء السخيّة، فإن البعض في عزّة نفس لا يقدر أن يستعطي فيطلب قرضًا، فلا تطلب ردّه منعًا من إحراجه...
    10. محبّة الأعداء
    "سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوّك،
    وأما أنا فأقول لكم أحبّوا أعداءكم،
    باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم،
    وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم،
    لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات..." [43-45].
    لم تأمر الشريعة ببغض العدوّ كوصيّة يلتزم بها المؤمن، في كسرها كسر للناموس وإنما كان ذلك سماحًا أُعطى لهم من أجل قسوة قلوبهم. لقد ألزمت بحب القريب وسمحت بمقابلة العداوة بعداوة مساوية، لكي تمهد لطريقٍ أكمل، أن يحب الإنسان قريبه على مستوى عام، أي كل بشر. يظهر ذلك بوضوح من الشريعة نفسها التي قدّمت نصيبًا من محبّة الأعداء ولو بنصيب قليل، فقيل: "إذا رأيت حمار مبغضك واقعًا تحت حمله وعدلت عن حلّه فلابد أن تحلّ معه" (خر 23: 5). وقيل أيضًا: "لا تكره أدوميًا لأنه أخوك، ولا تكره مصريًا لأنك كنت نزيلاً في أرضه" (تث 23: 7)، مع أن الأدوميّين والمصريّين كان من ألد أعدائهم.
    هذا من جانب ومن جانب آخر كان الشعب في بداية علاقته بالله غير قادر على التمييز بين الخاطي والخطيّة، لذا سمح الله لهم بقتل الأمم المحيطين بهم رمزًا لقتل الخطيّة، خاصة وأن اليهود كانوا سريعًا ما يسقطون في عبادة آلهة الأمم المحيطين بهم.
    لقد طالب السيّد المسيح المؤمنين أن يصعدوا بروحه القدّوس على سلّم الحب فيحبّون حتى الأعداء، ويحسنون إلى المبغضين لهم، ويصلّون لأجل المسيئين إليهم. وبهذا يحملون مثال أبيهم السماوي وشبهه. ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد المسيح قد جاء ليرفعنا إلى كمال الحب، الذي في نظره يبلغ الدرجة التاسعة، مقدّمًا لنا هذه الدرجات هكذا:
    الدرجة الأولى: ألا يبدأ الإنسان بظلم أخيه.
    الدرجة الثانية: إذا أصيب الإنسان بظلم فلا يثأر لنفسه بظلم أشد، وإنما يكتفي بمقابلة العين بالعين والسن بالسن (المستوى الناموسي الموسوي).
    الدرجة الثالثة: ألا يقابل الإنسان من يسيء إليه بشر يماثله، إنّما يقابله بروح هادئ.
    الدرجة الرابعة: يتخلّى الإنسان عن ذاته، فيكون مستعدًا لاحتمال الألم الذي أصابه ظلمًا وعدوانًا.
    الدرجة الخامسة: في هذه المرحلة ليس فقط يحتمل الألم، وإنما يكون مستعدًا في الداخل أن يقبل الآلام أكثر مما يودّ الظالم أن يفعل به، فإن اغتصب ثوبه يترك له الرداء، وإن سخّره ميلاً يسير معه ميلين.
    الدرجة السادسة: أنه يحتمل الظلم الأكثر ممّا يودّه الظالم دون أن يحمل في داخله كراهيّة نحو العالم.
    الدرجة السابعة: لا يقف الأمر عند عدم الكراهيّة وإنما يمتد إلى الحب... "أحبّوا أعداءكم".
    الدرجة الثامنة: يتحوّل الحب للأعداء إلى عمل، وذلك بصنع الخير "أحسنوا إلى مبغضيكم"، فنقابل الشرّ بعمل خير.
    الدرجة التاسعة والأخيرة: يصلّي المؤمن من أجل المسيئين إليه وطارديه.
    هكذا إذ يبلغ الإنسان إلى هذه الدرجة، ليس فقط يكون مستعدًا لقبول آلام أكثر وتعييرات وإنما يقدّم عوضها حبًا عمليًا ويقف كأب مترفّق بكل البشريّة، يصلّي عن الجميع طالبًا الصفح عن أعدائه والمسيئين إليه وطارديه، يكون متشبِّهًا بالله نفسه أب البشريّة كلها.
    يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن غاية مجيء السيّد إلينا إنّما هو الارتفاع بنا إلى هذا السموّ إذ يقول: [جاء المسيح بهذا الهدف، أن يغرس هذه الأمور في ذهننا حتى يجعلنا نافعين لأعدائنا كما لأصدقائنا.]
    ليس شيء يفرح قلب الله مثل أن يرى الإنسان المطرود من أخيه يفتح قلبه ليضمّه بالحب فيه، باسطًا يديه ليصلّي من أجله! يرى الله فيه صورته ومثاله! لهذا يختم السيّد الوصيّة بقوله "لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين" [45].
    إن كنّا في مياه المعموديّة ننال روح التبنّي، ننعم بالسلطان أن نصير أولاد الله (يو 1: 12)، فإنّنا بأعمال الحب التي هي ثمرة روحه القدّوس فينا نمارس بنوتنا له، وننمو فيها ونزكِّيها. أبوّته لنا تدفعنا للحب، والحب يزكِّي بنوتنا له، يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هذا هو السبب الذي لأجله ندعوه في الصلاة أبًا، لا لنتذكّر نعمته فحسب، وإنما من أجل الفضيلة فلا نفعل شيئًا غير لائق بعلاقة كهذه.]
    فيما يلي بعض مقتطفات للآباء عن محبّة الأعداء:
    v لو لم يكن شريرًا ما كان قد صار لكم عدوًا. إذن اشتهوا له الخير فينتهي شرّه، ولا يعود بعد عدوًا لكم. إنه عدوّكم لا بسبب طبيعته البشريّة وإنما بسبب خطيّته!
    v كان شاول عدوًا للكنيسة، ومن أجله كانت تُقام صلوات فصار صديقًا لها. إنه لم يكف عن اضطهادها فحسب، بل وصار يجاهد لمساعدتها. كانت تُقام صلوات ضدّه، لكنها ليست ضدّ طبيعته بل ضدّ افتراءاته. لتكن صلواتكم ضدّ افتراءات أعدائكم حتى تموت، أما هم فيحيون. لأنه إن مات عدوّكم تفقدونه كعدوّ ولكنكم تخسرونه كصديق أيضًا. وأما إذا ماتت افتراءاته فإنكم تفقدونه كعدوّ وفي نفس الوقت تكسبونه كصديق.
    v عندما تعانون من قسوة عدوّكم تذكّروا قول الرب: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34) .
    القدّيس أغسطينوس
    v لا تفيدنا الصلاة من أجل الأصدقاء بقدر ما تنفعنا لأجل الأعداء!... فإن صليّنا من أجل الأصدقاء لا نكون أفضل من العشّارين، أمّا إن أحببنا أعداءنا وصليّنا من أجلهم فنكون قد شابهنا الله في محبّته للبشر.
    v يجب أن نتجنّب العداوة مع أي شخص كان، وإن حصلت عداوة مع أحد فلنسالمه في اليوم ذاته... وإن انتقدك الناس (على ذلك) فالله يكافئك. أمّا إن انتظرت مجيء خصمك إليك ليطلب منك السماح فلا فائدة لك من ذلك، لأنه يسلبك جائزتك ويكسب لنفسه البركة.
    القدّيس يوحنا الذهبي الفم
    الكمال
    إذ يتحدّث عن درجات الكمال ويبلغ إلى قمّتها، أي حب الجميع حتى الأعداء بلا مقابل، يُعلن السيّد غاية ذلك ألاَ وهو الدخول في الحياة الكاملة والتشبّه بالله نفسه، إذ يقول: "لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات. فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين. لأنه إن أحببتم الذين يحبّونكم فأي أجر لكم؟! أليس العشّارون أيضًا يفعلون ذلك؟! وإن سلّمتم على إخوتكم فقط، فأي فضل تصنعون؟ أليس العشّارون أيضًا يفعلون هكذا؟! فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" [45-48].
    إن كانت غاية الله فينا أن يرانا أولاده نحمل صورته فينا وننجذب إليه بالحب لنحيا معه في أحضانه الإلهيّة ننعم بأمجاده، فإن غاية حياتنا الروحيّة ولقائنا معه هو أن ننعم بأبوّته لنا ونتأهل لنصير على مثاله فنحسب كاملين كما هو كامل!
    v إنه يقول: الذين تشكّلت أساليب فكرهم فصارت مترفّقة ومملوءة حبًا نحو إخوتهم على مثال صلاح أبيهم، هم أبناء له!
    القدّيس غريغوريوس النيسي
    v إذ لا يمكننا أن نصير كالله في الجوهر، لكنّه بالتقدّم في الفضيلة نتشبّه بالله، حيث يمنحنا الرب هذه النعمة!
    البابا أثناسيوس الرسولي
    v للمسيح إخوة مشابهون له، يحملون صورة طبيعته الإلهيّة خلال طريق التقدّيس، لأنه هكذا يتشكّل المسيح فينا... الذين يصيرون شركاء الطبيعة الإلهيّة خلال شركة الروح القدس، يحملون ختم شبه المسيح الفائق ويشِع في نفوس القدّيسين الجمال الذي لا يُعبّر عنه.
    القدّيس كيرلّس الكبير
    1 و لما راى الجموع صعد الى الجبل فلما جلس تقدم اليه تلاميذه
    2 ففتح فاه و علمهم قائلا
    3 طوبى للمساكين بالروح لان لهم ملكوت السماوات
    4 طوبى للحزانى لانهم يتعزون
    5 طوبى للودعاء لانهم يرثون الارض
    6 طوبى للجياع و العطاش الى البر لانهم يشبعون
    7 طوبى للرحماء لانهم يرحمون
    8 طوبى للانقياء القلب لانهم يعاينون الله
    9 طوبى لصانعي السلام لانهم ابناء الله يدعون
    10 طوبى للمطرودين من اجل البر لان لهم ملكوت السماوات
    11 طوبى لكم اذا عيروكم و طردوكم و قالوا عليكم كل كلمة شريرة من اجلي كاذبين
    12 افرحوا و تهللوا لان اجركم عظيم في السماوات فانهم هكذا طردوا الانبياء الذين قبلكم
    13 انتم ملح الارض و لكن ان فسد الملح فبماذا يملح لا يصلح بعد لشيء الا لان يطرح خارجا و يداس من الناس
    14 انتم نور العالم لا يمكن ان تخفى مدينة موضوعة على جبل
    15 و لا يوقدون سراجا و يضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت
    16 فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا اعمالكم الحسنة و يمجدوا اباكم الذي في السماوات
    17 لا تظنوا اني جئت لانقض الناموس او الانبياء ما جئت لانقض بل لاكمل
    18 فاني الحق اقول لكم الى ان تزول السماء و الارض لا يزول حرف واحد او نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل
    19 فمن نقض احدى هذه الوصايا الصغرى و علم الناس هكذا يدعى اصغر في ملكوت السماوات و اما من عمل و علم فهذا يدعى عظيما في ملكوت السماوات
    20 فاني اقول لكم انكم ان لم يزد بركم على الكتبة و الفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات
    21 قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تقتل و من قتل يكون مستوجب الحكم
    22 و اما انا فاقول لكم ان كل من يغضب على اخيه باطلا يكون مستوجب الحكم و من قال لاخيه رقا يكون مستوجب المجمع و من قال يا احمق يكون مستوجب نار جهنم
    23 فان قدمت قربانك الى المذبح و هناك تذكرت ان لاخيك شيئا عليك
    24 فاترك هناك قربانك قدام المذبح و اذهب اولا اصطلح مع اخيك و حينئذ تعال و قدم قربانك
    25 كن مراضيا لخصمك سريعا ما دمت معه في الطريق لئلا يسلمك الخصم الى القاضي و يسلمك القاضي الى الشرطي فتلقى في السجن
    26 الحق اقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الاخير
    27 قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تزن
    28 و اما انا فاقول لكم ان كل من ينظر الى امراة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه
    29 فان كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها و القها عنك لانه خير لك ان يهلك احد اعضائك و لا يلقى جسدك كله في جهنم
    30 و ان كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها و القها عنك لانه خير لك ان يهلك احد اعضائك و لا يلقى جسدك كله في جهنم
    31 و قيل من طلق امراته فليعطها كتاب طلاق
    32 و اما انا فاقول لكم ان من طلق امراته الا لعلة الزنى يجعلها تزني و من يتزوج مطلقة فانه يزني
    33 ايضا سمعتم انه قيل للقدماء لا تحنث بل اوف للرب اقسامك
    34 و اما انا فاقول لكم لا تحلفوا البتة لا بالسماء لانها كرسي الله
    35 و لا بالارض لانها موطئ قدميه و لا باورشليم لانها مدينة الملك العظيم
    36 و لا تحلف براسك لانك لا تقدر ان تجعل شعرة واحدة بيضاء او سوداء
    37 بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا و ما زاد على ذلك فهو من الشرير
    38 سمعتم انه قيل عين بعين و سن بسن
    39 و اما انا فاقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الايمن فحول له الاخر ايضا
    40 و من اراد ان يخاصمك و ياخذ ثوبك فاترك له الرداء ايضا
    41 و من سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين
    42 من سالك فاعطه و من اراد ان يقترض منك فلا ترده
    43 سمعتم انه قيل تحب قريبك و تبغض عدوك
    44 و اما انا فاقول لكم احبوا اعداءكم باركوا لاعنيكم احسنوا الى مبغضيكم و صلوا لاجل الذين يسيئون اليكم و يطردونكم
    45 لكي تكونوا ابناء ابيكم الذي في السماوات فانه يشرق شمسه على الاشرار و الصالحين و يمطر على الابرار و الظالمين
    46 لانه ان احببتم الذين يحبونكم فاي اجر لكم اليس العشارون ايضا يفعلون ذلك
    47 و ان سلمتم على اخوتكم فقط فاي فضل تصنعون اليس العشارون ايضا يفعلون هكذا
    48 فكونوا انتم كاملين كما ان اباكم الذي في السماوات هو كامل

    </FONT>
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 8:12 am


    [size=21]الأصحاح السادس


    دستور الملك 2

    التدبير الملكي

    بعد أن أعلن السيّد تكميله للناموس معطيًا أعماقًا جديدة للوصايا، يكشف بها عن فكره الإلهي من جهة الوصيّة، وأراد أن يرتفع بمؤمنيه إلى الحياة السماويّة، ليتشبّهوا بأبيهم السماوي، أوضح مفاهيم جديدة للنظام التعبّدي. ففي القديم إذ كان الشعب في طفولته الروحيّة قدّم لهم الله تفاصيل العبادة بدقّة بالغة، أمّا وقد دخل الشعب إلى النضوج الروحي خلال الصليب لم يقدّم الرب تفاصيل جديدة، بل قدّم مفاهيم جديدة للعبادة، تاركًا للكنيسة تحت قيادة روحه القدّوس أن تدبِّر النظام ذاته.


    1. الصدقة 1-4.
    2. الصلاة 5-8.
    3. الصلاة الربّانيّة 9-15.
    4. الصوم 16-18.
    5. العبادة السماويّة 19-21.
    6. البصيرة الداخليّة 22-23.
    7. العبادة ومحبّة المال 24-34.


    1. الصدقة

    يقوم التدبير الملوكي royal order على الجوانب الثلاثة التي عرفها الناموس الموسوي من صدقة وصلاة وصوم. الصدقة بما تحمله من معنى عام ومتسع، كعطاء للآخرين مادي ونفسي وروحي، والصلاة بكل ما فيها من عبادة جماعيّة وعائليّة وشخصيّة، وصوم بما يعنيه من كل أنواع البذل والنسك. ما هو جديد أنه يدخل بنا السيّد إلى أعماق النظام لنمارسه لا كفريضة خارجيّة، وإنما بالأكثر كحياة حب عميق يربطنا بالله أبينا. في كل تصرف يقول السيّد "أبوك الذي في الخفاء هو يجازيك علانيّة" [4].وكأن غاية الحياة المسيحيّة من سلوك وعبادة ونسكيّات هو الدخول إلى حضن الآب السماوي في المسيح يسوع ربنا. لقد ركّز السيّد في حديثه هنا على "نقاوة القلب" حتى يقدر المؤمن في حياته وسلوكه وعبادته أن يلتقي بالله ويعاينه! إنه لم يقدّم للكنيسة كمًّا للعبادة، إنّما قدّم نوعيّة العبادة، فإنه يريد قلبها لا مظاهر العمل الخارجي.
    "
    احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدّام الناس لكي ينظروكم،
    فمتى صنعت صدقة فلا تُصوّت قدامك بالبوق،
    كما يفعل المراءون في المجامع وفي الأزقّة،
    لكي يُمجّدوا من الناس.
    الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم،
    وأما أنت فمتى صنعت صدقة،
    فلا تُعرِّف شمالك ما تفعل يمينك.
    لكي تكون صدقتك في الخفاء،
    فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانيّة" [1-4].

    من الجانب السلبي يحذّرنا الرب من ممارسة الصدقة لأجل الناس: "لكي ينظروكم"، كما من ممارستنا لها لأجل إشباع الذات، قائلاً: "فلا تعرف شمالك (الأنا ego) ما تفعل يمينك". فإن كان اليمين يُشير إلى نعمة الله التي تعمل فينا، فإنّنا نفسد هذا العمل إن قدّمناه ليس من أجل الله، وإنما لإشباع الأنا بإعلان العمل للشمال! حقًا إن الشمال أو "الأنا" هو أخطر عدوّ يتسلّل إلى العبادة ذاتها والسلوك الصالح، ليحطّم ما تقدّمه نعمة الله لنا خلال يميننا، وتفقده جوهره خلال الرياء الممتزج بالكبرياء.
    كان المراءون يصنعون الصدقة بينما يُصوّت بالبوق قدّامهم، أي تقدّم لهم دعاية؛ سواء في عطائهم العام في المجامع من أجل احتياجات الجماعة أو في الأزقّة، إذ يقدّمون للشحّاذين العاديّين صدقة في الطريق العام.
    احترزوا من السلوك بالبرّ بهذا الهدف، فتتركّز سعادتكم في نظرة الناس إليكم، "وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات". فقدانكم للأجر السماوي لا يكون بسبب نظرة الناس إليكم، بل لسلوككم بهذا الهدف. في هذا الأصحاح لم يمنعنا الرب من صنع البرّ أمام الناس، لكنّه يحذّرنا من أن نصنعه بغرض الظهور أمامهم.
    v ماذا يعني السيّد بقوله: "أما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرِّف شمالك ما تفعله يمينك" سوى عدم السلوك مثل المرائين الذين يعرفون شمالهم ما تفعله يمينهم. فشمالهم هو "رغبتهم في المديح"، واليمين هو تنفيذ الوصايا، وعلى هذا فامتزاج الاثنين معًا يعني تعرُّف الشمال ما تفعله اليمين.


    القدّيس أغسطينوس

    v الكل يرى اللص "الرياء" يحمل كل شيء أمام عينيّه ويبتهج بذلك! يا لها من لصوصيّة جديدة من نوعها، تجتذب الناس وتبهجهم بينما هم يُسلبون!
    v قد يوجد من يقدّم صدقته قدام الناس لكنّه يتحاشى التظاهر بها، ويوجد أيضًا من لا يقدّمها قدام الناس لكنّه يتباهى بها سرًا. فالله لا يجازي عن الصداقة بحسب صنعها إن كانت أمام الناس أم لا، بل بحسب نيّة فاعلها.


    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v محب الفقراء يكون كمن له شفيع في بيت الحاكم. من يفتح بابه للمعوزّين يمسك في يده مفتاح باب الله. من يقرض الذين يسألونه يكافئه سيّد الكل.


    القدّيس يوحنا التبايسي

    v لنعطِ الرب الثياب الأرضيّة حتى نلبس الحلة السماويّة! لنعطه الطعام والشراب اللذين في هذا العالم، فنبلغ إلى أحضان إبراهيم واسحق ويعقوب في الموضع السماوي!
    لنزرع هنا بوفرة حتى لا نحصد قليلاً.
    مادام يوجد وقت فلنهتم بأمر خلاصنا الأبدي، كقول الرسول بولس: "فلا تفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنّا لا نكل. فإذًا، حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع، ولاسيما لأهل الإيمان" (غل 6: 9-10).


    القدّيس كبريانوس


    2. الصلاة

    ما أعلنه السيّد بخصوص السلوك المسيحي خلال حديثه عن الصدقة، يؤكّده أيضًا في العبادة المسيحيّة خلال حديثه عن الصلاة، فلا يحدّد لنا مواعيد للصلاة، ولا نصوص الليتورجيّات تاركًا هذا للتدبير الكنسي، وإنما يقدّم لنا أساس العبادة، ألا وهو الالتقاء بالآب السماوي، والدخول معه في شركة حب داخليّة، تقوم لا على أساس تكرار الكلام باطلاً، وإنما على أساس انفتاح القلب بالإيمان العامل بالمحبّة.
    "
    ومتى صلَّيت فلا تكن كالمرائين،
    فإنهم يحبّون أن يصلّوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع،
    لكي يظهروا للناس.
    وأما أنت فمتى صلّيت فادخل إلى مخدعك،
    وأغلق بابك،
    وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء،
    فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية.
    وحينما تصلّون لا تكرّروا الكلام باطلاً كالأمم،
    فإنهم يظنّون أنه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم.
    فلا تتشبّهوا بهم.
    لأن أباكم يَعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه" [5-8].

    يسألنا السيّد أن نحذر الرياء في صلواتنا لئلا يتسلّل كلص يُفقدنا جوهرنا، بل تصير صلواتنا عِوض أن تكون سرّ صلة مع الله عائقًا عن الالتقاء به. إنه كأب غير منظور يريدنا أن نلتقي به على المستوى غير المنظور.
    v الله نفسه غير منظور، لذا يودّ أن تكون صلاتك أيضًا غير منظورة.


    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v لا تُصلِِّ في زوايا الشوارع لئلا يعوق مديح الناس طريق صلواتك. لا تعرّض أهداب ثوبك ولا تلبس أحجية من أجل المظهر، محتقرًا الضمير فتلتحف بأنانية الفرّيسي.


    القدّيس جيروم


    صلاة المخدع

    يأمرنا الله بالدخول إلى المخدع وغلق الباب أثناء الصلاة، ماذا يعني هذا؟ هل لا يجوز لنا الصلاة في الكنيسة؟ يجيب القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [حقًا يلزمنا أن نصلّي بكل الطرق، وإنما يليق بنا أن نسلك بروح كهذا. فإن الله يطلب في كل الأحوال "النيّة"، فإنك حتى إن دخلت مخدعك وأغلقت الباب صانعًا هذا من أجل المظهر، فإن الأبواب (المغلقة) لن تنفعك شيئًا.]
    v الله يرغب أن تُغلق أبواب الذهن أفضل من غلق الأبواب.


    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v إننا نصلّي داخل مخدعنا لننزع من قلوبنا الداخليّة الأفكار المقلقة والاهتمامات الباطلة، وندخل في حديث سرّي مغلق بيننا وبين الرب. ونصلّي بأبواب مغلقة عندما نصلّي بشفاهٍ مغلقة في هدوء وصمت كامل، لذاك الذي يطلب القلوب لا الكلمات. ونصلّي في الخفاء عندما نكتم طلباتنا الصادرة من قلوبنا وأذهاننا المتّقدة بحيث لا نكشفها إلا لله وحده، فلا تستطيع القوّات المضادة (الشيّاطين) أن تكشفها. لذلك يجب أن نصلّي في صمت كامل، لا لنتحاشى فقط التشويش على إخوتنا المجاورين لنا، وعدم إزعاجهم بهمسنا أو كلماتنا العالية، ونتجنّب اضطراب أفكار المصلّين معنا، وإنما لكيما نخفي مغزى طلباتنا عن أعدائنا الذين يراقبوننا وبالأخص في وقت الصلاة، وبهذا تتم الوصيّة: "احفظ أبواب فمك عن المضطجعة في حضنك".


    الأب إسحق

    أما تأكيده على عدم تكرار الكلام باطلاً كالأمم، فلا يعني الامتناع عن التكرار نهائيًا، إنّما يُحذّرهم من التكرار الباطل. فقد اعتاد الأمم أن يكرّروا الكلام، ليس بسبب نقاوة قلبهم ولا لحبّهم في الحديث مع الله، وإنما ظنًّا منهم أن الله يُخدع بكثرة الكلام. أمّا إن نبع التكرار عن قلب ملتهب بنار الحب فلا يكون ذلك باطلاً، فقد صلى السيّد نفسه مكرّرا "الكلام عينه" (مت 26: 44)، لكن بأكثر لجاجة وبجهاد أعظم (لو 22: 44). وجاءت صلاة دانيال النبي المقبولة لدي الله تحمل تكرارًا (دا 9: 18-19)، وحوى المزمور 136 تكرارًا منسجمًا جدًا.
    ويجيب القدّيس جيروم على التساؤل: إن كان الله يعرف ما نطلبه قبل أن نسأله فما الحاجة للحديث معه فيما يدركه؟ أي لماذا نصلّي طالبين ما هو يعلم أننا في حاجة إليه؟ [نجيب باختصار قائلين إننا موجودون هنا لا لنحكي بل لنتضرّع ونستغيث. ففي الواقع يوجد فارق بين أن نحكي أمرًا لمن يجهله وبين من يطلب شيئًا ممن يعرف كل شيء. الأول يوجه من يحدّثه أمّا الثاني فيكرمه ويحمده. الأول يعرض الأمر، أمّا الثاني فيطلب الرحمة.]


    3. الصلاة الربّانيّة

    قدّم لنا رب المجد يسوع هذه الصلاة نموذجًا حيًا نتفهّم خلاله علاقتنا بالله ودالتنا لديه. إنه نموذج من وضع السيّد نفسه قابل الصلوات، لهذه تعتزّ به الكنيسة، فتبدأ وتختم به صلواتها الليتورجيّة وعبادتها العامة والخاصة، نردّدها لنحيا بالروح الذي يريده الرب نفسه.
    يقول القدّيس كبريانوس: [لنصل أيها الإخوة الأحياء بما علمنا إيّاه الله معلّمنا، فإنها صلاة جميلة ولطيفة، إذ نسأل الله بذات كلماته، ونرفع إلى أذنيه صلاة المسيح نفسه. ليعرف الآب كلمات ابنه عندما نرفع الصلاة، وليسكن في صوتنا ذاك الذي يسكن في صدرنا. لقد قبلناه شفيعًا لدى الآب بسبب خطايانا، لذا نتوسّل نحن الخطاة بذات كلمات الشفيع. إنه يقول: "إن كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم" (يو 16: 23)، فكم بالأكثر إن سألناه باسم المسيح وبذات صلاته؟]


    أ. أبانا الذي في السماوات

    الله في حبّه للإنسان يريده ابنًا له، يحيا حاملاً صورته، وسالكًا على مثاله، منجذبًا إليه ليحيا معه في أحضانه. هذا المفهوم فقده الإنسان خلال الخطيّة، فلم يستطع - في العهد القديم - أن يرفع عينيّه ليحدّثه كابن مع أبيه، الأمر الذي يحزن قلب الله فيعاتبه قائلاً: "ربّيتُ بنين ونشّأتُهم، أمّا هم فعصوا عليّ" (إش 1: 2). "أنا قلت أنكم آلهة وبنو العليّ كلّكم" (مز 82: 6). "فإن كنت أنا أبًا فأين كرامتي؟" (مل 1: 6).
    هذه النصوص كما يقول القدّيس أغسطينوس: [تظهر عدم قبولهم (اليهود الجاحدين) كأبناء الله، كما أنها نبوّة لما سيكون عليه المسيحيّون الذين يتّخذون الله أبًا لهم، وذلك كقول الإنجيلي: "فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله" (يو 1: 12). وقول الرسول بولس: "مادام الوارث قاصرًا لا يَفرِق شيئًا عن العبد" (غل 4: 1)، مشيرًا إلى التبنّي الذي أخذناه "والذي به نصرخ يا أبّا الآب" (رو 8: 15).]
    v عندما ننطق بأفواهنا أن الله رب كل المسكونة هو أبونا، نعترف أننا قد دُعينا من العبوديّة إلى التبنّي كأبناء. وإذ نردف قائلين: "الذي في السماوات" نتحاشى بكل مخافة إطالة البقاء في هذه الحياة الحاضرة، عابرين هذه الأرض كمن هم في رحلة، فنسرع مشتاقين إلى المدينة التي نعترف بأن أبانا يقطنها، ولا نسمح لأي شيء أن يفقدنا الاستحقاق لهذه المهنة ولشرف التبنّي، ناظرين إليه كعار يحرمنا من ميراث أبينا وبه يحلّ بنا غضب عدله وصرامته.


    الأب إسحق

    v تذكّروا أن لكم أبًا في السماوات، تذكّروا أنكم وُلدتم من أبيكم آدم للموت، وأنكم تولدون مرّة أخرى من الله الآب للحياة، فما تصلّون به قولوه بقلوبكم.


    القدّيس أغسطينوس

    v كل من يقول "أبانا الذي في السماوات" ينبغي ألا يكون له روح العبوديّة للخوف، بل روح التبنّي للأبناء (رو 8: 15)، فمن يردّدها وليس له روح التبنّي يكذب.


    العلاّمة أوريجينوس

    v إن كان يريدنا أن ندعو أباه أبًا لنا، فيليق بنا على هذا الأساس ألا نقيس أنفسنا بالابن حسب الطبيعة، فإنه بسبب الابن ندعو الآب هكذا. إذ حمل الكلمة جسدنا، وصار فينا، لذلك يُدعى الله أبانا بسبب الكلمة الذي فينا، فإن روح الكلمة الذي فينا يدعو أباه خلالنا كأب لنا، الأمر الذي عناه الرسول بقوله: "أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا: يا أبّا الآب" (غل 4: 6).


    القدّيس أثناسيوس الرسولي

    v يليق بنا أيها الإخوة الأعزّاء أن ندرك أنّنا لا ندعو الذي في السماوات "الآب" فحسب بل "أبانا"... أي أب للذين يؤمنون، الذين يتقدّسون بواسطته ويتجدّدون بميلاد النعمة الروحيّة فبدءوا يصيرون أبناء لله.
    v يا لعظم لطف الرب! يا لعظم تنازله وكرم صلاحه نحونا، إذ يريدنا أن نصلّي بطريقة ندعو بها الله أبًا، ونُحسب نحن أبناء الله، كما أن المسيح نفسه هو ابن الله. لقب ما كان أحد يجسر أن ينطق به في الصلاة لو لم يسمح لنا بنفسه أن ننطق به. لهذا يليق بنا أيها الإخوة الأحبّاء أن نتذكّر هذا وندرك أننا إذ ندعو الله أبًا فلنعمل بما يليق كأبناء لله. وكما تجدون لذّة في دعوة الله أبًا، فهو أيضًا يجد لذّة فينا!


    القدّيس كبريانوس

    يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن هذه الصلاة في الحقيقة إنّما تقدّم باسم الجماعة كلها، حتى إن قدّمها الإنسان في مخدعه. إنه يصلّي باسم الكنيسة كلها بكونه عضوًا فيها. إنه يقول: [يعلّمنا تقديم صلواتنا بصفة عامة لحساب إخوتنا أيضًا، فلا يقل: "أبي الذي في السماوات"، بل "أبانا"، مقدّمًا الطلبة لحساب الجسد في عموميّته، طالب في أي موضع لا ما هو لنفسه بل ما هو لصالح إخوته.] ويقول القدّيس أغسطينوس: [لقد بدأتم تُنسبون إلى عائلة عظيمة (أي عند نوالكم المعموديّة)، ففي هذا النسب يجتمع السيّد والعبد، القائد والجندي، الغني والفقير الخ. يصير الكل إخوة، جميعهم يدعون لهم أبًا واحدًا في السماوات... جميعهم يقولون: "أبانا الذي في السماوات"، فهل فهموا أنهم إخوة، ناظرين أن لهم أبًا واحدًا، فلا يستنكف السيّد من أن يعتبر عبده أخاه، ناظرًا أن الرب يسوع قد وهبه أن يكون أخًا له.] بذات الفكر يقول القدّيس كبريانوس في شرحه للصلاة الربّانيّة: [قبل كل شيء، معلّم السلام وسيّد الوحدة لا يريد الصلاة منفردة، فيصلّي الإنسان عن نفسه وحده، إذ لا يقول "أبي الذي في السماوات"، ولا "خبزي اليومي أعطني اليوم"، ولا يطلب أحد من أجل ما عليه وحده ليُغفر له، ولا يسأل عن نفسه وحده ألا يدخل في تجربة وأن يخلّص من الشرّير. صلاتنا كلها جماعيّة ومشتركة، عندما نصلّي لا يطلب الإنسان عن نفسه بل من أجل الشعب كله، لأننا جميعًا واحد. إله السلام ومعلّم الاتّفاق الذي يعلّمنا الوحدة أرادنا أن نصلّي عن الكل كما يحملنا هو واحدًا فيه. وقد راعى الثلاثة فتية قانون الصلاة هذا عندما أُلقوا في أتون النار، إذ نطقوا معًا بقلب واحد في اتّفاق الروح، وتكلّموا كما بفم واحد، مع أن المسيح لم يكن قد علّمهم كيف يصلّون... هكذا نجد الرسل أيضًا مع التلاميذ صلّوا بعد صعود الرب، وكما يقول الكتاب المقدّس: "كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة مع النساء ومريم أم يسوع ومع إخوته" (أع 1: 14).]
    ويرى القدّيس أغسطينوس أننا إذ نقول "الذي في السماوات" لا نرفع قلوبنا نحو جلد السماء بل إلى أعماق قلوبنا بكونها "السماء" التي يقطنها أبونا السماوي. إنه يقول: [ليت المسيحيّين الذين دُعوا إلى الميراث الأبدي يفهمون تلك الكلمات: "الذي في السماوات"، على أنها "الذي في القدّيسين والأبرار"، لأن الله لا يحدّه مكان معيّن. فالسماوات هي الجزء المرتفع على الأجسام الماديّة في العالم ومع ذلك فهي ماديّة، لذلك فهي محدودة بحيّز إلى حد ما. فإن اعتقدنا أن الله كائن بالجزء العلوي من العالم، فستكون الطيور أفضل منّا لأنها تحيا بالقرب من الله، غير أن الله لم يُكتب عنه "قريب هو الرب من طوال القامة أو سكان الجبال". بل"قريبهو الرب من منكسري القلوب" (مز 34: انجيل متى Icon_cool، إشارة إلي التواضع.فإن كان الأشرار قد دُعوا "أرضًا" هكذا يُدعى الأبرار "سماء"، وقد قيل عنهم: "لأن هيكل الله مقدّس الذي أنتم هو" (1 كو 3: 17). فإن كان الله يسكن في هيكلة وقد دعا القدّيسين هيكلاً له، لذلك فإن القول: "الذي في السماوات" يعني "الذي في القدّيسين"، إذ تليق المناظرة بين الأبرار والأشرار روحيًا بالسماء والأرض ماديًا.]
    v إن تأمّلنا معنى الكلمات: "متى صلّيتم فقولوا: أبانا" كما جاء في (لو 11: 2)، فإنّنا نتردّد في النطق بها إن كنّا لسنا بالحقيقة أبناء لمن نوجّه إليه هذا اللقب، لئلا نضيف إلى خطايانا ما يستوجب إدانتنا.
    v إن كنّا نفهم ما سبق أن قلناه عن الصلاة بلا انقطاع، أن حياتنا كلها هي صلاة بلا انقطاع تردّد القول "أبانا الذي في السماوات"، فإن مواطنتنا لا تعود بعد على الأرض، إنّما في السماء (في 3: 20) التي هي عرش الله، فإن ملكوت السماوات يترّبع في الذين يحملون صورة السماوي (1 كو 15: 49) وبذلك يكونون هم أنفسهم سمائيّين.


    العلاّمة أوريجينوس
    ب. ليتقدّس اسمك

    إنها ليست طلبة تخص اسم الله إنّما تخصّنا نحن في علاقتنا بهذا الاسم القدّوس. فإن كنّا نحن أبناءه فإن اسمه يتقدّس فينا بتقديسنا بروحه القدّوس.
    v يليق بمن يدعو الله أباه ألا يطلب شيئًا ما قبل أن يطلب مجد أبيه، حاسبًا كل شيء ثانويًا بجانب عمل مدحه، لأن كلمة "ليتقدّس" إنّما تعني "ليتمجّد".


    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v حينما نقول "ليتقدّس اسمك" يليق بنا جدًا أن نفهمه بهذا المعنى: "تقديس الله هو كمالنا"؛ أيضًا اجعلنا أيها الآب قادرين أن نفهم. نسلك بما فيه تقديس اسمك، أو على أي الأحوال يراك الآخرون قدوسًا بتغيّرنا الروحي، "إذ يرى الناس أعمالنا ويمجّدون أبانا الذي في السماوات" (مت 5: 16) .


    الأب إسحق

    v لماذا تسألون من أجل تقديس اسم الله؟ إنه قدوس، فلماذا تسألون من أجل من هو قدّوس أصلاً! إنكم إذ تسألونه أن يتقدّس اسمه فهل تطلبون من أجله هو أم من أجلكم؟... اِفهموا جيدًا أنكم إنّما تسألون هذا من أجل نفوسكم. إنكم تسألون من هو قدّوس بذاته على الدوام أن يكون مقدّسًا فيكم.
    v إن كان اسم الله يجدّف عليه من الأمم بسبب الأشرار، فعلى العكس يقدّس ويكرّم بسبب الأمناء، أي المؤمنين.


    القدّيس أغسطينوس

    v لسنا نرغب أن يتقدّس الله بصلواتنا وإنما نسأله أن يتقدّس اسمه فينا...
    إننا نحن الذين تقدّسنا في المعموديّة نسأله ونتوسل إليه أن نستمر فيما بدأنا فيه. هذا ما نصلّي لأجله كل يوم، إذ نحن في حاجة إلى تقديس يومي، إذ نسقط كل يوم ونحتاج إلى غسل من خطايانا بالتقديس المستمر... يقول الرسول إننا نتقدس باسم ربّنا يسوع المسيح وبروح إلهنا. ونحن نصلّي لكي يتم هذا التقديس فينا؛ فقد حذّر ربّنا ودَيّاننا ذاك الذي طلب من الذي شفاه ألا يخطئ مرّة أخرى، لئلا يصير إلى حال أشرّ, وها نحن نقدّم هذه الطلبة في صلواتنا باستمرار، سائلين إيّاه ليلاً ونهارًا أن يحفظ بحمايته التقديس الذي نلناه من نعمته.


    القدّيس كبريانوس
    ج. ليأت ملكوتك

    ملكوت الله هو غاية إيماننا، فإنّنا نشتهي أن نراه قادمًا على السحاب يستقبل عروسه المقدّسة وجهًا لوجه ليدخل بها إلى العرس الأبدي، هذا الملكوت هو امتداد وإعلان للملكوت القائم فعلاً في الكنيسة المقدّسة على الأرض، حيث يملك ربّنا يسوع على القلب، ويُعلن أمجاده في داخله، فما ينعم به أبناء الملكوت في اليوم الأخير لا يكون غريبًا عنهم، كما أن ما يعاينه أبناء الظلمة هو امتداد لما تذوّقوه هنا. إذن فالطلبة هنا تخصّنا نحن "ملكوت الله"، حيث نسأل إلهنا أن يُعلن بهاءه فينا بروحه القدّوس في الابن الوحيد فننال الملكوت، بل نصير نحن ملكوته.
    v يملك السيّد المسيح يومًا فيومًا في القدّيسين، ويتحقق ذلك بطرد سلطان الشيطان من قلوبنا وإبادة وسخ الخطيّة، ويبدأ يملك الله علينا خلال حلاوة عبيق الفضائل، فينهزم الزنا وتملك الطهارة على قلوبنا، ويملك الهدوء بتقهقر الغضب، والتواضع بسحق الكبرياء تحت الأقدام.


    الأب إسحق

    v إنها لغة الابن ذي الذهن البار غير المنجذب نحو المنظورات ولا يحسب الأمور الحاضرة كأشياء عظيمة، إنّما يسرع نحو أبينا مشتهيًا الأمور العتيدة (الملكوت الأبدي). هذا يصدر عن ضمير صالح ونفس متبرّرة من الأرضيّات. هذا ما يتوق إليه بولس - كمثال - كل يوم، إذ يقول: "بل نحن الذين لنا باكورة الروح نئن في أنفسنا متوقّعين التبنّي فداء أجسادنا" (رو 8: 23). فمن كان له هذا الشوق لا يمكن أن ينتفخ بالخيرات الحاضرة، ولا يرتبك بأحزان هذه الحياة، إنّما يتبرّر من كل الشوائب كمن هو في السماوات.


    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v لا نقول: "ليأتِ ملكوتك" كما لو كنّا نسأل أن يملك الله، إنّما لكي نصير نحن ملكوته، ذلك بإيماننا به وتقدّمنا في الإيمان به.


    القدّيس أغسطينوس

    v إن كان ملكوت الله كقول ربّنا ومخلّصنا لا يأتي بمراقبة، ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك، إنّما ملكوت الله داخلكم (لو 17: 20-21)، لأن الكلمة قريبة جدًا في فمنا وفي قلبنا (تث30 : 14؛ رو 10: انجيل متى Icon_cool، فمن الواضح أن من يصلّي لكي يأتي ملكوت الله، إنّما يصلّي بحق لكي يظهر فيه ملكوت الله، ويأتي بثمر ويكمل. كل قدّيس يأخذ الله كملكٍ له ويطيع شرائع الله الروحيّة إنّما يسكن الله فيه كمدينة منظمة جدًا...
    v الآن أيضًا ليت فسادنا يلبس التقديس في القداسة وكل طهارة وعدم الفساد (1 كو 15: 53)، ويلتحف المائت بعدم موت الآب عندما يبطل الموت (1كو15: 26)، عندئذ يملك الله علينا ويمكننا أن ننعم بشركة الخيرات الخاصة بالتجديد والقيامة.


    العلاّمة أوريجينوس

    v يُقصد بالصلاة "ليأتِ ملكوتك" أن الله يملك على العالم كلّه حين يتوقّف الشيطان عن ملكه، أو أن الله يملك على كل واحدٍ فينا، ولا تملك الخطيّة بعد في جسد الإنسان المائت.


    القدّيس جيروم

    v لا يليق بنا ونحن نطلب ملكوت الله أن يأتي سريعًا، إننا أنفسنا نهتم أن يطول بقاؤنا في هذا العالم.


    القدّيس كبريانوس

    v نسأله أن يُقام ملكوت الله بالنسبة لنا وذلك كما نسأله أن يتقدّس اسمه فينا... فنحن نصلّي لكي يأتي ملكوتنا الذي وعدنا الله به، والذي تحقّق خلال دم المسيح وآلامه، حتى أننا نحن الذين صرنا خاضعين له في العالم نملك مع المسيح، إذ وعد قائلاً: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت 25: 34).
    على أي الأحوال، المسيح نفسه أيها الإخوة الأعزّاء، هو ملكوت الله الذي نرغب في مجيئه من يوم إلى يوم، فنطلب سرعة مجيئه. مادام المسيح هو القيامة، ففيه نقوم، هكذا هو ملكوت الله وفيه نملك...
    إننا نصنع حسنًا إذ نطلب ملكوت الله، أي الملكوت السماوي، حيث يوجد ملكوت أرضي. فمن يزهد العالم تكون كرامته وملكوته أعظم. من يكرّس نفسه لله والمسيح لا يطلب الملكوت الأرضي بل السماوي.
    توجد حاجة للصلاة الدائمة والطلبة كي لا نسقط عن الملكوت كقول الرب: "إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتّكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجيّة، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (مت 8: 11-12). كان اليهود أبناء الملكوت إذ كانوا أبناء لله، ولكن إذ توقّفت معرفتهم لاسم الآب توقف عنهم الملكوت، وهكذا نحن المسيحيّون إذ نبدأ صلواتنا بدعوة الله أبانا نصلّي أيضًا أن يأتي ملكوته بالنسبة لنا.

    [/size]
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 8:13 am

    القدّيس كبريانوس
    د. لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض

    إن كان المؤمن يسلك بجسده على الأرض لكنّه لا يرى في الأرض عائقًا عن تمتّعه بالملكوت الإلهي السماوي، فهو يحيا هنا لحساب هذا الملكوت بقلب مرتفع للسماويات. بهذا يطلب من أبيه السماوي أن يتمّم مشيئته فيه وهو على الأرض كما يتمّمها في السمائيّين.
    يعلّمنا السيّد أن نقول "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض"، وليس "كما بواسطة السماء هكذا بواسطة الأرض"، لأنه لا يمكن للسمائيّين ولا الأرضيّين أن يتمّموا مشيئتهم بدونه! إنّهم في حاجة إلى نعمته لتتم مشيئته فيهم.
    يقول القدّيس كبريانوس: [إذ يعوقنا (العدو) عن طاعة مشيئة الله بأفكارنا وأعمالنا في كل شيء، لهذا نصلّي ونطلب أن تتم مشيئة الله فينا، ولكي يتحقّق ذلك نحن في حاجة إلى إرادته الصالحة أي معونته وحمايته، إذ ليس لأحد القدرة من ذاته على ذلك.]
    ويرى بعض الآباء مثل العلاّمة أوريجينوس والقدّيسين أغسطينوس وأمبروسيوس وجيروم أن السماء والأرض إنّما يحملان مفاهيم رمزيّة، نذكر منها:
    أولاً: الملائكة والبشر

    v لا يمكن أن توجد صلاة أعظم من الاشتياق أن تكون الأمور الأرضيّة سماويّة، لأنه ماذا يعني القول "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض" سوى السؤال من أجل البشر ليكونوا مثل الملائكة؟ فكما تتم مشيئة الله بواسطتهم في السماء هكذا ليت الذين على الأرض لا يفعلون مشيئتهم الذاتيّة بل مشيئة الله.

    الأب إسحق

    v تتمّم الملائكة مشيئة الله، فهل نتمّمها نحن؟...
    كما أن ملائكتك لا يعارضونك، ليتنا نحن أيضًا لا نعارضك...
    كما تخدمك الملائكة في السماء، فلنخدمك نحن أيضًا على الأرض، فإن ملائكته القدّيسين يطيعونه. إنهم لا يخطئون إليه، بل ينفّذون وصاياه لحبّهم فيه. لنُصلّ لكي ننفِّذ نحن أيضًا وصايا الله في حب!

    القدّيس أغسطينوس

    v كما تطيعك الملائكة في السماء وتخدمك الخليقة السماويّة، هكذا ليخدمك البشر أيضًا.

    القدّيس جيروم

    v ليتنا نحن الذين لا نزال على الأرض ونُدرك أن إرادة الله تتم في السماء بواسطة سكان السماء، نصلّي كي تتم إرادته بواسطتنا نحن أيضًا على الأرض في كل الأشياء...
    v عندما تتحقّق إرادة الله بواسطتنا نحن الذين على الأرض كما تتحقّق في الذين في السماء نتشبّه بالسمائيّين إذ نحمل مثلهم صورة السماوي (1 كو 15: 49) ونرث ملكوت السماوات (مت 25: 34). ويأتي الذين بعدنا وهم على الأرض يصلّون لكي يتشبّهوا بنا، إذ نكون نحن في السماء (الفردوس).

    العلاّمة أوريجينوس
    ثانيًا: الروح والجسد

    تُشير السماء إلى الروح أو العقل، وكلمة "عقل" عند الآباء تحمل معنى أوسع من مجرّد عمليّة التعقّل والتفكير، إنّما يقصد بها الروح أو الحياة الداخليّة ككل، بما فيها من تفكير وأحاسيس وعواطف الخ. أمّا كلمة "الأرض" فتُشير إلى الجسد الترابي الذي يثقل على الروح متى كان غير مقدّس، لكننا إذ نسلّم الجسد بين يديّ الروح القدس الساكن فينا يتقدّس هذا الجسد فتتحقق فيه إرادة الله كما في الروح، ويعمل الإنسان ككل في توافق وتكامل.
    v حين يتّفق الجسد مع العقل، ويُبتلع الموت إلى غلبة (1 كو 15: 54) حتى لا تبقى بعد شهوات جسديّة يصارع معها العقل، ينتهي الصراع الأرضي وتعبر الحرب القلبيّة المكتوب عنها: "لأن الجسد يشتهي ضدّ الروح، والروح ضدّ الجسد. وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون" (غل 5: 17). أقول، عندما ينتهي هذا الصراع وتتحوّل كل الشهوات إلى محبّة، ولا يبقى في الجسد ما يضاد الروح، ولا يبقى فيه شيئًا ليُقمع أو يُلجم أو يُطأ تحت الأقدام، بل يصير الكل في وفاق متّجهًا نحو البرّ... حينئذ تكون مشيئة الله في السماء كذلك على الأرض... إننا إذ نصلّي بهذه الطلبة إنّما نشتهي الكمال... كما تبتهج عقولنا بوصاياك ليت أجسادنا أيضًا ترضى بها، وبهذا ينتهي الصراع الذي وصفه الرسول... ويتحوّل الصراع إلى نصرة مستقبلة!

    القدّيس أغسطينوس

    v إذ لنا الجسد من الأرض والروح من السماء، فنحن أنفسنا أرض وسماء، وفي كليهما - أي في الجسد والروح - نصلّي لكي تتم مشيئة الله. يوجد صراع بين الجسد والروح، نزاع يومي، كما لو كان الواحد لا يتّفق مع الآخر، حتى أننا لا نقدر أن نفعل ما نريده (غل 5: 17-22). تطلب الروح الأمور السماويّة الإلهيّة بينما يشتهي الجسد الأمور الأرضيّة الزمنيّة، لذا نطلب معونة الله ومساعدته حتى يتم التوافق بين الطبيعتين، فتتم مشيئة الله في الروح وفي الجسد، وتحفظ النفس المولودة ثانية بواسطته.

    القدّيس كبريانوس
    ثالثًا: الإنسان الروحي والإنسان الجسداني

    v الإنسان الروحاني في الكنيسة هو السماء، أمّا الجسداني فهو الأرض. هكذا لتكن مشيئة الله كما في السماء كذلك على الأرض، وكأنه كما يخدمك الروحاني فليخدمك الجسداني بإصلاحه... كل الآباء القدّيسين والأنبياء والرسل والروحانيّين إنّما هم كالسماء... ونحن بالنسبة لهم الأرض، هكذا لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض.

    القدّيس أغسطينوس

    v إذا ما صارت إرادة الله على الأرض كما في السماء، فسنصير نحن سماءً، لأن الجسد الذي لا ينفع (يو 6: 63) والدم المرتبط به، لا يقدران أن يرثا ملكوت الله (1 كو 15: 50) إنّما يقال أنهما يرثانه عندما يتحوّلان من جسد وأرض وتراب ودم إلى أمور سماويّة.

    العلاّمة أوريجينوس
    رابعًا: المؤمنين وغير المؤمنين

    إن كان المؤمنون قد صاروا سماءً فإن غير المؤمنين يمثّلون الأرض، فنطلب من الله الذي قبلنا سماءً له نخضع لمشيئته، أن يعمل في غير المؤمنين - مهما كان شرّهم أو حتى إلحادهم أو عداوتهم - لكي يُعلن ذاته فيهم ويصيرون هم سماءً بتتميم مشيئته فيهم.
    v الكنيسة هي السماء وأعداؤها هم الأرض. ماذا تعني: "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض"؟ أن يؤمن بك الأعداء كما نحن. إنهم الأرض لهذا هم ضدّنا، فإن صاروا سماءً يصيرون معنا!

    القدّيس أغسطينوس

    v يلزمنا أن نسأل من أجل الذين لا يزالون أرضًا ولم يبدأوا بعد ليكونوا سماءً لكي تتم مشيئة الله حتى في هؤلاء... كما تتم مشيئة الله في السماء - أي فينا نحن إذ صرنا سماءً بإيماننا - هل تتم على الأرض، أي في الذين لم يؤمنوا بعد، هؤلاء الذين لا يزالوا أرضًا بسبب ميلادهم الأول منها، فيولدون من الماء والروح ويبدأون أن يكونوا سماءً.

    القدّيس كبريانوس

    هـ. خبزنا اليومي

    يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنه بعد الصلاة من أجل الأمور السماويّة في الطلبات السابقة يطالبنا أن نسأله حتى عن احتياجاتنا الجسديّة وضروريات الحياة بسبب ضعف طبيعتنا، فنطلب من أجل خبزنا اليومي، أي خبز يوم واحد فقط ولا نطلب من أجل الغد.
    قبل القدّيس أغسطينوس هذا التفسير مضيفًا إليه تفسير الخبز اليومي بالتناول من الأسرار المقدّسة: جسد الرب ودمه الذي في أيّامه كان يقدّم يوميًا، وإن كان البعض يعترض على ذلك، لأنهم لا يشتركون فيه كل يوم، أو حتى الذين يشتركون فيه يوميًا فإنهم يصلّون بهذه الصلاة حتى بعد التناول، فكيف يطلبون منه ما قد نالوه؟ كما يفهمه القدّيس بكونه الغذاء الروحي خلال تنفيذ الوصيّة الإلهيّة، لكي تشبع النفس وتتغذى لمواجهة الشهوات الزمنيّة. إننا نطلب هذا الغذاء مادام الوقت يُدعى "اليوم"، أي مادمنا في الحياة الحاضرة، لأننا في الحياة الأخرى لا نحتاج أن نطلب طعامًا بل نلتقي بالسيّد المسيح طعامنا الذي ننتعش به.
    في اختصار يُشير هذا الخبز إلى: القوت اليومي، والإفخارستيا، وكلمة الله.

    أولاً: القوت اليومي

    v هب لنا الأمور الأبديّة (الطلبات السابقة)، اعطنا الأمور الزمنيّة. لقد وعدت بالملكوت فلا تحجم عنّا وسيلة الحياة. ستعطنا مجدًا أبديًا إذ تهبنا ذاتك فيما بعد، اعطنا على الأرض المئونة الزمنيّة... بلا شك هذه الطلبة تُفهم عن الخبز اليومي من ناحيتين: القوت الضروري للجسد والمئونة الروحيّة الضروريّة. توجد مئونة لازمة للجسد لحفظ حياتنا اليوميّة، بدونها لا نقدر أن نعيش وهي الطعام والملبس، لكن بذكر الجزء (الخبز) نقصد الكل.

    القدّيس أغسطينوس
    ثانيًا: سرّ الإفخارستيا

    v (في حديثه مع طالبي العماد)
    إن كنتم تفهمون هذا الخبز أنه ما يناله المؤمنون، وما تنالونه أنتم بعد العماد، فإنه من المهم أن نسأل ونطلب "خبزنا اليومي أعطنا اليوم" لكي نسلك بحياة معيّنة فلا نُحرم من الهيكل المقدّس... أعطنا جسدك، طعامنا اليومي... دعنا نعيش صالحين حتى لا نُحرم من مذبحك.

    القدّيس أغسطينوس

    v المسيح هو خبز الحياة بالنسبة لنا ولا يخصّ كل البشر. وكما نقول "أبانا" إذ هو أب لكل من يفهم ويؤمن، هكذا ندعو المسيح خبزنا، لأنه خبز لكل الذين يتّحدون بجسده. ونحن نطلب أن يعطينا هذا الخبز كل يوم، فنحن الذين في المسيح ونتناول يوميًا الإفخارستيا كطعام خلاصنا، لا نودّ أبدًا أن نُمنع من الشركة بسبب قهر زلّة عرضيّة تحرمنا من خبز السماء، وتفصلنا عن جسد المسيح، لقد سبق فنادى وحذّر: "أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو 6: 51)... لذلك نطلب أن خبزنا - أي المسيح - يعطي لنا كل يوم، حتى أننا نحن الذين نسكن في المسيح ونحيا فيه لا نُحرم منه.

    القدّيس كبريانوس
    ثالثًا: كلمة الله وحكمته

    v هل لأن الأبرار والأشرار يأخذون خبزًا من الله تفتكرون أنه لا يوجد خبز آخر يطلبه البنون، هذا الذي يقول عنه الرب في الإنجيل: "ليس حسنًا أن يُؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب" (مت 15: 26)؟ بالتأكيد يوجد خبز آخر، فما هو هذا الخبز؟ ولماذا دُعي بالخبز اليومي؟ لأنه ضروري كالخبز الآخر، بدونه لا نستطيع أن نحيا... ذلك هو كلمة الله التي توزّع يوميًا.
    خبزنا يومي، تحيا به أرواحنا لا أجسادنا، إنه لازم لنا نحن الذين لا نزال نعمل في الكرم. إنه الغذاء وليس الأجرة. فمن يستأجر عاملاً يلتزم بتقديم الغذاء له حتى لا يخور، أمّا الأجرة فتُقدّم له ليُسرّْ بها. غذاؤنا اليومي في هذه الحياة هو كلمة الله، التي توزّع على الدوام في الكنائس، أمّا أجرتنا التي نأخذها بعد العمل فهي التي تدعى بالحياة الأبديّة...
    ما عالجته أمامكم الآن هو خبز يومي، كذلك فصول الكتاب المقدّس التي تسمعونها يوميًا في الكنيسة هي خبز يومي. التسابيح التي تترنمون بها هي أيضًا خبز يومي. لأن هذه جميعها ضروريّة لنا أثناء رحلتنا.

    القدّيس أغسطينوس

    v الخبز الحقيقي هو الذي يقوت الإنسان الحقيقي الذي خُلق على صورة الله (تك 1: 26-27)، ومن يقتات به يصير أيضًا على مثال الخالق. ولكن أي شيء يُنعش النفس إلا "الكلمة"، وأي شيء أثمن لذهنه من حكمة الله؟... وأي شيء يخص النفس العاقلة أكثر من "الحق"؟
    v لكي لا تمرض نفوسنا بسبب عدم وجود قوت لها، ولكي لا تموت بسبب وجود مجاعة في كلمة الرب فلنسأل الآب الخبز الحيّ كخبز يومي، مطيعين مخلّصنا كمعلّم، وواضعين إيماننا فيه، سالكين بأكثر حكمة.

    العلاّمة أوريجينوس

    v عندما تنتهي هذه الحياة لا نطلب الخبز الذي نجوع إليه، ولا نأخذ من الأسرار المقدّسة من على المذبح، إذ نكون هناك مع المسيح الذي نأخذ جسده هنا، ولا تحتاجون إلى من يحدّثكم عما أنطق به معكم الآن، ولا نقرأ الكتاب المقدّس إذ نُعاين كلمة الله نفسه، الذي به كان كل شيء وبه يتغذّى الملائكة ويستنيرون ويصيرون حكماء، دون حاجة إلى المناقشات المستمرّة... إنهم يشربون من الكلمة الوحيد، مملوئين من ذلك الذي به ينفجرون في التسبيح بلا انقطاع، إذ يقول المزمور: "طوبى للساكنين في بيتك أبدًا يسبّحونك" (مز 84: 4).

    القدّيس أغسطينوس

    هذا ويقول القدّيس جيروم: إن [الإنجيل العبري حسب متّى يُقرأ هكذا: "خبزنا الذي للغد أعطنا اليوم" بمعنى آخر، أن الخبز الذي ستهبه لنا في ملكوتك اِمنحه إيّانا اليوم.] ويذكر العلاّمة أوريجينوس في شرحه الصلاة الربّانيّة أن كلمة (epiouios) مأخوذة عن "ousia" أي "جوهر". بينما يرى البعض أنها مشتقّة عن "epienai" والتي تعني "الغد". وبنفس الفكر يذكر جيمس سترونج في كتابه: "القاموس اليوناني للعهد الجديد" بأن الكلمة مشتقّة إمّا عن "epiousa" أو "epi" أو "eimi"، وأنها معناها: أساسي، جوهري، ضروري، يومي، الغد.

    و. واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا

    إنها طلبة يوميّة، بل يقدّمها المؤمن في صلاة السواعي أي في كل ساعة، وكأنه يدرك أنه محتاج إلى مغفرة مستمرّة. لذلك استخدم القدّيس جيروم هذه العبارة للرد على أتباع جوفنيان Jovinianus القائلين بأن الإنسان لا يخطئ بعد المعموديّة. يقول القدّيس: [بأن هذه الصلاة يمارسها المؤمنون لا الموعوظون، هؤلاء الذين يطلبون المغفرة كل يوم.]
    إذ فتح لنا السيّد باب المغفرة خلال دمه المقدّس، فإن هذه العطيّة المجّانيّة لا تقدّم لقلبٍ مُصرٍ على القسوة ضدّ أخيه.
    v من لا يغفر من قلبه لأخيه الذي أساء إليه لا يجلب لنفسه بهذه الصلاة غفرانًا بل دينونة.

    الأب اسحق
    v "واغفر لنا ما علينا our debts
    "... إننا مدينون بالخطايا لا بالمال. لكن ربّما تقولون: وهل أنتم أيضًا مدينون بالخطايا؟ أجيب بالإيجاب. هل أنتم أيها الأساقفة مدينون؟ نعم نحن أيضًا مدينون! ما هذا يا ربي؟! أبعدوا هذا عنكم (أي إدانة الأساقفة) ولا تخطئوا فإنّني لا أصنع خطأ، ومع ذلك فإنّني أقول الحق أني مدين. "إن قلنا أنه ليس لنا خطيّة نُضلّ أنفسنا وليس الحق فينا" (1 يو 1: انجيل متى Icon_cool.
    إننا نلنا سرّ المعموديّة، ومع ذلك فنحن مدينون، ليس لأن المعموديّة لم تغفر خطيّة معيّنة بل لأننا نفعل في حياتنا ما نحتاج إلى مغفرته كل يوم...
    أي إنسان يعيش هنا ولا يحتاج إلى هذه الصلاة؟! إنه متكبّر لا يستطيع أن يتبرّر. خير له أن يتمثل بالعشّار ولا يتكبّر كالفرّيسي الذي صعد إلى الهيكل متباهيًا باستحقاقه، خافيًا جراحاته، أمّا الذي قال: "اللهم ارحمني أنا الخاطي" (لو 18: 13) فقد عرف أين يصعد.
    انظروا أيها الإخوة... فقد علّم الرب يسوع تلاميذه الذين هم رسله الأوّلين العظماء، قادة قطيعنا، أن يصلّوا بهذه الطلبة. فإن كان القادة يصلّون من أجل غفران خطاياهم، كم بالأكثر ينبغي علينا نحن الحملان!...
    الصلاة مع الإحسان يرفعان الخطايا، بشرط ألا نرتكب تلك الخطايا التي بسببها نُحرم من الخبز اليومي (سّر الإفخارستيا). لنتجنّب كل الآثام التي تستحق تأديبات قاسية...
    v إنه عهد وميثاق بيننا وبين الله! الرب إلهنا يقول: اغفروا يغفر لكم، فإن لم نغفر نبقى في خطايانا ضدّ أنفسنا وليس ضدّه... اغفروا من قلوبكم التي يراها الله، إذ أحيانًا يغفر الإنسان بفمه لكنّه يحتفظ بها في قلبه. يغفرها بفمه من أجل البشر، ويحتفظ بها في قلبه إذ لا يخاف من عينيّ الله.

    القدّيس أغسطينوس

    v بعد طلب الطعام نسأل الصفح عن الخطيّة، لأن من يقوته الله يلزم أن يحيا في الله، فلا يكون رجاؤه بالحياة الحاضرة الزمنيّة فحسب وإنما بالأبديّة أيضًا، التي نأتي إليها متى غُفرت الخطيّة، هذه التي دعاها السيّد "ديونًا"، حسب قوله في إنجيله: "كل ذلك الدين تركته لك لأنك طلبت إليّ" (مت 18: 32).
    إنه من الضروري واللائق والنافع لنا أن يذكرنا الرب بأنّنا خطاة، إذ يلزمنا سؤال الصفح عن خطايانا، فبالتماسنا الصفح عنها من الله نتذكّر حالة الخطيّة التي عليها ضمائرنا، ولئلا يتعجرف أحد ويظن في نفسه أنه بار فيهلك بكبريائه إلى النهاية، لذلك نتعلّم من هذه الطلبة أننا نخطئ كل يوم. هكذا يحذّرنا الرسول يوحنا في رسالته: "إن قلنا أنه ليس لنا خطيّة نُضلّ أنفسنا، وليس الحق فينا، إن اعترفنا بخطايانا (فالرب) أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا" (1 يو 1: 8-9).
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 8:14 am

    القدّيس كبريانوس
    ز. لا تدخلنا في تجربة، لكن نجّنا من الشرّير

    هنا يطلب المؤمن من السيّد ألا يدخل تحت ثقل التجربة خلال ضعفه البشري، ومن ناحية أخرى يسأله أن ينجّيه من العدوّ الشرّير، أي الشيطان. حقًا إن المؤمن يدرك إمكانيّات الله أبيه العاملة فيه للغلبة والنصرة بالمسيح يسوع ضدّ الخطيّة والشيطان، لكنّه لا يندفع نحو التجربة، ولا يشتهيها، بل في تواضع يطلب أن يسنده داخليًا حتى لا ينهار ويسنده من الخارج فينقذه من الشيطان الشرّير.
    الله لا يريد النفس المتشامخة التي في تهوّر لا تحتاط من التجربة، إنّما يريد النفس المتواضعة، فيكون نصرتها بالله أكثر مجدًا، وهزيمة الشيطان أكثر تأكيدًا.
    v أيوب جُرِّب، لكنّه لم يدخل في تجربة، إذ لم ينطق ضدّ الله بأي تجديف، ولا استسلم لفمٍ شريرٍ كرغبة الشرّير نفسه. إبراهيم جُرِّب، ويوسف جُرِّب، لكن لم يدخل أحدهما في تجربة، لأنهما لم يستسلما ليُرضيا المجرِّب.

    الأب إسحق

    v من يُغلب من التجربة يرتكب الخطيّة، لهذا يقول يعقوب الرسول: "لا يقل أحد إذا جُرِّب إني أجرَّب من قبل الله، لأن الله غير مُجرِّب بالشرور وهو لا يجرِّب أحدًا. ولكن كل واحد يجرَّب إذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطيّة، والخطيّة إذا كملت تنتج موتًا" (يع 1: 13-15). فإذ لا تنجذبون إلى شهوتكم لا تقبلونها...
    الله لا يجرِّب أحدًا بالتجارب التي تخدعنا وتضلّنا، ولكن بدون شك في أعماق عدله يتخلّى عن البعض، فيجد المجرِّب فرصته، لأنه لا يجد فيها مقاومة. وإذ يتخلّى الله عنهم يتقدّم المجرِّب نفسه كمالك لهم. لهذا نقول "لا تدخلنا في تجربة" لكي لا يتخلّى الله عنّا... ماذا يعلّمنا الرسول يعقوب! إنه يعلّمنا أن نحارب شهواتنا...
    لا يخيفكم أي عدوّ خارجي! انتصروا على أنفسكم، فتغلبوا العالم كله! لأنه ما هو سلطان المجرِّب الخارجي عليكم، سواء أكان الشيطان أم خادمه؟ إن وُضع أمامكم الأمل بالربح بقصد إغرائكم للخطيّة لا يجد فيكم الطمع، فلا يقدر أن يفعل بكم شيئًا... أمّا إن وُجد فيكم الطمع، فإنكم تحترقون عند إغرائكم بالمكسب وتُصطادون بطعم فاسد... وإن وضع أمامكم نساء فائقات الجمال، فإن وُجد فيكم العفّة داخلكم تَغلبون الظلمة الخارجية. حاربوا شهواتكم الداخليّة فلا يقتنصكم بطُعم امرأة غريبة.
    إنكم لا تدركون عدوّكم، لكنكم تُدركون شهواتكم... فلتسيطروا على ما تلمسونه داخلكم.

    القدّيس أغسطينوس

    v في هذه الكلمات يظهر عجز الخصم عن فعل أي شيء ضدّنا ما لم يسمح له الله بذلك، لهذا يتحوّل خوفنا وتقوانا وطاعتنا إلى الله، إذ في تجاربنا لا يصيبنا شيء لو لم يُعطَ سلطانًا من الله. هذا ما يؤكّده الكتاب الإلهي إذ يقول: "جاء نبوخذنصر ملك بابل على أورشليم وسباها والرب سلّمها ليده" (راجع 2 مل 24: 11).
    يعطي السلطان للشرّير بسبب خطايانا، كما قيل: "من دفع يعقوب إلى السلب وإسرائيل إلى الناهبين؟! أليس الرب الذي أخطأنا إليه، ولم يشاءوا أن يسلكوا في طرقه، ولم يسمعوا لشريعته، فسكب عليه حموّ غضبه؟!" (إش 42: 24). وعندما أخطأ سليمان وترك وصايا الرب وطريقه قيل: "وأقام الرب خصمًا لسليمان" (1 مل 11: 14).
    يعطي السلطان ضدّنا بأسلوبين: إمّا للعقوبة عندما نخطئ، أو للمجد عندما نتزكّى، كما نرى ذلك في أمر أيوب إذ يقول الرب: "هوذا كل ما له في يديك، وإنما إليه لا تمد يدك" (أي 1: 12). ويقول الرب في إنجيله أثناء آلامه: "لم يكن لك عليّ سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق" (يو 19: 11).
    ونحن إذ نسأل ألا ندخل في تجربة إنّما نتذكّر ضعفنا، الذي لأجله نسأل لئلا يتّصف أحد بمهانة وفي كبرياء وعجرفة يظن في نفسه أنه شيء، ناسبًا لنفسه مجد الاعتراف (وسط الضيقة) والقدرة على الاحتمال، مع أن الرب يعلّمنا التواضع، قائلاً: "اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة، أمّا الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف" (مر 14: 38).
    v عندما نقول: "نجّنا من الشرّير" لا يبقى بعد شيء نطلبه. إذ نطلب من الله حمايتنا من الشرّير فيعطينا، فنقف في أمان وسلام ضدّ كل ما يصنعه الشيطان أو العالم ضدّنا. فإنه أي شيء يُرهب - في هذه الحياة - من كان الله هو حارسه؟

    القدّيس كبريانوس

    ح. لأن لك المُلك والقوّة والمجد إلى الأبد، آمين

    هذه الذكصولوجيّة التي هي تسبحة ختاميّة للصلاة الربّانيّة، يترنّم بها المؤمن بالفرح معلنًا أن لله المُلك والقوّة والمجد أبديًا. هذه التسبحة ينبغي أن تلازمها تسبحة عمل، فيُعلن المؤمن ملكوت الله وقوّته ومجده خلال سلوكه الذي يتناغم مع الذكصولوجيّة. وكأنه يقول مع المرتّل: "الأنهار لتصفق بالأيادي" (مز 98: 8)، فإن القدّيسين كالأنهار لا يصفّقون بتسابيح صادرة عن الفم فحسب، وإنما تصدر أيضًا عن الأيادي، أي خلال حياتهم العمليّة. فمع قولنا "لك الملك" بألسنتنا نقدّم قلبنا لكي يملك عليه بالكامل، فلا يكون لغيره موضع فيه. ومع قولنا "لك القوّة" نتقبّل عمل الروح القدس الناري المعلن بقوّة خلال تقديسنا المستمر. ومع ترنُّمه "لك المجد" يدخل به الروح إلى الاتّحاد مع الله في ابنه، ليتلمّس أمجاد البنوّة، مدركًا ميراثه الأبدي المجيد!
    يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة أو الذكصولوجيّة الخالدة، قائلاً: [إن كان ضعفك متعدّد، لكن ثق أنه يملك عليك من له القوّة ليتمّم فيك كل شيء بسهولة... إنه ليس فقط يحرّرك من المخاطر التي تقترب إليك، وإنما يقدر أن يجعلك ممجّدًا وشهيرًا.]
    وقد اعتادت الكنيسة أن تختم هذه الصلاة الربّانيّة قبل الذكصولوجيّة التي بين أيدينا بالقول "بالمسيح يسوع ربّنا"، وكأنها تقول مع القدّيس جيروم: [تطلّع إلينا فترى ابنك ساكنًا فينا.] إننا نصلّي إليك خلال ابنك، موضع سرورك.
    يختم السيّد حديثه عن الصلاة بقوله: "فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضًا زلاّتكم" [14-15].
    بعد عرضه الصلاة الربّانيّة اختار السيّد هذه العبارة وحدها من الصلاة، مؤكدًا أن الصفح عن خطايا الآخرين الموجّهة ضدّنا هي مفتاح الاستجابة لطلبات الصلاة الربّانيّة، فإن الله الذي يفتح أحضانه للجميع ويشتهي أن يعطي مجانًا بلا حساب لا يسمع لقلب مغلق نحو الإخوة، ولا يغفر لمن لا يغفر.
    إنه يوجّهنا إلى التزامنا العملي حتى نقدر بالمسيح يسوع أن ننعم بالتشبيه بالله نفسه، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إننا نبقى كأولاد الله ليس فقط خلال النعمة وحدها، وإنما أيضًا بأعمالنا (مغفرة الخطايا للآخرين). ليس شيء يجعلنا شبه الله مثل استعدادنا للصفح عن الأشرار وصانعي الإثم، وذلك كما سبق فعلَّمنا عندما تحدّث عن نفسه أنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين (مت 5: 45).]
    يقول القدّيس أغسطينوس: [لنأخذ في اعتبارنا اهتمام السيّد المسيح بالطلبة الخاصة بمغفرة خطايا الآخرين فوق كل الطلبات الأخرى، فهو يريد منّا أن نكون رحماء، حتى نهرب من الشقاء بغفران خطايانا. فبهذه الطلبة وحدها ندخل في ميثاق مع الله.]
    يقول القدّيس كبريانوس: [لقد ربطنا هذا القانون بشرط معيّن وتعهّد أننا نسأل التنازل عن الدّين الذي علينا إن كنّا نتنازل عن المدينين لنا... لذلك يقول في موضع آخر: "بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم" (مت 7: 2). العبد الذي صفح سيّده عن كل الدّين الذي عليه إذ لم يرِد أن يغفر للعبد زميله أُعيد إلى السجن ثانية، ففقد الصفح الذي وهبه إيّاه سيّده... هكذا ليس لك عذر في يوم الدين عندما يُحكم عليك. بنفس الحكم الذي تحكم به على الغير، فما تفعله أنت يرتدّ إليك.]

    ترتيب الطلبات

    يرى القدّيس أغسطينوس وجود تمييز واضح بين الطلبات الخاصة بالحياة الأبديّة التي نترجّاها، والتي يبدأ تحقيقها من الآن وهي (ليتقدّس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض)، والطلبات التي تخص حياتنا الحاضرة، وهي (خبزنا اليومي، اغفر لنا ذنوبنا، لا تدخلنا في تجربة، نجّنا من الشرّير)، ففي الحياة الأبديّة لا نحتاج إلى خبز يومي، ولا نطلب غفرانًا، حيث لا نعود نخطئ، ولا يوجد مجرِّب يحاربنا، ولا نطلب نجاة من العدوّ الشرّير.
    حقًا إن الصلاة الربّانيّة تمس حياتنا الروحيّة، في طلباتنا الثلاث الأولى ترتفع قلوبنا إلى الحياة السماويّة فتشتهيها التمتّع بعربونها ههنا، أمّا الطلبات الأربع الأخيرة وهي تمسّ حياتنا الروحيّة لكنها طلبات تنتهي بخروجنا من هذا الجسد وانطلاقنا من هذه الحياة الزمنيّة.
    في الطلبات الثلاث الأولى تلتصق نفوسنا بالله أبينا. فنشتهي تقديس اسمه فينا، وحلول ملكوته داخلنا، وتكميل مشيئته فينا، الأمور التي تتلألأ مجدًا في الأبديّة، حيث تُعلن قداسة الله في كمال مجدها فينا، ويتجلّى ملكوته في عروسه المتّحدة به، وتتحقّق مشيئته في أبناء ملكوت بلا أدنى انحراف أو تهاون. حقًا إنه بقدر ما تتحقّق هذه الطلبات فينا ندخل بطريق أو آخر في الحياة الأخرويّة، وتتنهيّأ نفوسنا للمجد الأبدي، وننطلق إلى ما وراء الزمن ننعم بملكوته.
    أما الطلبات الأربع فهي بحق إعداد لنا لهذه الحياة الأخرويّة، فنطلب الغذاء الروحي الذي يسندنا من يوم إلى يوم حتى نلتقي بالسيّد المسيح نفسه، خبزنا الحقيقي وجهًا لوجه، إنه غذاء روحي ثمين لكنّه مؤقت، ونطلب المغفرة كل يوم، مادمنا في الجسد هنا نتعرّض للضعفات المستمرّة، فنغفر لإخوتنا، وننعم نحن بالمغفرة في استحقاقات الدم الكريم، ونسأل بغير انقطاع أن يحفظنا الرب من الدخول في التجربة، وأن ينقذنا من العدوّ الشرّير حيث نوجد هنا في حالة حرب مستمرّة مع عدوّ الخير، أمّا في الأبديّة فليس من يسيء إلينا لنغفر له، ولا من خطايا نرتكبها فنطلب مغفرة، ولا من تجارب تحيط بنا، أو عدوّ يُسمح له بمصارعتنا.

    4. الصوم

    لم يتعرّض السيّد المسيح لنظام الصوم عند اليهود، سواء الصوم الجماعي أو الخاص، فإن العيب ليس في النظام، وإنما في روح ممارستهم له. فقد اعتاد اليهود أن يصوموا يوميّ الاثنين والخميس كل أسبوع بخلاف الأصوام السنويّة العامة، والأصوام الخاصة عند حلول ضيقة. وكان يوما الاثنين والخميس هما يومي السوق بأورشليم، فيظهر البعض بثياب غير منسّقة وشعر غير مدهون ليظهروا صائمين أمام الناس وينالوا مجدًا. لهذا يقول السيد: "ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنهم يغيّرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم، وأما أنت فمتى صمت، فادهن رأسك، واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائمًا، بل لأبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانيّة" [16-18].

    غاية الصوم هو نقاوة القلب، أو معاينة الله كأب يتقبّل حبّنا، لهذا يبذل عدوّ الخير جهده أن يفسد هذا العمل خلال تسلّل حب الظهور والرغبة في مديح الناس إلينا، فينحرف بالقلب بعيدًا عن الله، ويصير الصوم عملاً شكليًّا بلا روح، إننا لا نصوم من أجل الصوم في ذاته، ولا لأجل الحرمان، إنّما لأجل ضبط النفس وانطلاق القلب إلى الحياة السماويّة.
    v لا نقرأ قط أن أحدًا سيُلام من أجل تناوله الطعام، إنّما يُدان من أجل ارتباطه به أو الاستعباد له.

    الأب ثيوناس

    v حب الظهور لا يكون فقط في التغالي والتفخيم في الأمور الجسديّة، بل ويكمن أيضًا في الأمور الوضيعة المحزنة (كالصوم)، وهذه تكون أكثر خطورة، لأنها تخدع الإنسان تحت اسم خدمة الله.
    v نحن نغسل وجوهنا يوميًا، لكننا لا نُلزَم بدهن الرأس عند الصوم، لذلك فلنفهم الوصيّة على أنها غسل لوجهنا ودهن لرأسنا الخاص بالإنسان الداخلي...
    فدهن الرأس يشير إلى الفرح، وغسل الوجه يشير إلى النقاوة. فعلى الإنسان أن يبتهج داخليًا في عقله بدهن رأسه الفائقة السموّ في الروح والتي تحكم وتدبّر كل أجزاء الجسم، وهذا يتحقّق للإنسان الذي لا يطلب فرحًا خارجيًا نابعًا عن مديح الناس...
    يكون الفرح داخليًّا أثناء الصوم بابتعاده عن مسرّات العالم وبخضوعه للمسيح.
    وهكذا أيضًا فليغسل وجهه، أي ينقي قلبه الذي يعاين الله، فلا يعود يوجد حجاب حاجز بسبب الضعف الناتج عن الضيق (الحزن)، بل يكون ثابتًا وقويًّا وقويُّا لنقاوته التي لا غش فيها.
    يقول الرب: "اغتسلوا تنقّوا، اعزلوا شرّ أفعالكم من أمام عينيّ" (إش 1: 16)، فتُغسل وجوهنا: "ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة، فتغيّر إلى تلك الصورة عينها" (2 كو 3: 18).

    القديس أغسطينوس

    v لا فائدة لنا من الصوم إلى اجتزناه سدى بدون تأمّل!

    القديس يوحنا الذهبي الفم

    v إشعياء النبي وهو يقيمهم من هذه الهُوّة (التعلّق بالجسديّات) كان يرفعهم ويجذب عقولهم إلى فوق بإعلان عظمة الصوم، فيدفعهم إلى التهليل الروحاني، ويطرد من أرواحهم الحزن والكآبة، وهو يصيح فيهم قائلاً:: "أمِثْل هذا يكون صوم اَختاره، يومًا يذلّل الإنسان فيه نفسه، يحني كالأسلة رأسه ويفرش تحته مسحًا ورمادًا؟!..." (إش 58: 5-9).
    لذلك بينما كان ربّنا يُعلن بهاء الصوم وسروره، كان يأمر أيضًا بصوت واضح قائلاً: "وأمّا أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك" [ع 17]. فكان يشير إلى بريق الروح وطهارتها عن طريق الأعضاء الرئيسيّة في الجسم... ربّنا نفسه يأمر أن نغتسل ونتطهّر بامتناعنا عن الشرّ، ومن جهة أخرى أن نتزيّن ونضيء بممارستنا الخير الذي تنيره النعمة الروحيّة!

    القدّيس ساويرس الأنطاكي

    5. العبادة السماويّة

    بعد أن قدّم لنا السيّد المسيح الجوانب الثلاثة للعبادة المسيحيّة أراد توضيح غايتها، ألا وهي رفع القلب النقي إلى السماء، ليرى الله ويحيا في أحضانه، محذّرًا إيّانا ليس فقط من تحطيمها خلال "الأنا" وحب الظهور، وإنما أيضًا خلال "محبّة المال" التي تفقد القلب المتعبّد حيويّته وحريّته، إذ يقول السيد: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بلا اكنزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون" [19-20].
    من يتعبّد لله بقصد المجد الزمني الباطل يكون كمن جمع كنوزه على الأرض، سواء في شكل ثياب فاخرة يفسدها السوس، أو معادن تتعرّض للصدأ، أو أمور أخرى تكون مطمعًا للصوص. هكذا يرفع قلوبنا إلى السماء لننطلق بعبادتنا إلى حضن الآب السماوي، يتقبّلها في ابنه كسرّ فرح له وتقدِمة سرور، لا يقدر أن يقترب إليها سوس أو لصوص ولا أن يلحقها صدأ!
    يقول القدّيس أغسطينوس: [إن كان القلب على الأرض، أي إن كان الإنسان في سلوكه يرغب في نفع أرضي، فكيف يمكنه أن يتنقّى، مادام يتمرّغ في الأرض؟ أمّا إذا كان القلب في السماء فسيكون نقيًا، لأن كل ما في السماء فهو نقي. فالأشياء تتلوّث بامتزاجها بالفضّة النقيّة، وفكرنا يتلوّث باشتهائه الأمور الأرضيّة رغم نقاوة الأرض وجمال تنسيقها في ذاته.]
    يُعلّق أيضًا القدّيس أغسطينوس على حديث السيّد: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض"، قائلاً:
    v لو أخبركم مهندس معماري أن منزلكم يسقط حالاً، أفلا تتحرّكون سريعًا قبل أن تنشغلوا بالنحيب عليه؟! هوذا مؤسّس العالم يخبركم باقتراب دمار العالم، أفلا تصدّقوه؟!... اسمعوا إلى صوت نبوّته: "السماء والأرض تزولان" (مت 24: 35)... استمعوا إلى مشورته!...
    الله الذي أعطاكم المشورة لن يخدعكم، فإنكم لن تخسروا ما تتركونه، بل تجدوا ما قدّمتموه أمامكم... اعطوا الفقراء فيكون لكم كنز في السماء! لا تبقوا بلا كنز، بل امتلكوا في السماء بلا هّم ما تقتنونه على الأرض بقلق. أرسلوا أمتعتكم إلى السماء. إن مشورتي هي لحفظ كنوزكم وليس لفقدانها...
    ينبغي علينا أن نضع في السماء ما نخسره الآن على الأرض. فالعدو يستطيع أن ينقب منازلنا، لكنّه هل يقدر أن يكسر باب السماء؟إنه يقتل الحارس هنا، لكن هل يستطيع أن يقتل الله حافظها؟...
    الفقراء ليسوا إلا حمّالين ينقلون أمتعتنا من الأرض إلى السماء. إذن فلتعطوهم ما لديكم فإنهم يحملونها إلى السماء... هل نسيتم القول: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت... لأني جعت فأطعمتموني... وكل ما فعلتم بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" (مت 25: 34-40).

    القدّيس أغسطينوس

    بهذه الوصيّة يرفع الرب عبادتنا للسماء، محذّرًا إيّانا من "المجد الباطل" ومقيمًا حراسًا عليها، ألا وهي أعمال الرحمة المملوءة حبًا. فالصدقة الحقيقية بمعناها الواسع والتي تضم العطاء المادي والمعنوي، ترفع القلب بعيدًا عن الزمنيّات المعنويّة والماديّة، وتحوّل أرصدته في السماء.
    ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد المسيح يحدّثنا عن الحب والرحمة في دستوره الإلهي بطريقة تدريجيّة هكذا:

    أولاً: قدّم لنا الرحمة كمبدأ عام نلتزم به.
    ثانيًا:
    طالبنا بمصالحتنا لخصمنا، فلا حاجة للدخول مع أحد في منازعات، وإنما الرحمة تغلب (5: 23ـ 26).

    ثالثًا: ارتفع بنا إلى ما فوق القانون، فبالحب ليس فقط نترك ثوبنا لمن ليس له الحق فيه، وإنما نقدّم معه رداءنا حتى نربح الخصم بحبّنا.

    رابعًا: سألنا ألا نكنز على الأرض، فلا نقدّم أعمال الرحمة للخصم والمضايقين لنا فحسب، حتى لا ندخل معهم في نزاعات بل نكسبهم بالمحبّة، فتكون طبيعتنا هي العطاء بسخاء، كطبيعة داخليّة تنبع عن حنين مستمر لنقل ممتلكاتنا إلى السماء.
    إذ يقدّم لنا السيّد هذا التوجيه يُعلن جانبه الإيجابي ألا وهو أنه بالعطاء نحوّل كنزنا إلى فوق في السماء، كما يوضّح جانبه السلبي مهدّدًا أن ما نتركه هنا يفسد بطريق أو آخر فنفقده إلى الأبد. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [أنه يجتذبهم، إذ لم يقل فقط إن قدّمت الصدقة تُحفظ لك بل هدّد بأنك إن لم تعطِ غناك الخ. إنّما تجمعه للسوس والصدأ واللصوص. وإن هربت من هذه الشرور لن تهرب من عبوديّة قلبك له فيتسمّر بالكامل أسفل، لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا. إذن فلنُقِم المخازن في السماء.]

    6. البصيرة الداخليّة

    تحدّث عن القلب الذي يلتصق بالكنز ويجري وراءه، مطالبًا إيّانا أن يكون مسيحنا هو كنزنا عِوض الكنز يحطّمه السوس والصدأ واللصوص، فيكون قلبنا على الدوام مرفوعًا إلى فوق حيث المسيح جالس، لهذا يحدّثنا عن "العين البسيطة" التي تجعل الجسد كلّه نيّرًا. ما هي هذه العين الداخليّة إلا القلب الذي وحده يقدر أن يرى أسرار الكنز السماوي، فيجذب نحو السماويات، ولا يتذبّذب بين النور الأبدي ومحبّة الفانيات.
    "سراج الجسد هو العين،
    فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كلّه يكون نيّرًا،
    وإن كانت عينك شرّيرة فجسدك كلّه يكون مظلمًا،
    فإن كان النور الذي فيك ظلامًا، فالظلام كم يكون؟!
    " [22-23]
    العين هي مرشد الجسد كلّه لينطلق إلى هنا أو هناك، فإن ارتفعت نحو السماء انطلق الإنسان كلّه بعبادته وسلوكه كما بأحاسيسه ومشاعره نحو السماويات، أمّا إن اِنحنت نحو الأرض لتصير أسيرة حب المجد الباطل أو رياء الفرّيسيّين أو حب الغنى الزمني، لا يمكن للإنسان مهما قدّم من عبادات أن يرتفع إلى فوق. يشبّه القدّيس يوحنا الذهبي الفم العين بالقائد الذي إن سقط أسيرًا ماذا ينتفع الجند بالذهب؟ وربّان السفينة الذي إن بدأ يغرق ماذا تنتفع السفينة بالخيرات الكثيرة التي تملأها؟! حقًا كثيرون قد جمعوا ذهب الصداقة والصلاة والصوم وظنّوا أن سفينتهم مشحونة بالأعمال الصالحة، ولكن بسبب فساد قلبهم وظلمة بصيرتهم الداخليّة يبقون بعيدًا عن الميناء الآمن وتغرق بكل ما تحمله! لهذا يفسر القدّيس أغسطينوس العين البسيطة بنيّة القلب الداخلي التي تقود كل تصرفاتنا، إذ يقول: [نفهم من هذه العبارة أن جميع أفعالنا تكون نقيّة ومرضية في نظر الله إن صنعناها بقلب بسيط، أي إن جميع أفعالنا تكون نقيّة ومرضيّة في نظر الله إن صنعناها بقلب بسيط، أي إن كان هدفنا فيها سماويًا، متطلّعين إلى تلك الغاية التي هي المحبّة، لأن "المحبّة هي تكميل الناموس"(رو 13: 10). من ثم فلنفهم "العين" هنا على أنها "النيّة التي نصنع بها أفعالنا"، فإن كانت نيّتنا نقيّة وسليمة، أي ناظرين إلى السماويات، فستكون جميع أعمالنا صالحة، هذه التي لقّبها الرب "جسدك كلّه"، لأنه عندما حدّثنا الرسول عن بعض أعمالنا القبيحة، دعاها أيضًا (أعضاء لنا)، إذ علّمنا أن نصلبها قائلاً: "فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض، الزنا النجاسة... الطمع" (كو 3: 5)، وما على شاكلة ذلك.]
    ويرى الأب موسى أن العين البسيطة تُشير إلى روح التمييز أو الحكمة، [لأنها هي التي تميّز كل الأفكار والأعمال، وترى كل شيء وتراقب ما سيحدّث. فإن كانت عين الإنسان شرّيرة، أي غير محصّنة بصوت الحكمة والمعرفة، مخدوعة ببعض الأخطاء والعجرفة (في العبادة) فإنها تجعل جسدنا كلّه مظلمًا، أي يظلم كل نظرنا العقلي، وتصير أعمالنا في ظلام الرذيلة ودجى الإضرابات، إذ يقول: "فإن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون؟" [23].فلا يستطيع أحد أن يشك في أنه متى كان "الحكم في الأمور" في القلب خاطئًا، أي متى كان القلب مملوء جهالة، تكون أفكارنا وأعمالنا - التي هي ثمرة التمييز والتأمّل - في ظلام الخطيّة العُظمى.]
    إن كان "البسيط" هو عكس "المُركّب أو المُعقّد"، فإن العين البسيطة إنّما هي التي لا تنظر في اتّجاهيّن، ولا يكون لها أهداف متضاربة بل لها اتّجاه واحد وهدف واحد... وكما يقول مار فيلوكسينوس: [لقد أعطانا ربّنا مبدأ سهلاً في بشارته ألا وهو الإيمان الحق البسيط، فالبساطة ليست هي المعروفة في العالم بالبلادة والخرافة بل هي فكر واحد بسيط فريد.]

    7. العبادة ومحبّة المال

    إن كان غاية العبادة هي الالتقاء مع الله أبينا السماوي لنحيا معه في ابنه إلى الأبد، فإنه يسألنا أن نحيا بالعين البسيطة التي لا تعرج بين السماء والأرض، فيرتفع الجسد كلّه مع القلب إلى السماء. أمّا العدوّ الأول للبساطة فهو "حب المال" الذي تنحني له قلوب الكثيرين متعبّدة له عِوض الله نفسه، ويجري الكثيرون نحوه كعروسٍ تلتصق بعريسها عِوض العريس السماوي. إنه يقف منافسًا لله نفسه يملك على القلب ويأسره، وهنا يجب التأكيد أننا لا نتحدّث عن المال في ذاته وإنما "حب المال".
    "لا يقدر أحد أن يخدم سيّدين،
    لأنه إمّا أن يبغض الواحد ويحب الآخر،
    أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر،
    لا تقدرون أن تخدموا الله والمال
    " [24].
    كلمة المال هنا "Mammon" كلمة عبريّة تُشير إلى المقتنيات الماديّة بشكل عام، وكانت في الأصل تُشير إلى ما يعتزّ به الإنسان من مال ومقتنيات، لكنها تطوّرت لتعني المال كإله يُستعبد له الإنسان.
    v يُسمى حب المال سيدًا ليس بطبيعته الخاصة به، وإنما بسبب بؤس المنحنين له. هكذا أيضًا تُدعى البطن إلهًا (في 3: 19) ليس عن كرامة هذه السيدة، وإنما بسبب بؤس المستعبدين لها.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v من يخدم المال يخضع للشيطان القاسي المهلك، فإذ يرتبك بشهوته للمال يخضع للشيطان ويلازمه رغم عدم محبّته له، لأنه من منّا يحب الشيطان؟ ويكون بذلك يشبه إنسانًا أحب خادمة لدى شخص عظيم، فرغم عدم محبته لسيدها إلا أنه يخضع لعبوديته القاسية بسبب محبته للخادمة .

    القدّيس أغسطينوس

    المال ليس في ذاته إلهًا، ولا هو شرّ نتجنّبه، إنّما يصير هكذا حينما يسحب القلب إلى الاهتمام به والاتكال عليه، فيفقده سلامه ويدخل به إلى ظلمة القلق؛ يفقده النظرة العميقة للحياة ليرتبك بشكليّاتها. عِوض الاهتمام بالحياة ذاتها ينشغل بالأكل والشرب، وعِوض الاهتمام بالجسد كعطيّة مقدّسة وأعضاء تعمل لخدمة القدّوس يهتم بالملبس. هكذا بالمحبّة المال تحصر الإنسان خارج حياته الحقيقية: نفسه وجسده، ليرتبك بأمور تافهة باطلة وزائلة. يقول السيد: "لذلك أقول لكم لا تهتمّوا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام؟! والجسد أفضل من اللباس؟!" [25]. ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم هكذا: [لا يقف الضرر عند الغنى ذاته، وإنما يبلغ الجرح إلى الأجزاء الحيويّة الذي فيه تفقدون خلاصكم، إذ يطردكم خارج الله الذي خلقكم ويهتم بكم ويحبّكم.] ويقول القدّيس أغسطينوس: [فبالرغم من أننا لا نطلب الكماليّات (بل الأكل والشرب والملبس)، لكن نخشى من أن يصير قلبنا مزدوجًا حتى في طلب الضروريّات. فنحن نخشى أن ينحرف هدفنا إلى طلب ما هو لصالحنا الخاص، حتى عندما نصنع رحمة بالآخرين مبرّرين ذلك بأنّنا نطلب الضروريّات لا الكماليّات. لقد نصحنا الرب أن نتذكّر أنه عندما خلقنا وهبنا جسدًا وروحًا، وهما أفضل من الطعام واللباس، وبذلك لم يشأ أن تكون قلوبنا مزدوجة.]
    v وُضع علينا أن نعمل (من أجل الضروريّات) لكن لا نقلق.

    القدّيس جيروم

    v لا يُطلب الخبز خلال قلق الروح بل تعب الجسد. والذين يجاهدون حسنًا ينالونه بوفرة كمكافأة لعملهم، ويُنزع عن الكسلان كعقوبة من الله.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم
    في الوقت الذي فيه يُعلن السيّد ما تفعله محبّة المال في الإنسان، حيث تسحبه من خلاصه وتربكه في الأمور الزمنيّة الباطلة، يوضّح مدى رعايته هو بالإنسان ليس فقط بروحه وجسده، أو حتى أكله وشربه وملبسه، وإنما يهتم حتى بطيور السماء وزنابق الحقل التي خلقها لأجل الإنسان، حقًا ربّما تبدو الطيور ليست بضروريّة لنا وأيضًا زنابق الحقل، لكن الله الذي خلق العالم كلّه لخدمتنا يهتم بأموره كلها. وإذ أراد السيّد أن يسحبنا تمامًا من حياة القلق التي تخلقها محبّة المال، تساءل إن كان أحد منّا يقدر أن يزيد على قامته ذارعًا واحدًا؟
    "انظروا إلى طيور السماء.
    أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن،
    وأبوكم السماوي يقوتها.
    ألستم أنتم بالأحرى أفضل منها؟!
    ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدًا؟
    ولماذا تهتمّون باللباس؟
    تأمّلوا زنابق الحقل كيف تنمو، لا تتعب ولا تحصد،
    ولكن أقول لكم أنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها.
    فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويُطرح غدًا في التنّور يلبسه الله هكذا،
    أفليس بالأحرى يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟
    فلا تهتمّوا قائلين: ماذا نأكل؟ أو ماذا نشرب؟ أو ماذا نلبس؟
    فإن هذه كلها تطلبها الأمم،
    لأن أباكم
    السماوي يُعلّم أنكم تحتاجون إلى هذه كله" [26-33].
    v إن كان الله يهتم بهذه الأمور التي خُلقت اهتمامًا عظيمًا، فكم بالأكثر يهتم بنا؟! إن كان يهتم هكذا بالعبيد فكم بالأكثر بالسيد؟!

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v إن كنّا لا نقدر أن نعمل بسبب مرض ما أو بسبب الانشغال فإنه يقوتنا كما يقوت الطيور التي لا تعمل. لكن إن كان يمكننا العمل يلزمنا ألا نُجرِّب الله، لأن ما نستطيع أن نعمله إنّما نعمله خلال عطيّته. حياتنا على الأرض هي عطيّته، إذ يهبنا الإمكانيّة للحياة!

    القدّيس أغسطينوس

    إن كان الله يُطعم الطيور ويقدّم القوت اليومي للعصافير ولا يترك الخليقة التي لا تدرك الإلهيّات في عوز إلى مشرب أو مأكل، فهل يمكنه أن يترك إنسانًا مسيحيًا أو خادمًا للرب معتازًا إلى شيء؟ إيليّا عالته الغربان في البرّيّة، ودانيال أُعد له لحم من السماء وهو في الجب، فهل تخشى الاحتياج إلى طعام؟
    v إنك تخشى َفقدان ممتلكاتك عندما تبدأ أن تعطي بسخاء، ولا تعلم أيها البائس أنك فيما تخاف على ممتلكات عائلتك تفقد الحياة نفسها والخلاص. بينما تقلق لئلا تنقص ثروتك لا تُدرك أنك أنت نفسك تنقص!... بينما تخشى أن تفقد ميراثك لأجل نفسك إذا بك تفقد نفسك لأجل ميراثك!

    القدّيس كبريانوس

    v إن كانت الطيور بلا تفكير أو اهتمام والتي توجد اليوم ولا تكون غدًا يعولها الله بعنايته كم بالأحرى يهتم بالبشر الذين وعدهم بالأبديّة؟!

    القدّيس جيروم

    v الله هو الذي ينمّي أجسادكم كل يوم وأنتم لا تُدركون. فإن كانت عناية الله تعمل فيكم يوميًا، فكيف تتوقّف عن إشباع احتياجكم؟ إن كنتم لا تستطيعون بالتفكير أن تضيفوا جزءًا صغيرًا إلى جسدكم فهل تقدرون بالتفكير أن تهتمّوا بالجسد كله؟

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v الزنابق تمثّل جمال الملائكة السمائيّين البهي، الذين ألبسهم الله بهاء مجده، إنهم لم يتعبوا ولا غزلوا، إذ تقبّلوا من البدء ما هم عليه دائمًا. وإذ في القيامة يصير الناس كالملائكة أراد أن نترجّى جمال الثوب السماوي، فنكون كالملائكة في البهاء.

    القدّيس هيلاري

    v الرهبان على وجه الخصوص هم طيور من هذا النوع، ليس لهم مخازن ولا خزائن لكن لهم رب المؤن والمخازن، المسيح نفسه!... ليس لهم غنى الشيطان (محبّة الغنى) بل فقر المسيح. ماذا يقول الشيطان؟ "أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي" (مت 4: 9). أمّا المسيح فماذا يقول لتابعيه؟ من لا يبيع كل ما له ويعطي الفقراء لا يقدر أن يكون تلميذًا. الشيطان يعد بمملكة وغنى ليحطّم الحياة، والرب يعد بالفقر لكي يحفظ الحياة!

    القدّيس جيروم
    يختم السيّد حديثه عن العبادة الحرّة التي لا يأسرها محبّة المال، فيعيش الإنسان في كمال الحرّية متّكئًا على الله لا المال، موضّحًا ضرورة الحياة بلا قلق، إذ يقول: "لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه، وهذه كلها تُزاد لكم؛ فلا تهتمّوا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه؛ يكفي اليوم شرّه" [33-34].
    v ملكوت الله وبرّه هو الخبز الذي نسعى إليه، والذي نقصده من كل أعمالنا. ولكننا إذ نخدم في هذه الحياة كجنود راغبين في ملكوت السماوات نحتاج إلى الضروريّات اللازمة للحياة، لذلك قال الرب: "هذه كلها تزاد لكم"، "ولكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره".
    فبقوله كلمة "أولاً" أشار إلى طلبنا هذه الأشياء، ولكننا لا نطلبها أولاً، لا من جهة الزمن بل حسب الأهمّية، فملكوت الله نطلبه كخير نسعى نحوه، أمّا الضروريّات فنطلبها كضرورة نحتاج إليها لتحقيق الخير الذي نسعى نحوه.

    القدّيس أغسطينوس

    يرى القدّيس جيروم في القول: "لا تهتمّوا بالغد" دون قوله "تهتمّوا باليوم" تشجيع للعمل والجهاد الآن بغير تواكل، إذ يقول: [قد يسمح لنا أن نهتم بالحاضر ذاك الذي يمنعنا من التفكير في المستقبل، حيث يقول الرسول: "عاملون ليلاً ونهارًا كي لا نثقل على أحدٍ منكم" (1 تس 2: 9).]
    وفي قوله "يكفي اليوم شرّه" لا يعني بالشرّ الخطيّة، وإنما بمعنى "التعب"، فلا نهتم بما سنتعبه غدًا، إنّما يكفي أن نتعب اليوم ونجاهد، وكأن الله وهو يمنعنا من القلق يحثّنا على الجهاد.

    1 احترزوا من ان تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم و الا فليس لكم اجر عند ابيكم الذي في السماوات
    2 فمتى صنعت صدقة فلا تصوت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون في المجامع و في الازقة لكي يمجدوا من الناس الحق اقول لكم انهم قد استوفوا اجرهم
    3 و اما انت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك
    4 لكي تكون صدقتك في الخفاء فابوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية
    5 و متى صليت فلا تكن كالمرائين فانهم يحبون ان يصلوا قائمين في المجامع و في زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس الحق اقول لكم انهم قد استوفوا اجرهم
    6 و اما انت فمتى صليت فادخل الى مخدعك و اغلق بابك و صل الى ابيك الذي في الخفاء فابوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية
    7 و حينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلا كالامم فانهم يظنون انه بكثرة كلامهم يستجاب لهم
    8 فلا تتشبهوا بهم لان اباكم يعلم ما تحتاجون اليه قبل ان تسالوه
    9 فصلوا انتم هكذا ابانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك
    10 ليات ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الارض
    11 خبزنا كفافنا اعطنا اليوم
    12 و اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن ايضا للمذنبين الينا
    13 و لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير لان لك الملك و القوة و المجد الى الابد امين
    14 فانه ان غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم ايضا ابوكم السماوي
    15 و ان لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم ابوكم ايضا زلاتكم
    16 و متى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين فانهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين الحق اقول لكم انهم قد استوفوا اجرهم
    17 و اما انت فمتى صمت فادهن راسك و اغسل وجهك
    18 لكي لا تظهر للناس صائما بل لابيك الذي في الخفاء فابوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية
    19 لا تكنزوا لكم كنوزا على الارض حيث يفسد السوس و الصدا و حيث ينقب السارقون و يسرقون
    20 بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا يفسد سوس و لا صدا و حيث لا ينقب سارقون و لا يسرقون
    21 لانه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك ايضا
    22 سراج الجسد هو العين فان كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرا
    23 و ان كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلما فان كان النور الذي فيك ظلاما فالظلام كم يكون
    24 لا يقدر احد ان يخدم سيدين لانه اما ان يبغض الواحد و يحب الاخر او يلازم الواحد و يحتقر الاخر لا تقدرون ان تخدموا الله و المال
    25 لذلك اقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تاكلون و بما تشربون و لا لاجسادكم بما تلبسون اليست الحياة افضل من الطعام و الجسد افضل من اللباس
    26 انظروا الى طيور السماء انها لا تزرع و لا تحصد و لا تجمع الى مخازن و ابوكم السماوي يقوتها الستم انتم بالحري افضل منها
    27 و من منكم اذا اهتم يقدر ان يزيد على قامته ذراعا واحدة
    28 و لماذا تهتمون باللباس تاملوا زنابق الحقل كيف تنمو لا تتعب و لا تغزل
    29 و لكن اقول لكم انه و لا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها
    30 فان كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم و يطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا افليس بالحري جدا يلبسكم انتم يا قليلي الايمان
    31 فلا تهتموا قائلين ماذا ناكل او ماذا نشرب او ماذا نلبس
    32 فان هذه كلها تطلبها الامم لان اباكم السماوي يعلم انكم تحتاجون الى هذه كلها
    33 لكن اطلبوا اولا ملكوت الله و بره و هذه كلها تزاد لكم
    34 فلا تهتموا للغد لان الغد يهتم بما لنفسه يكفي اليوم شر
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 1:33 pm

    الاصحاح السابع

    دستور الملك 3

    المبادئ الملوكيّة

    عالج السيّد المسيح بعض المبادئ الأساسية الخاصة بملكوت السماوات لتكشف عن الفكر السماوي والحياة السماويّة.

    1. عدم الإدانة 1-5.

    2. الحفاظ على المقدّسات 6.

    3. السؤال المستمر 7-12.

    4. الباب الضيّق 13-14.

    5. الأنبياء الكذبة 15-23.

    6. خاتمة الدستور 24-27.

    7. اندهاش الجماهير 28-29.

    1. عدم الإدانة

    مادام الرب يحدّثنا عن نقاوة القلب الداخلي حتى نستطيع بالعين البسيطة أن نُعاين ملكوت السماوات، ونحيا لله لا لمحبّة المال، ونعيش بلا همّ، وفي نفس الوقت بلا تواكل حتى في الأمور الزمنيّة، فإن هذه الأمور في جملتها تمثّل حياة خفيّة لا يمكن إدراكها بالمظاهر الخارجيّة وحدها. إن كان الإنسان يحتاج إلى عمل روح الله القدّوس لكي يكشف له ذاته مع إرشاد أب اعترافه، فكيف يمكننا أن نحكم على الغير إن كانت قلوبهم نقيّة من عدمه. فالمظاهر الخارجيّة، حتى العبادة، قد تخفي من ورائها ما لا يمكن إدراكه. إن كنّا نطلب لأنفسنا الحياة النقيّة الداخليّة يليق بنا ألا نحكم على الآخرين وعلى قلوبهم التي لا يراها سوى الله نفسه. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن الحكم على الآخرين أو إدانتهم يسحب قلوبنا من التركيز على ما هو لخلاصنا وبنياننا إلى إدانة الناس والحكم عليهم، فنكون كمن يترك ميّته في بيته لينوح على ميّت أخيه. والإدانة أيضًا تفقدنا طبيعة الحب نحو إخوتنا فنخسر نعمة محبّة الله لنا الساترة علينا، ففيما نحن نحكم على الغير يُحكم علينا. وكما يقول السيّد المسيح: "لا تدينوا لكي لا تدانوا، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تُدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم، ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟" [1-3].

    v إن كان يُحسب شرًا ألا يرى الإنسان خطاياه، فإن شرّه يكون مضاعفًا إذ يجلس على كرسي إدانة الآخرين بينما يحمل خشبة في عينيه.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v أظن أننا نتعلّم من هذه الوصيّة ضرورة افتراض أحسن قصد ممكن لأعمال الآخرين التي يمكن لنا أن نشك في نيّتها.

    القدّيس أغسطينوس

    v لو سقط أخوك في خطيّة الغضب تسقط أنت في خطيّة الكراهيّة (بإدانتك له). وهناك فرق شاسع بين الغضب والكراهيّة كما هو بين القذى والخشبة، لأن الكراهيّة هي غضب مزمن. فبطول الزمن اشتدّ القذى فصار بحق خشبة. فإنك إن غضبت على إنسان ترغب في رجوعه إلى الحق، أمّا إذا كرهته فلا يمكن لك ذلك.

    القدّيس أغسطينوس

    v أصل الإدانة عدم المحبّة، لأن المحبّة تستر كل عيب؛ أمّا القدّيسون فلا يدينون أحدًا، لكنهم يتألّمون معه كعضو منهم، ويشفقون عليه ويعضّدونه ويتحايلون في سبيل خلاصه، حتى ينتشلونه كالصيّادين الذين يرخون الحبل للسمكة قليلاً قليلاً حتى لا تخرق الشبكة وتضيع... فإذا توقّفت ثورة حركتها حينئذ يحرّكونها قليلاً قليلاً.

    الأب دوروثيؤس

    v الذي يدين فقد هدَم سوره بنقص معرفته.

    الأنبا موسى الأسود

    v كما أن النار والماء متنافران... هكذا إدانة الآخرين لا تتّفق مع من يريد التوبة... إن رأيت إنسانًا يخطئ في اللحظات الأخيرة قبيل موته فلا تدنه، لأن قضاء الله مخفي عن البشر، فقد سقط البعض في خطايا جسيمة جهرًا لكنهم أدوا أعمالاً مجيّدة سرًا...

    v الحكم على الآخرين يعتبر سلبًا للحق الإلهي بوقاحة، أمّا الانتهار (بغير حب) فيهدم نفس الإنسان.

    القدّيس يوحنا الدرجي

    v يوم تدين أخاك، تنقطع عنك نعمة الروح القدس، فتتعثّر بأخيك وتكون سبب عثرة.

    الأنبا برصنوفيوس

    عدم الإدانة لا يعني السلوك بلا تمييز، فكما يقول النبي: "ويل للقائلين للشرّ خيرًا وللخير شرًا، الجاعلين الظلام نورًا والنور ظلامًا، الجاعلين المرّ حلوًا والحلو مرًا" (إش 5: 20). فالمؤمن الحقيقي إذ هو مسكن للروح القدس يحمل روح التمييز، فيرى سقطة أخيه ولا يقدر أن ينكرها أو يتجاهلها، لكنّه وهو يدرك في السقطة مرارتها إنّما يشعر بها تصدر عن الضعف البشري الذي يتعرّض هو له. أخوه يسقط الآن، أمّا فهو فمعرّض للسقوط إن لم يكن الآن فغدًا، لذا عِوض أن يدين يترفّق ويصلّي في أنّات صادقة. هذا الأمر يبرز بصورة واضحة في حياة الآباء الروحيّين والجسديّين، فالأب لا يقدر أن يتجاهل أخطاء أولاده وسقطاتهم، ولا يصمت تحت دعوى عدم الإدانة، وإنما في أبوة صادقة يفتح لهم قلبه ليسندهم على القيام من سقطاتهم. لهذا يحذّرنا القدّيس يوحنا الذهبي الفم من إساءة فهم "عدم الإدانة" فيصير ذلك علّة لتجاهل أخطاء الغير، والسلوك بلا تدبير أو حزم مع الساقطين، وإذ يقول: [لننصت بحذر لئلا تحسب أدوية الخلاص وقوانين السلام كقوانين للاضطراب والهلاك.] مرّة أخرى يوجّه القدّيس يوحنا الذهبي الفم حديثه للأب، قائلاً: [اصلحه، ولكن ليس كعدوّ أو خصم يحدّد العقوبة وإنما كطبيب يعد الأدوية، إذ لم يقل المسيح: "لا تحتملوا المخطئين" بل قال: "لا تدينوا" بمعنى "لا تكونوا مملوءين مرارة في إعلان الحكم.] كما يقول: [ما هذا، ألا يجوز لنا أن نلوم الخطاة؟! نعم إن بولس يطلب عدم لوم الخطاة؛ بالأحرى نقول أن المسيح يقول بهذا خلال بولس: "وأما أنت فلماذا تدين أخاك؟ أو أنت أيضًا لماذا تزدري بأخيك؟ ومن أنت الذين تدين عبد غيرك؟" (رو 14: 4، 10). كما يقول: "إذًا لا تحكموا في شيء قبل الوقت حتى يأتي الرب" (1 كو 4: 5). وفي نفس الوقت يقول في موضع آخر: "وبّخ انتهر عظ" (2 تي 4: 2)، "الذين يخطئون وبّخهم أمام الجميع" (1تي 5: 20)... بهذا يظهر أن المسيح لم يأمر الجميع بعدم الإدانة بطريقة مطلقة، إنّما يمنع من تفشت فيهم خطيّة انتقاد الغير في أقل الأخطاء التي تصدر عنهم.]

    الحب الذي يبعث في المؤمن روح عدم الإدانة ناظرًا إلى ضعفات أخيه أنها ضعفاته، هو بعينه الذي يهب الحكمة في التصرّف مع المخطئين، لندين الخطيّة لا الخاطي، منتشلين إخوتنا من مرارة الضعف، لا كمن هم أقل منّا أو نحن أبرّ منهم، وإنما كمن يسند أخاه مدركًا أنه شريك معه في ذات الضعف.

    2. الحفاظ على المقدّسات

    "لا تعطوا القدس للكلاب،

    ولا تطرحوا دُرَركم قدام الخنازير،

    لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزّقكم" [6].

    لما كان جوهر عبادتنا وغايتها هو "نقاوة القلب"، حيث ننعم بالعين البسيطة القادرة على معاينة الله وإدراك أسراره ومعاملاته معنا، خشيَ السيّد المسيح لئلا تُفهم البساطة بمعنى "الجهالة" أو "عدم الحكمة"، لهذا يمزج السيّد البساطة بالحكمة. هذا ما أكّده في حديثه مع تلاميذه: "كونوا حكماء كالحيّات، وبسطاء كالحمام" (مت 10: 16). فإن كان الله يطالبنا بالبساطة فلا ندين أحدًا، ففي نفس الوقت يسألنا السلوك بحكمة بقوله: "لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا دُرَركم قدام الخنازير". كأنه يقول لنا: اعرفوا ماذا تقدّمون؟ ولمن تقدّمون؟ يعرف الإنسان قيمة المقدّسات والدرر الثمينة فلا يهبها في سذاجة لكل إنسان، وإنما يعرف لمن يقدّمها وكيف يقدّمها.

    السيّد المسيح نفسه الذي لم يبخل علينا بشيء، مقدّمًا حياته فدية لأجل خلاصنا، أحيانًا يخفي بعض أسراره مقدّمًا لنا ما يناسبنا فقط، إذ يقول: "إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن" (يو 16: 12). إنه يشتاق أن يقدّم كل أسراره لكنّه لا يقدّم ما لا نستطيع احتماله، حتى لا يصيبنا ضرر. على هذا المنهج سلك الرسل أيضًا، فيقول معلّمنا بولس: "وأنا أيها الاخوة لم أستطع أن أكلّمكمكروحيّين بل كجسديّين كأطفال في المسيح، سَقيْتكم لبنًا لا طعامًا، لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون بل الآن أيضًا لا تستطيعون" (1 كو 3: 1-2). وبنفس الروح عاشت الكنيسة الأولى تقدّم للموعوظين ما يناسبهم ولا تكشف لهم عن الأسرار المقدّسة إلا بقدر احتمالهم، وفي الطقس الأول كانت أبواب الكنيسة تغلق بعد قداس الموعوظين بعد خروجهم فلا ينعم بسّر الإفخارستيا إلا المؤمنون المستعدون للشركة المقدّسة. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [نحتفل بالأسرار خلال الأبواب المغلقة، ونترك غير المعمّدين خارجًا، ليس عن ضعف في الإقناع بخصوص أسرارنا، وإنما لأن كثيرين لم يستعدوا بعد لها بطريقة كاملة.]

    يقول القدّيس أغسطينوس: [يمكننا أن نفهم القُدْس والدُرَر على أنها شيء واحد، دُعي قُدسًا بسبب الالتزام بعدم إفساده، ودُررًا بسبب الالتزام بعدم الازدراء به. فالإنسان يفسد ما لا يرغب في إبقائه سليمًا، ويزدري ما يحسبه تافهًا ومنحطًا، لذا يُقال عن الشيء المحتقر أنه مدوس بالأقدام. يقول الرب: "لا تعطوا القدس للكلاب"، لأن الكلاب تهجم على الشيء لتمزّقه، حتى وإن كان هذا الشيء لا يمكن تمزيقه أو إفساده أو تدنيسه. إذن لنفكِّر فيما يرغبه هؤلاء المقاومين للروح بعنف وعداء شديد. إنهم يرغبون في تدمير الحق الذي لا يمكن تدميره. أمّا الخنازير فتختلف عن الكلاب فهي لا تهاجم لتمزّق بأسنانها، لكنها تدنّس الشيء إذ تدوسه بأقدامها في طياشة... إذن لنفهم أن "الكلاب" تُشير إلى مقاومي الحق، "والخنازير" إلى محتقريه.]

    وإذ يتحدّث القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص عن البتوليّة كأمر ثمين للغاية وكحياة سماويّة، يعتبر أن من يحيا كبتول جسديًا دون أن يسلك في حياته العمليّة بما يتّفق ببتوليّته يكون كمن ألقى بالدُرَر تحت أقدام الخنازير.

    3. السؤال المستمر

    إذ يسمع المؤمن الوصيّة الإلهيّة: "لا تعطوا القُدس للكلاب، ولا تطرحوا دُرَركم قدّام الخنازير" ربّما يسأل: ومن أين لي القُدس والدرر؟ لذا يكمل: "اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم، لأن كل من يسأل يأخذ ومن يطلب يجد ومن يقرع يُفتح له" [7-8].

    v لكي تفهم ما يقصد بالسؤال والطلب والقرْع، نفترض وجود رجل أعرج، فمثل هذا يُعطى له أولاً الشفاء، أي القدرة على المشي، وهذا ما قصده الرب بالسؤال. ولكن ماذا ينتفع بالمشي أو حتى بالجري إن استخدمه في طريق منحرف؟ لذلك فالخطوة التالية هي أن يجد الطريق المؤدّي إلى الموضع المطلوب... وهذا ما قصد بالطلب. لكن ما المنفعة إن صار قادرًا على المشي وعرف الطريق، بينما كان الباب مغلقًا... لهذا يقول: "اقرعوا".

    القدّيس أغسطينوس

    v إن داومت السؤال فإنك ستأخذ بالتأكيد حتى وإن لم يكن في الحال... هكذا يمثِّله الرب على القرع. إنه لا يعطيك فورًا حتى تداوم على السؤال. إذن لتستمر في السؤال والطلب فبالتأكيد ستأخذ.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v إن كان الذي لا يرغب في العطاء (قاضي الظلم لو 18: 2)، قد أعطى بسبب اللجاجة، فكم بالأكثر يعطي ذاك الصالح وحده الذي يحثّنا على الطلب منه، والذي لا يُسر عندما نطلب منه؟! قد يبطئ الله في العطاء لكي نُقَّدر قيمة الأشياء الصالحة، وليس لعدم رغبته في العطاء. ما نشتاق إلى نواله بجهادٍ نفرح جدًا بنواله، أمّا ما نناله سريعًا فنحسبه شيئًا زهيدًا.

    القدّيس أغسطينوس

    v لنقرع على باب المسيح الذي قيل عنه: "هذا هو باب الرب والصدّيقون يدخلون فيه" (مز 118: 20)، حتى متى دخلنا يفتح لنا الكنوز المخفيّة بالمسيح يسوع الذي فيه كل العلم: "المُذخّر فيه كنوز الحكمة والعلم" (كو 2: 3) .

    القدّيس جيروم

    لكي يؤكّد السيّد نوالنا ما نسأله يقول: "أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزًا يعطيه حجرًا؟ وإن سأله سمكة يعطيه حيّة؟! فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيّدة فكم بالأحرى أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه؟!" [9-11]

    يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هكذا إن كنت لم تأخذ ما سألته فالسبب هو أنك طلبت حجرًا. لا يكفي أنك ابن لكي تأخذ، وإنما أحيانًا ما تسأله يعوقك عن أن تأخذ، إذ تسأل ما هو ليس بنافعٍ. يلزمك إذن ألا تسأل أمرًا أرضيًا، بل روحيًا، فبالتأكيد تأخذ.] ويقول القدّيس أغسطينوس: [إن كنّا ونحن أشرار نعرف كيف نعطي أبناءنا ما يسألونه منّا فلا نخدعهم، بل نعطيهم أشياء صالحة ليست منّا بل من الرب، فكم بالأكثر يكون رجاؤنا في الرب أن يعطينا عندما نطلب منه أمورًا صالحة؟]

    يختم السيّد حديثه عن استجابته لسؤالنا بوصيّة تخص علاقتنا بإخوتنا هي مفتاح أيدينا لاستجابة طلبتنا: "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء" [12] لم يضعها كوصيّة شرطيّة نلتزم بها لنوال سؤالنا من الله، إنّما تُفهم كذلك بطريقة غير مباشرة. لقد أراد أن تكون علاقتنا بإخوتنا تقوم لا على أساس المنفعة، وإنما على طبيعة الحب الداخلي دون مقابل، نحبّهم لأجل الحب، وبهذا يتحقّق فينا غاية الناموس. لكي نتفهّم حكمة هذه الوصيّة نقول بأن الآب يطالب أولاده أن يحب أحدهم الآخر، ويخدم بعضهم البعض، من أجل الأخوة في ذاتها. لكنّه كأب، إذ يراهم محبّين يطمئن لنضوجهم وحبّهم، فيفتح خزائنه ويعطي بلا كيل، مدركًا أن أولاده قد صاروا أهلاً لمحبّة أبيهم خلال طبيعة الحب التي لهم. حقًا إن انفتاح قلبنا لإخوتنا بالعطاء - أيّا كان نوعه - دون مقابل هو الطريق الذي به نرى يديّ الله مفتوحتين لتهبا بسخاء.

    4. الباب الضيق

    حياة النقاوة التي تؤهّل القلب لمعاينة الله ليست إلا شركة آلام مع المسيح المصلوب، لهذا يقول الرب نفسه: "ادخلوا من الباب الضيق، لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدّي إلى الهلاك، وكثيرون هم الذين يدخلون منه. ما أضيق الباب، وأكرب الطريق الذي يؤدّي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه" [13-14].

    v دُعي الطريق كربًا وضيقًا لكي يخفّف من أتعابنا، ولكي يُعلن أن الأمان عظيم والمسرّة عظيمة... الطريق كرب والباب ضيّق، لكن المدينة التي ندخلها ليست هكذا، لهذا لا نطلب هنا الراحة كما لا تتوقّع ألمًا هناك.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v كرب هو الطريق الذي يدخل بنا إلى الحياة، وضيّق أيضًا، لكن المكافأة رائعة وعظيمة إذ ندخله في مجد!

    القدّيس كبريانوس

    v الباب الواسع هو الملاذ العالميّة التي يطلبها البشر، والباب الضيّق هو الذي ينفتح خلال الجهاد والأصوام كالتي مارسها الرسول بولس: "في ضربات، في سجون، في اضطرابات، في أتعاب، في أسهار، في أصوام" (2 كو 6: 5)، "في تعبٍ وكدٍّ، في أسهارٍ مرارًا كثيرة، في جوعٍ وعطشٍ، في أصوامٍ مرارًا كثيرة في بردٍ وعُرْيٍ" (2كو11: 27). وقد شجّع الرسول بولس تيموثاوس على ممارستها: " فتقوَّ أنت يا ابني بالنعمة التي في المسيح يسوع، وما سمعته منّي بشهود كثيرين أودِعه أناسًا أمناء يكونون أكفّاءً أن يُعلِّموا آخرين أيضًا، فاشترك أنت في احتمال المشقّات كجندي صالح ليسوع المسيح. ليس أحد وهو يتجنّد يرتبك بأعمال الحياة لكي يرضي من جنَّده، وأيضًا إن كان يجاهد لا يكلّل إن لم يجاهد قانونيًا." (2 تي 2: 1-5)

    لاحظ بتدقيق كيف يتكلّم عن كِلا البابين. فالغالبيّة العُظمى تدخل من الباب الواسع، بينما قليلون هم الذين يكتشفون الباب الضيق. إننا لا نبحث عن الباب الواسع، ولا حاجة لنا مطلقًا أن نكتشفه، إذ هو يعرض نفسه علينا تلقائيًا. أمّا الباب الضيّق فلا يجده الكل، وحتى الذين يجدونه فليس جميعهم يدخلونه، إذ كثيرون بعد اكتشافهم باب الحق تجتذبهم ملاذ الدنيا ويرجعون من منتصف الطريق.

    القدّيس جيروم

    يقول العلاّمة أوريجينوس أن الطريق الرحب يحوي زوايا كثيرة، عندها يقف المراءون للصلاة كي يراهم الناس فينالون أجرتهم (مت 6: 5). وعلى العكس الطريق الكرب لا يحوي زوايا شوارع يقف عندها المؤمن، بل يسرع منطلقًا إلى الحياة الأبديّة خلال الباب الضيق. لا يجد المؤمن في الطريق ما يبهجه فيستقر عنده، لكنّه يتّجه نحو السيّد المسيح سرّ بهجته وحياته.

    الباب الضيّق هو باب الملكوت الذي لن يدخله إلا رب الملكوت يسوع المسيح الذي بلا خطيّة وحده، والطريق الكرب ليس إلا صليبه الذي لا يمكن لأحد أن يعبر فيه سوى المصلوب. لهذا لن ننعم بالدخول من الباب الضيّق، ولا السير في الطريق الكرب، إلا باختفائنا في يسوع المسيح المصلوب وثبوتنا فيه. بهذا يتحوّل الكرب والضيق إلى بهجة اتّحاد مع المصلوب.

    5. الأنبياء الكذبة

    كما حذرنا السيّد المسيح من الحروب الخفيّة وحب الظهور التي تفسد نقاوة القلب، وتنزع بساطة العين الداخليّة، يحذّرنا أيضًا من الحروب الخارجيّة، خلال الأنبياء الكذبة والهراطقة وضد المسيح... هؤلاء الذين يحملون مسحة التقوى الخارجيّة، بينما قلوبهم ذئاب خاطفة. يقول السيد: "احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب حملان، ولكنّهم من داخل ذئاب خاطفة" [15]. هكذا يحذّرنا السيّد من الأنبياء المخادعين الذين "يلبسون ثوب شعر لأجل الغش" (زك 13: 4). يتظاهرون بالحياة النسكيّة وشكليّات الورع لخداع الكثيرين، أو كما يقول الرسول: "مثل هؤلاء هم رسل كذبة، فعلة ماكرون مغيّرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح" (2 كو 11: 13-14)، وذلك كرئيسهم الوحش الذي يتظاهر بصورة السيّد المسيح الحمل، إذ له "قرنان شبه خروف" (رؤ 13: 11) وقد حذّرنا آباء الكنيسة كثيرًا من المخادعين. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [من يصرخ بما هو لله بصوت التواضع الحقيقي والاعتراف الحق للإيمان فهو حمل، أمّا من ينطق بتجاديف ضدّ الحق وعداوة ضدّ الله فهو ذئب.] كما يقول القدّيس جيروم: [ما يُقال هنا عن الأنبياء الكذبة يفهم عن كل من ينطق بغير ما يسلك به عمليًا، لكنّه يخصّ بالأكثر الهراطقة الذين يظهرون لابسين العفّة وصوّامين كزيّ للتقوى، أمّا روحهم في الداخل فمملوءة سمًا، بهذا يخدعون البسطاء من الإخوة.]

    يُعلن السيّد أن الأنبياء الكذبة واضحون، يمكن تمييزهم عن أولاد الله الحقيقيّين، بقوله: "من ثمارهم تعرفونهم. هل يجتنون من الشوك عنبًا؟أو من الحسك تينًا؟هكذا كل شجرة جيّدة تصنع أثمارًا جيدًا، وأما الشجرة الرديّة فتصنع أثمارًا رديّة. لا تقدر شجرة جيّدة أن تصنع أثمارًا رديّة، ولا شجرة رديّة أن تصنع أثمارًا جيّدة. كل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تقطع وتلقى في النار، فإذًا من ثمارهم تعرفونهم" [16-20].

    استخدم بعض الهراطقة هذه الكلمات الإلهيّة للادعاء بوجود طبيعتين متعارضتين فالبعض بطبعهم صالحون والآخرون أشرار، ولا يمكن للصالحين أن يصنعوا شرًا وللأشرار أن يصنعوا خيرًا، وكأن الإنسان مسيّرا لا يدّْ له في اختيار الطريق، إنّما طبيعته هي التي تملي عليه سلوكه. هذا الأمر يتنافى مع محبّة الله وتقديسه لحرّية الإرادة الإنسانيّة، كما يتنافى مع عدله إذ كيف يجازينا عن تصرفات ليس لنا حرّية السلوك بها أو الامتناع عنها؟

    نقتطف هنا بعض كلمات القدّيس جيروم: [لنسأل هؤلاء الهراطقة الذين يؤكّدون وجود طبيعتين متعارضتين، إذ يفهمون كما لو أن الشجرة لا يمكن أن تأتي بثمر رديء (حتى إن انحرفت)، إذ كيف أمكن لموسى - الشجرة الصالحة - أن يخطئ عند ماء الخصومة؟ أو كيف أنكر بطرس الرب عند آلامه، قائلاً: لا أعرف الرجل؟ أو كيف أمكن لحمى موسى - الشجرة الرديئة - الذي لا يؤمن بإله إسرائيل أن يقدّم مشورة صالحة؟] هذا القول لا يحمل تعارضًا مع كلمات السيّد المسيح، فالشجرة الصالحة لا تثمر إلا ما هو صالح مادامت في يدّ الله مستمرّة في صلاحها، لكنها إن انحرفت ولو إلى حين وتحوّلت إلى شجرة شرّيرة تخطيء لتعود بالتوبة فتأتي بالثمر الصالح من جديد. وهكذا أيضًا بالنسبة للشجرة الرديّة فإنها تبقى تعطي ثمرًا رديًا حتى متى صارت صالحة بالقدّوس الصالح تقدّم ثمرًا صالحًا. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إنه لم يقل أن الشجرة الرديّة لا يمكن أن تصير صالحة، وإنما قال لا تحمل ثمرًا جيدًا مادامت هي رديّة!]

    إن كنّا شجرًا رديًا فقد جاء السيّد المسيح التفاحة الصالحة، الذي قيل عنه: "كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين، تحت ظلِّه اشتهيت أن أجلس وثمرته حُلوة في حلقي" (نش 2: 3). نتطعَّم فيه، فنصير أغصانًا صالحة، تأتي بثمر كثير. لهذا يقول: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان، الذي يثبت فيّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير، لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 15: 5). إذ نثبت فيه نحمله داخلنا، كسرّ صلاحنا وبرّنا، وكما يقول القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص: [لقد صار مطيعًا ذاك الذي أخذ ضعفاتنا وحمل أمراضنا، شافيًا عصيان البشر بطاعته. فبجراحاته يشفي جرحنا، وبموته يطرد الموت العام عن البشر.]

    كنّا أشجارًا رديّة تحمل شوكًا وحسكًا، لا نقدر أن نثمر عنبًا أو تينًا، لكننا في المسيح يسوع ربّنا تحوّل شوكنا إلى كرم يثمر عنبًا جديدًا، وحسَكنا إلى شجرة تين جديدة. خارج المسيح تكون لنا طبيعة الأرض الساقطة تحت اللعنة فتنتج حسكًا وشوكًا (تك 3: 18)، هذه التي نخلعها في مياه المعموديّة لنحمل الطبيعة الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع لنحمل فينا عنبًا وتينًا. بهذا نفهم كلمات السيد: "اجعلوا الشجرة جيّدة وثمرها جيدًا" (مت 12: 33).

    وللقدّيس يوحنا الذهبي الفم تعليق جميل على العنب والتين، [يحوي العنب في داخل سرّ المسيح، فكما يحوي العنقود الكثير من الحبات مترابطة معًا خلال فرع العنقود الخشبي، هكذا للمسيح مؤمنون كثيرون يتّحدون معًا خلال خشبة الصليب. والتين يمثّل الكنيسة التي تضم داخله جموع المؤمنين في حضن المحبّة الحلو، وذلك كما تحوي التينة بذارًا كثيرة داخل غطائها الواحد. فالتينة تمثل المحبّة في حلاوتها والوحدة في اتّحاد البذار الكثيرة معًا. أمّا العنب فيقدّم لنا مثالاً للصبر، إذ يدخل المعصرة؛ كما يُشير إلى الفرح إذ تفرح الخمر قلب الإنسان؛ ويشير إلى الإخلاص حيث لا يمزج بماء؛ وإلى الحلاوة إذ هو شهي. أمّا الشوك والحسك فيشيران إلى الهراطقة إذ يحملون الأشواك من كل جانب. هكذا ترى خدّام الشيّاطين مملوئين بالمخاطر من كل ناحية. مثل هذا الشوك والحسك لا يقدّم للكنيسة ثمارًا.]

    في اختصار أقول أننا في المسيح يسوع ربّنا نخلع أعمال الإنسان القديم من شوكٍ وحسكٍ، أي الأعمال الأرضيّة، لكي نحمل فينا العنب والتين الروحي. يصير كل منّا أشبه بحبة العنب التي ترتبط بإخوتها خلال الصليب (الفرع الخشبي) والتي يلزم أن تجتاز المعصرة وتحتمل الضيّق مع ذاك الذي قال: "قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 3). وليدرك كل واحد منّا - مهما بلغت مواهبه أو قدراته أو مركزه الروحي أو الاجتماعي أو رتبته الكنسيّة - أنه ليس إلا بذرة في التينة المقدّسة، لا قيمة لها في ذاتها خارج الجماعة المقدّسة، ولا عذوبة لها إلا بثبوتها في غلاف المحبّة الحلو الذي الحلو الذي يضم الجميع معًا بروح الاتفاق والسلام!

    هذا هو ما يفرِّح قلب الله أن نصير له خمرًا روحيًا اجتاز المعصرة، وأن نسلك بروح الحب الكنسي الحق، وليس أن نحمل مجرّد شكليّات العبادة أو ألفاظ الإيمان النظري، لهذا يقول السيّد مؤكّدًا: "ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب أليس باسمك تنبّأنا؟ وباسمك أخرجنا شيّاطين؟ وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟فحينئذ أصرِّح لهم أني لا أعرفكم قط. اذهبوا عنّي يا فاعلي الإثم" [21-23].

    يحدّثنا السيّد عن يوم مجيئه الأخير، حيث فيه يلتقي مع الأشرار لا كعريس مفرح بل كديّان مرهب، لا تشفع فيهم صلواتهم الطويلة الباطلة، ولا كرازتهم باسمه، ولا إخراجهم الشيّاطين وصنعهم قوات باسمه... فهو لا يعرفهم لأنهم فعلة إثم.

    الله يعرف أولاده وخدّامه المقدّسين، ولا يعرف الأشرار فعلة الإثم، لهذا عندما سقط آدم في الخطيّة سأله: أين أنت؟ وكما يقول القدّيس جيروم: [كان الله يعرف أن آدم في الجنّة، ويعلم كل ما قد حدث، لكنّه إذ أخطأ آدم لم يعرفه الله، إذ قال له: أين أنت؟] كأنه لا يراه، لأن آدم اعتزل النور الإلهي والبرّ، فصار تحت ظلال الخطيّة وظلمة الموت.] يُعلّق القدّيس أغسطينوس على قول السيد: "لا أعرفكم" هكذا: [لا أراكم في نوري، في البرّ الذي أعرفه.] فالله لا يرانا في نوره عندما نطيل الصلوات باطلاً أو نكرز باسمه أو نصنع قوّات وإنما حينما نحيا معه وبه ونسلك طريقه. وفيما يلي بعض تعليقات للآباء في ذلك:

    v إنهم يتعجّبون لأنهم يعاقبون مع أنهم صنعوا معجزات، أمّا أنت فلا تتعجّب لأن كل المواهب إنّما أُعطيت لهم كهبة مجّانيّة لم يساهموا فيها من جانبهم بشيء، لذا فهم يعاقبون بعدل، إذ هم جاحدون مَن أكرمهم... لنخف أيها الأحبّاء ولنهتم بحياتنا جدًا فلا نُحسب أشرارا لأننا لم نصنع معجزات الآن. لأن المعجزات لا تفيدنا في شيء وكما أن عدم صنعها لا يضرّنا، إنّما نهتم بكل فضيلة.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v كتابة أسمائنا في السماء برهان على حياتنا الفاضلة، أمّا إخراج الشيّاطين فهو هبة من المخلّص، لذلك يقول للذين يفتخرون بعمل القوات دون ممارسة الحياة الفاضلة: "لا أعرفكم"، إذ لا يعرف الله طريق الأشرار.

    القدّيس أثناسيوس الرسولي

    6. خاتمة الدستور

    يختم السيّد المسيح دستوره بالقول: "فكل من يسمع أقوالي ويعمل بها أشبِّهه برجل عاقل بنى بيته على الصخرة، فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبّت الرياح ووقعت على ذلك البيت، فلم يسقط، لأنه كان مؤسّسًا على الصخر. وكل من يسمع أقوالي هذه ولا يعمل بها يشبّه برجل جاهل بنى بيته على الرمل، فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبّت الرياح وصدمت ذلك البيت فسقط، وكان سقوطه عظيمًا"[24-27].

    ما هذا الصخر الذي تتأسّس عليه نفوسنا كبيت يسكنه الله، إلا شخص السيّد المسيح نفسه؟ وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [الإنسان المؤسَّس على المسيح لا يخاف من الخزعبلات المظلمة، لأنه ماذا يعني بالمطر سوى أمورًا رديئة؛ كما لا يخشى َإشاعات البشر التي كما أظن يُرمز إليها بالرياح، أنه لا يخاف الحياة الزمنيّة التي تفيض على الأرض (كالأنهار) بالشهوات الجسديّة... أمّا الإنسان الذي يسمع ولا يعمل بها فيكون في خطر من هذه الأمور الثلاثة، لأنه بلا أساس راسخ، إنه يبني دمارًا.]

    يرى القدّيس أغسطينوس الصخرة الحقيقيّة التي يُبنى عليها البيت الروحي هي كلمة الله المكتوبة كما هي كلمة الله المتجسّد، إذ يقول: [لنحسب كتاب الله المقدّس كما لو كان حقلاً فيه نودّ إقامة مبنى. ليتنا لا نتراخى ولا نقف عند السطح بل نحفر إلى الأعماق حتى نبلغ الصخرة، " والصخرة كانت المسيح" (1 كو 10: 4).]

    ويُعلّق القدّيس جيروم على العبارات السابقة، قائلاً: [المطر الذي يعمل على هدم البيت بلا رحمة هو الشيطان، والأنهار تُشير هنا إلى أضداد المسيح، والرياح إلى قوات الشرّ الروحيّة التي في الهواء، "فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشرّ الروحيّة في السمويّات" (أف 6: 12). هذه وقعت على ذلك البيت فلم يسقط، لأنه كان مؤسّسًا على الصخرة. على هذه الصخرة أسّس الله كنيسته، ومنها استمدّ الرسول بطرس اسمه: "أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي" (مت 16: 18). على هذه الصخرة لا يوجد أثر للحيّة، لذا يقول النبي في ثقة: "وأقام على صخرة رجليّ" (مز40: 2)، وفي موضع آخر يقول: "الصخور ملجأ للوبار" (مز 104: 18). فالوبار يلجأ إلى الصخور بكونه خائفًا... (وموسى النبي إذ كان كالوبار صغيرًا) قال له الرب بعد خروجه من أرض مصر: "إني أضعك في نقرة من الصخرة، واسترك بيدي حتى اجتاز ثم أرفع يدي فتنظر ورائي" (خر33: 22-23).] هكذا إذ نشعر أننا صغار في حاجة إلى صخرة نلتجئ إليها نتقدّم إلى المسيح يسوع صخر الدهور نحتمي فيه، وعليه يقوم بناؤنا الروحي، هاربين من الحيّة التي لا تقدر أن تجد لها موضعًا في الصخرة الحقيقيّة فلا تقترب إلينا.

    ليتنا لا نبني إيماننا على الرمل، أي الهرطقات، لئلا يقوم البناء سريعًا وينهدم أيضًا سريعًا. إنه الطريق السهل الواسع ونهايته الهلاك.

    7. دهشة الجماهير

    "فلما أكمل يسوع هذه الأقوال، بهتت الجموع من تعليمه، لأنه كان يعلّمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة" [28]. حقًا ما أحوجنا أن يمسك السيّد نفسه بأيدينا لنحفر ونعمِّق في كتابه المقدّس، فنكتشفه أمامنا بل وفينا، نراه لا كمن يقدّم وصايا مجرّدة إنّما يعطي قوّة وسلطانًا. يتكلّم فينا عاملاً في حياتنا بروحه القدّوس ليتجلّى ببهائه في حياتنا الداخليّة ويحوّل سلوكنا إلى شهادة حق للحياة السماويّة المجيدة فيه.

    1 لا تدينوا لكي لا تدانوا
    2 لانكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون و بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم
    3 و لماذا تنظر القذى الذي في عين اخيك و اما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها
    4 ام كيف تقول لاخيك دعني اخرج القذى من عينك و ها الخشبة في عينك
    5 يا مرائي اخرج اولا الخشبة من عينك و حينئذ تبصر جيدا ان تخرج القذى من عين اخيك
    6 لا تعطوا القدس للكلاب و لا تطرحوا درركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بارجلها و تلتفت فتمزقكم
    7 اسالوا تعطوا اطلبوا تجدوا اقرعوا يفتح لكم
    8 لان كل من يسال ياخذ و من يطلب يجد و من يقرع يفتح له
    9 ام اي انسان منكم اذا ساله ابنه خبزا يعطيه حجرا
    10 و ان ساله سمكة يعطيه حية
    11 فان كنتم و انتم اشرار تعرفون ان تعطوا اولادكم عطايا جيدة فكم بالحري ابوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسالونه
    12 فكل ما تريدون ان يفعل الناس بكم افعلوا هكذا انتم ايضا بهم لان هذا هو الناموس و الانبياء
    13 ادخلوا من الباب الضيق لانه واسع الباب و رحب الطريق الذي يؤدي الى الهلاك و كثيرون هم الذين يدخلون منه
    14 ما اضيق الباب و اكرب الطريق الذي يؤدي الى الحياة و قليلون هم الذين يجدونه
    15 احترزوا من الانبياء الكذبة الذين ياتونكم بثياب الحملان و لكنهم من داخل ذئاب خاطفة
    16 من ثمارهم تعرفونهم هل يجتنون من الشوك عنبا او من الحسك تينا
    17 هكذا كل شجرة جيدة تصنع اثمارا جيدة و اما الشجرة الردية فتصنع اثمارا ردية
    18 لا تقدر شجرة جيدة ان تصنع اثمارا ردية و لا شجرة ردية ان تصنع اثمارا جيدة
    19 كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع و تلقى في النار
    20 فاذا من ثمارهم تعرفونهم
    21 ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات بل الذي يفعل ارادة ابي الذي في السماوات
    22 كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب اليس باسمك تنبانا و باسمك اخرجنا شياطين و باسمك صنعنا قوات كثيرة
    23 فحينئذ اصرح لهم اني لم اعرفكم قط اذهبوا عني يا فاعلي الاثم
    24 فكل من يسمع اقوالي هذه و يعمل بها اشبهه برجل عاقل بنى بيته على الصخر
    25 فنزل المطر و جاءت الانهار و هبت الرياح و وقعت على ذلك البيت فلم يسقط لانه كان مؤسسا على الصخر
    26 و كل من يسمع اقوالي هذه و لا يعمل بها يشبه برجل جاهل بنى بيته على الرمل
    27 فنزل المطر و جاءت الانهار و هبت الرياح و صدمت ذلك البيت فسقط و كان سقوطه عظيما
    28 فلما اكمل يسوع هذه الاقوال بهتت الجموع من تعليمه
    29 لانه كان يعلمهم كمن له سلطان و ليس كالكتبة
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 1:37 pm

    الاصحاح الثامن
    أعماله الملوكيّة
    1 بعدما قدّم لشعبه دستوره السماوي، متّحدثًا معهم بسلطان، صار يحدّثهم بلغة الحب العملي، مقدّمًا تطهيرًا وشفاءً للمرضى وتعزية للمتضايقين، وتحريرًا من سلطان الشيّاطين: 1. تطهير الأبرص 1-4. 2. شفاء غلام قائد المائة 5-13. 3. شفاء حماة بطرس 14-17. 4. دعوته للكنيسة 18-22. 5. تهدئة الأمواج 23-27. 6. مجنونا كورة الجرجيسيّين 28-34. لم تتم المعجزات استعراضًا لقوّة لاهوت السيّد، وإنما حملت أولاً وقبل كل شيء إعلانًا عن محبّة الله الفائقة نحو الإنسان، وقد اختار الإنجيليّون عيّنات من معجزات السيّد غير المحصاة ليقدّموا لنا فكر الله من نحونا. فالإنجيلي متّى يقدّم لنا بعد عرضه للموعظة على الجبل تطهير الأبرص اليهودي، وشفاء غلام قائد المائة الأممي، المعجزة الأولى تكشف عن رسالة السيّد نحو اليهود، ألا وهي تطهيرهم من كل دنس حلّ بهم، والثانية رسالته نحو الأمم الذين تعرّضوا للهلاك بسبب العبادة الوثنيّة. 1. تطهير الأبرص "ولما نزل من الجبل تبعته جموع كثيرة، وإذا أبرص قد جاء وسجد له، قائلاً: يا سيّد إن أردت تقدر أن تطهّرني" [1-2]. يقارن العلاّمة أوريجينوس بين التلاميذ الذين تقدّموا إلى السيّد على الجبل (مت 5: 1) ليسمعوا كلماته وبين الجماهير التي بقيت عند السفح ونزل السيّد إليهم، قائلاً: [إذ كان يسوع يُعلِّم على قمّة الجبل كان معه تلاميذه، هؤلاء الذين أُعطى لهم أن يعرفوا أسرار تعاليمه السماويّة، خلالها ينعم قلب العالم الجامد بمعرفة الخلاص وتنفتح عينا الأعمى اللتان اظلمّتا بظلال الهموم الأرضيّة بواسطة نور الحق... الآن إذ ينزل من الجبل تتبعه جموع كثيرة. إنهم لم يستطيعوا بطريق ما أن يصعدوا على الجبل، إذ تثقّلوا بأحمال الخطايا، فإن لم يُنزع عنهم هذا العبء لن يستطيعوا أن يرتفعوا إلى أعالي الأسرار الإلهيّة... لقد نزل إليهم الرب، أي تنازل إلى ضعفاتهم وعجزهم مُظهرًا رحمته نحو ضعفهم وبؤسهم، فتبعته الجموع: البعض لأنهم أحبّوه والكثيرون لأجل تعاليمه، وآخرون من أجل أعماله الشفائيّة وحنوّه.] وبنفس المعنى يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لاحظ أن التلاميذ وحدهم قيل عنهم أنهم صعدوا ليسوع على الجبل، لكنّه إذ نزل يسوع من الجبل تبعته الجموع، وبالحق جموع كثيرة لأن الجبل هو قمّة الفضيلة وبرج الكنيسة، حيث لا تقدر الجموع أن تأتي إلى المسيح وتقترب منها، إذ كانوا مثقّلين بالخطيّة أو الاهتمامات الزمنيّة... لكنّه بحنوّه السامي نزل إلى من هم أسفل هؤلاء الذين بسبب الضعف البشري لم يقدروا أن يسمعوه على قمّة الجبل، عندئذ تبعته الجموع.] يقول القدّيس جيروم: [بعد إلقاء عظته وتعليمه سنحت الفرصة لعمل معجزة بها يثبّت العظة التي سُمعت حالاً.] بعد إلقاء الموعظة التقى به أبرص، إذ يقول الإنجيلي: "وإذ أبرص قد جاء وسجد له، قائلاً: يا سيّد إن أردت تقدر أن تطهّرني"[2]. يرى القدّيس أمبروسيوس في تطهير هذا الأبرص صورة رمزيّة حيّة لتطهير كل إنسان قادم إلى كلمة الله الحي،ّ لينال منه تطهيرًا عن خطاياه. لهذا يقول: [في هذه الحادثة لم يعيّن البشير اسم المكان الذي تمّت فيه المعجزة، مشيرًا إلى أن الذي شفي لا ينتمي إلى مدينة معيّنة، وإنما لشعوب العالم أجمع.] يعود فيقول: [لم يُطهِّر الرب أبرصًا واحدًا، إنّما يُطهِّر الكل قائلاً: "أنتم الآن أنقياء بسبب الكلام الذي كلّمتكم به" (يو 15: 3). فإن كان شفاء البرص يتم بواسطة كلمة الرب، فإن احتقار كلمة الرب هو البرص الذي يصيب الروح.] ويقدّم لنا هذا الأبرص صورة حيّة للصلاة الحقيقيّة من جانبين: أولاً: جاء للسيّد وسجد له قبل أن ينطق بكلمة تخص احتياجاته، وكأنه يقدّم العبادة لله والخضوع له أولاً. يطلب ما لله قبل أن يسأل ما لنفسه. بهذه الروح جعلت الكنيسة صلاة الشكر في مقدّمة كل الليتورجيّات والصلوات الجماعيّة والخاصة، مقدّمين ذبيحة الشكر لله قبل أن نسأله شيئًا لأنفسنا، معلنين حبّنا له! ثانيًا: لم يطلب الأبرص شيئًا محدّدًا لكنّه يعرض آلامه على مخلّصه، تاركًا الأمر بين يديه، فلم يقل له "طهّرني"، وإنما إن أردت تقدر أن تطهّرني. يتكلّم في ثقة وإيمان بإمكانيّة السيّد وحبّه ورعايته وحكمته، تاركًا أمر تطهيره بين يديه. بنفس الروح أرسلت أختا لعازر له قائلتين: "الذي تحبّه مريض". يُعلّق العلاّمة أوريجينوس على كلمات الأبرص وبلسانه قائلاً: [إني أعرف أنك قادر أن تفعل كل شيء. وأنا لا أسألك سلطانك، ولا أطلب قدرتك، فإني أعرف أن البشر ضعفاء، لكنّني أطلب إرادتك. فإذا ما تمتّعت بإرادتك يتبعها السلطان الذي يحقّق هذه النعمة لي... لي الربح، ولك أنت التسبيح، وللمشاهدين معرفة متزايدة للحق خلال المعجزة... أنت الذي سبق فطهّرت بخادمك إليشع نعمان الأبرص الرئيس بسوريا، آمرًا إيّاه أن يغتسل في الأردن، الآن تقدر إن أردت أن تطهّرني.] أمام هذا الإيمان "مدّ يسوع يده ولمسه، قائلاً: أريد فأطهر" [3]. إذ ترك الأبرص الأمر في يديّ ربّنا الذي يحبّه؛ وفي محبّة مدّ يده قائلاً له: "أريد فأطهر" معلنًا سلطانه على البرص وإرادته الطيّبة نحو خليقته. لكن نتساءل: لماذا مدّ السيّد يده ولمسه؟ أولاً: يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لم يقل فقط وإنما تبع القول العمل في الحال".] حقًا إن السيّد هو كلمة الله صاحب السلطان الذي يقول فيكون، لكنّه ربط القول بلمس اليدّ كمثَل لنا، حتى تلتحم كلماتنا نحن أيضًا بعمل أيدينا، فلا نعيش كأصحاب كلام نظري، إنّما مع الكلمات نعمل بلا توقف. فنربط تسابيحنا وعبادتنا وقراءاتنا الإنجيليّة بأعمال المحبّة التقويّة، نحو الله والناس ونحو أنفسنا أيضًا. ليت صلواتنا تتزكّى بأعمال أيدينا بالروح القدس العامل فينا، فتصير مقبولة لدى الله! لهذا يقول الرسول: "طلبة البار تقتدر كثيرًا في فعلها" (يع5: 16). سرّ اقتدارها ليس في الكلمات الخارجة، إنّما في الحياة المقدّسة في الرب، الحاملة لثمر الروح القدس العملي! ثانيًا: يقول القدّيس كيرلّس الاسكندري: [لقد وهبه لمسة يده المقدّسة المعتنية به، وفي الحال تركه البرص وفارقه المرض.] ما أحوجنا إلى إدراك يدّ الله المترفّقة بنا، ورؤيتنا لرعايته الإلهيّة فيزداد إيماننا به وننال أكثر ممّا نطلب. ثالثًا: بهذا التصرّف أوضح السيّد الفارق بينه وبين إليشع النبي، الذي لم يكن ممكنًا أن يلمس نعمان السرياني الأبرص، ولا خرج حتى للقائه، بل أرسل إليه يطلب منه أن يذهب إلى الأردن ويستحم فيه سبع مرّات. لقد خشيَ أن يتنجّس، أمّا السيّد فلمس الأبرص إذ لم يكن ممكنًا للبرص أن ينجِّسه بل يهرب البرص منه في الحال. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لكي يوضّح الرب أنه يشفي لا كعبد بل كسيّد مطلق، لذلك لمسه أيضًا، فإن يده لا تتدنّس من البرص، بل يُطهِّر الجسد الأبرص بيده المقدّسة.] ويقول العلاّمة أوريجينوس: [لقد لمسه لكي يظهر أن كل شيء طاهر للطاهرين (تي 1: 15)، وأن دنس إنسان لا يلصق بغيره، ولا النجاسة الخارجيّة تنجّس طهارة القلب.] مرّة أخرى يقول على لسان السيد: [إني لا احتقر الناموس لكنّني أشفي الجرح! إنّني لا أكسر الوصيّة لكنّني أزيل البرص وأطهِّره، إذ أمدّ يدي يهرب البرص، ولا يقترب دنسه من كمالي، ولا يقاوم سلطاني.] رابعًا: في دراستنا لسفر حزقيال رأينا أن "اليد" تُشير إلى أقنوم الابن، ومدّها إنّما يُشير إلى ظهوره أو تجسّده، فمدّ يد السيّد ولمس الأبرص إنّما يُشير إلى ظهوره حسب الجسد في وسط اليهود، وتلامسهم معه جسديًا كما روحيًا حتى يطهَّروا من كل دنس قد تعلّق بهم. إذ طهّر الأبرص، "قال له يسوع: انظر أن لا تقول لأحد، بل اذهب أرِ نفسك للكاهن، وقدّم القربان الذي أمر به موسى شهادة لهم" [4]. يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [لماذا أمره ألا يقول لأحد؟ حتى يتعلّم الذين ينالون من الله موهبة الشفاء ألا يطلبوا مديحًا ممن يشفونهم، ومجدًا من الآخرين، لئلا يسقطوا في الكبرياء الذي هو أشرّ الخطايا.] لماذا أمره بالذهاب إلى الكاهن؟ أولاً: أراد السيّد تأكيد احترامه للشريعة التي هي من وضعه، فإنه ما جاء لينقضها بل ليكمّلها. لقد طالبه أن يؤكّد طهارته عن طريق الكهنة - كما في الشريعة - قبل أن يلتقي به أحد. في أكثر من موضع كشف السيّد موقفه من الكنيسة اليهوديّة، أنه ما جاء ليهدم بل ليبني، فإن هدَم إنّما يهدِم ما حملته القيادات الكنسيّة اليهوديّة من رياء وحب للظهور واهتمام بالزمنيّات وحرفيّة في الفهم وشكليّة في العبادة، لكنّه ما جاء ليثور على النظام في ذاته أو الطقس إن قدّم بروحه لا في حرفيّة قاتله. لقد جاء لكي يدخل بالرمز إلى كمال ما يرمز إليه. فإن كان مجيئه ينهي الكهنوت اللاوي لا يكون هذا بتدميره، وإنما بظهور كهنوت السيّد المسيح على طقس ملكي صادق. ثانيًا: بإرساله للكهنة أراد شهادة عمليّة ملموسة بين يديّ الكهنة، ليدركوا أنه المسيّا المخلّص القادر على الإبراء من البرص. يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [سمح للأبرص بذلك شهادة لهم... فقد عُرف اليهود في كل العصور بإعلانهم عن غيرتهم على الناموس، قائلين أن موسى كان خادمًا لإرادة السماء، وقد بذلوا كل طاقتهم للتقليل من شأن المسيح كمخلّص البشر، فقالوا صراحة: "نحن نعلم أن موسى كلّمه الله، وأما هذا فما نعلم من أين هو" (يو 9: 29). لهذا كان من اللازم أن يقنعهم بهذه العلامات، أن كرامة موسى أقل من مجد المسيح. كان موسى مجرّد خادم أمين في بيت الله، أمّا المسيح فابن في بيت أبيه (عب 3: 5-6). شفاء الأبرص كان شهادة واضحة أن المسيح قد غيّر شريعة موسى بطريقة لا توصف. فإنه إذ تذمَّرت مريم أخت موسى عليه ضُربت بالبرص، وقد حزن موسى عليها حزنًا شديدًا، لكنّه عجز عن إزالة هذا المرض عنها. لقد سقط أمام الله يطلب منه: "اللهمّ اشفها" (عد 12: 13). لاحظ بعناية كيف وُجد هنا توسل مع صلاة وطلبة إلى السمو الإلهي، أمّا مخلّص البشريّة فبسلطان إلهي بحق يقول: أريد فأطهر. إذن شفاء الأبرص كان إنذارًا للكهنة، ليتعلّموا منه أن ظنّهم بأن موسى أعظم منه هو انحراف عن الحق. حقًا يليق بهم أن يكرموا موسى كخادم للناموس، معيّن للنعمة ومعروف للملائكة (غل 3: 19)، أمّا عمانوئيل فبالأكثر يُقدَّم له التسبيح والمجد بكونه ابن الآب الحق.] ويقول القدّيس أمبروسيوس: [عندما يراه الكاهن (اليهودي) يتحقّق أنه لم ينل الشفاء حسب الناموس، لكن أبرأته نعمة الله التي تفوق الناموس.] ثالثًا: بإرساله للكاهن أراد من اليهود أن يعيدوا النظر في طقس تطهير الأبرص (لا 14)، فيشهد لعمل السيّد المسيح الخلاصي، خاصة أمر العصفورين، حيث يذبح الواحد ويطير الآخر، إشارة إلى موت السيّد وقيامته، الأمر الذي أرجو الحديث عنه بأكثر تفصيل في دراستنا لسفر اللآويين. رابعًا: يرى القدّيسان جيروم وأمبروسيوس في هذا التصرّف توجيه السيّد لنا بالخضوع للكهنة في الرب. خامسًا: يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم في هذا التصرّف أن السيّد يعلّمنا تجنّب الكبرياء والافتخار. إن كان رب المجد الذي يشفي بسلطانه الشخصي أراد أن يخفي أعماله العجيبة، فكم بالأكثر يليق بنا نحن الذين تحت الضعف أن نخفي ما ينعم به علينا السيّد، من عطايا ومواهب ونعم، حفظًا عليها من حرب محبّة مديح الناس، التي تقتل كل عطيّة صالحة. لنتمثل بوالديّ موسى النبي اللذين أخفيا الطفل جميل الصورة في بيتهما ثلاثة شهور فلم يقتله فرعون، مقدّمين لنا العظيم في الأنبياء. هكذا لنُخفِ كل فضيلة جميلة في بيتنا ولا نعرضها لفرعون الحقيقي، شيطان حب الظهور! سادسًا: يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنه قد دفعه نحو الكنيسة ليقدّم ذبيحة شكر لله، معلقًا على هذا التصرّف بقوله: [ليتنا نقدّم لله التشكّرات على الدوام، فنجعلها تسبق كلماتنا وأعمالنا.] [ليتنا لا نقدّم التشكّرات فقط من أجل البركات التي تحل بنا، وإنما من أجل البركات التي تحل بالآخرين.] ويكمّل حديثه عن أهمّية الشكر بقوله: [هذا هو الأمر الذي يحرّر الإنسان من الأرض، ويرفعنا إلى السماء، ويجعلنا ملائكة بدلاً من أن نكون بشرًا. فإن الملائكة يشكِّلون طغمة تقدّم التشكّرات لله من أجل الصالحات الموهوبة لنا، قائلين: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة" (لو2: 14).] 2. شفاء غلام قائد المائة "ولما دخل يسوع كفرناحوم جاء إليه قائد مائة يطلب إليه ويقول: يا سيّد، غلامي مطروح في البيت مفلوجًا متعذّبًا جدًا" [5-6]. لقد جاء هذا القائد الروماني يمثّل كنيسة الأمم المعذّبة جدًا في شخص العبد (الغلام) بسبب العبادة الوثنيّة، وجهلها التام عن حياة الشركة مع الله. لقد جاءت إليه تصرخ أن عبدها مطروح في البيت، مصاب بالفالج، وهكذا تقدّمت بالإيمان إلى السيّد المسيح الذي لم يقم في وسطها كما أقام في الأمة اليهوديّة، إنّما سمعت عنه خلال كلمة الكرازة، فطلبت الشفاء من الفالج الذي أصابها كل هذا الزمان. إن كان السيّد المسيح لم يولد جسديًا وسط الأمم، لكنّه يقول لهم "أنا آتي واشفيه" [7]. إنه لا يستنكف من دخوله بيتهم الذي تدنّس بالأوثان، فهو عالم أنه بحلوله فيه تتحطّم الوثنيّة وُيطرد الشرّ، ويتحقّق الشفاء الروحي للنفوس التي تتقبّله. إنه وعد يُقدّم لكل نفس تشعر بفالج الخطيّة ومرارتها، وتصرخ إلى مخلّصها في أدب ووقار، وطرح عليه أتعابها وآلامها، لتسمع صوته المحب "أنا آتي واشفيه". نعم تعال أيها الرب يسوع، لتحل بالإيمان فينا، أنت سرّ شفائنا. إذ وعده السيّد بالذهاب إلى بيته ليشفي عبده، في تواضعٍ مملوءٍ إيمانًا أجاب: "يا سيّد لست مستحقًا أن تدخل تحت سقفي، لكن قل كلمة فقط فيبرأ غلامي، لأني أنا أيضًا إنسان تحت السلطان. لي جند تحت يدي، أقول لهذا اذهب فيذهب، ولآخر اِئْتِِ فيأتي، ولعبدي أفعل هذا فيفعل" [8-9]. لقد فاق الأممي اليهود أصحاب المواعيد، مظهرًا تواضعًا أمام الملك المسيّا، وإيمانًا بسلطانه الفائق. v دعا (قائد المائة)نفسه غير مستحق لدخول السيّد بيته، فأظهر نفسه مستحقًا لدخوله لا في بيته بل في قلبه. فلو لم ينطق قائد المائة هذه الكلمات في إيمان وتواضع ما استطاع قلبه أن يحتمل دخول من يخاف من دخوله تحت سقف بيته. لا يُسر ربّنا كثيرًا بدخوله منزل قائد المائة قدر ما يُسر بدخوله قلبه. رب التواضع - سواء بالكلام أو العمل - جلس في منزل فرّيسي متكبّر يُدعى سمعان، ومع ذلك لم يكن في قلبه لكي يسند فيه رأسه (لو9: 58)... لم يدخل منزل قائد المائة لكنّه امتلك قلبه، أمّا زكا فقد قبل الرب في منزله كما في قلبه أيضًا (لو 19: . v لم يدخل (السيّد) منزل قائد المائة بالجسد؛ كان غائبًا عنه جسديًا، لكنّه كان حاضرًا فيه بجلاله، شافيًا غلامه... لقد كان الرب متجسّدًا بين اليهود وحدهم، فلم يُولد من عذراء ولا عاش بين شعوب الأمم... ومع هذا فقد تحقّق ما قيل عنه: "شعب لم أعرفه يتعبّد لي" (مز 18: 43)، ولكن كيف يتعبّد له دون أن يعرفه؟ "من سماع الأذن يسمعون لي" (مز 18: 44). لقد عرفه اليهود فصلبوه، وأما العالم كلّه فسمع عنه وآمن به. القدّيس أغسطينوس v هذا السقف سِرِّيًا هو الجسد الذي يغطّي النفس، وغلق الذهن عن معاينة السماء، لكن الله لم يستنكف من أن يسكن في جسم ولا من أن يدخل تحت سقف جسدنا! الأب خريسولوجيوس أسقف رافينا v حتى الآن يدخل تحت سقفنا خلال رؤساء الكنيسة القدّيسين والذين يُسر الله بهم... عندما تتناولون جسد الرب ودمه يدخل الرب نفسه تحت سقفكم، ففي تواضع ردّدوا: يا سيّد "لست مستحقًا..." العلاّمة أوريجينوس v كن متسلّطًا على قلبك مثل ملك، لتجلس في عمق التواضع، تأمر الضحك أن يذهب فيذهب، وتدعو البكاء الحلو أن يأتي فيأتي، والجسد العبد العاصي أن يفعل هذا فيفعل. القدّيس يوحنا الدرجي "فلما سمع يسوع تعجّب، وقال للذين يتبعون: الحق أقول لكم لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا. أقول لكم أن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتّكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السماوات. وأما بنو الملكوت فيُطرحون إلى الظلمة الخارجيّة. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. ثم قال يسوع لقائد المائة: اذهب وكما آمنت ليكن لك، فبرأ غلامه في تلك الساعة" [10-13]. حقًا ليس شيء يفرِّح الله مثل إيماننا به، فقد تعجّب السيّد عندما رأى في قائد المائة هذا الإيمان في قلبه ومُعلنًا على لسانه. يقول العلاّمة أوريجينوس: [لاحظ أي أمر عظيم، هذا الذي يجعل يسوع ابن الله الوحيد يتعجّب! فإن الذهب والغنى والممالك والسلاطين في عينيه كالظل أو كزهرة تذبل، ليس شيء من هذه الأمور تجعل الله يُعجب بها أو ينظر إليها كأمر عظيم أو ثمين اللهم إلا الإيمان! بهذا يعجب الله ويكرمه، ويتطلّع إليه كأمر مقبول لديه.] يقول القدّيس أغسطينوس: [من الذي عمل فيه هذا الإيمان إلا ذاك الذي تعجّب منه؟!... أمّا كونه قد تعجّب إنّما لكي نعجب نحن أيضًا مقدّمًا نفسه مثالاً نقتدي به.] بهذا الإيمان الذي يُعجب منه السيّد ليجتذبنا إليه، انفتح حضن آبائنا إبراهيم واسحق ويعقوب ليستقبلوا المؤمنين من الأمم، بينما حُرم منه أولادهم حسب الجسد الذين رفضوا هذا الإيمان، فلم ينعموا بالنور الإلهي معهم بل يُطرحون خارجًا في الظلمة. لقد طُرد أبناء الملكوت - أي اليهود - من حضن إبراهيم، إذ يقول القدّيس أغسطينوس: [اليهود هم الذين تقبّلوا الناموس الحاوي أمثال الأمور المقبلة، لكنها إذ تحقّقت رفضوها.][sup] ويقول القدّيس جيروم: [يدعى اليهود أبناء الملكوت، لأن سبق فملك عليهم من بين الأمم.] ويقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد حسبهم كأبناء الملكوت هؤلاء الذين لأجلهم أُعد الملكوت، وبسبب رفضهم غضب.] يُعلّق القدّيس أغسطينوس على حرمان أبناء الملكوت من الاتكاء مع آبائهم إبراهيم واسحق ويعقوب هكذا: [إن كان موسى قد قدّم لشعب إسرائيل إله إبراهيم واسحق ويعقوب وليس إله آخر، فإن هذا ما فعله المسيح. إنه لم يحاول أن يرد هذا الشعب عن إلههم، لذلك يُحذّرهم بأنهم سيذهبون إلى الظلمة الخارجيّة إذ يراهم يرتدّون عن إلههم، الذي دعا الأمم من كل العالم إلى ملكوته، ليتّكئوا مع إبراهيم واسحق ويعقوب، وذلك ليس إلا لأنهم تمسكوا بإيمان إبراهيم.] يقول القدّيس جيروم: [تُدعى الظلمة خارجيّة، لأن من يسحب من عند الرب يصير النور خلفه.] أما عن البكاء وصرير الأسنان فيرى القدّيس جيروم أن هذا يُشير إلى قيامة الجسد، ليشترك مع النفس في الجزاء. [إن كان يوجد بكاء للعيون وصرير للأسنان أي للعظام، فبالحق ستكون قيامة للأجساد التي سقطت.] 3. شفاء حماة بطرس "ولما جاء يسوع إلى بيت بطرس رأى حماته مطروحة ومحمومة، فلمس يدها فتركتها الحمى، فقامت وخدمتهم" [14-15]. أعلن السيّد اهتمامه ببيت خادمه أو تلميذه، فإن كان الخادم قد سلّم حياته في يديّ السيّد مشتهيًا أن تكون كل لحظة من لحظات عمره لحساب الخدمة، يعوِّضه الرب بالاهتمام بعائلته حتى في الأمور الزمنيّة. إن كان في تطهير الأبرص اليهودي أعلن السيّد تطهيره لليهود القابلين الإيمان به، وبشفاء عبد قائد المائة أوضح شفاءه للأمم، فإنه بشفاء حماة بطرس أعلن اهتمامه بالنساء أيضًا إذ شفاها لتقوم فتخدمه. إنه يطلب خدمة كل إنسان. ويُعلّق القدّيس أمبروسيوس على شفاء حماة بطرس التي أصابتها الحمى بقوله: [ربّما كانت حماة سمعان تصوّر جسدنا الذي أصابته حُمَّى الخطايا المختلفة ودفعته نحو الشهوات الكثيرة، فإن هذه الحَمى ليست بأقل من التي تصيب الجسد، إذ تحرق القلب!... لقد كانت (حماة سمعان) مطروحة ومسمّرة وأسيرة تتألّم بسبب حُمى الجسد، وكانت الضرورة تقتضي البحث عن طبيب، لكن من يستطيع أن يشفي جراحات الروح؟! أي طبيب يقدر أن يبرئ الآخرين وهو عاجز عن إبراء نفسه؟ من يقدر أن يهب الحياة للغير وهو عاجز عن الهروب بنفسه من الموت، لأن الجميع قد ماتوا في آدم، لأنه كما بإنسان واحد دخلت الخطيّة إلى العالم وبالخطيّة الموت هكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع؟ (رو 5: 12).] 4. دعوته للكنيسة قدّم لنا معلّمنا متّى البشير أمثلة للدعوة. المثال الأول هو أن السيّد إذ رأى الجموع الكثيرة تلتف حوله أمر بالذهاب إلى العبر، فتقدّم إليه كاتب يقول له: "يا معلّم أتبعك أينما تمضي". فقال له يسوع: "للثعالب أوْجرة ولطيور السماء أوكار، أمّا ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه" [18-20]. ما هي هذه الجموع الكثيرة التي التفَّت حوله إلا الطغمات السمائيّة التي تتعبّد له وتخدمه... لكنّه أمر بالذهاب إلى العبر، وكأنه قد حمل سفينة طبيعتنا البشريّة وترك سمواته ليأتي إلى أرضنا، فنلتقي به بعد العداوة التي حلّت بيننا وبينه بسبب خطايانا. لقد جاء إلينا وحلّ بيننا، فتقدّم إليه الكاتب اليهودي ممثِّلاً الأمة اليهوديّة كلها يسأله أن يتبعه، ظانًا أنه مَلكًا أرضيًا. لقد التصق به اليهود أولاً بفكرهم المادي حاسبين أنه يخلّصهم من الاستعمار الروماني ويسيطر بهم على العالم... وبفكرهم المادي هذا وجدت الثعالب الماكرة لها أوْجرة في داخلهم، وطيور السماء المتشامخة في قلوبهم أوكارًا. سلكوا بخبث الثعالب وبكبرياء الطيور، فلم يكن ممكنًا أن يجد السيّد المسيح البسيط والمتواضع موضعًا في داخلهم يسند فيه رأسه. إن كان الآب هو رأس المسيح، فإن السيّد المسيح وهو يشتهي أن يستريح في كل قلب ليدخل بالآب فيه خلال الصليب لا يجد موضعًا للمصالحة مع الخبيث المتعالي. ليهبنا الله قلوبًا متواضعة بسيطة فلا تجد الثعالب لها فينا أوْجرة ولا الطيور المتشامخة أوكارًا، إنّما يسند السيّد المسيح رأسه فيها، مقدّسا إيّاها هيكلاً مقدّسًا وسماءً ثانية، ومنزلاً له ولأبيه. يقول القدّيس أغسطينوس: [لقد رفض رب المجد إنسانًا متكبّرا من تلمذته، هذا الذي أراد أن يتبعه... لقد قال له ما معناه: إن فيك خداعًا كالثعالب وكبرياء كطيور السماء، أمّا ابن الإنسان البسيط غير المخادع والمتواضع بلا كبرياء فليس له فيك أين يسند رأسه... إنه يسند رأسه ولا يرفعها، قاصدًا التواضع.] يقول القدّيس جيروم: [إن هذا الكاتب قد رفضه (الرب) لأنه شهد المعجزات العظيمة وأراد أن يتبع المخلّص لينتفع من المعجزات. كان يتمنّى ما تمنّاه سيمون الساحر عندما أراد شراء الموهبة من بطرس، لهذا أدان المسيح إيمان هذا الكاتب وقال له: لماذا تريد أن تتبعني؟ هل من أجل الغنى والمكسب؟ إنّني فقير جدًا ليس لي مأوى أو حتى سقف يظلّلني!] ويكتب القدّيس جيروم في إحدى رسائله موضّحًا كيف نقيم الموضع الذي فيه يسند السيّد رأسه، قائلاً: [ابن الإنسان ليس له أين يسند رأسه، فهل تخطط أنت لإقامة مبانٍ شاهقة وقاعات فسيحة؟! إن كنت تنظر أن ترث خيرات هذا العالم فإنك لا تستطيع أن تكون شريكًا مع المسيح في الميراث (رو8: 17).] المثال الثاني: "وقال له آخر من تلاميذه: "يا سيّد ائذن لي أن أمضي أولاً وأدفن أبي. فقال له يسوع: اتبعني ودع الموتى يدفنون موتاهم"[21-22]. إن كان الكاتب الأول قد تقدّم ليتبع السيّد وبسبب تمسكه بفكره المادي ورياء قلبه حُرم من التمتّع بالتلمذة له، فإن هذا الكاتب الآخر كان يمثّل الأمم الذين مات آباؤهم في عبادة الأوثان، وفي شعور بالعوز والاحتياج تقدّموا يطلبون التلمذة له. لقد قبلهم السيّد من أجل عطشهم وجوعهم للبرّ، سائلاً إيّاهم أن يتركوا الموتى أي يتركوا آباءهم الذين فقدوا حياتهم الروحيّة وعاشوا كأموات. لعلّ هذا الكاتب كان مشتاقًا أن يتبع السيّد، وكأن العائق هو أباه الذي في سن الشيخوخة، فطلب السيّد منه أن يأذن له أن يبقى مع والده حتى يموت وعندئذ يكرِّس حياته له. طلب السيّد منه أن يترك الأموات حسب الروح أن يدفنوا من يموت حسب الجسد، أمّا هو فيتفرّغ للخدمة. وكأن السيّد أراد أن يميّز بين الأموات حسب الجسد والأموات حسب الروح. خدمة دفن الأموات حسب الجسد أمر سهل يمكن للجميع أن يقوموا به، أمّا ما هو أهم، فهو دفن الأموات حسب الروح مع السيّد المسيح ليقوموا معه، أي خدمة الكرازة بالمسيح المصلوب القائم من الأموات حتى ينعم الأموات بالروح بالقيامة الروحيّة. بمعنى آخر يسأله السيّد ألا يبكي على الميّت حسب الجسد، حتى وإن كان والده، إنّما يبكي على الميّت حسب الروح، وإن كان ليس قريبًا له حسب الدم أو الجنس! v فلتبكِ بالأحرى على الذين يتركون الكنيسة بسبب جرائمهم وخطاياهم، الذين يسقطون تحت الدينونة بسبب أخطائهم. القدّيس جيروم v كان هناك ميّت يحتاج إلى دفن، ووجد أموات أيضًا يدفنون الميّت. واحد ميّت بالجسد والآخرون أموات بالروح. v كيف يحدث موت للنفس؟ عندما لا يوجد إيمان! كيف يحدث موت للجسد؟ عندما لا توجد النفس! إذن فنفس النفس هو الإيمان. يقول المسيح: من آمن بي، وإن كان ميّتًا بالجسد، فإنه يحيا في الروح، حتى يقوم الجسد أيضًا ولا يموت بعد. القدّيس أغسطينوس v كما أن الجسد يموت بفقده النفس التي هي حياته، هكذا تموت النفس بفقدها الله الذي هو حياتها. v يريدنا أن نموت لكي نعيش، فإنّنا نعيش لكي نموت! القدّيس أغسطينوس 5. تهدئة الأمواج "ولما دخل السفينة تبعه تلاميذه، وإذا اضطراب عظيم قد حدث في البحر حتى غطّت الأمواج السفينة، وكان هو نائمًا. فتقدّم تلاميذه وأيقظوه، قائلين: يا سيّد نجّنا فإنّنا نهلك. فقال لهم: ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان؟ ثم قام وانتهر الرياح والبحر فصار هدوء عظيم. فتعجّب الناس، قائلين: أي إنسان هذا، فإن الرياح والبحر جميعًا تطيعه"[23-27]. دخل السيّد السفينة وتبعه تلاميذه، وفجأة حدث اضطراب عظيم، فقد عُرف بحر الجليل بالعواصف العنيفة المفاجئة، وهو بحيرة صغيرة طولها ثلاثة عشر ميلاً وأكبر أجزاء عرضها ثمانية أميال. ما حدث إنّما يقدّم لنا صورة حيّة للكنيسة في جهادها في بحر هذا العالم، فإنها تُهاجَم بعواصف شديدة يثيرها الشيطان ضدّها، إذ لا يطيق المسيح الحالّ فيها رأسًا لها، فيظن حتى التلاميذ أحيانًا أنهم يهلكون. لكن يتجلّى مسيحها الحيّ ليعطيها سلامه. وما أقوله عن الكنيسة إنّما أكرّره بخصوص المؤمن كعضو في الكنيسة المقدّسة الذي ينعم بهذه العضويّة خلال مياه المعموديّة، فيتمتّع بسكنى السيّد المسيح فيه، ويصير ملكوتًا سماويًا وهيكلاً لله. هذا لا يعني توقُّف التجارب عن مهاجمته، بل بالعكس يزداد هجومها بالأكثر من أجل السيّد المسيح الساكن فيه. لكنها تعجز عن أن تهلكه مادام المؤمن في يدّ عريسه، في سهر روحي ويقظة بلا نوم. يعلّل القدّيس يوحنا الذهبي الفم حدوث ذلك قائلاً: [لقد نام لكي يعطي فرصة لظهور خوفهم، ولكي يجعل فهمهم لما يحدث أكثر وضوحًا... لكنه لم يفعل هذا في حضرة الجماهير حتى لا يُدانوا على قلّة إيمانهم، وإنما انفرد بهم وأصلح من شأنهم، وقبل أن يُهدئ عاصفة المياه أنهى أولاً عاصفة نفوسهم موبّخا إيّاهم: لماذا شككتم يا قليلي الإيمان؟ معلّمًا إيّاهم أيضًا أن الخوف سببه ليس اقتراب التجارب إنّما ضعف ذهنهم.] هكذا يظهر السيّد المسيح معلّمًا مُحبًا وأبًا مترفّقا، يريد أن يكشف جراحاتهم ويظهر لهم ضعفهم دون أن يجرح مشاعرهم، إذ سحبّهم من وسط الجماهير ليعلّمهم عمليًا ما في قلوبهم وأذهانهم من ضعفات. إنه يقدّم لنا المثال الحق للأبوة الحانية التي لا تتساهل مع الخطيّة والخطأ، لكنها لا تشهِّر بالابن الخاطئ. تفضحه أمام نفسه لا أمام الآخرين، مرّة ومرّات، وأخيرًا إن احتاج الأمر يستخدم التأديب العلني كتوبيخه للكتبة والفرّيسيّين. في أبوّته قدّم السيّد العلاج الأصيل مُظهرًا أن سرّ التعب الحقيقي ليست الرياح الخارجيّة والعواصف الظاهرة إنّما رياح النفس غير المستقرة وأمواجها الداخليّة بسبب عدم إيمانها، لهذا هدّأ نفوسهم في الداخل وعندئذ أسكت الخارج! لقد نام السيّد في السفينة، الأمر الذي يحدث فينا حين نتعلّق بالخطايا ونتفاعل معها، ولا نترك ربّنا يسوع يعمل فينا ويقود سفينة حياتنا، لذلك يرى القدّيس جيروم أننا نوقظ السيّد بالتوبة عن خطايانا، إذ يقول: [إن كان بسبب خطايانا ينام فلنقل: "استيقظ لماذا تتغافى يا رب؟!" (مز 44: 23). وإذ تلطم الأمواج سفينتنا فلنوقظه قائلين: "يا سيّد نجّنا فإنّنا نهلك" (مت8: 25، لو8: 24).] ويرى القدّيس أغسطينوس أن نوم السيّد المسيح إنّما هو تجاهلنا الإيمان له ونسياننا إياه، فيكون المسيح الذي يحلّ بالإيمان في قلوبنا (أف 3: 17) كمن هو نائم في قلوبنا. لهذا يلزمنا أن نوقظهk أي نستدعي إيماننا به. بالإيمان الحيّ نلتقي بعريسنا القادر وحده أن يهدّئ الأمواج الثائرة ضدّنا في الداخل كما في الخارج. ويُعلّق أيضًا القدّيس أغسطينوس على هذه المعجزة سائلاً إيّانا أن نوقظ السيّد المسيح فينا بتذكُّرنا كلماته التي لها فاعليّتها فينا، إذ يقول: [البحارة هم النفوس التي تعبر هذا العالم في السفينة التي هي رمز الكنيسة. في الحقيقة كل إنسان هو هيكل الله، وقلبه هو السفينة التي تبحر ولا تغرق إن كانت أفكاره صالحة. لقد سمعتَ إهانة، فهي ريح! لقد غضبتَ، فهذه موجه! إذ تهب الرياح (الإهانات) وتعلو الأمواج (الغضب) تصبح السفينة في خطر، ويصير القلب في تهلكةk يترنّح هنا وهناك. عندما تسمع إهانة تشتاق إلى الانتقام، وتُسر بضرر الآخرين فتهلَك. لماذا يحدث هذا؟ لأن المسيح نائم فيك... إنك نسيت المسيح! أيقظه فيك، أي تذَكِّره. نبِّهه إلى اشتياقاتك بأنك تريد أن تنتقم... تذَكِّره، بتذكُّر كلماته، وبتذكُّر وصاياه... ما قلته عن الغضب ينطبق على أية تجربة أخرى. فإنه إذ تهاجمك التجربة يكون ذلك ريحًا، وإذ تضطرب يكون أمواجًا. لتوقظ المسيح! دعه يتكلّم فيك... "أي إنسان هذا فإن الرياح والبحر جميعًا تطيعه"؟ [27] .] ويرى القدّيس كيرلّس الكبير أن إيقاظ المسيح إنّما يعني الصراخ إليه وسط الضيقات والآلام والاتّكال عليه، إذ يقول: [المسيح حال وسط مختاريه، وإذ يسمح لهم بحكمته المقدّسة أن يعانوا من الاضطهاد يبدو نائمًا. ولكن إذ تبلغ العاصفة عنفها والذين في صحن السفينة لا يقدرون أن يحتملوا يلزمهم أن يصرخوا: "قم لماذا تتغافى يا رب" (مز 44: 23)، فإنه يقوم وينزع كل خوف بلا تأخير. إنه ينتهر الذين يحزنوننا (أي عواصف الضيق، سواء كانت في الداخل أو الخارج، إن كانت حربًا من الشيطان أو تعبًا جسدانيًا أو مشاكل)، ويحوّل حزننا إلى فرح، ويكشف لنا سماءً مضيئة بلا اضطرابات، إذ لا يحوِّل وجهه عن الذين يتّكلون عليه.] ويُعلّق القدّيس أغسطينوس أيضًا على خضوع الطبيعة له، قائلاً: [لتمتثل بالرياح والبحر! أطع الخالق! لقد أصغى البحر للمسيح وأنت ألا تنصت له؟ سمع البحر وهدأت الرياح وأنت أفلا تهدأ؟ إنّني أقول وانصح بأن ما هذا إلا عدم هدوء وعدم رغبة في طاعة كلمة المسيح... لا تدع الأمواج تسيطر على قلبك فيضطرب. فإنّنا إن كنّا بشرًا لا نيأس متى هبّت الرياح وثارت عواصف أرواحنا، إذ نوقظ المسيح فنبحر في بحر هادئ ونصل إلى موطننا.] وللعلامة أوريجينوس تعليق على هذا الحدث "تهدئة الأمواج" نقتطف منه الآتي: [لم تثر العاصفة من ذاتها بل طاعة لسلطانه: "المُصعِد السحاب من خزائنه" (مز 135: 7)، "الذي وضع الرمل تُخومًا للبحر" (إر 5: 22)... فبأمره وكوصيّته ارتفعت العاصفة في البحر... لكن قدر ما تعظُم الأمواج الثائرة ضدّ القارب الصغير، يصعد خوف التلاميذ، فتزداد رغبتهم في الخلاص بأعاجيب المخلّص. لكن المخلّص كان نائمًا، يا له من أمر عظيم وعجيب! هل الذي لا ينام ينام الآن؟! الذي يدبّر السماء والأرض، هل ينام؟... نعم إنه ينام بجسده البشري، لكنّه ساهر بلاهوته... لقد أظهر أنه حملَ جسدًا بشريًّا حقيقيًا... لقد نام في جسده، وبلاهوته جعل البحر يضطرب كما أعاد إليه هدوءه، نام في جسده لكي يوقظ تلاميذه ويجعلهم ساهرين. هكذا نحن أيضًا إذ لا ننام في نفوسنا ولا في فهمنا ولا في الحكمة بل نكون ساهرين على الدوام، نمجِّد الرب ونطلب منه خلاصنا بشغف... حقًا إن كثيرين يبحرون مع الرب في قارب الإيمان، في صحن سفينة الكنيسة المقدّسة، وسط حياة مملوءة بالعواصف، إنه نائم في هدوء مقدّس يرقب صبركم واحتمالكم، متطلّعا إلى توبة الخطاة ورجوعهم إليه. إذن، تعالوا إليه بشغف في صلاة دائمة، قائلين مع النبي: "استيقظ لماذا تتغافى يا رب؟ انتبه، لا ترفض إلى الأبد... قم عونًا واِفدنا من أجل اسمك" (مز44: 23، 26). إذ يقوم يأمر الرياح، أي الأرواح الشيطانيّة الساكنة في الهواء والمثيرة لعواصف البحر، والتي تسبب الأمواج الشرّيرة القاتلة... وتثير اضطهادات ضدّ القدّيسين وتسقط عذابات على المؤمنين في المسيح، لكن الرب يأمر الكل، وينتهر كل الأشياء، فيلتزم كل شيء بما عليه يدبّر كل الأمور ويهب النفس والجسد سلامًا، ويرد للكنيسة سلامها ويُعيد للعالم الطمأنينة... إنه يأمر البحر فلا يعصاه، ويحدّث الرياح والعواصف فتطيعه! يأمر كل خليقته فلا تتعدّى ما يأمر به، إنّما جنس البشر وحدهم هؤلاء الذين نالوا كرامة الخلقة على مثاله ووُهِب لهم النطق والفهم، هؤلاء يقاومونه ولا يطيعونه. هم وحدهم يزدرون به! لذلك فإنهم يُدانون ويعاقَبون بعدله! بهذا صاروا أقل من الحيوانات العجماوات والأشياء الجامدة التي في العالم بلا إحساس ولا مشاعر!] 6. مجنونا كورة الجرجسيّين يذكر معلّمنا متّى البشير أن السيّد المسيح بعد عبوره إلى البرّ شفى مجنونين بكورة الجرجسيّين، بينما يذكر معلّمنا مرقس (5: 1) ومعلّمنا لوقا (8: 26) أنه شفى مجنونًا بكورة الجدريّين، فهل هما حدث واحد أم أكثر؟ إذ يكتب معلّمنا متّى لليهود ذكر "كورة الجرجسيّين" محدّدًا المدينة وهي "جرجسة"، التي تقع على الشاطئ الشرقي لبحر الجليل، وهي لا تزال خرائب تعرف باسم "كرسة" مقابل مجدلة على مسافة خمسة أميال من دخول الأردن إلى البحيرة. وهناك بين وادي سمك ووادي فيق حيث تقترب الهضاب إلى البحر ممّا يسهل لقطيع الخنازير أن يندفع مهرولاً إلى البحر. أمّا القدّيسان مرقس ولوقا فإذ هما يكتبان للأمم لم يهتمّا بالبلدة وإنما باسم المقاطعة كلها "كورة الجدريّين". ويبدو أن أحد المجنونين كان شخصيّة معروفة هناك، وأن جنونه كان شديدًا بطريقة واضحة فاهتم به القدّيسان لوقا ومرقس متجاهلين المجنون الآخر. يروي لنا الإنجيلي متّى هذه المعجزة هكذا: "ولما جاء إلى العبر إلى كورة الجرجيسيّين استقبله مجنونان، خارجان من القبور، هائجان جدًا، حتى لم يكن أحد يقدر أن يجتاز من تلك الطريق. وإذ هما قد صرخا قائلين: ما لنا ولك يا يسوع ابن الله، أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذّبنا؟" [28-29] بعد معجزة تهدئة الأمواج وإنقاذ السفينة التي هي الكنيسة قام السيّد بإنقاذ هذين المجنونين، وهما يشيران إلى عنف سطوة الشيطان على الإنسان، روحًا وجسدًا. كان المجنونان الخارجان من القبور يشيران إلى الروح والجسد، وقد خضعا لحالة من الموت بسبب الخطيّة، فقط ملك الشيطان على الروح، ففقدت شركتها مع الله، أي فقدت سرّ حياتها. وملك الشيطان على الجسد، ففقد سلامه مع الروح، وانحلّ بعيدًا عن غايته، فصارت دوافعه وأحاسيسه منصبّة نحو الذات، يطلب المتعة الوقتيّة. هذا هو فعل الخطيّة، أنها تدفن الروح والجسد كما في القبور، ويصير الإنسان كما في حالة هياج شديد لا يعرف السلام له موضع فيه، بل ولا يترك الآخرين يعبرون الطريق الملوكي. يتعثّر الآخرين، فلا ينعم بالحياة الحقيقية ويحرم الآخرين منها. مجرّد عبور السيّد في الطريق فضح ضعف الخطيّة وأذل الشيطان الذي صرخ على لسان المجنونين: "مالنا لك يا يسوع ابن الله، أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذّبنا؟" هذا هو طريق خلاصنا من سلطان إبليس أن يعبّر بنا المسيّا المخلّص، الذي وحده يقيمنا من قبورنا ويحرّرنا من سلطان الخطيّة. يقول القدّيس جيروم: [إذ رأت الشيّاطين المسيح على الأرض ظنّوا أنه جاء يحاكمهم! وجود المخلّص في ذاته هو عذاب للشيّاطين.] "وكان بعيدًا منهم قطيع خنازير كثيرة ترعى، فالشيّاطين طلبوا إليه قائلين: إن كنت تخرجنا فأذَِن لنا أن نذهب إلى قطيع الخنازير. فقال لهم: امضوا. فخرجوا ومضوا إلى قطيع الخنازير، وإذا قطيع الخنازير كلّه قد اندفع من على الجرف إلى البحر ومات في المياه. أمّا الرعاة فهربوا ومضوا إلى المدينة، وأخبروا عن كل شيء، وعن أمر المجنونين، فإذا كل المدينة قد خرجت لملاقاة يسوع، ولما أبصروه طلبوا أن ينصرف عن تخومهم" [30-34]. ربّما يتساءل البعض: لماذا سمح الله للشيّاطين أن تذهب إلى قطيع الخنازير؟ ما ذنب هذه الخليقة؟ وما ذنب أصحابها؟ أولاً: لم تحتمل الخنازير دخول الشيّاطين بل سقط القطيع كلّه مندفعًا إلى البحر ومات في الحال، وكأن السيّد أراد أن يوضّح عنف الشيّاطين، فما حدث للمجنونين كان أقل بكثير ممّا حدث للخنازير... معلنًا أن الله لم يسمح للشيّاطين أن تؤذي المجنونين إلا في حدود معيّنة. يُعلن القدّيس يوحنا الذهبي الفم على ما حدث للخنازير عندما دخلتها الشيّاطين، قائلاً: [هكذا تفعل الشيّاطين عندما تسيطر! هذا مع أن الخنازير بالنسبة للشيّاطين ليست ذات أهمّية، أمّا نحن فبالنسبة لهم توجد بيننا وبينهم حرب بلا هوادة، ومعركة بلا حدود، وكراهيّة بلا نهاية
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 1:41 pm

    الأصحاح التاسع

    أعماله الملوكيّة 2

    يستعرض معلّمنا متّى الإنجيلي جانبًا من أعماله الملوكيّة:

    1. شفاء المفلوج 1-8.

    2. دعوة متّى 9-13.

    3. مفهوم الصوم 14-17.

    4. إقامة الصبيّة 18-26.

    5. شفاء أعميين 27-31.

    6. شفاء مجنون 32-34.

    7. الكرازة في المدن والقرى 35-38.

    1. شفاء المفلوج

    "فدخل السفينة واجتاز وجاء إلى مدينته" [ع 1].

    ما هي مدينته؟

    أولاً: من الجانب الروحي يمكن أن نفهم مدينته أي مدينة الله على أنها السماوات، فإن السيّد المسيح بعدما شفى المجنونين أي قدّم الخلاص لليهود والأمم، وإن كان قد رفضه أهل الكورة، أي أهل العالم المحبّين للعالم والمستعبدين للزمنيّات، ركب السفينة التي هي كنيسته المقدّسة ليبحر بها خلال مياه هذا العالم إلى مدينته الإلهيّة، التي هي السماوات، لتستريح هناك في الحضن الإلهي.

    ثانيًا: ما هي مدينة الله إلا كنيسته التي يسكن في وسطها، ويُعلن ملكوته الأبدي في داخلها. فعودة السيّد إلى مدينته بعد رفضه في كورة الجرجسيّين إنّما يُشير إلى دخوله في حياة مؤمنيه بعدما رفضه اليهود. يقول القدّيس هيلاري أسقف بواتييه: [بطريقة سرّيّة إذ رفضته اليهوديّة عاد إلى مدينته، مدينة الله هي الشعب المؤمن، إذ دخل إليهم بواسطة السفينة، أي خلال الكنيسة.]

    خلال هذا المفهوم يمكننا أن ندرك سرّ استخدامه السفينة في العبور إليها، فإنه كان قادرًا أن يسير على المياه دون أن يغرق. لكنّه إذ يدرك حاجة السفينة إليه، يتظاهر بحاجته إليها، لكي تقبله فيها، فيستلم قيادتها ويعبر بها إلى الميناء الأبدي بسلام. لقد نزل إلينا يحمل جسدنا لا ليسير على المياه، وإنما ليدخل السفينة كواحدٍ منّا فيقودنا، أمّا سيره على المياه إنّما يستخدمه عند الضرورة ولتأكيد غلبته على العالم الشرّير. لو سار السيّد في كل مرّة على المياه لما تأكّدنا من ناسوته، ولظن البعض خيالاً لا يحمل طبيعتنا، فنُحرم من دخوله إلى السفينة، وتحرم السفينة من قدرتها على الإبحار.

    ثالثًا: من الناحية الجغرافيّة فإن مدينته هي كفرناحوم كما يظهر من إنجيل مار مرقس (2: 1)، فقد كانت هذه المدينة هي مركز خدماته وتنقّلاته في تلك المرحلة من خدمته. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [مدينته هنا تعني كفرناحوم. لقد استقبلته مدينة في ميلاده هي بيت لحم، ثم أخرى فيما بعد هي الناصرة، فثالثة استقبلته كمواطن فيها هي كفرناحوم.] لقد قبل في ميلاده بيت لحم أي بيت الخبز كموضع ميلاده، مقدّمًا نفسه خبزًا لكل جائع، يأتي إليه فيها البسطاء كالرعاة، والحكماء المتواضعين كالمجوس، اليهود كما الأمم. وبعد عودته من مصر يتقبّل الناصرة، أي الغصن أو المحتقر كموطن له، حتى يلتقي به كل من يقبل الاتّحاد معه كغصن في الكرمة (يو 15: 2)، وأخيرًا يقبل كفرناحوم موطنًا له، أي كفر التعزية، أو النياح, الموضع الذي فيه تجد كل نفس تعزيتها وراحتها بروحه القدّوس المعزّي.

    العجيب أن الابن الكلمة الذي به كان كل شيء، إذ قبل إنسانيّتنا اشترك معنا في كل شيء ما عدا الخطيّة، فقبِل أن تكون له مدينته أو وطنه، مقدّسًا بهذا حق "المواطنة"، فيلتزم كل مسيحي بالأمانة نحو وطنه، مقدّمًا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. كأن اتّساع قلبه لكل البشريّة إنّما يكمّله التزامه بواجباته الوطنية.

    ماذا يفعل السيّد في مدينته؟

    "وإذا مفلوج يقدّمونه إليه مطروحًا على فراش.

    فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج:

    ثق يا بنيّ مغفورة لك خطاياك" [2].

    دخل السيّد إلى مدينته، أي إلى شعبهن لكي يشفي فالج نفوسهم الداخلي، واهبًا الصحّة لنفوسهم التي فقدت كل حيويّتها، وعندئذ يشفى أجسادهم من الفالج الظاهري. هذا ما صنعه السيّد ويصنعه في كل جيل، فخلال قيامته وهب نفوسنا - بالإيمان - الحياة الجديدة، فتخرج من مياه المعموديّة مقامة معه تنعم بالميلاد الروحي الجديد، خلال هذه القيامة الداخليّة نسلك في رجاء ننتظر فداء أجسادنا، كقول الرسول: "نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضًا، نئن في أنفسنا، متوقّعين التبنّي فداء أجسادنا، لأننا بالرجاء خلصنا" (رو 8: 23-24). نلنا فيه قيامة النفس لندخل ملكوته الألفي الذي نحياه الآن، منتظرين قيامة أجسادنا في يوم الرب العظيم إلى سماواته، فنراه وجهًا لوجه ونحيا معه بلا تغرّب.

    يُعلّق القدّيس جيروم على اهتمام السيّد بالنفس قائلاً: [في هذا نجد مثالاً للنفس المريضة الراقدة في جسدها وقد خارت قواها، وها هي تُقدّم للرب الطبيب الكامل واهبًا إيّاها الشفاء.]

    ويرى القدّيس هيلاري أسقف بواتييه في هذه المعجزة صورة حيّة لعمل السيّد المسيح داخل الكنيسة إذ يغفر الخطايا واهبًا النفس الشفاء متمتّعة بالبنوّة لله، إذ يدعوه "يا بنيّ"، الأمر الذي عجز عنه الناموس، كما يقول القدّيس: [في المفلوج أُحضر إليه كل الأمم لينالوا الشفاء... لقد دعاه "يا بنيّ" لأنه عمل الله. لقد غفر له خطاياه، الأمر الذي لم يستطع أن يفعله الناموس، إذ بالإيمان وحده (لا الناموس) يتبرّر. إنه يُعلن قوّة القيامة بحمله السرّير ليعلِّم بأن في السماء ستكون الأجساد بلا ضعفات.]

    لقد لفت أنظار آباء الكنيسة في هذه المعجزة اهتمام الإنجيليّين بالكشف عن فاعلية حياة الشركة الروحيّة، فيستند المؤمن على إخوته في المسيح يسوع ربّنا، كما يسند هو الآخرين، ويعيش الكل كبناء واحد متكامل يرتكز على "المسيح يسوع" حجر الزاوية.

    لقد حمل المؤمنون المفلوج، وشفاه الرب من أجل إيمانهم، إذ يقول الإنجيلي: "فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج: ثق يا بنيّ مغفورة لك خطاياك" [2]. ما أحوجنا أن نُحمل بإيمان الآخرين، ونحمل نحن الآخرين بإيماننا!

    v ليتنا أول كل شيء نردّد ما سبق فقلناه، إنه إن كان أحد مريضًا فليطلب صلوات الآخرين حتى يردُّوه إلى الصحّة (مت 9: 2)، فخلال شفاعتهم يُردْ هيئة جسدنا الواهن، أي خطوات أعمالنا المتردّدة إلى الصحّة، بعلاج الكلمة السماوي. ليتهم يسندوا النفس حتى تقوم، هذه الملقاة بلا حراك في ضعف الجسد الخارجي، فإنه خلال معونتهم يحمل الإنسان كلّه ويدُلى في حضرة يسوع، فيتأهّل لأن يكون موضع رؤية يسوع.

    v هل فقدت الثقة بسبب خطاياك الخطيرة؟ أطلب صلوات الآخرين! استدع الكنيسة فتصلّي عنك، فإن الرب يتطلّع إليها ويهبك ما يرفضه بالنسبة لك.

    القدّيس أمبروسيوس

    إن قارنّا بين شفاء هذا المفلوج وشفاء مفلوج بيت حسدا (يو 5)، نجد أن السيّد المسيح هنا ينتظر في البيت، لا لكي يدخل به أحباؤه، وإنما لكي ينقبوا أيضًا السقف ويدلّوه، أمّا الآخر فذهب السيّد نفسه إليه يسأله إن كان يريد أن يبرأ. هذا المفلوج شُفيت نفسه أولاً من الخطيّة، وعندئذ حمل سريره ومشى، أمّا الآخر فشُفى جسده أولاً، وبعد ذلك التقى به ليطالبه ألا يخطئ بعد. فهل لدى الله محاباة، يعامل إنسانًا بطريقة، والآخر بطريقة أخرى؟ إنه بلا شك الأب محب البشر الذي يعرف أن يقدّم لكل ابن ما هو لبنيانه، فهو لا يميّز بين البشر، إنّما يميّز في الوسيلة بما يناسب كل أحد. فالمفلوج هنا له أصدقاؤه الذين يحبّوه ويقدرون أن يحملوه بعدما أخبروه عن أعمال المسيّا التي انتشرت. لهذا انتظرهم السيّد ليحملوا فيهم الروح الكنسيّة الجماعيّة، وينالوا إكليل الحب الجماعي. وبدأ بشفاء نفسه، لأن المريض يدرك الكثير عن المسيح وأعماله، فأراد أن يوجّهه إلى شفاء الفالج الداخلي. أمّا مفلوج بيت حسدا فله ثمانية وثلاثون عامًا في المرض، ليس له من يسنده ولا من يعينه، تحطّمت نفسه. فهو محتاج إلى مجيء السيّد بنفسه إليه، وشفاء جسده أولاً عندئذ يوجّهه إلى حياته الداخليّة.

    مقاومة الكتبة

    إن كان المؤمنون يحملون بعضهم البعض، ويسندون بعضهم البعض لكي ينعم الكل بالحضرة الإلهيّة، ويتمتّع المريض بشفاء النفس والجسد، كما فعل حاملو المفلوج، فإنه يوجد أيضًا من هم بالكبرياء يحطّمون غيرهم. كان يلزم للكتبة أن يحملوا المفلوج للسيّد، لأنهم مؤتمنون على الشريعة التي غايتها الدخول بالنفوس المصابة بالفالج إلى المسيّا المخلّص، لكنهم عِوض أن يكرزوا لاخوتهم ويشهدوا للمسيح فينالوا الشفاء، صاروا ناقدين يشوّهون الحق ويقاومون العمل الإلهي. صاروا يجدّفون على السيّد في أفكارهم، لكن السيّد لم يتركهم في شرّهم، ولا تجاهل خلاصهم، إنّما في رقة وبّخهم، لا ليفحمهم، وإنما بالأحرى لكي ينقذ أفكارهم من التجديف المهلك، قائلاً لهم: "لماذا تفكّرون بالشرّ في قلوبكم. أيّهما أيسر: أن يقال لك مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال: قم وأمش؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا حينئذ قال للمفلوج: قم احمل فراشك واذهب إلى بيتك" [4-6]. لقد أكّد لهم أنه الله العالم بالأفكار، فكشف لهم ما بداخلهم، وأكّد لهم أنه غافر الخطايا بطريقة ملموسة تناسب فكرهم المادي بشفائه المفلوج فورًا. لقد غفر للمفلوج خطاياه، وهاهو يفتح الباب لهم كي ينعموا هم بما ناله.

    حمل السرير

    بلا شك لحمل السرّير ذكريات مرّة عند المفلوج، فقد نام عليه سنوات طويلة يئن من المرض والحرمان؛ كان يمثّل القيد الذي ارتبط به زمانًا طويلاً أفقده بهجة الحياة وحيويّتها. حمْل السرّير إنّما يُشير إلى تذكُّر الخطايا الماضية فيقدّم الإنسان شكره الدائم لله واهب الحياة. حمْل السرّير يسند النفس فلا تسقط في الكبرياء، إذ تذكر سنوات العبوديّة المرة للمرض.

    يرى القدّيس أمبروسيوس في حمْل هذا السرّير صورة رمزيّة لقيامة الجسد، فبعدما كانت النفس تحمل الجسد كسرير ألم مرّ، يصير في القيامة سرّ بهجة دائمًا لا يتعرّض بعد لتجربة أو ألم، إذ يقول: [ماذا يعني هذا السرّير الذي طُلب منه أن يحمله، إلا أن يقدّم جسده البشري؟ هذا هو السرّير الذي كان داود يغسله كل ليلة كما نقرأ: "أغسل سريري، أغسل فراشي بدموعي" (مز 6: 7). هذا هو سرير الألم الذي تضطجع فيه نفسنا المريضة بعذاب الضمير الخطير. لكن إن حمَل أحد هذا السرّير بوصايا المسيح لا يعود بعد سريرًا للألم بل للراحة. فما كان قبلاً موتًا بدأ الآن يصير للراحة، وذلك بفعل مراحم الرب التي غيرّت نوم موتنا إلى نعمة بهجة الرب.]

    العودة إلى بيته

    أمَره السيّد: "اذهب إلى بيتك" [6]،يؤكّد الإنجيلي أنه مضى إلى بيته، فما هو هذا البيت الذي حُرم منه المفلوج طوال هذا الزمان من مرضه؟

    لقد حرمت الخطيّة الإنسان من بيته الأول، أي الفردوس، فخرج منه يحمل أثقال المرارة، ويدب فيه الموت الأبدي، وقد بقيَ في الناموس الطبيعي فالموسوي كمن هو متغرّب في الشوارع، عاجز عن العودة إلى حياته الفردوسية الأولى، والراحة في البيت الذي أقامه له الرب نفسه. نستطيع أيضًا أن نقول بأنه بيته الحقيقي هو "الله" نفسه، ففيه وحده يستريح الإنسان كمن في حضن أبيه، وإذ صار بالخطيّة في عداوة مع أبيه جاء الابن الوحيد إلينا، وحملنا فيه، ليدخل بنا إلى حضن أبيه أولادا لله. هذه هي العودة إلى بيتنا الأول!

    v لم يأمره فقط أن يحمل سريره، وإنما أن يعود أيضًا إلى بيته، أي أخبره أن يعود إلى الفردوس، فإن هذا هو بيت الإنسان الحقيقي، الذي استقبله أولاً، هذا الذي فقده ليس خلال الناموس وإنما خلال الضلال. حقًا لقد أُعيد إلى بيته، إذ جاء من هو بالحق يحطم الضلال ويعيد الحق.

    القدّيس أمبروسيوس

    v خُلق الإنسان لكي يتطلّع إلى خالقه، ويسكن في جماله، ويحيا في فرح محبّته، لكن بالعصيان فقد مسكنه وصار يتجوّل في الطرق المظلمة، وذهب بعيدًا عن مسكن النور الحقيقي.

    v الخالق نفسه هو موضع الإنسان، لكن ليس كمكان، فقد جبله ليسكن فيه. وإذ أعطى الإنسان أُذنه للمجرِّب هجر مسكنه، هجر حب الخالق. لكي يخلّصنا القدير ظهر لنا جسديًا، وإن أمكنني القول، أنه اقتفى أثر الإنسان الذي هرب منه وجاء به إليه كموضع يُحفظ فيه الإنسان المفقود.

    الأب غريغوريوس (الكبير)

    2. دعوة متّى

    يروي لنا الإنجيلي متّى قصة دعوته لتبعيّة المسيح في كلمات مختصرة: "وفيما يسوع مجتاز من هناك، رأى إنسانًا جالسًا عند مكان الجباية اسمه متّى، فقال له: اتبعني، فقام وتبعه" [9].

    كان متّى (لاوي) جالسًا عند مكان الجباية وكان قلبه وكل أحاسيسه وأفكاره قد اِمتُصِّت بالكامل في أمور هذه الحياة وغناها. وكان الأمر يحتاج إلى كلمة من السيّد المسيح: "اتبعني"، قادرة أن تفك رباطاته وتسحب قلبه إلى السماويات، دون تردّد، وبغير حاجة إلى مشورة عائلته أو أصدقائه.

    لحق الإنجيلي دعوته باجتماع السيّد بالعشّارين والخطاة، أو كما يقول الإنجيلي لوقا: "صنع له ضيافة كبيرة في بيته، والذين كانوا متكئين معهم كانوا جمعًا كثيرًا من عشّارين وآخرين" (لو 5: 29).

    حقًا إذ يتقبّل الإنسان نعمة الله الغنيّة يتبرّر القلب من مكان الجباية حيث دفاتر الحسابات والخزائن المكدّسة بالمال، لا ليعيش في عوزٍ، وإنما ليتقبّل السيّد المسيح نفسه سرّ شبعه وغناه. يقول الرسول بولس: "إنكم في كل شيء استغنيتم فيه" (1 كو 1: 5). يتحوّل القلب الذي كان مسرحًا للهم والقلق إلى ضيافة عظيمة ووليمة يقيمها السيّد المسيح نفسه، ليكون على رأس المتّكئين، يهبهم ذاته سرّ غناهم. وعِوض البرّيّة التي كانت سِمة القلب الخاطيء، يصير فينا فردوس الله المملوء من ثمر الروح القدس. يفرح السيّد نفسه بهذه الوليمة فيترنّم قائلاً: "قد دخلتُ جنتي يا أختي العروس، قطفتُ مرّي مع طيبي، أكلتُ شهدي مع عسلي، شربتُ خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب، اشربوا واسكروا أيها الأحباء" (نش 5: 1).

    في الظاهر صنع متّى الوليمة، لكن بالحق هي وليمة السيّد الذي يفرح بجنّته المثمرة في قلوب طالبيه، فيدعوا الخطاة والعشّارين ليذوقوا هذا الثمر المفرح، ويقتدوا بمن نال هذه النعم!

    لقد أعلن السيّد أننا لا نصوم مادام العريس حال في وسطنا، وكأنه يسألنا إذ نحمله فينا أن نفتح قلوبنا بالحب ليأكل من ثمره المقدّس فينا وندعو الآخرين يأكلون معه، قائلين: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب!"... إننا ندعوهم لينعموا بالوليمة الداخليّة التي أقامها الرب بروحه القدّوس فينا، هذه التي تسبّب تذمُّرًا بين الكتبة والفرّيسيّين، قائلين: لماذا يأكل معلّمكم مع العشّارين والخطاة؟ فيجيبهم: "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب بل المرضى. فاذهبوا وتعلّموا ما هو، إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آت لأدعو أبرارًا، بل خطاة إلى التوبة" [12].

    يُعلّق القدّيس أمبروسيوس على صنع الوليمة، قائلاً:

    [عندما ترك مكان الجباية تبع المسيح بقلبٍ ملتهبٍ، ثم صنع له وليمة عظيمة. فمن يقبل المسيح في قلبه يمتلئ بالأطاييب الكثيرة والسعادة الفائقة، ويود الرب نفسه أن يدخل في قلب المؤمن ويستريح!...

    كل من يقبل جمال الفضيلة، ويقبل المسيح في بيته، يصنع له وليمة عظيمة أي وليمة سماويّة من الأعمال الصالحة، هذه التي يحرم منها جماعة الأغنياء ويشبع منها الفقير.]

    هذه الوليمة يدخلها الخطاة والعشّارون الذين يشعرون بالحاجة إلى المخلّص لكي يبرّرهم، بينما يقف الفرّيسيّون خارجًا ينتقدون السيّد على محبّته المتّسعة لهم، لذلك أكّد لهم السيّد: "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب بل المرضى... لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة".

    يُعلّق القدّيس أغسطينوس على هذا القول الإلهي، قائلاً: [لو لم يحب الله الخطاة ما كان قد نزل من السماء إلى الأرض.]

    ويقول القدّيس أمبروسيوس: [إنه لا يدعو من يدعون أنفسهم أبرارًا، فإنهم إذ يجهلون برّ الله ويطلبون أن يُثبتوا برّ أنفسهم لم يخضعوا لبرّ الله (رو 10: 3). من يدعون أنفسهم أبرارًا لا تقترب إليهم النعمة. فإن كانت التوبة هي بداية النعمة فمن الواضح أن احتقار التوبة هو تخلي عن النعمة.]

    نختم حديثنا عن دعوة متّى الإنجيلي بالمناجاة التي ينطق بها القدّيس أمبروسيوس على لسانه بعد تركه موضع الجباية وتبعيّته للسيّد المسيح:

    [لست بعد عشّارًا، فقد تبررت من أن أكون لاويًا!

    لقد خلعت عنّي لاوي، ولبست المسيح!

    كرهت أسْري، وهربت من حياتي الأولى!

    إني لا أتبع آخر سواك أيها الرب يسوع! يا من تشفي جراحاتي!

    من سيفصلني عن محبّة الله التي فيك؟ أشدة أم ضيق أم جوع؟(رو 8: 35).

    تُسمّرني فيك بمسامير الإيمان، وتربطني بك قيود الحب الصالحة!

    وصاياك هي أداة الكيّ التي سأحتفظ بها على جرحي، إنها الوصيّة التي تحرق الموت الذي في الجسد، حتى لا تنتقل العدوى إلى الأعضاء الحيّة، إنه دواء مؤلم يحمي من عفونة الجرح!

    أيها الرب يسوع، اقطع بسيفك القوي عفونة خطاياي، وقيّدني برباطات الحب، نازعًا كل فساد فيّ!

    أسرع وتعال لتفضح الشهوات الخفيّة والمتنوّعة!

    اكشف الجرح فلا تزداد عفونته!

    طهّر كل فساد بحميم الميلاد الجديد.] ‏‏‏

    3. مفهوم الصوم

    "حينئذ أتى إليه تلاميذ يوحنا قائلين:

    لماذا نصوم نحن والفرّيسيّون كثيرًا،

    وأما تلاميذك فلا يصومون؟" [14].

    جاءت إجابة السيّد تكشف عن مفهوم الصوم بمنظار جديد، إذ قال:

    أولاً: "هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا مادام العريس معهم؟ ولكن ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون" [15].

    كأن الصوم ليس مجرّد واجب يلتزم به المؤمنون، إنّما هو عمل خاص ببني العرس الذين يصومون كمعين لهم في حياة الندامة (النوح) والتوبة، أي ليس كغاية في ذاته، وإنما من أجل الدخول إلى العريس والتمتّع بالعرس خلال التوبة. فإن كان العريس نفسه حاضرًا في وسطهم فما الحاجة إلى الصوم؟ إنه سيرتفع عنهم جسديًا فتمارس، الكنيسة صومها لتتهيّأ لمجيئه الأخير فتلتقي معه في العرس الأبدي. مادام العريس مرفوعًا لا نراه حسب الجسد، وجهًا لوجه، فيلزمنا أن نصوم لا عن الطعام فحسب، وإنما عن كل لذّة وترف من أجل طعام أفضل سماوي ولذّة روحيّة أبديّة وأمجاد علويّة هي في جوهرها تمتّع بالعريس نفسه.

    ثانيًا: "ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق، لأن الملء يأخذ من الثوب فيصير الخرق أردأ. ولا يجعلون خمرًا جديدة في زقاق عتيقة، لئلا تنشق الزقاق، فالخمر تنصب والزقاق تتلف، بل يجعلون خمرًا جديدة في زقاق جديدة فتحفظ جميعًا" [16-17].

    ماذا يعني السيّد بهذا القول؟ وما هو ارتباطه بالصوم؟

    إنه يؤكّد أنه بحلوله وسط البشريّة إنّما أراد تقديم حياة جديدة يعيشها المؤمنون به، لها سماتها الجديدة وطبيعتها الجديدة وإمكانيّاتها الجديدة، فلا تُمارس العبادة بالمفهوم القديم الذي ارتبط بذهن الكثيرين. فالسيّد لا يقبل فكرة الإصلاح عن طريق "الترقيع" بين ما هو قديم وما هو جديد، وإنما بهدم الحرفيّة القاتلة القديمة لبناء الفكر الروحي الجديد. بهذا يصير الصوم سرّ انطلاق للنفس بالروح القدس لتمارس الحياة العرسيّة المفرحة.

    ما أحوجنا أن نلبس الثوب الجديد عِوض وضع رقعة جديدة في ثوب قديم، وأن يكون لنا الزقاق الجديد إنّما هو ثوب المعموديّة الأبيض، الطبيعة الجديدة التي توهب لنا خلال تمتّعنا بالقيامة مع مسيحنا بروحه القدّوس، والزقاق الجديد هو إنساننا الجديد الذي يتقبّل خمر الروح القدس المجدّد لحياتنا على الدوام.

    v لنحتفظ بالثوب (الجديد) الذي ألبسنا إيّاه الرب في المعموديّة. ولكن ما أسهل تمزيق هذا الثوب إن كانت أعمالنا لا تتّفق مع نقاوته، سرعان ما يفسده سوس الجسد وينجّسه ضلال الإنسان العتيق. لهذا يمنعنا الرب من الخلط بين الجديد والقديم، يحرم الرسول ارتداء الثوب الجديد فوق العتيق، إنّما نخلع العتيق ونلبس الجديد فلا نوجد عراة (كو 5: 2-4 )؛ فإنّنا نكون هكذا عراة إن سلب مكر إبليس رداءنا.

    القدّيس أمبروسيوس

    4. إقامة الصبيّة

    جاءت قصة إقامة ابنة يايرس مرتبطة بشفاء نازفة الدم بأكثر تفصيل في إنجيل معلّمنا لوقا البشير (8: 41-56). لقد تقدّم يايرس رئيس المجمع إلى السيّد، ووقع عند قدميه، يسأله أن يدخل بيته، لأن ابنته كانت في حالة موت.

    حقًا لقد أظهر يايرس رئيس المجمع اليهودي إيمانا بالسيّد، لكن قائد المائة الأممي غلبة في إيمانه (مت 8: 5-13)، إذ لم يسأله أن يحضر إلى بيته ولا أن يمد يده على غلامه ليشفيه، وإنما قال: "قل كلمة"، أمّا رئيس المجمع اليهودي فقال: "تعال وضع يدك عليها، فتحيا". حقًا إن كثيرين يأتون من المشارق والمغارب بإيمان أعظم ممّا لبني الملكوت!

    في الطريق قبل أن يسمع أن ابنته ماتت (لو 8: 49). سمح الرب بشفاء نازفة الدم ليرى بعينيّه ويلمس عمله الإلهي فلا يشك.

    إن عُدنا إلى الكتاب المقدّس نجده يروي لنا ثلاث معجزات خاصة بإقامة السيّد المسيح للموتى، تمثل عمله الإلهي في إقامتنا من موت الخطيّة... هذه المعجزات هي:

    أولاً: إقامة ابنة يايرس وهي بعد صبيّة صغيرة، لم تُرفع بعد عن سرير الموت في بيت أبيها، تُشير إلى النفس التي ماتت بالخطيّة خلال الفكر الخفي في الداخل، وهي تحتاج أن يدخل السيّد إلى بيتها "قلبها"، ويلمس يدها فتقوم.

    ثانيًا: إقامة الشاب ابن الأرملة، وكان قد حُمل في النعش إلى الطريق، يمثّل النفس التي عاشت في الخطيّة ليس خلال الفكر فقط، وإنما ظهرت أيضًا خلال العمل، فخرجت من البيت إلى الطريق كما في نعش، تحتاج إلى أن يوقِف الله حاملي النعش، ويأمر الشاب أن يقوم ثم يدفعه إلى أمه. إنها تحتاج إلى تدخّل الله للتوقّف عن التحرّك نحو قبر الخطايا، فلا يكمّل الشرّير طريق شرّه، حتى لا تتحوّل الخطيّة فيه إلى عادة، إنّما يسمع الصوت الإلهي يناديه ليهبه روح القيامة ويدفعه إلى الكنيسة أمه.

    ثالثًا: إقامة لعازر بعدما دفن في القبر أربعة أيام وحدث تعفُّن للجسد، إشارة إلى من تحوّلت الخطيّة في حياته إلى عادة، ارتبطت به وهو ارتبط بها، فصار كأنه والخطيّة أمر واحد. لقد انزعج السيّد وبكى وأمر برفع الحجر، ثم نادى لعازر أن يخرج، وطلب ممّن حوله أن يحلّوه من الرباطات! مثل هذه النفوس يبكيها السيّد نفسه، ويذهب إلى قبرها، ويأمر برفع حجر القسوة، وبكلمة فمه يقيمها ويخرجها من قبر الخطيّة، طالبًا من الكهنة أن يحلّوها من رباطاتها.

    إن عدنا إلى إقامة الصبيّة نجد السيّد يقول: "تنحّوا، فإن الصبيّة لم تمت لكنها نائمة" [24]، وكأنه كان يشجّع تلاميذه على قبول الموت بلا انزعاج كمن يدخل إلى النوم ليستريح.

    v حقًا عندما جاء المسيح صار الموت نومًا!

    v إن كنت تحب الراحل يلزمك أن تفرح وتسر أنه قد خلُص من الموت الحاضر.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    أما بخصوص شفاء نازفة الدم بلمسها هدب ثوب السيّد خفية، فقد أعلن السيّد أمرها، ويقدّم القدّيس يوحنا الذهبي الفم التعليلات التالية لتصرُّف السيّد:

    أولاً: ليضع نهاية لمخاوف المرأة، لئلا تتألّم إذ ينخسها ضميرها أنها نالت العطيّة خلسة.

    ثانيًا: أنه حسبها على حق أن تخفي فكرها.

    ثالثًا: أعلن إيمانها للكل، ليحثّ البقيّة على الاقتداء بها، فإن وقفِه لينبوع دمها ليس بعلامة أعظم ممّا أظهره أنه يعرف كل الأمور (يعرف فكرها وإيمانها وتلامسها الخفي معه).

    علاوة على هذا كان رئيس المجمع في طريقه إلى الدخول إلى عدم الإيمان وهلاكه تمامًا، فجاءت هذه المرأة لتصلح من شأنه. لقد جاءوا إليه قائلين: "قد ماتت ابنتك، لا تُتعب المعلّم" (لو 8: 49)، والذين كانوا في البيت ضحكوا عليه ساخرين به عندما قال أنها نائمة، وكان يمكن أن يكون للأب نفس هذه المشاعر، لهذا قدّم له هذه المرأة البسيطة ليُصحّح من ضعفه مقدّمًا.

    بين كنيسة الأمم وكنيسة اليهود

    ارتباط شفاء نازفة الدم بإقامة ابنة يايرس رئيس المجمع اليهودي إنّما يُشير إلى التقاء الأمم كما اليهود بالسيّد المسيح كطبيب النفوس وواهب الحياة؛ ويلاحظ في هاتين المعجزتين:

    أولاً: كان عمر الصبية التي ماتت وقد استدعى والدها السيّد المسيح لإقامتها اثني عشر سنة إشارة إلى جماعة اليهود الذين ينتسبون إلى اثني عشر سبطًا، وقد سقطوا تحت الموت، فانطلق الناموس كقائد لهم يُعلن الحاجة إلى مجيء المسيّا ليقيمهم. وقد جاء السيّد إلى بيتها، لأن المسيّا وُلد بين اليهود كواحد منهم. أمّا نازفة الدم فقد عاشت اثنتي عشرة عامًا في حالة نزف دم إشارة إلى قضاء كل زمانها السابق في نجاسة الخطيّة التي استنزفت حياتها. إنها اِلتقت بالسيّد في الطريق ولم يدخل السيّد بيتها، فإن السيّد لم يأتِ بالجسد من الأمم، ولا حلّ جسديًا في وسطهم، إنّما اِلتقى بهم كما في الطريق.

    v يُفهِّم هذا الرئيس بكونه الناموس الذي يسأل الرب أن يهب حياة للشعب الميّت، هذا الناموس الذي بشَّر بالتطلّع إلى مجيء الرب.

    v يذهب الرب إلى بيت الرئيس كما إلى المجمع، الذي منه تخرج الأصوات كما من نحيب من ترنيمات الناموس.

    الأب هيلاري أسقف بواتييه

    v نقول بأن المرأة (نازفة الدم) تمثل الكنيسة الخارجة من الأمم. إذ كان الرب في طريقه لإقامة ابنة رئيس المجمع، هذه التي تمثل الشعب اليهودي، إذ جاء الرب من أجل اليهود وحدهم، قائلاً: "لم أُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (مت 15: 24). إذن كما جاء إلى ابنة رئيس المجمع، فجأة لا أعرف من أين جاءت هذه المرأة ولمست بإيمان الرب، قائلة: "إن مسست هُدب ثوبه فقط شُفيت"، وقد لمست وشفيت.

    إذن عانت هذه المرأة من نزف الدم... وأنفقت كل معيشتها على الأطباء (لو 8: 43). إنها تشبه كنيسة (جماعة) الأمم البائسة التي طلبت السعادة، وسألت عن مصدر القوّة، بكل وسائل الشفاء. أي شيء عندها لم تنفقه على الأطباء الباطلين من الفلكيّين والمنجّمين ومفسدي الهياكل؟! لقد وعدها هؤلاء جميعًا بالشفاء لكنهم لم يقدروا، إذ لا يملكونه. لقد أنفقت كل ما عندها ولم تشفى. لذلك قالت: "إن مسست هدب ثوبه فقط شفيت". لقد لمست وشفيت.

    لنسأل ما هو هدب ثوبه؟... لنفهم أن الرسل هم ثوب الرب الملاصقون له. اسأل من هو الرسول الذي أُرسل للأمم؛ تجده بولس الرسول، إذ كانت أعظم أعماله الرسوليّة بين الأمم... إنه هدب ثوب الرب، إذ كان آخر الرسل. هل يوجد أحد يُحسب كآخر هذا الثوب والأقل؟ يقول الرسول أنه كان هكذا: "آخر الكل، لأني أصغر الرسل" (1 كو 15: 8-9).

    لنلمسه نحن أيضًا، أي لنؤمن فنشفَى!

    v أي شيء تمثله هذه المرأة؟ كنيسة الأمم التي نالت الشفاء التي لم تشاهد المسيح بالجسد، والتي أشار إليها المزمور: "شعب لم أعرفه يتعبّد لي، من سماع الأذن يسمعون لي" (مز 18: 43-44). لقد سمع العالم كلّه عنه وآمن به، أمّا اليهوديّة فرأته وصلبته أولاً، وبعد ذلك سيأتون إليه. سيؤمن اليهود به في نهاية العالم.

    القدّيس أغسطينوس

    5. شفاء أعميين

    "وفيما يسوع مجتاز من هناك تبعه أعميان يصرخان ويقولان:

    ارحمنا يا ابن داود.

    ولما جاء إلى البيت تقدّم إليه الأعميان،

    فقال لهما يسوع: أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟

    قالا له: نعم يا سيّد.

    حينئذ لمس أعينهما، قائلاً: بحسب إيمانكم ليكن لكما.

    فانفتحت أعينهما" [27-30].

    كان العالم في ذلك الحين وقد انقسم إلى يهود وأمم قد أُصيب كلّه بالعَمي الروحي، فقدَ اليهود بصيرتهم الداخليّة بسبب كبرياء قلبهم وحرفيّة إدراكهم للناموس وانجذابهم إلى الرجاسات الوثنيّة، وفقد الأمم أيضًا بصيرتهم بسبب العبادة الوثنيّة. وكأن هذين الأعميين اللذين كانا يصرخان: ارحمنا يا ابن داود يمثّلان العالم كله، يهودًا وأممًا، يُعلن عوزه إلى المسيّا المخلّص ابن داود لكي يعيد إليه بصيرته الروحيّة. وقد جاء السيّد إلى "البيت"، أي إلى مسكننا؛ جاء إلينا في الجسد حتى نستطيع أن نتقدّم إليه، ويمكننا أن نتقبّل لمسات يده الإلهيّة على أعيننا الداخليّة. فالبيت هنا إنّما يُشير إلى التجسّد الذي بدونه ما كان يمكننا التلامس مع ابن الله، والتمتّع بإمكانيّاته الإلهيّة، ليهب لأعيننا نوره، فتعاين النور.

    جاءنا ابن الله متجسّدًا، معلنًا مبادرته بالحب. لكنّه يسأل: أتؤمنان إني أقدر أن أفعل هذا؟ بالإيمان يحلّ في قلوبنا (أف 3: 17)، فتنفتح بصيرتنا من يوم إلى يوم لمعاينة الأسرار خلال تمتّعنا بها فيه.

    إن كنّا بسبب الخطيّة انطمست أعيننا من معاينة النور، فانحرفنا عن الطريق، وصرنا نتخبّط في الظلمة، فقد صرخت البشريّة على لسان المرتّل: "أرسل نورك وحقّك، هما يهديانني ويأتيان بي إلى جبل قدسك وإلى مساكنك" (مز 43: 3). وقد جاءنا من هو "نور العالم" (يو 8: 12) معلنًا: "أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة"، "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). جاءنا الملتحف بالنور كثوب (مز 104: 2)، الذي ليس فيه ظلمة البتة (1 يو 1: 5)، يشرق في الظلمة بنوره (إش 58: 10)، نلبسه فنصير أبناء نور وأبناء نهار (1 تس 5:5)، بل نصير به نورًا للعالم (مت 5: 14).

    يصرخ القدّيس أغسطينوس في مناجاة نفسه مع الله قائلاً:

    [إلهي... أنت نوري. افتح عينيّ فتعاينا بهاءك الإلهي، لأستطيع أن أسير في طريقي بغير تعثّر في فخاخ العدوّ!

    حقًا، كيف يمكنني أن أتجنّب فخاخه ما لم أراها؟

    وكيف أقدر أن أراها إن لم أستنر بنورك؟

    ففي وسط الظلمة يخفي "أب كل ظلمة" هذه الفخاخ، حتى يصطاد كل من يعيش في الظلمة. هذا العدوّ الذي يودّ أن يكون أبناؤه محرومين من نورك ومن سلامك الكامل...

    ما هو النور إلا أنت يا إلهي!

    أنت هو النور لأولاد النور! نهارك لا يعرف الغروب! نهارك يضيء لأولادك حتى لا يتعثّروا...

    يا نور نفسي، لا تتوقّف قط عن إنارة خطواتي!]

    القدّيس أغسطينوس

    v أيها النور الحقيقي الذي تمتّع به طوبيا عند تعليمه ابنه، مع أنه كان أعمى! أيها النور الذي جعل اسحق - فاقد البصر - يُعلن بالروح لابنه عن مستقبله!...

    أنت هو النور الذي أنار عقل يعقوب، فكشف لأولاده عن الأمور المختلفة!...

    أنت هو الكلمة القائل: "ليكن نور، فكان نور". قل هذه العبارة الآن أيضًا، حتى تستنير عيناي بالنور الحقيقي، وأميّزه عن غيره من النور. فبدونك كيف أقدر أن أميّز النور عن الظلمة، والظلمة عن النور؟!

    نعم... خارج ضيائك، تهرب الحقيقة منّي، ويقترب الخطأ إليّ، ويملأني الزهو... ويصير فيّ الارتباك عِوض التمييز، يصير لي الجهل عِوض المعرفة، والعَمى عِوض البصيرة!

    القدّيس أغسطينوس

    وفي دراستنا للمعموديّة رأيناها "سرّ الاستنارة"، حيث نخلع الإنسان القديم بظلمته لنلبس الإنسان الجديد الذي على صورة خالقنا، فنحمل فينا مسيحنا سرّ استنارتنا، ويكون روحه القدّوس واهبًا لنا إمكانيّة التقديس التي بدونها لا نقدر أن نُعاين الله.

    يقول القدّيس مار يعقوب السروجي: [المعموديّة هي ابنة النهار، فتحت أبوابها فهرب الليل الذي دخلت إليه الخليقة كلها.]

    نعود إلى الأعميين اللذين شفاهما السيّد، إذ يقول الإنجيلي: "انتهرهما يسوع قائلاً: انظرا لا يُعلما أحد، ولكنّهما خرجا وأشاعاه في تلك الأرض كلها" [31]. لقد قدّم لنا السيّد درسًا في التواضع، فمن أجل محبّته لهما شفاهما حتى يبعث فينا روح الحب الخفي وعدم طلب المجد الباطل.

    لم يخالف الأعميان أمرًا إلهيًّا حين أشاعا الخبر، فإن قوله: "أنظرا لا يُعلما أحد" لم يكن وصيّة يلزمهما بها، وإنما هو حديث حبّي فيه يُعلن عدم طَلبه مجد العالم مقابل محبّته، أمّا هما فردّا الحب بالحب خلال الشهادة له. لقد استنارت أعينهما فاشتهيا أن يتمجّد الطبيب السماوي بتفتيح أعين الكل، ليعاينوا ما يعايناه هما!

    من يرى النور لا يقدر أن ينظر إخوته سالكين في الظلمة بل يدعوهم إلى النور الذي ينعم به، كما فعلت المرأة السامريّة حيث تركت جرّتها وخرجت إلى مدينتها تقول للناس: "هلمّوا، انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت، ألعل هذا هو المسيح؟" (يو4: 29). وفي حديث للقدّيس يوحنا الذهبي الفم مع المواظبين على اجتماعات الكنيسة والمشتركين فيها يقول: [علِّموا الذين هم من خارج أنكم في صحبة طغمة السيرافيم، محسوبين مع السمائيّين، معدِّين في صفوف الملائكة، حيث تتحدّثون مع الرب، وتكونون في صحبة السيّد المسيح.]

    6. شفاء مجنون

    قُدّم للسيّد المسيح إنسان أخرس مجنون، "فلما أخرج الشيطان تكلّم الأخرس، فتعجّب الجموع قائلين: لم يظهر قط مثل هذا في إسرائيل. أمّا الفرّيسيّون فقالوا برئيس الشيّاطين يخرج الشيّاطين" [33-34].

    لا يمكن للبشريّة الصامتة زمانًا هذا مقداره أن تتحدّث مع خاِلقها، ولا أن تسبّحه داخليًا وتشكره، حتى وإن سبَّحته بالفم واللسان، فقد صمت اللسان الداخلي عن الحديث السرّي الخفي مع الخالق، بسبب العداوة التي نشأت كثمرة طبيعيّة للخطيّة، فصارت كمن يسكنها شيطان أخرس. لهذا جاء السيّد المسيح طاردًا روح الشرّ والخطيّة، فينطق لسانها الداخلي بالحمد والتسبيح، وتصير طبيعتها شاكرة عِوض الجحود القديم.

    لقد أدركت الجموع البسيطة عمل السيّد المسيح كمخلّص بينما تعثّر أصحاب المعرفة النظريّة، الفرّيسيّون، بسبب كبرياء قلبهم وتعبُّدهم لذواتهم فرأوا فيه كرئيس للشيّاطين لا كمخلّص من الشيّاطين!

    بينما جاء السيّد المسيح يفتح أعين العميان لكي تبصر بالإيمان ملكوت السماوات في القلب انفضح عمى القيادات الدينيّة المتعجرفة، انكشف الفرّيسيّون العارفون بالكتب المقدّسة كجهلاء يرفضون المخلّص ويتّهمونه برئيس الشيّاطين. أمّا سرّ عَمى بصيرتهم فهو تركهم للعمل الرعوي الحق ليرعوا كرامتهم وبطونهم وخزائنهم عِوض رعايتّهم لشعب الله، فحلّت "الأنا" عِوض "الله نفسه"، هؤلاء يقول عنهم الرسول: "يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح" (في 2: 21)، ويعاتبهم الله في مرارة، قائلاً: "ألا يرعى الرعاة الغنم؟تأكلون الشحم وتلبسون الصوف، وتذبحون السمين، ولا ترعون الغنم! المريض لم تقووه، والمجروح لم تعصبوه، والمكسور لا تجبروه، والمطرود لم تستردوه، والضال لم تطلبوه، بل بشدة وعنف تسلّطتم عليه... أيها الرعاة غنمي صار غنيمة!" (حز 34: 2-انجيل متى Icon_cool.

    مثل هؤلاء الرعاة العميان يقودون العميان فيسقط الكل في حفرة (مت 15: 14)، وبدلاً من أن يصير قلبهم سماءً مقدّسة، ومسكنًا لله، يرتفعون بالشعب من مجدٍ إلى مجدٍ، إذ بقلبهم يلتصق بالتراب وينحدرون بالشعب من هوانٍ إلى هوانٍ حتى يبلغون بهم إلى أعماق الهاوية.

    7. الكرازة في المدن والقرى

    إذ فسد الرعاة الروحيّون يلتزم الله نفسه من أجل محبّته للنفس البشريّة أن يفتقد شعبه، يقول الإنجيلي: "ولما رأى الجموع تحنّن عليهم، إذ كانوا منزعجين ومنطرحين كغنم لا راعي لها" [36]. وفي سفر حزقيال يقول الرب: "هاأنذا أسأل عن غنمي وأفتقدها" (حز 34: 11)، فإنه ليس شيء أثمن لدى الله من النفس البشريّة التي أوجدها على صورته ومثاله. جاء إلينا بنفسه بكونه الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف (يو 10: 11).


    1 فدخل السفينة و اجتاز و جاء الى مدينته
    2 و اذا مفلوج يقدمونه اليه مطروحا على فراش فلما راى يسوع ايمانهم قال للمفلوج ثق يا بني مغفورة لك خطاياك
    3 و اذا قوم من الكتبة قد قالوا في انفسهم هذا يجدف
    4 فعلم يسوع افكارهم فقال لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم
    5 ايما ايسر ان يقال مغفورة لك خطاياك ام ان يقال قم و امش
    6 و لكن لكي تعلموا ان لابن الانسان سلطانا على الارض ان يغفر الخطايا حينئذ قال للمفلوج قم احمل فراشك و اذهب الى بيتك
    7 فقام و مضى الى بيته
    8 فلما راى الجموع تعجبوا و مجدوا الله الذي اعطى الناس سلطانا مثل هذا
    9 و فيما يسوع مجتاز من هناك راى انسانا جالسا عند مكان الجباية اسمه متى فقال له اتبعني فقام و تبعه
    10 و بينما هو متكئ في البيت اذا عشارون و خطاة كثيرون قد جاءوا و اتكاوا مع يسوع و تلاميذه
    11 فلما نظر الفريسيون قالوا لتلاميذه لماذا ياكل معلمكم مع العشارين و الخطاة
    12 فلما سمع يسوع قال لهم لا يحتاج الاصحاء الى طبيب بل المرضى
    13 فاذهبوا و تعلموا ما هو اني اريد رحمة لا ذبيحة لاني لم ات لادعو ابرارا بل خطاة الى التوبة
    14 حينئذ اتى اليه تلاميذ يوحنا قائلين لماذا نصوم نحن و الفريسيون كثيرا و اما تلاميذك فلا يصومون
    15 فقال لهم يسوع هل يستطيع بنو العرس ان ينوحوا ما دام العريس معهم و لكن ستاتي ايام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون
    16 ليس احد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق لان الملء ياخذ من الثوب فيصير الخرق اردا
    17 و لا يجعلون خمرا جديدة في زقاق عتيقة لئلا تنشق الزقاق فالخمر تنصب و الزقاق تتلف بل يجعلون خمرا جديدة في زقاق جديدة فتحفظ جميعا
    18 و فيما هو يكلمهم بهذا اذا رئيس قد جاء فسجد له قائلا ان ابنتي الان ماتت لكن تعال و ضع يدك عليها فتحيا
    19 فقام يسوع و تبعه هو و تلاميذه
    20 و اذا امراة نازفة دم منذ اثنتي عشرة سنة قد جاءت من ورائه و مست هدب ثوبه
    21 لانها قالت في نفسها ان مسست ثوبه فقط شفيت
    22 فالتفت يسوع و ابصرها فقال ثقي يا ابنة ايمانك قد شفاك فشفيت المراة من تلك الساعة
    23 و لما جاء يسوع الى بيت الرئيس و نظر المزمرين و الجمع يضجون
    24 قال لهم تنحوا فان الصبية لم تمت لكنها نائمة فضحكوا عليه
    25 فلما اخرج الجمع دخل و امسك بيدها فقامت الصبية
    26 فخرج ذلك الخبر الى تلك الارض كلها
    27 و فيما يسوع مجتاز من هناك تبعه اعميان يصرخان و يقولان ارحمنا يا ابن داود
    28 و لما جاء الى البيت تقدم اليه الاعميان فقال لهما يسوع اتؤمنان اني اقدر ان افعل هذا قالا له نعم يا سيد
    29 حينئذ لمس اعينهما قائلا بحسب ايمانكما ليكن لكما
    30 فانفتحت اعينهما فانتهرهما يسوع قائلا انظرا لا يعلم احد
    31 و لكنهما خرجا و اشاعاه في تلك الارض كلها
    32 و فيما هما خارجان اذا انسان اخرس مجنون قدموه اليه
    33 فلما اخرج الشيطان تكلم الاخرس فتعجب الجموع قائلين لم يظهر قط مثل هذا في اسرائيل
    34 اما الفريسيون فقالوا برئيس الشياطين يخرج الشياطين
    35 و كان يسوع يطوف المدن كلها و القرى يعلم في مجامعها و يكرز ببشارة الملكوت و يشفي كل مرض و كل ضعف في الشعب
    36 و لما راى الجموع تحنن عليهم اذ كانوا منزعجين و منطرحين كغنم لا راعي لها
    37 حينئذ قال لتلاميذه الحصاد كثير و لكن الفعلة قليلون
    38 فاطلبوا من رب الحصاد ان يرسل فعلة الى حصاده
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 1:46 pm

    الأصحاح العاشر
    سفراء الملك

    اختار السيّد المسيح تلاميذه ورسله كسفراء عنه، يعملون بروحه القدّوس، ليحقّقوا ملكوته فينا.
    1. دعوة الإثنى عشر تلميذًا 1-4.
    2. حدود الكرازة 5-6.
    3. موضوع الكرازة 7.
    4. إمكانيّات الكرازة 8-10.
    5. سلوكهم أثناء الكرازة 11-15.
    6. رفض العالم لهم 16-23.
    7. عدم الخوف 24-33.
    8. الحروب الداخليّة 34-42.

    1. دعوة الإثنى عشر تلميذًا

    [size=16]"ثم دعا تلاميذه الإثنى عشر،
    وأعطاهم سلطانًا على أرواح نجسة حتى يخرجوها،
    ويشفوا كل مرض وكل ضعف" [1].

    دعا السيّد هؤلاء الإثني عشر ليتتلمذوا على يديه، يسمعوه ويرافقوه في أعماله المعجزيّة وصلواته وحتى أثناء طعامه، لكي يتفهّموا بالروح القدس أسراره ويعيشوا بفكره. هذا الفكر هو ما نسميه بالفكر الإنجيلي أو الفكر الرسولي، عاشه الرسل إنجيلاً حيًا وتلمذوا آخرين عليه. وهكذا صار التقليد الكنسي في جوهره هو استلام هذا الفكر بطريقة حيّة عمليّة وتسليمه من جيلٍ إلى جيلٍ.
    وقد ذكر الإنجيلي أسماء الإثني عشر رسولاً بعد أن أعلن السلطان الذي وُهب لهم من قبل الرب على الأرواح النجسة لإخراجها وعلى المرض وكل ضعفٍ، ويلاحظ في هذا الاختيار أمران:

    أولاً: أن التلاميذ ليسوا أصحاب مواهب خارقة، أو من الشخصيّات البارزة في المجتمع، وإنما هم أناس عاديّون، بل وغالبيتّهم من طبقات فقيرة ليؤكّد أن فضل القوّة لله لا منهم.

    ثانيًا: جاء الاختيار خليطًا عجيبًا من الشخصيّات، فمنهم متّى العشّار الذي يعتبره الكثيرون قد باع نفسه للرومان من أجل الربح المادي، وعلى نقيضه سمعان الغيور أو القانوني. فالغيورون هم جماعة من اليهود متعصّبون لقوميّتهم إلى أبعد الحدود يطالبون بالتحرّر من نير الحكم الروماني مهما كلّفهم الثمن. يرفضون قيام أي "ملك" غير الله نفسه، مستعدون للأسف أن يقوموا بأعمال تخريبيّة لأجل تحرير وطنهم من الرومان. ومن بينهم أيضًا سمعان بطرس المقدام، وأخوه أندراوس الذي يميل إلى الصمت، ويوحنا بن زبدي المملوء بعاطفة الحب، وتوما الكثير الشك. ففي المسيح يسوع اجتمع هؤلاء جميعًا ليتقدّسوا معًا كأعضاء بعضهم لبعض يعملون بروحٍ واحدٍ للكرازة بالإنجيل الواحد.
    أما رقم 12 فكما سبق فأشرنا في أكثر من موضع يرمز إلى مملكة الله على الأرض، حيث يملك الثالوث (3) في كل جهات المسكونة الشرّق الغرب والشمال والجنوب (4).

    2. حدود الكرازة

    "هؤلاء الإثنا عشر أرسله يسوع وأوصاهم قائلاً:
    إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريّين لا تدخلوا.
    بل اذهبوا بالأحرى إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" [5-6].

    في بدء كرازتهم حدّد لهم منطقة الكرازة "بالأمة اليهوديّة" دون أن يتجاوزوها إلى مدينة للسامريّين أو طريق للأم، على أنه قبيل صعوده أعلن لهم حدود الكرازة بقوله في نفس الإنجيل: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم" (28: 19). فإنه لم يسمح لهم بالكرازة بين الأمم إلا بعد أن يُعلن اليهود رفضهم للمسيّا. لم يكن هذا تحيزًا لليهود على حساب الأمم، وإنما لكي لا يتشكّك اليهود في رسالته المسيحانيّة، فإذا ما رفضوه ينفتح الباب للأمم، وإن كان السيّد المسيح نفسه لم يحرم السامرة من خدمته وبعض الأمميّين من التمتّع ببركات نعمه.
    ويلاحظ أن الكلمة "أوصاهم" جاءت في اليونانيّة Paragellein وهي تستخدم في ظروف معيّنة، منها:

    أولاً: في القيادات العسكرية في الجيوش، وكأن السيّد يمثّل القائد الأعلى في معركة دائمة ضدّ إبليس وكل أعماله. على تلاميذه أن يتهيّأوا للخدمة، لا كطريق للكرامة، بل للجهاد الروحي المستمر والقتال ضدّ عدوّ الخير نفسه. ليس ضدّ بشر، وإنما ضدّ الشيطان والقوات الروحيّة الشرّيرة (أف 6: 10-12).

    ثانيًا: تستخدم من الصديق حينما يدعو أصدقاءه للمساندة، هنا يظهر السيّد المسيح في علاقته بتلاميذه على مستوى علاقة الصداقة فوق الرسميّات والبروتوكولات.

    ثالثًا: يستخدمها المعلّم أو الفيلسوف مع تلاميذه ومريديه، وكأن السيّد المسيح يتحدّث مع تلاميذه كمريديه الذي يتتلمذون على يديه ليحملوا فكره.

    رابعًا: تستخدم أيضًا في الأوامر الإمبراطورية، وكأنما السيّد المسيح هو الملك الذي يرسل سفراءه، يحملون سماته شهادة حق له، ويعلنون دستوره الروحي في حياتهم كما في كرازتهم.
    ويرى القدّيس كبريانوس أن هذه الوصيّة لا تزال حيّة وتلتزم بها الكنيسة، فمدينة السامريّين تعني جماعة المنشقّين، وطريق الأمم يعني طريق الهراطقة. فالكنيسة مع اتّساع قلبها للعالم كلّه المؤمن وغير المؤمن لتغسل أقدام الجميع، لا تقبل في شركتها جماعة المنشقّين أو تعاليم الهراطقة، بل تحذر أولادها وتحفظهم منهم.

    3. موضوع الكرازة

    "وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين:
    أنه قد اقترب ملكوت السماوات" [7].

    لقد حدّد موضوع الكرازة ألا وهو "التوبة"، بكونها طريق الملكوت السماوي. وقد سبق فعرّفنا التوبة أنها ليست جانبًا سلبيًا، أي مجرد تخلِّي عن الشرّ ورفض كل خطيّة، وإنما هي عمل إيجابي فعّالاً في حياة المؤمن، وهو قبول عمل الروح القدس فينا الذي يهب ويعطي ويشبع! التوبة هي تغيير لاِتّجاه القلب الداخلي والفكر وكل طاقات الإنسان، فبعدما كانت متّجهة نحو الأرضيّات تصير في المسيح يسوع ربّنا بالروح القدس متّجهة نحو ملكوت السماوات. بمعنى آخر فيما يرفض الإنسان الخطيّة وكل ما هو غريب عن الله إذ به ينعم بالله السماوي نفسه وكل ما له من نعمٍ وهباتٍ مشبعةٍ. وكأن التوبة هي تفريغ وامتلاء بغير انقطاع، ترك وأخذ، جوع وشبع في نفس الوقت.
    لا يريدنا الله أن نسلك في حالة حرمان وكبت، وإنما بالعكس خلال التوبة يريدنا أن نعيش في حالة شبع وفرح وتهليل وتمتّع بالأمور الفائقة، فيسلك الإنسان على الأرض بفكر سماوي!
    بهذا نستطيع أن نميّز بين التوبة العاملة فينا بالروح القدس والتوبة التي هي من صنع أنفسنا. الأولى تدخل بنا إلى ملكوت السماوات، فنعيش مع الآب في ابنه بالروح القدس، أمّا الثانية فهي حرمان ممّا هو أرضي، دون تمتّعٍ بما هو سماوي، الأولى توَلِّد فرح الروح ومحبّته وسلامه الخ. والثانية توََلِّد حزنًا قاتلاً وضيقًا في القلب وقلقًا ومرارة. الأولى تنطلق بالنفس من مجدٍ إلى مجدٍ لتبلغ إلى ذروة السماويّات، والثانية تنحدر بالإنسان من هوانٍ إلى هوانٍ، فيعيش في قنوطٍ مستمرٍ يدفع به إلى الهاوية!

    4. إمكانيّات الكرازة

    "اشفوا مرضى، طهِّروا بُرصًا، أقيموا موتى، اخرجوا شيّاطين،
    مجانًا أخذتم مجانًا أعطوا.
    لا تقتنوا ذهبًا ولا فضّة ولا نحاسًا في مناطقكم.
    ولا مذودًا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا،
    لأن الفاعل مستحق طعامه" [8-10].

    قبل أن يسألهم عدم اقتناء ذهب أو فضّة أو نحاس، قدّم لهم إمكانيّات جبّارة تسندهم في الخدمة من شفاء للمرضى وتطهير للبرص وإقامة الموتى وإخراج الشيّاطين. وكأن السيّد لم يحرمهم من الأمور الزمنيّة إلا بعد أن قدّم لهم كنوز محبّته العميقة.
    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ أراد أن يدرّبهم على كل الكمال طلب منهم ألا يفكّروا فيما يخص الغد... فإن كان يرسلهم كمعلّمين للعالم كله، هذا جعلهم وهم بشر ملائكة، مبرّرا إيّاهم من كل اهتمام أرضي حتى لا ينشغلوا إلا باهتمام واحد وهو التعليم، بل بالأحرى أراد أن يحرّرهم حتى من هذا الأمر بقوله: "لا تهتمّوا كيف أو بما تتكلّمون" [19].]
    يلتزم التلميذ ألا يقتني شيئًا، فإن السيّد المسيح هو ذهبه وفضّته ونحاسه وطعامه وثوبه وطريقه وعصاه.
    السيّد المسيح هو ذهبنا، فإن كان الذهب في الكتاب المقدّس يُشير إلى الحياة السماويّة، فإن المسيح هو سرّ الدخول بنا إلى الحياة السماويّة، أو هو كنزنا السماوي الذي يسحب قلبنا إليه. السيّد المسيح هو فضّتنا، فإن كانت الفضّة ترمز لكلمة الله (مز 12: 6)، فإنه بالحق حكمة الله الحيّ الذي يعمل فينا وبنا لكي يدخلنا إلى حضن أبيه. وهو نحاسنا، نلبسه فنصير به أقوياء ندك الطريق فلا تقدر العثرات أن تعوقنا عن الملكوت. وهو الطعام الذي به نقتات فنعيش في حالة شبع دائم، فلا نشتهي الزمنيّات ولا نطلب ملذّاتها. وهو الثوب الذي به نلتحف فيسترنا في عينيّ الآب، ونُحسب كأبرار في دمه الطاهر. إنه طريقنا الذي به ننطلق إلى أبيه لنحيا معه في أحضانه، شركاء في المجد الأبدي. إنه العصا التي حطّمت الشيطان خلال الصليب، فصار لنا الغلبة والنصرة. إذن لم يحرم السيّد المسيح تلاميذه من شيء، مقدّمًا نفسه سرّ شبع لكل احتياجاتهم.
    أما بخصوص الأحذية، فإنها إذ تُصنع من جلد الحيوانات الميّتة ترمز إلى الأعمال الشرّيرة المهلكة، لهذا يقول القدّيس جيروم: [لأنه عندما ألقى الجند القرعة على ثياب السيّد لم يكن معها أحذية ينزعونها عنه. لأنه وإن مات السيّد بالجسد لكن لم يوجد فيه أعمال ميّتة.]
    يمكننا أن نقول بأن الإمكانيّات التي قدّمها السيّد لتلاميذه هي إمكانيّات التوبة في أعلى صورها، فإنهم إذ يقتنون السيّد المسيح نفسه عِوض الذهب والفضّة والنحاس والمذود والثياب والعصا، فيكون هو كل شيء بالنسبة لهم، يستطيعون أن يطالبوا العالم بالتوبة، أي قبول المخلّص كمصدر شبع لهم عِوض الخطيّة التي قدّمت لهم الضيّق والعوز والمرارة.
    لا يستطيع الكارز بالسيّد المسيح أن يقدّم للآخرين السيّد المسيح كسِر غِنى النفس وشفائها، بينما يرتبط هو بأمور العالم ويستعبد نفسه لها!
    يُعلّق القدّيس أمبروسيوس على هذه الوصيّة الإلهيّة للتلاميذ الكارزين بقوله: [إنه يَقطع كما بمنجل محبّة المال التي تنمو دائمًا في القلوب البشريّة.] لكنّه وهو يقطع وهبهم البديل الذي به يستطيع الرسول بطرس أن يقول: "ليس لي فضّة ولا ذهب، ولكن الذي لي فإيّاه أعطيك؛ باسم يسوع المسيح الناصري قم وامش" (أع 3: 6). لم يعطه مالاً لكنّه أعطاه باسم السيّد صحّة التي هي أفضل من المال.
    كما يُعلّق أيضًا ذات القدّيس بقوله: [للكنيسة ذهب لا لكي تخزنه، وإنما لتوزِّعه وتنفقه على المحتاجين.]

    5. سلوكهم أثناء الكرازة

    "وأيّة مدينة أو قرية دخلتموها فافحصوا من فيها مستحق،
    وأقيموا هناك حتى تخرجوا.
    وحين تدخلون البيت سلّموا عليه.
    فإن كان البيت مستحقًا فليأتِ سلامكم عليه،
    ولكن إن لم يكن مستحقًا فليرجع سلامكم إليكم" [11-13].

    عندما يدخلون مدينة أو قرية يبحثوا عن بيت له سمعته الطيّبة ويقيموا فيه، ولا ينتقلوا من بيت إلى آخر حتى لا تتحوّل خدمة الكلمة إلى خدمة المجاملات، وإنما يركِّزون فكرهم وجهدهم في العمل الكرازي وحده.

    هذا ومن جانب آخر أراد السيّد لهم أن يعيشوا بلا همّ، ليس فقط لا يقتنون ذهبًا أو فضّة أو نحاسًا، وإنما أيضًا لا يضطربون من جهة الخدمة نفسها؛ عليهم أن يقدّموا الكلمة كما هي ولا يضطربوا إن رفضها أحد! إنهم كارزون فحسب لكن الله هو الذي يعمل بهم وفيهم.

    6. رفض العالم لهم

    إن كانت رسالة التلاميذ هي إعلان السلام الروحي الداخلي بالمصالحة مع الآب في ابنه ربّنا يسوع بروحه القدّوس، فتتصالح النفس أيضًا مع الجسد ويتصالح الإنسان مع أخيه، لكن الأشرار لا يحتملون المصالحة، ولا يقبلون الحب فيواجهونه بالشراسة، إذ يقول: "ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب" [16].

    يُعلّق القدّيس أغسطينوس على هذا القول الإلهي هكذا: [تأمّلوا يا إخوتي ما يفعله ربّنا يسوع! تصوّروا لو أن ذئبًا واحدًا ذهب وسط غنم كثير مهما بلغ عددهم بالآلاف... أفلا يرتعب جميع الغنم بالرغم من عدم قدرة هذا الذئب على افتراسهم جميعًا؟ فكم تكون مشورة ربّنا يسوع المسيح، التي يشجّعنا بها، إذ لا يلقي بذئب وسط غنم، بل يُلقي بالغنم وسط الذئاب؟!... إنه لم يطلب منهم أن يقتربوا من الذئاب، بل يكونوا في وسطهم. حقًا لقد كان هناك قطيع صغير من الغنم، لكن إذ افترستها الذئاب الكثيرة تحوّلت الذئاب إلى غنم.]
    وفي مرارة يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم أيضًا فيقول: [لنخجل إذ نفعل نحن العكس فنقف كذئاب ضدّ أعدائنا! مادمنا نحن غنم، فإنّنا سنغلب بالرغم من وجود ربْوة من الذئاب تجول حولنا لافتراسنا، أمّا إذا صرنا ذئابًا فسنهزم إذ يفارقنا عون راعينا، الذي لا يعول الذئاب بل الغنم، بهذا يتركك وينسحب حيث لا تسمح لقدرته أن تظهر فيك.]

    لماذا يرسلنا الله هكذا كغنم وسط ذئاب؟

    أولاً:
    إذ يسلك المؤمن بروح سيّده "الحمل الحقيقي" يُحسب حملاً باتّحاده به، فيلتزم السيّد برعايته والعمل خلاله. إنه يعمل في الغنم الوديع، لا الذئاب المفترسة، معلنًا قوّته في الضعف، قائلاً لرسوله: "تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تكمل". بهذا يردّد الرسول: "فبكل سرور افتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحلّ عليّ قوّة المسيح، لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح، لأني حينما أنا ضعيف، فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12: 9-10).

    ثانيًا: لا يقابل التلميذ الشراسة بالشراسة، بل بالحب العملي فيكسب غير المؤمنين للإيمان. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إنه فوق كل شيء يعرف طبيعة الأشياء: أن الشراسة لا تُطفأ بالشراسة وإنما باللطف.]
    يكمّل السيّد حديثه مقدّمًا لتلاميذه هذه المشورة: "فكونوا حكماء كالحيّات وبسطاء (غير ضاربين أو أنيسين) كالحمام" [16].
    إن كان الله قد أرسل تلاميذه ورسله كحملانٍ وسط ذئاب، فإنه لن ينقذهم من شراسة هذه الذئاب، ما لم يتقبّلوا هذه المشورة خلال نعمته الفائقة، فيسلكون بالحكمة كالحيّات وبالبساطة كالحمام الأنيس غير الضار.

    ما هي حكمة الحيّات؟

    يرى القدّيس جيروم أن المسيحي في وداعته يكون كالحمامة التي لا تحمل حِقدًا ولا تلقي فخاخًا لأحد، لكنّه يلتزم بحكمة الحيّات، فلا يعطي لأحد مجالاً أن يلقي له الفخاخ. إنه يقول: [كن بسيطًا كحمامة فلا تلقي فخًا لأحد، وكن حكيمًا (بارعًا) كحيّة فلا تسمح لأحد أن يلقي بالفخ أمامك. المسيحي الذي يسمح للآخرين أن يخدعوه يكون مخطئًا تمامًا كمن يحاول أن يخدع الآخرين.] وبنفس المعنى يقول القدّيس أمبروسيوس: [وُضعت الحكمة أولاً، حتى لا تُصاب عدم الأذيّة (التي للحمامة) بأذى.]
    يقول القدّيس أغسطينوس:
    [إنّني أحب في الحمامة عدم حِقدها، ولكني أخشى في الحيّة سمّها، غير أن الحيّة بها ما نكرهه، وبها أيضًا ما يلزمنا أن نتمثّل به:
    أ. عندما يشعر الثعبان بشيخوخته، عندما يشعر بثقل السنوات الطويلة، يتقلّص ويُلزم نفسه على الدخول من ثقب صغير فينسلخ عنه جلده العتيق، فيخرج إلى حياة جديدة، يلزمك أن تتمثل به أيها المسيحي في ذلك. اسمع ما يقوله السيّد المسيح: "اُدخلوا من الباب الضيّق" (مت 7: 13)، ويحدّثنا الرسول بولس قائلاً: " إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد" (كو 3: 9). يلزمنا أن نتمثل بالثعبان: لنمت لا لأجل الإنسان القديم بل لأجل الحق...
    ب. تمثل بالثعبان أيضًا في هذا الأمر، وهو أن تحفظ رأسك في أمان، أي لتُحتفظ بالمسيح فيك. ألم تلاحظوا ما يحدث عند قتل الأفعوان، كيف يحفظ رأسه معرضًا كل جسمه للضربات! إنه يريد ألاّ يُضرب ذلك الجزء الذي يعلم أن فيه تكمن حياته. ونحن أيضًا حياتنا هو المسيح الذي قال بنفسه: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6)، وكما يقول الرسول: "رأس كل رجل هو المسيح" (1 كو 11: 3). فمن يحتفظ بالمسيح في داخله إنّما يحتفظ برأسه الذي يحميه.]

    ما هي بساطة الحمامة؟

    يقول القدّيس أغسطينوس: [تمثل بالحمامة وأنت مطمئن. انظر كيف تبتهج الحمامة بوجودها وسط الجماعة. فالحمام يبقى دومًا كجماعات، أينما طاروا أو أكلوا، ولا يحبّون الانفراد. إنهم يبتهجون معًا في وحدة، يحتفظون بالمحبّة، فهديلهم ما هو إلا صرخات حب واضحة، وبقبلات ينجبون أطفالهم نعم، حتى عندما يتنازع الحمام على عشّه - كما نلاحظ ذلك غالبًا - إنّما يكون أشبه بنزاع سلمي. هل ينقسمون على أنفسهم أثناء نزاعهم؟ كلاّ، بل يطيرون معًا ويقتاتون معًا، ويبقى نزاعهم ودّيًا. تأمّل نزاع الحمام الذي يتحدّث عنه الرسول، قائلاً: "وإن كان أحد لا يطيع كلامنا بالرسالة فسِموا هذا ولا تخالطوه لكي يخجل" أي أقيموا المعركة، لكن فلتكن معركة حمام لا ذئاب، لهذا أردف يقول: "ولكن لا تحسبوه كعدوّ بل اِنذروه كأخ" (2 تس 3: 14-15) إن الحمامة تحب الآخرين ولو في نزاعها، أمّا الذئب فيبغض الآخرين ولو تلّطف.]
    في هذا يقول الأب يوحنا من كرونستادت: [اِِسْتَعر من الحيّة حكمتها فقط، ولِيبق قلبك بسيطًا نقيًا غير فاسد. كن وديعًا ومتواضعًا كما أنا، ولا تسلّم نفسك للغضب والهياج، "لأن غضب الإنسان لا يصنع برّ الله" (يع 1: 20).]
    يقارن القدّيس أغسطينوس أيضًا بين الحمام والغربان، فالحمامة التي أرسلها نوح عادت إليه تحمل غصن الزيتون، أمّا الغراب فخرج بلا عودة يعيش على الجيف. الحمامة تطلب ما لنوح، أي ما للمسيح، أمّا الغراب فيطلب ما لذاته ولو كان نتانة وفسادًا. هذا والحمامة أيضًا في أكلها لا تمزّق ما هو قدّامها كما يفعل الغراب، لذا صارت الحمامة علامة السلام والبساطة، أمّا الغراب فعلامة الأنانيّة والتمزيق والانقسام.
    يقول القدّيس أغسطينوس: [أيضًا أن العصافير وهي طيور أصغر في الحجم من الحمام بكثير تقتل الذباب لتأكله أمّا الحمام فلا يفعل شيئًا من هذا القبيل، فإنها لا تعيش على قتل غيرها، ولا تشبع على حساب الآخرين.]
    وقد سبق لنا الحديث عن البساطة في مفهومها المسيحي في كتابنا "الحب وحياة البساطة"، واكتفي هنا بتقديم مفهومها عن القدّيس يوحنا الدرجي إذ يقول: [الإنسان البسيط هو ذو النفس التي في نقاوتها الطبيعيّة التي خُلقت عليها والتي تشفع من أجل الجميع. الحقد هو فساد البساطة، طريق ماكر للتفكير تحت ستار مزيّف من البساطة.]، لكنّه يميّز بين البساطة بالفِطرة والبساطة المجاهدة، بقوله: [عظيمة هي أيضًا البساطة التي يتّسم بها بعض الناس بالفِطرة نعم ومباركة، لكنها لا تعادل البساطة التي تكتسب بالعناء والتعب بعد التوبة عن الخطيّة، فالأولى محميّة ومحصّنة ضدّ الكثير من التصنّع والانفعال لكن الأخيرة تقود إلى أعلى درجات التواضع والوادعة. الأولى ليس لها مكافأة عظيمة، أمّا الثانية فمكافأتها لا نهائية بلا حدود.]
    يكمّل السيّد نصيحته لتلاميذه: "ولكن احذروا من الناس، لأنهم سيسلّمونكم إلى مجالس وفي مجامعهم يجلدونكم. وتساقون أمام ولاة وملوك من أجلي شهادة لهم وللأمم. فمتى أسلموكم، فلا تهتمّوا كيف أو بما تتكلّمون، لأنكم تُعطون في تلك الساعة ما تتكلّمون به. لأن لستم أنتم المتكلّمين بل روح أبيكم الذي يتكلّم فيكم" [17-20].
    يتساءل القدّيس يوحنا الذهبي الفم : لماذا لم يعد هناك سجن ولا وقوف أمام مجامع وولاة؟ ويجيب بأن الله يسمح للإنسان بالتدريب على الصراع قدر طاقته وقامته، فالصغير يسمح له بالتدرّب على الصراع مع من يناسبه في عمره وهكذا. كأن الله لا يسمح لنا في حياتنا الروحيّة أو الرعوية بالتجارب إلا بقدر ما نحتمل.
    إنه يسمح بالتجربة، مطالبًا إيّانا ألا نقلق ولا نهتم كيف نتصرّف ولا بماذا ننطق، إنّما روحه القدّوس هو الذي يعمل في المتضايقين معلنًا مجد المسيح، شاهدًا ببهائه فينا ككرازة وشهادة أمام الآخرين. يقول القدّيس أغسطينوس: [إنه يحرّركم من الخوف ويهبكم الحب الذي يشعل غيرتكم بالكرازة بي فتنبعث فيكم رائحة مجدي في العالم وتمتدحونه.] ويتحدّث القدّيس جيروم عن عمل الله في هذه اللحظات الصعبة، قائلاً: [ها أنتم ترون أنه ليس لدينا مخازن نخزن فيها، لكننا ننال فيضًا في اللحظة المطلوبة.]
    كأن جوهر حياة الخادم هو "الحياة بلا همّ في المسيح يسوع"، لا يهتمّ باحتياجاته الماديّة، ولا يضطرب من جهة ثمرة الخدمة، ولا أيضًا ممّا يتوقّعه من دخول في ضيق وآلام!
    إذ يتحدّث روح أبينا في وقت الضيق إنّما يُعلن حقيقة إيمانيّة هامة هي تجلّي الله في حياة المؤمن، خاصة في وقت الضيق، هو الذي يسمح بالألم وهو الذي يتقبّل الألم فينا، وهو الذي يهبنا النصرة والإكليل، وهو الذي يتقبّل الإكليل فينا. جاء في رسالة للقدّيس كبريانوس يقول: [أن ما ننطق به ونجيب به (وقت الضيق) يوهب لنا في تلك الساعة من السماء التي تمدّنا، فلا نتكلّم نحن بل روح الله الذي لا يفارق من يعترفون به ولا ينفصل عنهم بل يتكلّم فيهم ويتوّج فيهم.] وفي رسالة أخرى يقول: [إن عمله هو أن نغلب، وننال بإخضاع العدوّ لرمز النصرة في الصراع العظيم.]
    وهكذا بتجلّي الله فينا نمتلئ رجاءً بالنصرة الأكيدة، وكما يقول الآب يوحنا من كرونستادت: [كل ما للعدو أنه يتعبنا، لكن ماذا تكون متاعبه إن كان قلبنا ثابتًا في الرب ومؤسّسًا فيه؟]
    أما المقاومة فلا تقف عند حدود، فإنها تنطلق من أهل البيت نفسه لتشمل الجميع: "وسيُسلّم الأخ أخاه إلى الموت والأب ولده، ويقوم الأولاد على والديهم ويقتلوهم. وتكونون مبغضين من الجميع من أجل اسمي، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلّص" [21-22].
    إن كان السيّد قد أبرز دوره الإلهي نحوهم، مقدّمًا لهم إمكانيّاته حتى يتمّموا عملهم الكرازي، لكنّه لا يتجاهل دورهم الإيجابي، مؤكدًا: "ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلّص" [22]. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لا تقف إرادة الله عند دوره هو، وإنما يطالبهم بممارسة الأعمال الصالحة أيضًا. لاحظ كيف أنه من البداية جعل نصيبًا يخصّه وآخر يخصّ تلاميذه. فصُنع المعجزات هو من عمله، أمّا عدم أخذ شيء (أجرة) فهو من عملهم. فتح أبواب (قلوب) كل البشر هو نعمة من فوق، أمّا عدم طلب شيء سوى الاحتياج الضروري هو من ضبط نفوسهم هم، "لأن الأجير مستحق أجرته". عطيّة السلام هي من الله، أمّا البحث عن المستحق وعدم دخول بيت غير المستحق فهذه وصيّتهم هم. معاقبة من لا يقبلونهم عمله هو، أمّا الانسحاب منهم وتركهم بلطف بدون أن يلعنوهم أو يسبوهم، فهذا من وداعة الرسل. عطيّة الروح وعدم القلق من عمل من أرسلهم، أمّا أن يصيروا حملان وكالحمام يحتملون كل شيء بلطف، فهذا ينبع عن هدوئهم وحكمتهم.]
    إن كان الله هو الذي يهب القوّة، لكن يليق بنا أن نصبر إلى المنتهى مجاهدين بروح الرجاء، وكما يقول القدّيس كبريانوس: [يليق بنا أن نصبر مثابرين أيها الإخوة الأحباء، حتى إذ ننعم بالرجاء في الحق والحرّية ننال الحق والحرّية ذاتها.]
    كتب القدّيس كبريانوس يشجّع المعترفين في السجون على الجهاد إلى النفس الأخير حتى ينعموا بالخلاص خلال صبرهم إلى المنتهى، فيقول: [أيّا كان ما قبل النهاية فهي خطوة بها نصعد إلى قمة الخلاص.] لقد أعلن لهم أنه كلما اعترفوا محتملين الآلام يهيج العدوّ بالأكثر، فيكون الخطر أشد، لذا يجب مواجهته بالصبر.
    الجميع حتى أهل البيت يبغضوهم، لا من أجل جريمة ارتكبوها، وإنما من أجل اسمه، فإن الله لا يتركهم بل يسندهم بعطاياه ونعمه، أمّا هم فمن جانبهم يلزمهم أن يصبروا حتى النهاية، متسلّحين بنعمته. ولكن إن طردوهم فماذا يفعلون؟ يجيب السيّد: "ومتى طردوكم في هذه المدينة، فاهربوا إلى الأخرى" [23].
    هنا يقدّم لنا السيّد مبدأ هامًا، أننا لا نلقي بنفوسنا وسط العاصف فنثير المضايقين، وإنما نتركهم ليس خوفًا على حياتنا، وإنما لتكميل رسالة الله فينا التي ائْتمنّا عليها، ولكن لا نعطي الفرصة للمضايقين أن يزدادوا غضبًا وثورة. وقد ركّز القدّيس أثناسيوس الرسولي كثيرًا على هذه العبارة في دفاعه عن هروبه من أمام وجه الأريوسيّين، كما تحدّث القدّيس البابا بطرس خاتم الشهداء عن هذا الأمر بشيء من التفصيل في قانونه التاسع.
    v أمرَ مخلّصنا أن نهرب عندما نُضطهد، ونختفي عندما يبحثون عنّا، فلا نعرّض أنفسنا لمخاطر معيّنة، ولا نُشعل بالأكثر ثورة المضطهدين ضدّنا بظهورنا أمامهم. فإن من يسلّم نفسه لعدوّه ليقتله إنّما يفعل ذات الشيء كمن يقتل نفسه. أمّا أننا نهرب كأمر مخلّصنا بهذا نعرف وقتنا المناسب، ونُعلن اهتمامنا الحقيقي نحو مضطهدينا، لئلا إذ يعملون على سفك الدم يصيرون مجرمين عصاه للناموس القائل: "لا تقتل" (خر 20: 13).

    البابا أثناسيوس الرسولي

    v لم يأمرهم قط أن يبقوا مع العدوّ، بل أن يهربوا إن اضطهدوهم.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v يريدنا الرب أن نهرب في زمن الاضطهاد من مدينة إلى أخرى حتى لا يُلقي أحد بنفسه وسط المخاطر التي قد لا يحتملها الجسد الضعيف أو الفكر المنطلق العنّان وهو يتوق على الحصول على إكليل الاستشهاد.

    القدّيس أمبروسيوس

    7. عدم الخوف

    دخول التلاميذ إلى الألم حتى من أهل البيت ليس بلا هدف، فقد أوضح لهم الأسباب التالية حتى يقبلوه بلا خوف:

    أولاً: "ليس التلميذ أفضل من المعلّم، ولا العبد أفضل من سيّده، يكفي التلميذ أن يكون كمعلّمه، والعبد كسيّده" [24]. إذ السيّد هو غالب الألم، فإنه لا ينزع الألم عن تلاميذه، إنّما يعطيهم أن يغلبوا به. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إرادة الله لا أن يخلّصك من المخاوف بل يحثّك على ازدرائها، فإن هذا أعظم من التخلُّص منها.]

    ثانيًا: يقول السيّد: "فلا تخافوهم، لأن ليس مكتوم لن يُستَعلن، ولا خفي لن يُعرف. الذي أقوله لكم في الظلمة قولوه في النور، والذي تسمعونه في الأذن نادوا به على السطوح" [26-27]. يليق بالتلاميذ ألا يخافوا، لأن ما يحملونه من أمجاد إلهيّة خِفية، وما وُهبوا من بركات روحيّة، لن يبقى مكتومًا إلى الأبد، إنّما يُعلن جزئيًا في هذا الدهر وبكماله في الدهر الآتي. الكارز وهو يُدرك عطايا الله الخفيّة من بنوّة له وتمتّع بروحه القدّوس، وشركة حياة معه في الابن الوحيد، لا يخاف ضيقات العالم التي تزيد بهاءه وإكليله.
    v ماذا يحزنكم؟ هل لأنهم يسمُونكم مرائين ومخادعين؟ تمهّلوا قليلاً فيسمُّونكم منقذي العالم ومُحسنين إليه! إن الزمان سيُعلِن المكتوم ويكشف افتراء أعدائكم عليكم، فتظهر فضيلتكم إنكم منقذون ومحسنون، إن أثبتُّم ذلك بالأعمال؛ فالناس لا يصغون إلى الأقوال بل ينظرون إلى حقيقة الأعمال!

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    ثالثًا: يسند السيّد تلاميذه ليقبلوا الضيق بلا خوف، معلنًا لهم أن حياتهم الداخليّة لن تؤذي بل ولا أجسادهم بدون إذن أبيهم السماوي. إن نفوسهم مصونة بالروح القدس الناري، فلا يقدر أحد أن يقترب إليها، وشعور رؤوسهم التي تسقط عندما يقوم الإنسان بتمشيطها محصيّة لدي الله!
    يقول السيّد: "ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالأحرى من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنّم" [28].
    v يعلّمنا الوحي ألا نخاف ممن يخيف، وأن نخاف ممن لا يخيف... فقد قال: "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد... بل خافوا بالأحرى من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنّم".
    إن الشهداء القدّيسين لم يخافوا ممن يخيف، لأن بمخافتهم لله لم يهابوا إنسانًا!...
    ليقل الشهيد وهو واقف قبالة إنسان مثله: إنّني لا أخاف لأنّني أخاف (أي لا يخاف الإنسان لأنه يخاف الله)...
    تستطيع أن تقتل مسكن الروح أي الجسد، لكن هل يمكنك أن تقتل الساكن فيه؟!... إنك تطلق روحي ولا تستطيع أن تؤذيها في شيء. فبصنعك هذا سيقوم جسدي مرّة أخرى، هذا الذي لك سلطان عليه. إذ تطلق الروح يقوم الجسد وتعود إليه الروح كمسكنٍ لها، وعندئذ لا يعوذ يموت الجسد بعد!
    انظر! إنّني لن أخاف من وعيدك حتى بالنسبة لجسدي، فإنه وإن كان لك سلطان عليه لكن حتى شعر رأسي محصي لدى خالقي.
    v لا تخف أيها الشهيد من سيف مضطهدك، بل بالأحرى خف من لسانك لئلا تضطهد نفسك بنفسك، فتهلك روحك لا جسدك. لتخف على روحك لئلا تموت في نار جهنّم.

    القدّيس أغسطينوس

    v لا تخف ولا يضعف قلبك ولا تنزعج عندما يُسحب منك المال أو الطعام أو الشرّاب أو الملذّات أو الملابس أو السكن أو جسدك ذاته، بل خف العدوّ الذي يسحب نفسك من الإيمان والاتّكال على الله ومحبّة الله والقريب، عندما يبذر في قلبك الكراهيّة والعداوة والارتباط بالزمنيّات والكبرياء وغير ذلك من الخطايا.

    الأب يوحنا من كرونستادت

    رابعًا: يقوم عدم الخوف أساسًا على اكتشاف الإنسان لرعاية الله به كأبٍ محبٍ؛ فيهتمّ به كما يهتمّ بالخلقية من أجله. هذه الرعاية تمتد في حياتنا من إحصائه لشعور رؤوسنا جميعها إلى اهتمامه بالمجد الذي يعدّه لنا في السماوات.

    "أليس عصفوران يباعان بفلس،
    وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم؟
    وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة.
    فلا تخافوا، أنتم أفضل من عصافير كثيرة.
    فكل من يعترف بي قدّام الناس،
    اعترف أنا أيضًا به قدّام أبي الذي في السماوات.
    ولكن من ينكرني قدام الناس،
    أنكره أنا أيضًا قدّام أبي الذي في السماوات" [29-33].

    يُعلّق العلاّمة أوريجينوس على إحصاء شعورنا، قائلاً: [لا يقصد بذلك الشعر الذي نقصّه بالمقص ونُلقي به في سلّة المهملات، أو الشعر الذي يسقط ويموت مع تقدّم السن، لكن الشعر المُحصَى أمام الله هو الذي من الناصريّة (الذي لشمشون) حيث تسكن فيه قوّة الروح القدس، فيهبْ الغلبة على الفلسطينيّين، أي قوّة النفس وكثرة الأفكار النابعة عن الإدراك والفهم، والتي يُرمز لها برأس التلاميذ.]

    8. الحرب الداخليّة

    بعد أن حدّثهم عن الجهاد في الشهادة له، وقبولهم الطرد من العالم والضيق، وجّه أنظارهم إلى الحرب الداخليّة، فإن الكارز وأيضًا المؤمن يواجه مقاومة من جسده وعواطفه (أهل بيته) كما من أفراد عائلته. إنها حرب غاية في الشراسة لأنها تتم داخل النفس، يثيرها العدوّ لينقسم الإنسان على نفسه، أو داخل البيت لينقسم البيت على ذاته.

    "لا تظنّوا إني جئت لألقي سلامًا على الأرض،
    ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا.
    فإني جئت لأفرّق الإنسان ضدّ أبيه،
    الابنة ضدّ أمها،
    والكِنَّة ضدّ حماتها.
    وأعداء الإنسان أهل بيته" [34-36].

    يُعلق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه الحرب القاسية، بقوله: [ليس فقط الأصدقاء والزملاء يقفون ضدّ الإنسان بل حتى الأقرباء، فتنقسم الطبيعة على ذاتها... ولا تقف الحرب على من هم في بيت واحد أيّا كانوا، وإنما تقوم حتى بين الذين هم أكثر حبًا لبعضهم البعض، بين الأقرباء جدًا.]
    هنا يقدّم الله أولويّته على الجميع، فلا يتربّع في القلب غيره، ولا يسمح لأحد بدخول القلب إلا من خلاله، إذ يقول: "من أحبَّ أبًا أو أمّا أكثر منّي فلا يستحقَّني، ومن أحبَّ ابنًا أو ابنة أكثر منّي فلا يستحقّني. ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقّني. من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها" [ 37-39]. حقًا إن الله الذي أوصانا بالحب، بل جاء إلينا لكي يهبنا طبيعة الحب نحوه ونحو الناس حتى الأعداء، لا يقبل أن نحب أحدًا حتى حياتنا الزمنيّة هنا إلا من خلاله. إنه يَغير علينا كعريس يطلب كل قلب عروسه، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [الله الذي يحبّنا كثيرًا جدًا يريد أن يكون محبوبًا منّا.] لنترك كل أحد من أجله، لنعود فنقتني كل أحد بطاقات حب أعظم، إذ نحبّهم بالمسيح يسوع ربّنا الساكن فينا، فيكون على مستوى سماوي فائق؛ نحبّهم فوق كل اعتبارات زمنيّة.
    v يأمرنا الكتاب المقدّس بطاعة والدينا. نعم، ولكن من يحبّهم أكثر من المسيح يخسر نفسه. هوذا العدوّ (الذي يضطهدني لأنكر المسيح) يحمل سيفًا ليقتلني، فهل أفكر في دموع أمي؟ أو هل احتقر خدمه المسيح لأجل أبٍ، هذا الذي لا ارتبط بدفنه إن كنت خادمًا للمسيح (لو 9: 59-60)، ولو إنّني كخادم حقيقي للمسيح مدين بهذا (الدفن) للجميع.

    القدّيس جيروم

    v (في حديثه مع أرملة): لا تحبي الرجل أكثر من الربفلا تترمّلين، وإن ترمّلتي فما تشعرين بذلك، لأن لكِ معونة المحب الذي لا يموت.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v إن أحببنا الرب من كل القلب يجدر بنا ألا نفضِّل عنه حتى الآباء والأبناء.

    القدّيس كبريانوس

    لقد نفذت الأم باولاPaula هذه الوصيّة كما كتب عنها القدّيس جيروم في خطابه لابنتها يوستيخوم، إذ يقول: [إنّني أعلم أنه عندما كانت تسمع عن مرض أحد أولادها مرضًا خطيرًا، وخاصة عند مرض توكسوتيوس Toxotius الذي كانت تحبّه جدًا، كانت أولاً تنفذ القول: "انزعجت فلم أتكلّم" (مز 77: 4). وعندما تصرخ بكلمات الكتاب المقدّس: "ومن أحبّ ابنًا أو ابنة أكثر منّي فلا يستحقّني" (مت 10: 37)، تصلّي للرب وتقول: يا رب احفظ أطفالك الذين كتبت عليهم بالموت، أي هؤلاء الذين لأجلك يموتون كل يوم جسديًا.]
    مقابل هذه الحرب المرّة الداخليّة، وهذا الترك الاختياري من أجل الله، يكرم الله تلاميذه ورسله، فيعتبرهم وكلاءه؛ كل قبول لهم هو قبول له، وكل عطيّة تقدّم لهم إنّما تقدّم له شخصيًا! يا لهذه الكرامة التي يهبها الله لخدّامه الأمناء، فإنهم يحملونه فيهم، ويتقبّلون كل تصرف للآخرين من نحوهم لحسابه.

    "من يقبلكم يقبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني.
    من يقبل نبيًا باسم نبي فأجر نبي يأخذ،
    ومن يقبل بارًا باسم بار فأجر بار يأخذ.
    ومن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ
    فالحق أقول لكم أنه لا يضيع أجره" [40-42].

    من كلمات الآباء عن تكريم خدّام الله وكهنته في المسيح يسوع ربّنا:
    v لا تنظر إلى استحقاقات الأشخاص، بل إلى وظيفة الكهنة... آمن أن الرب يسوع حاضر أثناء صلوات الكاهن، لأنه إن كان قد قال "إن اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم" (مت 18: 20)، فكم بالأكثر يهبنا حضوره عندما تجتمع الكنيسة وتتم الأسرار!

    القدّيس أمبروسيوس

    v لكوني كنت جاهلاً بهذه الأمور، فقد هزأت بأبنائك وخدّامك القدّيسين، ولكن لم أربح من وراء هذا سوى ازدرائك بي.

    القدّيس أغسطينوس

    v كرِّم الذي صار لك أبًا من بعد الله.

    الدسقولية

    v الكاهن على المذبح يفعل عِوض السيّد المسيح.

    القدّيس كبريانوس

    v هل نخاف من الذي يعيّنه البشر ولا نخاف ممن يعيّنه الله، فنحتقر من عيّنه الله ونذمّه ونهينه بعشرات الآلاف من التوبيخات؟

    القدّيس أغسطينوس

    v يا لغبطة الخادم الذي من خلاله يتقبّل السيّد الكرامة والمجد.

    القدّيس جيروم

    ويرى القدّيس جيروم ليس فقط يتقبّل الخدّام من الناس كرامة باسم المسيح، وإنما يتقبّل كل مؤمن نعمة من الآب السماوي نفسه، إذ يرى ابنه الحبيب متجلِّيًا فينا، لهذا يناجي القدّيس إلهه، قائلاً: [تطلّع علينا، فإنك ترى ابنك الساكن فينا!]
    1 ثم دعا تلاميذه الاثني عشر و اعطاهم سلطانا على ارواح نجسة حتى يخرجوها و يشفوا كل مرض و كل ضعف
    2 و اما اسماء الاثني عشر رسولا فهي هذه الاول سمعان الذي يقال له بطرس و اندراوس اخوه يعقوب بن زبدي و يوحنا اخوه
    3 فيلبس و برثولماوس توما و متى العشار يعقوب بن حلفى و لباوس الملقب تداوس
    4 سمعان القانوي و يهوذا الاسخريوطي الذي اسلمه
    5 هؤلاء الاثنا عشر ارسلهم يسوع و اوصاهم قائلا الى طريق امم لا تمضوا و الى مدينة للسامريين لا تدخلوا
    6 بل اذهبوا بالحري الى خراف بيت اسرائيل الضالة
    7 و فيما انتم ذاهبون اكرزوا قائلين انه قد اقترب ملكوت السماوات
    8 اشفوا مرضى طهروا برصا اقيموا موتى اخرجوا شياطين مجانا اخذتم مجانا اعطوا
    9 لا تقتنوا ذهبا و لا فضة و لا نحاسا في مناطقكم
    10 و لا مزودا للطريق و لا ثوبين و لا احذية و لا عصا لان الفاعل مستحق طعامه
    11 و اية مدينة او قرية دخلتموها فافحصوا من فيها مستحق و اقيموا هناك حتى تخرجوا
    12 و حين تدخلون البيت سلموا عليه
    13 فان كان البيت مستحقا فليات سلامكم عليه و لكن ان لم يكن مستحقا فليرجع سلامكم اليكم
    14 و من لا يقبلكم و لا يسمع كلامكم فاخرجوا خارجا من ذلك البيت او من تلك المدينة و انفضوا غبار ارجلكم
    15 الحق اقول لكم ستكون لارض سدوم و عمورة يوم الدين حالة اكثر احتمالا مما لتلك المدينة
    16 ها انا ارسلكم كغنم في وسط ذئاب فكونوا حكماء كالحيات و بسطاء كالحمام
    17 و لكن احذروا من الناس لانهم سيسلمونكم الى مجالس و في مجامعهم يجلدونكم
    18 و تساقون امام ولاة و ملوك من اجلي شهادة لهم و للامم
    19 فمتى اسلموكم فلا تهتموا كيف او بما تتكلمون لانكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به
    20 لان لستم انتم المتكلمين بل روح ابيكم الذي يتكلم فيكم
    21 و سيسلم الاخ اخاه الى الموت و الاب ولده و يقوم الاولاد على والديهم و يقتلونهم
    22 و تكونون مبغضين من الجميع من اجل اسمي و لكن الذي يصبر الى المنتهى فهذا يخلص
    23 و متى طردوكم في هذه المدينة فاهربوا الى الاخرى فاني الحق اقول لكم لا تكملون مدن اسرائيل حتى ياتي ابن الانسان
    24 ليس التلميذ افضل من المعلم و لا العبد افضل من سيده
    25 يكفي التلميذ ان يكون كمعلمه و العبد كسيده ان كانوا قد لقبوا رب البيت بعلزبول فكم بالحري اهل بيته
    26 فلا تخافوهم لان ليس مكتوم لن يستعلن و لا خفي لن يعرف
    27 الذي اقوله لكم في الظلمة قولوه في النور و الذي تسمعونه في الاذن نادوا به على السطوح
    28 و لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد و لكن النفس لا يقدرون ان يقتلوها بل خافوا بالحري من الذي يقدر ان يهلك النفس و الجسد كليهما في جهنم
    29 اليس عصفوران يباعان بفلس و واحد منهما لا يسقط على الارض بدون ابيكم
    30 و اما انتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة
    31 فلا تخافوا انتم افضل من عصافير كثيرة
    32 فكل من يعترف بي قدام الناس اعترف انا ايضا به قدام ابي الذي في السماوات
    33 و لكن من ينكرني قدام الناس انكره انا ايضا قدام ابي الذي في السماوات
    34 لا تظنوا اني جئت لالقي سلاما على الارض ما جئت لالقي سلاما بل سيفا
    35 فاني جئت لافرق الانسان ضد ابيه و الابنة ضد امها و الكنة ضد حماتها
    36 و اعداء الانسان اهل بيته
    37 من احب ابا او اما اكثر مني فلا يستحقني و من احب ابنا او ابنة اكثر مني فلا يستحقني
    38 و من لا ياخذ صليبه و يتبعني فلا يستحقني
    39 من وجد حياته يضيعها و من اضاع حياته من اجلي يجدها
    40 من يقبلكم يقبلني و من يقبلني يقبل الذي ارسلني
    41 من يقبل نبيا باسم نبي فاجر نبي ياخذ و من يقبل بارا باسم بار فاجر بار ياخذ
    42 و من سقى احد هؤلاء الصغار كاس ماء بارد فقط باسم تلميذ فالحق اقول لكم انه لا يضيع اجره
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 1:54 pm

    الأصحاح الحادي عشر

    قبول الملك

    بعد دعوة التلاميذ والرسل كسفراء للملك المسيّا أوضح الإنجيلي متّى موقف اليهود من كرازته، فقد أرسل يوحنا تلميذين له لكي يدخل بجميعهم إلى التلمذة على يديّ الملك نفسه، وقد قابل السيّد هذا العمل بالشهادة ليوحنا.

    1. إرسال يوحنا تلميذين 1-6.

    2. شهادة السيّد ليوحنا 7-14.

    3. رفض اليهود له 16-24.

    4. قبول البسطاء له 25-30.

    1. إرسال يوحنا تلميذين

    "ولما أكمل يسوع أمره لتلاميذه الاثنى عشر

    انصرف من هناك ليعلم ويكرز في مدنهم" [1].

    إذ دعا السيّد تلاميذه للكرازة، مقدّمًا لهم إمكانيّات العمل الروحي، وموضّحًا لهم موضوع إرساليّتهم وحدودها ومنهجها ومصاعبها، تقدّم هو بنفسه "يُعلّم ويكرز" لكي يتقبّلوا روح الكرازة لا خلال الوصايا فحسب وإنما عمليًا خلال حياته وسلوكه وكرازته. هذه هي القيادة الحيّة، إنها ليست مجرّد توجيهات وتوصيات، وإنّما دخول بالتلاميذ إلى التدرّب على الشهادة بممارسة العمل الكرازي ذاته، فيتذوّقه الشخص ويختبره عمليًا.

    "أمّا يوحنا فلما سمع في السجن بأعمال المسيح

    أرسل اثنين من تلاميذه،

    وقال له: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟!"[3]

    لقد أدرك القدّيس يوحنا المعمدان أن انتقاله قد اقترب جدًا، وأن رسالته أوشكت أن تنتهي تمامًا، فبعث باثنين من تلاميذه للسيّد يسألاه ليس عن تشكّك في أمره، وإنما ليقدّم لتلميذيه الفرصة أن يلمسا بنفسيهما عمل السيّد المسيح ويتعلقا به، فينجذبا إليه ويجذبا بقيّة إخوتهما تلاميذ يوحنا ليسيروا وراءه. لا يمكن للقدّيس يوحنا أن يشك فيه، هذا الذي شهد له وهو في أحشاء أمه حين دخلت القدّيسة مريم تحمل في أحشائها السيّد المسيح جنينًا، فركض مبتهجًا، وكان هذا هو أول عمل كرازي خفي، فيه شهد الجنين يوحنا لأمه أليصابات عن الكلمة المتجسّد. إنه أول من تقدّم بالفرح مبتهجًا، يخضع ويسجد بالتهليل وهو بعد في الأحشاء. لقد جاء القدّيس يوحنا كسابق للرب إذ قيل عنه: "ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيّئ طريقك قدامك" [10]. فكيف يهيئ الطريق ويشك فيه؟

    v تظاهر عمدًا بالجهل لا ليتعلّم، فقد كان مدركًا أسرار التجسّد، وإنما تجاهل ليحدّث تلاميذه عن تفوُّق السيّد عليه، ويقنعهم بما ورد في الكتاب المقدّس أنه هو الله قد أتى متجسّدًا، وأن جميع الناس خدّام له يمهدون الطريق لقدومه، كقول المرتّل: "مبارك الآتي باسم الرب".

    القدّيس كيرلّس الكبير

    v لقد خصص لنفسه تلاميذ ليكونوا شهودًا للمسيح لا لينفصلّوا عنه... وكان هؤلاء يقدِّرون معلّمهم تقديرًا عظيمًا، وقد سمعوا منه شهادته عنه وتعجّبوا. وإذ اقترب موت يوحنا أراد تثبيتهم في الإيمان بالمسيح نفسه... فقال لتلميذين منهم: "اذهبا واسألاه"... لا لأنّني أشك فيه، وإنما لأجل تعليمكما. اذهبا واسألاه، اسمعا منه ما أخبرتكما به عنه، لقد سمعتما منّي أنا الرسول، فلتُثبِّنا ما سمعتماه منّي بواسطة الديان...

    أما قول المسيح فكان لأجل تعليمهما أيضًا: "العّمي يبصرون"... كأنه يقول لهما: لقد رأيتماني فلتعرفاني! لقد رأيتما أعمالي، إذن فلتعرفا صانعها... وطوبى لمن لا يعثر فيّ، وهذا أقوله لأجلكم وليس لأجل يوحنا.

    القدّيس أغسطينوس

    v كنبي تنبأ خلال حياته بسجنه، فكان رمزًا للناموس الصامت (المسجون).

    جاء الناموس ليخبر عن المسيح وغفران الخطايا واعدًا البشريّة بملكوت السماوات، الأمر الذي صنعه يوحنا ليحقّق هدف الناموس. لكن الناموس (في شخص يوحنا) قد صمت، إذ سجنه الأشرار وصار كمن في قيود السجن حتى لا يعرف أحد المسيح...

    بعث الناموس (يرمز له بيوحنا) برسله لينظروا أعمال الإنجيل، ويتأمّلوا حقيقة الإيمان خلال نور هذه العجائب. وبهذا فإن الناموس الذي أُحيط بعنف الخطاة يتبرّر بفهم الحرّية التي حرّرنا بها المسيح (غل 4: 31).

    بهذا لم يكن يوحنا يقصد معالجة جهل خاص به، إنّما كان يعالج جهل تلاميذه، فقد سبق فأعلن بنفسه أن المسيح يأتي لمغفرة الخطايا. والآن يرسل تلاميذ إلى المسيح لينظروا أعماله، فتثبت تعاليم المسيح لهم فلا يكرزون إلا به، غير متطلّعين إلى مسيح آخر.

    القدّيس هيلاري أسقف بواتييه

    v كان من الطبيعي أن هذا الناموس الذي يتكلّم عن المسيح وقد صار سجينًا في قلوب المؤمنين ووُضع في الحبس أن يفتقر إلى النور، فقد قاسى عذابات خلف قضبان عدم الفهم، لهذا فهو لا يقدر أن يسير إلى النهاية كشاهدٍ للمقاصد الإلهيّة ما لم تسنده بشارة الإنجيل.

    القدّيس أمبروسيوس

    إن كان القدّيس يوحنا في السجن يحمل سرّيًا تقييد الناموس وكسره فقد أرسل تلميذين له لينعما بالإنجيل القادر أن يدخل بهما إلى ملكوت الله. هنا يسلّم الناموس البشريّة للنعمة الإلهيّة المجّانيّة. أمّا إرساله تلميذين إنّما يُشير إلى جماعة اليهود وجماعة الأمم، إن كان اليهود قد كسروا الناموس المكتوب فإن الأمم كسروا الناموس الطبيعي، وكما يقول الرسول بولس: "قد شكونا أن اليهود واليونانيّين أجمعين تحت الخطيّة" (رو 3: 9)، واحتاج الكل إلى نعمة الإيمان بالمسيح للخلاص.

    يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن القدّيس يوحنا المعمدان قد أرسل تلميذيه للسيّد المسيح لأن الغيرة كانت قد دبّت في تلاميذه، إذ جاء في إنجيل معلّمنا يوحنا: "جاءوا إلى يوحنا وقالوا له: يا معلّم هوذا الذي كان معك في عبر الأردن الذي أنت شهدت له هو يعمدّ والجميع يأتون إليه" (يو 3: 26). مرّة أخرى يروي لنا إنجيل معلّمنا متّى أن تلاميذ يوحنا جاءوا إلى السيّد قائلين: "لماذا نصوم نحن والفرّيسيّون كثيرًا وأما تلاميذك فلا يصومون؟" (مت 9: 14). وقد أخذ القدّيس كيرلّس الكبير بذات الرأي.

    كانت إجابة السيّد المسيح لتلميذيّ يوحنا عمليّة، إذ قال لهما: "اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران، العُمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يُطهَّرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشرون. وطوبى لمن لا يعثر فيّ" [4-6].

    قدّم السيّد لتلميذيّ يوحنا صورة حيّة خلال السمع والرؤية، فقد سمعا كلمات محبّته الإلهيّة الفائقة نحو البشريّة ورأيا أعماله، وأخيرًا حذّرهما من التعثّر فيه. لأنه إذ يدخل إلى الآلام ويجتاز الصليب يتعثّر فيه من لا يدخل إلى أسراره العميقة. هذا التحذير ليس موجَّهًا للقدّيس يوحنا المعمدان، فقد سبق فأعلن يوحنا بنفسه عن سرّ الصليب بقوله: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطيّة العالم" (يو 1: 29)، فبدعوته "حمل الله" يُعلن الصليب، الذي به يحمل خطيّة العالم. فالحديث إذن موجَّه لتلاميذ يوحنا حتى لا يتعثّروا في صليبه.

    ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن تلميذيّ يوحنا قد شكّا في قلبيْهما، فكان السيّد يوبّخهما دون جرح لمشاعرهما: لقد أضاف العبارة الأخيرة موبّخا إيّاهما سريًا، إذ كانا قد تعثّرا فيه. لقد رأى في نفسيهما احتجاجهما عليه، ولم يدع أحدًا يشهد ذلك، إنّما تركهما لضميرهما، جاذبًا إيّاهما بالأكثر إليه بقوله: "طوبى لمن لا يعثر فيّ". لقد قال هذا فاضحًا نفسيهما لنفسيهما.

    v ماذا يعني بقوله: "طوبى لمن لا يعثر فيّ؟"... إنه كمن يقول: حقًا إنّني أصنع عجائب لكنّني لن اَستنكف من احتمال الإهانات. فإنّني إذ أسير في طريق الموت ليت الذين يكرمونني بسبب العجائب لا يحتقرونني في الموت!

    الأب غريغوريوس (الكبير)

    2. شهادة السيّد ليوحنا

    "وبينما ذهب هذان، ابتدأ يسوع يقول للجموع عن يوحنا:

    ماذا خرجتم إلى البرّيّة لتنظروا؟

    أقصبة تحرّكها الريح؟" [7]

    لم يتحدّث السيّد المسيح عن القدّيس يوحنا المعمدان إلا بعد أن رحل التلميذان، لكي لا يبدو متملقًا للرجل. مدحه السيّد قائلاً: "أقصبة تحرّكها الريح؟!" [7] وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [بالتأكيد لم يكن يوحنا قصبة تحرّكها الريح، لأنه لم يكن محمولاً بكل ريح تعليم.]

    v "لكن ماذا خرجتم لتنظروا، أإنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة، هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك" [8]. فيوحنا كان يرتدي لباسًا خشنًا، إذ كان رداؤه من شعر الإبل.

    "لكن ماذا خرجتم لتنظروا، أنبيًا؟ نعم أقول لكم، وأقضل من نبي" [9]. لماذا كان يوحنا أفضل من نبي؟ لأن الأنبياء تنبّأوا عن مجيء الرب، واشتهوا أن يروه، فلم يستطيعوا، أمّا هو فنال ما طلبوه. لقد رأى الرب وأشار إليه بإصبعه، قائلاً: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطيّة العالم" (يو1: 29)... بهذا قدّم يوحنا شهادة صادقة عن المسيح، كما قدّم المسيح شهادة عنه إذ قال: "لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه" [11].

    إنه الأصغر من جهة الزمن، وإن كان الأعظم في الكرامة... فيوحنا عظيم جدًا بين البشر، الذين ليس فيهم من هو أعظم منه سوى المسيح!

    ويقصد بالأصغر في ملكوت السماوات، أي الأصغر بين الملائكة فالأصغر بين السمائيّين أعظم من يوحنا. بهذا يكون قد عرض الرب صورة عن عظمة ملكوت السماوات ليشوّقنا إليه، واضعًا أمام أعيننا مدينة ينبغي أن نشتهي السكنى فيها.

    القدّيس أغسطينوس

    v "لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه" [11]. المعنى الذي قصده هو أن يوحنا أعظم من كل البشر، إن أردت أن تعرف فهو ملاك (مت 11: 10)، لكن من كان ملاكًا (رسولاً) على الأرض فهو الأقل في ملكوت السماوات، أي أقل من رتبة الملائكة. علاوة على هذا، فمن كان الأصغر في ملكوت السماوات، أي ملاكًا، فهو أعظم ممن هو أعظم من كل البشر على الأرض.

    القدّيس جيروم

    v كان يوحنا مثله مثل الآخرين الذين سبقوه تنسب ولادته إلى امرأة، أمّا أولئك الذين قبلوا الإيمان بالمسيح فليسوا أبناء نساء، بل أبناء الله، كقول الإنجيلي الحكيم: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله..." (يو 1: 11-12). لقد أصبحنا أبناء الله العليّ، "مولودين ثانية لا من زرع يفنى، بل ممّا لا يفنى بكلمة الله الحيّة الباقية إلى الأبد" (1 بط 1: 23). إذن كل من ولد لا من زرع فانٍ بل من كلمة الله الباقية يفوق المولود من امرأة... لاحظوا أنه قبيل قيامة المسيح من الأموات وصعوده إلى السماء لم يوجد بين الناس روح التبنّي ولا دُعي أحد ابنًا لله (يو 7: 39)... إذن لا ينقص المسيح من مكانة الأنبياء... وإنما أراد أن يظهر ما في الحياة الإنجيليّة من سموّ أعظم بكثير من سموّ الحياة الناموسيّة.

    القدّيس كيرلّس الكبير

    "لكن ماذا خرجتم لتنظروا، أإنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة، هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك" [8].

    v الثياب تعني سرّيًا الجسد الذي تلبسه النفس، فيكون ناعمًا خلال الترف والخلاعة. أمّا "الملوك" فهذا الاسم (هنا) يخصّ الملائكة الساقطين، الذين يسيطرون على الناس كسلاطين للعالم. هؤلاء يلبسون الثياب المترفة ويسكنون بيوت الملوك، بمعنى أن من كانت أجسادهم منحلّة وهالكة خلال الخلاعة، إنّما هم مساكن للشيّاطين، التي تختار هذه المواضع كسكنى لهم تناسب تدابيرهم وأعمالهم الشرّيرة.

    القدّيس هيلاري أسقف بواتييه

    v لم يلبس يوحنا الثياب الناعمة لأنه لم يتغاضَ عن الخطيّة، متملّقًا السالكين فيها، بل بالأحرى وبّخهم بقسوة، بكلمات مرّة، قائلاً: "يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟!" (لو 3: 7)، حيث يقول سليمان أيضًا: "كلام الحكماء كمهاميز (عصا في رأسها حديدة تنخس بها البهائم) وكمسامير منغرزة" (جا 12: 11). كلمات الحكماء تشبه بالمسامير والمهاميز فلا تداهن غباوة الخطاة بل تجرحها.

    الأب غريغوريوس (الكبير)

    "ماذا خرجتم إلى البرّيّة لتنظروا؟ أقصبة تحرّكها الريح؟" لتُفهم البرّيّة بطريقة سرّيّة أنها الموضع المحروم من الروح القدس، الذي لا يكون فيه أي مسكن لله، وتؤخذ القصبة بمعنى الإنسان الذي امتصّه مجد العالم تمامًا وفرّغ حياته، فلا يوجد في داخله ثمر الحق، إنّما يحمل مظهر الفرح من الخارج دون الداخل. إنه يستجيب لكل ريح، أي لاقتراحات الأرواح النجسة، فلا يقدر أن يقف ثابتًا.

    هل ذهبتم لتنظروا إنسانًا فارغًا من معرفة الله، يستجيب لنسمات كل روح دنس؟ فإذ كان يحدّثهم بروح من يزكي القديس بوحنا وليس من يوبّخ، راغبًا في تأكيد أنهم لا يروا في يوحنا شيئًا فارغًا أو متقلّبًا.

    v ماذا يقصد بالقصبة إلا النفس البشريّة المُحبّة للعالم؟ هذه التي إن لمسها أي مديح أو ذمّ تنحرف في الحال عن الطريق الذي تريده. فإن وُجد ريح مديح يصدر عن فم بشري يلاطفها فإنها تفرح وترتفع ثم تنحني في شعور بالجميل. وإذ تهبّ ريح ذمّ من نفس المصدر الذي قدّم نسمات المديح تنحني للمرة الأخرى من الجانب الآخر وتخنع لقوة العاصفة. أمّا يوحنا فلم يكن بالقصبة التي تحرّكها الريح، فلا يتملّقه المديح، ولا يغضبه الذمّ؛ لا يرفعه النجاح ولا تطرحه المحنة. لم يكن يوحنا بالقصبة التي تحرّكها الريح، إنّما كان إنسانًا لا يتأثّر بالظروف لينحرف عن طريقه... ليتنا نحتفظ بنفس ثابتة بين رياح ألسنة الناس المتغيّرة فلا الذم يثيرنا للغضب ولا النجاح يحرّكنا لمنح عطايا ضارة.

    القدّيس غريغوريوس (الكبير)

    "ومن أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السماوات يُغصب

    والغاصبون يختطفونه" [12].

    جاء يوحنا المعمدان كسابق للسيّد المسيح فانفتح طريق الملكوت، ليستطيع كل مؤمن أن يسرقه، مختطفًا إيّاه بالجهاد الحيّ. حقًا أن الملكوت هو عطيّة الله المجّانيّة، لكنها لا تقدّم للمتهاونين المتراخين، إنّما للمجاهدين كمن يسرقها.

    يتحدّث القدّيس يوحنا الدرجي عن ضرورة الجهاد والتغصّب، قائلاً: [كل الذين يبدأون النضال الصالح الذي هو صعب وضيق لكن في نفس الوقت سهل، يليق بهم أن يدركوا أنه يجب عليهم أن يقفزوا في النار، إن كانوا يودّون أن تمكث النار السماويّة فيهم فعلاً. ليفحص كل إنسانٍ نفسه، ويأكل خبزه بأعشاب مرّة، ويشرب الكأس بدموع، لئلا تؤدي خدمته إلى دينونة الذات.] كما يقول: [لنركض في طريقنا بحماسٍ كأناسٍ مدعوّين من إلهنا وملكنا، لئلا بسبب قصر عمرنا نوجد في يوم موتنا بلا ثمر ونهلك جوعًا.]

    ويتحدّث الأب يوحنا من كرونستادت عن الجهاد والتغصب قائلاً: [من الذي جعل طريق المختارين ضيقًا؟ العالم يضغط على المختارين، والشيطان يضغط عليهم، وكذلك الجسد، هذا هو ما جعل طريقنا لملكوت السماوات ضيقًا.] كما يقول: [إن كنّا لا نجاهد يوميًا لنغلب الشهوات التي تهاجمنا ونقتني ملكوت الله في قلوبنا، فالشهوات تمتلكنا بطغيان شديد وعنف، وتسلب نفوسنا كالصوص.]

    ويقدّم لنا الأب يوحنا من كرونستادت مثالاً عن الجهاد في الصلاة، قائلاً: [يقول الناس إن لم تشعر بميل للصلاة فالأفضل لا تصلِِّ. هذه سفسطة مخادعة وجسدانيّة. إن كنت تصلّي فقط عندما تشعر بميل للصلاة، فستتوقّف عن الصلاة تمامًا، وهذا ما يطلبه الجسد. "ملكوت السماوات يغتصب"، فلا تستطيع أن تعمل لخلاصك بدون اغتصاب نفسك.] كما يقول: [لا تتمّم عملك فقط عندما تشتاق إليه، تمّمه على وجه الخصوص عندما لا تشتاق إليه. لتفهم أن هذا ينطبق على كل عمل عادي زمني، كما ينطبق على وجه الخصوص على الأعمال التي تخص خلاص النفس، كالصلاة والقراءة في كلمة الله وكتب التهذيب، والاشتراك في الخدمة الإلهيّة والأعمال الصالحة، والكرازة بكلمة الله وهكذا. لا تطِعْ الجسد الخامل المملوء شرًا، فإنه مستعد للراحة دومًا ليقودنا إلى الهلاك الأبدي خلال الهدوء الوقتي والمتعة الزمنيّة، وقد قيل: "بعرق وجهك تأكل خبزًا" (تك3: 19).]

    ويشدّد القدّيس أمبروسيوس على الجهاد المستمر دون تهاون، بقوله: [فقدان ساعة واحدة ليس بالأمر الهيّن، فالساعة هي جزء من حياتنا كلها.]

    ربّما يسأل أحد: لماذا يقول السيّد المسيح "ملكوت السماوات يغتصب"؟ يجيب القدّيس جيروم: [انظر، أليس بالحق يُحسب اغتصابًا عندما يرغب الجسد أن يصير إلهًا ويصعد إلى الموضع الذي منه سقطت الملائكة، ويدين ملائكة؟]

    ويرى القدّيس أمبروسيوس أن الكنيسة استطاعت بالإيمان أن تغتصب الملكوت من المجمع اليهودي، تمتّعت بالنبوّة لله بينما حُرم منها.

    يكمّل السيّد المسيح حديثه قائلاً: "لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبّأوا. وإن أردتم أن تقبلوا، فهذا هو إيليّا المزمع أن يأتي. من له أذنان للسمع فليسمع" [13-15].

    في الوقت الذي فيه يُعلن السيّد عن يوحنا أنه إيليّا الذي سبق مجيئه مهيّئًا له الطريق، إذ بيوحنا نفسه عندما سُئل إن كان هو إيليّا يجيب: "لست أنا"؛ كيف هذا؟

    يقول العلاّمة أوريجينوس: [إنه يوحنا وليس هو إيليّا في نفس الوقت، ليس شخصه، إذ لا يعرف عن نفسه أنه مارس حياة شخصيّة سابقة. بهذا يؤكّد القدّيس يوحنا المعمدان رفضه لفكره تناسخ الأرواح، بمعنى إعادة تجسّدها، لكنّه جاء يحمل ذات الفكر والاتّجاه لإيليّا النبي.]

    هذا ما أكّده كثير من آباء الكنيسة مثل القدّيس يوحنا الذهبي الفم والقدّيس أغسطينوس وغيرهما.

    يقول الأب غريغوريوس (الكبير): [يقول الملاك لزكريّا بخصوص يوحنا: "ويتقدّم أمامه بروح إيليّا وقوّته" (لو 1: 17). كما أن إيليّا يسبق المجيء الثاني، فإن يوحنا يسبق المجيء الأول. وكما أن إيليّا هو السابق للديّان القادم، هكذا يوحنا هو السابق للمخلّص الآن. إذن فيوحنا هو إيليّا في الروح، وليس في شخصه.]

    هكذا يقول السيّد: "من له أذنان للسمع فليسمع" أي من كانت له الأذنان الداخليّتان القادرتان على سماع الأمور الروحيّة وإدراكها، يمكنه أن يسمع ويدرك أن إيليّا قد جاء يسبق المسيّا المخلّص، الذي تنبأ عنه جميع الأنبياء ومهّد له الناموس خلال الرموز والظلال.

    هاتان الأذنان هما عطيّة إلهيّة، وكما يقول القدّيس جيروم: [يقول إشعياء: "أعطاني الرب أذنًا" (راجع إش 50: 5)، فإذ لم يكن لي أذن للقلب وهبَني أذنًا اسمع بها رسالة الله.]

    3. رفض اليهود له

    إذ كان السيّد يتحدّث عن شخص القدّيس يوحنا المعمدان ويشهد له بكونه السابق الذي أعدّ له الطريق، أوضح أن البعض رفضه كما رفضوا الملك السماوي نفسه، مقدّمين تبريرات وتعليلات خاطئة لرفضهم.

    "وبمن أشبِّه هذا الجيل؟

    يشبه أولادًا جالسين في الأسواق ينادون إلى أصحابهم. ويقولون:

    زمّرنا لكم فلم ترقصوا، نُحنا لكم فلم تلطموا.

    لأنه جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب،

    فيقولون فيه شيطان.

    جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب،

    فيقولون هوذا إنسان أكّول وشَرّيب خمر،

    محب للعشّارين والخطاة،

    والحكمة تبرّرت من بنيها" [16-19].

    لقد رفضه الكتبة والفرّيسيّون والصدّوقيّون، ومن تتلمذوا على أيديهم، وحملوا روحهم المتكبّر، فلم يقدروا أن ينطلقوا من الذات ego ليتقبّلوا كلمة الحق ويُدركوا الحكمة. أرسل الله لهم من ينوح كيوحنا المعمدان الثائر على الخطيّة، فلم يلطموا كخطاة بالتوبة بل ثاروا ضدّه. وهوذا يأتيهم السيّد نفسه يزمِّر لهم بمزمار الحب المترفِّق، فلا يرقصون رقصات الروح المتهلّل. جاءهم النبي زاهدًا حتى في ضروريّات الحياة، من أكلٍ وشربٍ وملبسٍ لكي يسحبهم من الحياة المترفة المدلّلة، فاتهموه أن به شيطان، وجاءهم ابن الله المتجسّد حالاً في وسطهم، يشاركهم حياتهم البشريّة، لكي يجتذبهم إليه بالحب كصديقٍ لهم فإذا بهم يزدرون بسلوكه كمحب للخطاة والعشّارين.

    حينما تفسد بصيرة الإنسان الداخليّة يستطيع أن يجد لنفسه كل المبرّرات لرفض العمل الإلهي، فلا يحتمل حب الله وحنانه، ولا يتقبّل تأديباته؛ لا تجتذبه الكلمات الإلهيّة الرقيقة كما لا تردعه التهديدات.

    لقد جاء العهد القديم مشحونًا بالترنيمات المستمرّة ليبهج قلب العروس بعريسها، فلم يدرك اليهود هذه التسابيح المفرحة بل أغلقت الباب في وجه عريسها، وجاء الأنبياء أيضًا بمراثي كثيرة لعلّها تليّن قلبهم الحجري، لكنهم لم يرتعبوا. لم يقبلوا السيّد المسيح عريسًا يفرح قلبهم ويبهجه، ولا فاديًا خلّصهم من العقاب الأبدي!

    بعدما قدّم السيّد تعاليمه وقوّاته مؤكّدًا حبّه لهم صار يوبّخهم على عدم توبتهم قائلاً: "ويل لكِ يا كورزين، ويل لكِ يا بيت صيدا، لأنه لو صُنعت في صور وصيدا القوّات المصنوعة فيكما لتابتا قديمًا في المسوح والرماد" [21]. ليس شيء يُحزن قلب الله مثل قسوة قلب أولاده، هؤلاء الذين قُدّمت لهم نعم إلهيّة كثيرة ولم تتحرّك قلوبهم، بينما لو قُدّمت هذه العطايا للغرباء ربّما يسرعون بالتوبة والرجوع إلى الله. لهذا يؤكّد السيّد أن كثيرين يأتون من المشارق والمغارب إلى ملكوت الله وينعمون بحضن إبراهيم، بينما يُحرم بنو الملكوت منه!

    مرة أخرى يؤكّد السيّد أن الغرباء وإن طردوا من الملكوت، لكن مرارتهم تكون أقل من مرارة أبناء الملكوت المطرودين منه، إذ يقول: "ولكن أقول لكم أن صور وصيدا تكون لهما حالة أكثر احتمالاً يوم الدين ممّا لك" [22]. فإنالذي يعرف كثيرًا ويخطئ يُضرب أكثر!

    4. قبول البسطاء له

    الذين ظنّوا في أنفسهم أنهم حكماء رفضوه، بينما قبله البسطاء، فأعلن لهم أسراره الإلهيّة، مقدّمًا تسبحة فرح وتهليل لأبيه من أجلهم:

    "في ذلك الوقت أجاب يسوع وقال:

    أحمدك (اعترف لك) أيها الآب رب السماء والأرض،

    لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء، وأعلنتها للأطفال" [25].

    حقًا إن الله يشتهي أن يقدّم أسراره للبشريّة بلا محاباة، ولا يمنع أحدًا من معرفته، لكن الذين يظنّون في أنفسهم أنهم حكماء وفهماء كالفرّيسيّين المتعجرفين أو الغنوسيّين الذين نادوا أنهم أصحاب معرفة gnosis عقليّة قادرة على خلاصهم، هؤلاء يتثقّلون بالأنا فلا يقدرون أن يدخلوا طريق المعرفة الإلهيّة الحقّة، أمّا من يقبل المسيّا الملك في بساطة قلب ويحمل صليبه في تواضعٍ، يكون كطفل قد ارتمى في حضن أبيه، فيدخل به السيّد إلى معرفته، إذ يقول السيّد المسيح: "نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرّة أمامك. كل شيء قد دُفع إليّ من أبي، وليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يُعلن له" [26-27].

    v "اعترف لك (أحمدك) أيها الآب..." [25]. تبصَّروا الآن إن كان المسيح البعيد عن كل الخطايا يقول: "اعترف"، فإن الاعتراف لا يخصّ الخطاة فحسب بل يخصّ أحيانًا الذين يسبّحون الله أيضًا. لذلك فإنّنا نعترف بتسبيحنا لله أو باستذناب أنفسنا. وكِلا الأمرين هو اعتراف حسن، سواء في لوْمكم أنفسكم يا من لستم بلا خطيّة، أو في تسبيحكم الله الذي بلا خطيّة.

    v استمع إلى اعتراف الرب! "اعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض". هذا الاعتراف كما سبق أن قلت يعني "الحمد". لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال". ما هذا يا إخوتي؟ لتفهموا (ماذا يقصد بالحكماء والفهماء) ممّا جاء بعكسهم (الأطفال)، إذ لم يقل أعلنتها للأغبياء والجهلاء، بل "أعلنتها للأطفال"... أخفاها عن هؤلاء الحكماء، الذين هم بالحق مثار سخرية ومتكبّرون، الذين يتظاهرون باطلاً أنهم عظماء، ولكنهم بالحق ليسوا إلا متكبّرين... من هم الأطفال؟ إنهم المتّواضعون... بقوله "أعلنتها للأطفال" أوضح أنه يقصد "الكبرياء" تحت اسم الحكمة والفهم...

    "بينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء" (رو 1: 22). هنا تجد علاجًا تعرفه من الضدّ. فإذ تزْعم أنك حكيم تصير جاهلاً! فلتعترف في نفسك أنك بذاتك جاهل فتصير حكيمًا، ولكن لتشهد بذلك بالحق. اعترف بهذا في القلب، لأن هذه هي الحقيقة. فإن شهدت بذلك لا تشهد به أمام الناس دون أن تعترف به أمام الله، معلنًا أن كل ما يخصّك بكلّيتك مظلم... لتعترف أنك لست نورًا لنفسك بل بالحقيقة أنك عين لا نور، وما فائدة العين حتى المفتوحة والسليمة دون وجود نور؟ لتعترف أنك لست نورًا لنفسك، ولتصرخ كما هو مكتوب: "لأنك أنت تضيء سراجي. الرب إلهي ينير ظلمتي" (مز 18: 28). لأني كنت بكلّيتي ظلمة ولكنك أنت هو النور الذي يبدّد ظلمتي وينير لي. أنا لست نورًا لنفسي، ليس لي نصيب في النور إلاّ بك!

    v "اعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء". أخفيتها عن هؤلاء الذين ظنّوا في أنفسهم أنهم نور مع أنهم ظلمة... فلم يستطيعوا أن يستضيئوا. وأما الذين هم ظلمة واعترفوا بذلك، فقد كانوا أطفالاً صغارًا وليسوا بعظماء، كانوا متواضعين وليسوا متكبّرين. لقد حقّ لهم أن يقولوا: "أنت تضيء سراجي". إنهم يعرفون أنفسهم ويمدحون الله فلم يضلّوا عن طريق الخلاص.

    القدّيس أغسطينوس

    حقًا إنه لم يمنع أحدًا عن معرفته، لكن الطريق إليه بالنسبة لنا كرب والباب ضيق، لا يقدر أحد أن يدخله سوى البسطاء المتواضعون. ما هو الطريق إلا شخص المسيح نفسه، الذي يقول: "أنا هو الطريق والحق والحياة"، يحملنا فيه بكوننا نحمل سماته من بساطة وتواضع وحب الخ. كأعضاء في جسده المقدّس، ليدخل بنا إلى حضن أبيه ونتعرّف على أسراره، فيفرح بنا الآب. لهذا يكمّل السيّد حديثه، قائلاً: "نعم أيها الآب، لأن هكذا صارت المسرة أمامك. كل شيء قد دُفع إليّ من أبي، وليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يُعلن له. تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم، وتعلّموا منّي لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هيّن وحملي خفيف" [26-30].

    لقد أوضح السيّد في حديثه الآتي:

    أ. الابن هو الطريق لمعرفة الآب.

    ب. يدعو الابن المتعبين للدخول إلى راحة المعرفة الحقيقيّة.

    ج. يدعونا الابن لحمل نيره خلال سمتيّ الوداعة وتواضع القلب.

    د. نيره الذي نحمله حلو، وحمله خفيف.

    أ. الابن هو طريق معرفة الآب

    لا يستطيع أحد أن يدرك من هو الآب في جوهره إلا الابن الوحيد الجنس، الواحد معه في الجوهر، ولا يقدر أحد أن يدرك من هو الابن غير الآب وحده. ولما كانت مشيئة الله أن نتعرّف عليه فنحبّه ونقبل الاتّحاد معه، لهذا جاءنا الابن يحمل طبيعتنا لكي يدخل بنا إلى المعرفة الإلهيّة، حملنا فيه حتى نقدر أن نُعاين ما لا يُرى وندرك ما لا يُدرك. ليس طريق آخر به تقدر النفس أن تتعرَّف على إلهها إلا باتّحادها بالابن الوحيد. يخاطب القدّيس أغسطينوس الآب، قائلاً: [إننا نقول أنه بالمسيح قد صار لنا باب الدخول إليك.]

    في دراستنا لسّر الإفخارستيا، أدركنا أن ذبيحة المسيح تحملنا إلى الثبوت في المسيح يسوع الذبيح بكونه رأسنا، خلالها نتعرّف على الآب الذي يعرفه الابن. وقد ركَّزت الليتورجيّات الأولى على تأكيد سرّ الإفخارستيا كسرّ معرفة الله خلال ابنه. ففي قداس الأسقف سرابيون يُقال: لتتبارك نفوسهم بالفهم والمعرفة والأسرار لكي يشتركوا فيها، ليتبارك الكل معًا خلال الابن الوحيد يسوع المسيح.]

    ب. يدعو الابن المتعبين للدخول إلى راحة المعرفة الحقيقيّة

    ينادي السيّد جميع المتعبين، قائلاً: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" [28].

    ليس عجيبًا أن يدعو السيّد المتعبين جميعًا لنوال الراحة فيه بعد أن أعلن أنه وحده العارف للآب وواهب المعرفة. ففيه نكتشف محبّة الآب الفائقة ونتعرّف على حنوّه نحونا، إذ يقول الرسول بولس: "الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء؟! من سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الذي يبرّر! من الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات بل بالأحرى قام أيضًا الذي هو أيضًا عن يمين الله الذي أيضًا يشفع فينا!" (رو 8: 32-35). ففي المسيح يسوع عرفنا الآب كمحب البشر لم يبخل علينا بشيء بل قدّم ابنه فِدية عنّا. فماذا نطلب بعد؟! وفي المسيح رأيناه الديّان الشفيع في نفس الوقت. فممن نخاف؟! هذا هو سرّ راحة الجميع!

    يُعلّق القدّيس أمبروسيوس على دعوة السيّد المسيح للمتعبين من أجل راحتهم قائلاً: [إذ يحمل الرب نحونا حنانًا يدعونا إليه ولا يرهبنا. جاء في وداعة، أتى في تواضع... إنه يلاطفنا ولا يطردنا أو يلقينا خارجًا. هكذا اختار أيضًا تلاميذ مناسبين يفسِّرون إرادة الرب إذ يجمعون شعب الله (بالحب) ولا يشتّتونه (بالقسوة).]

    يناجي القدّيس يوحنا سابا ربنايسوع كسرّ راحته، قائلاً: [طوبى للحامل في قلبه ذِكرك في كل وقت، لأن نفسه تسكر دائمًا بحلاوتك!... طوبى لذاك الذي يطلبك في داخله كل ساعة، منه تجري له الحياة ليتنعّم!...] كما يقول: [إن كنت تحزن في طلبه فستبتهج بوجوده! إن كنت تتألّم لكي تنظره بالدموع والضيق، فإنه يظهر لك حسنة (جماله) داخلك فتنسى أحزانك.]

    ج. يدعونا الابن لحمل سمتيّ الوداعة وتواضع القلب

    لا نستطيع أن ندخل طريق المعرفة الحقيقيّة إلا بالمسيح يسوع نفسه الوديع المتواضع القلب، نحمله فينا فنحمل سماته ونتأهّل لإدراك الأسرار الإلهيّة:

    v "احملوا نيري عليكم وتعلّموا مني" [29]، لا في خلقه العالم، ولا في خلقه الأمور المنظورة وغير المنظورة، ولا في صنع المعجزات وإقامة الموتى في العالم الذي خلقه هكذا، وإنما "لأني وديع ومتواضع القلب".

    أتريد أن تكون عظيمًا؟ ابتدئ من الآخر!

    أتريد أن تقيم بناءً غالبًا قويًا؟ فكِّر أولاً في أساس التواضع!...

    ما هي قمّة تشييد هذا البناء الذي نؤسّسه؟ إلى أين تبلغ قمّة هذا البناء العالي؟ أقول حالاً إلى رؤية الله! ألا ترى كم هو عظيم أن تُعاين الله؟! إن من ارتفع إلى هذا الأمر يقدر أن يفهم ما أقوله وما يسمعه!... وإذ القمّة مرتفعة فكّر في الأساس. أي أساس؟ ماذا تقول؟ تعلّموا منه لأنه وديع ومتواضع القلب. لتحفر فيك أساس التواضع هذا عميقًا، فتحصل على قمّة المحبّة!

    القدّيس أغسطينوس

    د. النير العذب

    إذ يدخل البسطاء باب المعرفة الحقيقيّة خلال اتّحادهم بالسيّد المسيح نفسه. يحملونه فيهم، فيجدون نيره هيّن وحمله خفيف، فتستريح نفوسهم في داخله. حقًا لقد دعانا لحمل الصليب والإماتة معه كل، لكن مادام الصليب خاص به والموت هو شركة معه تتحوّل الآلام إلى عذوبة والموت إلى حياة والصلب إلى قيامة، بهذا يصير النير هيّنًا، لأنه نير المسيح، والحمل خفيفًا لأنه حمله هو.

    v إن كنت لا تصدّق أقوالنا اسمع من رأوا ملامح الشهداء وقت صراعاتهم، عندما كانوا يُجلدون ويُسلخون، إذ كانوا في فرحٍ زائد وسرور. حينما كانوا يُقصون على حديد محمّى بالنار يتهلّلون وتبتهج قلوبهم كمن هم ملقون على سرير من الورود. لهذا يقول بولس وهو يرحل خاتمًا حياته بموت عنيف: "أُسرّ وأفرح معكم أجمعين، وبهذا عينه كونوا أنتم مسرورين أيضًا وافرحوا معي" (في2: 17-18). انظروا بأي لغة قويّة يدعو العالم كلّه ليشترك معه في بهجته؟

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v "احمل نيري عليك، لأن نيري طيّب وحملي خفيف". حين أقول بأن تكفر بنفسك إذا أردت أن تتبعني، فهل تجد وصيّتي هذه قاسية وصعبة؟ ليست قاسية عليك ولا ثقيلة لأني معين لك. المحبّة تخفّف من قسوة الوصيّة!

    القدّيس أغسطينوس

    v أي شيء يكون ثقيلاً وصعبًا على من احتضن بكل قلبه نير المسيح، متأسّسًا على التواضع الحقيقي، مثبِّتًا أنظاره على آلام الرب على الدوام، فرحًا بكل ما يصيبه، قائلاً: "لذلك أُسرّ بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات لأجل المسيح، لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12: 10)... كيف تصير حلاوة نير المسيح العجيبة مرّة؟ إلا بسبب مرارة شرّنا! كيف يصير الحمل الإلهي الخفيف للغاية ثقيلاً؟ إلا لأنه في وقاحتنا العنيدة نستهين بالرب الذي به نحمل حمله!، خاصة وأن الكتاب المقدّس بنفسه يشهد بذلك بوضوح، قائلاً: "الشرّير تأخذه آثامه وبحبال خطيّته يُمسك" (أم 5: 22)؟أقول أنه من الواضح أننا نحن الذين نجعل من طرق الرب السهلة السليمة طرقًا متعبة، وذلك بسبب حجارة شهواتنا الرديئة الثقيلة، إذ بغباوة نجعل الطريق الملوكي محجرًا، وبترك الطريق الذي وطأته أقدام كل القدّيسين بل وسار فيه الرب نفسه، باحثين عن طريق ليس فيه آثار لمن سبقونا، طالبين أماكن مملوءة أشواكًا، فتعمينا إغراءات المباهج الحاضرة، وبتمزّق ثوب العرس بالأشواك في الظلام... وقد تغطى الطريق بقضبان الخطايا، حتى أننا ليس فقط نتمزّق بأشواك العوسج الحادة، وإنما ننطرح بلدغات الحيّات المميّتة والأفاعي المتوارية هناك، "لأنه شوك وفخوخ في طريق الملتوي" (أم 22: 5).

    الأب إبراهيم

    v نسمع الرسول وهو تحت هذا النير الهيّن والحمل الخفيف يقول: "بل في كل شيء نُظهر أنفسنا كخُدّام الله في صبرٍ كثيرٍ في شدائدٍ في ضروراتٍ في ضيقاتٍ في ضرباتٍ الخ..." (2 كو 6: 4). وقي موضع آخر من نفس الرسالة يقول: "من اليهود خمس مرّات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة، ثلاث مرّات ضُربت بالعصى، مرّة رجمت، ثلاث مرّات انكسرت في السفينة ليلاً ونهارًا قضيت في العمق" (2 كو 11: 24، 25) الخ، وبقيّة المخاطر التي حقًا يمكن إحصاءها، ولكن لا يمكن احتمالها إلا بمعونة الروح القدس. لقد كان يعاني على الدوام وبكثرة من كل هذه التجارب الثقيلة والخطيرة التي أشرّنا إليها، ولكن في نفس الوقت كان الروح القدس يعمل فيه لإبطال الإنسان الخارجي وتجديد إنسانه الداخلي دومًا فيومًا. فبتذوّقه الراحة الروحيّة في مباهج الرب الغزيرة تهون المتاعب الحاضرة، على رجاء البركة المستقبلة وتخِفّ التجارب الثقيلة. هوذا ما أحلى نير المسيح الذي حمله! وما أخف ذلك الحمل!...

    v كم يسهل احتمال الضيقات الزمنيّة من أجل تجنُّب العقاب الأبدي وإدراك الراحة الأبديّة. لم يقل الإناء المختار اعتباطًا بفرح زائد: "فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستُعلن فينا"(رو 8: 18). انظر كيف أن ذلك "النير الهيّن والحمل الخفيف"، إن كان عسيرًا على القليلين الذين اختاروه لكنّه سهل للذين يحبّونه.

    القدّيس أغسطينوس

    v كل شيء يقلقنا ويفسد القلب في أساسه ويضغط علينا هو من الشيطان، الذي هو نفسه الاضطراب والضيق الأبدي، أمّا الرب فهو سلام القلب وراحته.

    الأب يوحنا من كرونستادت

    يمكننا في إيجاز أن نقول أن البسطاء يقبلون الملك المسيّا ويحملون صليبه كنيرٍ عذبٍ، سرّ عذوبته أنهم فيما هم يحملونه يكتشفون ملكهم الحامل للصليب معهم وعنهم وفيهم أيضًا.

    مرحِّبًا بالنير إن كان هو نير المسيح، فإنّنا لن نقدر أن نلتقي بمسيحنا خارجًا عن نيره، ولا أن نتعرّف على أبيه بدون صليبه!

    1 و لما اكمل يسوع امره لتلاميذه الاثني عشر انصرف من هناك ليعلم و يكرز في مدنهم
    2 اما يوحنا فلما سمع في السجن باعمال المسيح ارسل اثنين من تلاميذه
    3 و قال له انت هو الاتي ام ننتظر اخر
    4 فاجاب يسوع و قال لهما اذهبا و اخبرا يوحنا بما تسمعان و تنظران
    5 العمي يبصرون و العرج يمشون و البرص يطهرون و الصم يسمعون و الموتى يقومون و المساكين يبشرون
    6 و طوبى لمن لا يعثر في
    7 و بينما ذهب هذان ابتدا يسوع يقول للجموع عن يوحنا ماذا خرجتم الى البرية لتنظروا اقصبة تحركها الريح
    8 لكن ماذا خرجتم لتنظروا اانسانا لابسا ثيابا ناعمة هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك
    9 لكن ماذا خرجتم لتنظروا انبيا نعم اقول لكم و افضل من نبي
    10 فان هذا هو الذي كتب عنه ها انا ارسل امام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك
    11 الحق اقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء اعظم من يوحنا المعمدان و لكن الاصغر في ملكوت السماوات اعظم منه
    12 و من ايام يوحنا المعمدان الى الان ملكوت السماوات يغصب و الغاصبون يختطفونه
    13 لان جميع الانبياء و الناموس الى يوحنا تنباوا
    14 و ان اردتم ان تقبلوا فهذا هو ايليا المزمع ان ياتي
    15 من له اذنان للسمع فليسمع
    16 و بمن اشبه هذا الجيل يشبه اولادا جالسين في الاسواق ينادون الى اصحابهم
    17 و يقولون زمرنا لكم فلم ترقصوا نحنا لكم فلم تلطموا
    18 لانه جاء يوحنا لا ياكل و لا يشرب فيقولون فيه شيطان
    19 جاء ابن الانسان ياكل و يشرب فيقولون هوذا انسان اكول و شريب خمر محب للعشارين و الخطاة و الحكمة تبررت من بنيها
    20 حينئذ ابتدا يوبخ المدن التي صنعت فيها اكثر قواته لانها لم تتب
    21 ويل لك يا كورزين ويل لك يا بيت صيدا لانه لو صنعت في صور و صيدا القوات المصنوعة فيكما لتابتا قديما في المسوح و الرماد
    22 و لكن اقول لكم ان صور و صيدا تكون لهما حالة اكثر احتمالا يوم الدين مما لكما
    23 و انت يا كفرناحوم المرتفعة الى السماء ستهبطين الى الهاوية لانه لو صنعت في سدوم القوات المصنوعة فيك لبقيت الى اليوم
    24 و لكن اقول لكم ان ارض سدوم تكون لها حالة اكثر احتمالا يوم الدين مما لك
    25 في ذلك الوقت اجاب يسوع و قال احمدك ايها الاب رب السماء و الارض لانك اخفيت هذه عن الحكماء و الفهماء و اعلنتها للاطفال
    26 نعم ايها الاب لان هكذا صارت المسرة امامك
    27 كل شيء قد دفع الي من ابي و ليس احد يعرف الابن الا الاب و لا احد يعرف الاب الا الابن و من اراد الابن ان يعلن له
    28 تعالوا الي يا جميع المتعبين و الثقيلي الاحمال و انا اريحكم
    29 احملوا نيري عليكم و تعلموا مني لاني وديع و متواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم
    30 لان نيري هين و حملي خفيف
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 1:56 pm

    الأصحاح الثاني عشر

    مفَاهيم الملكوت الجَديد

    بعد أن تحدّث عن رفض البعض للملكوت الجديد وقبول البسطاء له بدأ يحدّثنا عن مفاهيم هذا الملكوت من جهة العبادة (السبت)، والسلوك (الوداعة)، والجهاد ضدّ الشيّاطين، والخلاص.

    1. مفهوم السبت الجديد 1-13.

    2. الوداعة الغالية 14-21.

    3. الغلبة على الشيطان 22-37.

    4. مفهوم الآية 38-45.

    5. اتّحادنا معه 46-50.

    1. مفهوم السبت الجديد

    لما كان للسبت أهميته الخاصة عند اليهود، وقد فهموه بمفهوم حرفي قاتل لهذا قدّم السيّد المفهوم الروحي الجديد للسبت. قد سبق لنا معالجة موضوع السبت في أكثر من موضع.

    سمح السيّد لتلاميذه أن يقطفوا سنابل ويأكلون، الأمر الذي أثار الفرّيسيّين، إذ يقول الإنجيلي: "في ذلك الوقت ذهب يسوع في السبت بين الزروع، فجاع تلاميذه، وابتدأوا يقطفون سنابل ويأكلون. فالفرّيسيّون لما نظروا قالوا له: هوذا تلاميذك يفعلون مالا يحلّ فعله في السبت" [1-2].

    لقد سمحت الشريعة بقطف سنابل الغير "إذا دخلت زرع صاحبك فأقطف سنابل بيدك، ولكن منجلاً لا ترفع على زرع صاحبك" (تث 23: 25). فمن أجل المحبّة سمح الله للإنسان في جوعه أن يقطف سنابل ليأكل، لكنّه لا يستغل المحبّة فيستخدم المنجل. لهذا لم يعترض الفرّيسيّون على قطف السنابل في حد ذاته، وإنما لأجل عمل ذلك يوم السبت، إذ اعتبروا هذا نوعًا من الحصاد والتذرية وهما أمران ممنوعان يوم السبت.

    أراد السيّد أن يرتفع بهم إلى ما فوق المفهوم الحرفي للسبت كاشفًا لهم أنه حتى في السبت كان الله يسمح بأمور تبدو في حرفيّتها محرَّمة؛ من ذلك:

    أولاً: تصرّف داود النبي والملك: "أمّا قرأتم ما فعله داود حين جاع هو والذين معه. كيف دخل بيت الله وأكل خبز التقدّمة الذي لم يحلّ أكله له ولا للذين معه بل للكهنة فقط" [3-4]. إن كان أكل خبز التقدّمة خاص بالكهنة وحدهم (لا 24: 5-9)، فإن داود النبي يحسب من الجانب الحرفي كاسرًا للوصيّة (1 صم 21: 1-6)، لكن الله لا ينظر للعمل في مظهره الخارجيّة، وإنما في الغاية الداخليّة للقلب. لم يكن داود متهاونًا بالوصيّة ولا متراخيًا، ولكن لم يكن أمامه طريق آخر فلم يُحسب بأكلِه هو ومن معه من هذا الخبز كاسرين للوصيّة.

    ثانيًا: تصرّف الكهنة: "أمّا قرأتم في التوراة أن الكهنة في السبت في الهيكل يدنِّسون السبت وهم أبرياء. ولكن أقول لكم أن ههنا أعظم من الهيكل" [5]. إن كان الكهنة في العهد القديم لم يتوقّفوا عن العمل يوم السبت، بل كان العمل يتزايد، إذ تُكثر بالتقدمات والذبائح في ذلك اليوم ويكثر المتعبّدون، كانوا يقومون بأعمال لو قام بها إنسان خارج الهيكل لحُسبت تدنيسًا للسبت، فمن أجل كرامة الهيكل وتحقيق رسالته لم يتوقّف هؤلاء عن العمل، بل يُحسب توقّفهم إهمالاً في حق الهيكل. هذا بخصوص الهيكل القديم فماذا إن كان السيّد نفسه الساكن في الهيكل قد حلّ على الأرض، ألا يصير سبتنا الحقيقي هو العمل الدائم لحساب رب الهيكل؟ إذن فالسبت ليس راحة جسديّة تنبع عن توقُّف عن العمل، إنّما هو راحة تصدر عن عملنا المستمر بالمسيح يسوع ربّنا رب الهيكل وسرّ راحتنا.

    ثالثًا: ما جاء في هوشع النبي (6: 6) "فلو علمتم ما هو، إني أريد رحمة لا ذبيحة، لما حكمتم على الأبرياء. فإن ابن الإنسان هو رب السبت أيضًا" [7-8]. لقد وضع الرب جذور الفكر الروحي لمفهوم العبادة والطقس في العهد القديم بالقول: "إني أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من محرقات" (هو 6: 6). فمع ما للذبيحة من أهمّية يلتزم بها شعب الله، لكن الله لا يريد الشكل الخارجي، إنّما ما تحمله الذبيحة من سرّ المحبّة والرحمة. هكذا إن كان تنفيذ وصيّة حفظ السبت هي ذبيحة طاعة لله، فإن الله يريد جوهر الطاعة ألا وهو الحب والرحمة.

    إذن لم يكسر السيّد المسيح السبت بل قدّسه بقوله عن نفسه أنه "رب السبت"، وذلك كما يلذ أن يقول الله عن نفسه: "إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب"، هكذا يلقب السيّد نفسه "رب السبت"، وهو بهذا لا يحطّم وصيّة السبت بل يكشف أعماقها. حقًا لقد ركّز العهد القديم على حفظ السبت بدقّة بالغة، فحين وجد الشعب رجلاً يحتطب حطبًا في البرّيّة يوم السبت صدر الأمر الإلهي لموسى: "قتلاً يُقتل الرجل، يرجمه بحجارة كل الجماعة خارج المحلّة" (عد 15: 35). وقد سبق لنا الحديث عن أهمّية السبت والعبور إلى المسيح نفسه كسرّ سبتنا الحقيقي، الذي فيه يستريح الآب من جهتنا ونحن نستريح فيه من جهة الآب.

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [حقًا لقد حقّق السبت منافع كثيرة وعظيمة، فجعلهم على سبيل المثال مترفّقين بالعاملين في بيوتهم يحملون لهم الروح الإنسانيّة، وعلّمهم عن عناية الله بخليقته كما جاء في حزقيال (20: 12)، وأيضًا درَّبهم بالتدريج على الامتناع عن الشرّ، مقنعًا إيّاهم أن يهتمّوا بالروحيّات.]

    كان السبت هو العيد الأسبوعي يحتفلون به ليعبر بهم إلى الراحة الروحيّة الحقيقيّة، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لنحفظ العيد على الدوام ولا نفعل شرًا، فإن هذا هو العيد. لتكن أمورنا الروحيّة قويّة، تاركين (الاهتمام) بالأمور الأرضيّة لننعم بالراحة الروحيّة، محجمين عن أعمال الطمع، منسحبين بجسدنا عن الأتعاب الزائدة غير النافعة كما فعل الشعب اليهودي بانسحابهم عن المعاناة التي سقطوا تحتها في مصر.] فالسبت القديم في ذهن القدّيس يوحنا الذهبي الفم هو امتناع عن العمل وكأنه تحرّر من عمل العبوديّة الذي عاناه الشعب قديمًا في مصر، أي انسحاب من عمل اللبن، أو هو خروج مستمر، أمّا السبت الجديد فهو دخول إلى أرض الموعد وتنعم بالمواعيد الإلهيّة. إنه ليس توقُّفًا عن عمل العبوديّة فحسب، وإنما هو ممارسة العمل الروحي في أرض كنعان. لهذا يقول: [يلزمنا ليس فقط أن نُخلِّص من مصر (رمزيًا)، وإنما أن ندخل أرض الموعد.]

    نعود إلى تصرّف التلاميذ، فإنهم عبروا إلى الزرع السماوي في السبت الجديد، واقتطفوا "المسيح" السنبلة الحقيقيّة كطعام سماوي يشبع النفس ويعولها. ما فعلوه كان باسم الكنيسة كلها، حيث تدخل بالروح القدس إلى المذبح الإلهي، لتتقبّل سنبلة "الإفخارستيا" كعطيّة إلهيّة تقتات بها، لكي تبلغ إلى الكمال فتتهيّأ للمسيح يسوع عريسها الأبدي.

    أراد السيّد تأكيد هذا المفهوم الروحي للسبت بشفائه اليد اليابسة في يوم السبت. ليس فقط التلاميذ هم الذين قاموا بالعمل في السبت بقطفهم السنابل وينعموا بالراحة خلال التناول من السنبلة الإفخارستية، وإنما قام السيّد نفسه بالعمل، فيجد راحته في تقديم محبّته الإلهيّة لنا، لتحويل الطبيعة البشريّة اليابسة إلى مصدر عمل دائم. وكأنه في السبت يستريح الإنسان في الرب، ويستريح الرب فينا. الله هو واهب الشفاء، يُقيم من اليبوسة حيوِيّة، فيتقبّل الإنسان ذلك ليعمل بالإمكانيّة الجديدة بلا توقف.

    كان اليهود في حرفيّتهم يمتنعون عن العمل في يوم السبت، حتى في الدفاع عن أنفسهم وعن بلدهم وعائلاتهم، الأمر الذي استغلّه أنتيخوس فقاتلهم وأهلك الكثيرين منهم (1 مك 2: 31-38). فلا نعجب إن رأينا بعض المتزمّتين يسألونه: "هل يحلّ الإبراء في السبوت؟" [10] لم يكن هذا التساؤل من أجل المعرفة، وإنما استنكارًا لتصرفاته واتّهامًا له. أمّا هو فأجابهم ليس دفاعًا عن نفسه، وإنما بقصد الدخول بهم إلى معرفة ملكوته، محدِّثًا إيّاهم برقةٍ ليُثير فيهم روح الشفقة والحنان، إذ قال: "أيّ إنسان منكم يكون له خروف واحد، فإن سقط هذا في السبت في حفرة أفما يمسكه ويقيمه؟ فالإنسان كم هو أفضل من الخروف. إذًا يحلّ فعل الخير في السبوت" [11-12]. يُقال أن رئيس المجمع قد سقط له خروف في حفرة في نفس اليوم وأقامه، وكأن السيّد قد أراد أن يوبّخه معلنًا له أن الإنسان أفضل من الخروف.

    2. الوداعة الغالبة

    "فلما خرج الفرّيسيّون تشاوروا عليه لكي يهلكوه. فعلم يسوع وانصرف من هناك وتبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعًا، وأوصاهم أن لا يظهروه" [ 14-16].

    أرادوا بحسدهم أن يهلكوه، فإذا بهم يُهلكون أنفسهم، إذ حرِّموا أنفسهم بأنفسهم منه بانصرافه من هناك، فحرموا من "الحياة". هكذا حينما يمتلئ القلب حسدًا لا يطيق السيّد أن يبقى فيه، يتركه لهلاكه الذاتي. ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على تصرفهم هذا بقوله: [إنك لا تضر من تحسده وإنما تضرب داخلك بالسيف.] لما حسد إخوة يوسف أخاهم تمجّد هو، أمّا هم ففقدوا سلامهم.

    يتحدّث الأب أفراهات عن الحسد قائلاً: [يقوم الحسد بين الأزواج والزوجات فينشأ الأطفال عصاة لوالديهم!...بالحسد يقتل الإنسان أخاه بلسانه، ويسحب آخر إلى الهلاك بغير رحمة.] هذا القتل وذاك الهلاك في الواقع يرتدّ إلى الحاسد نفسه، إذ يفقد نعمة الله وسلامه السماوي. يقول القدّيس باسيليوس الكبير: [ليس شيء ينبع من النفس أكثر تدميرًا مثل ألم الحسد، فبينما لا يضر الآخرين تكون سطوته الشرّيرة على وجه الخصوص على النفس التي تتقبّله. كما يفسد الصدأ الحديد، هكذا يبدّد الحسد النفس التي يسكنها ويهلكها تمامًا. كما أن الأفاعي يقال عنها أنها تولد بالتهامها أحشاء أمِّها، هكذا يلتهم الحسد النفس التي تلده. الحسد هو ألم ينبع عن نجاح الغير، لهذا فإن الحاسد لن يعيش بغير ألم ولا تفارقه كآبة الذهن.]

    إذ التهبت نيران الحسد في قلوب الفرّيسيّين أرادوا قتل السيّد المسيح، وكعادته لم يقف أمام الشرّ ليقاومه بل "انصرف من هناك"، مقدّمًا لنا دستورًا حيًا لمواجهة مضايقات الآخرين لنا وهو الهروب من الشرّ ما أمكن، كما رأينا في الهروب إلى أرض مصر وفي حديثه مع تلاميذه (مت 10: 23).

    لقد طالب السيّد تلاميذه أن يهربوا من المدينة التي يُطردون منها ولا يقفوا أمام المضايقين، وقد دافع البابا أثناسيوس الرسولي عن هروبه من أمام وجه الأريوسيّين، وجاء في قوانين القدّيس بطرس خاتم الشهداء لأنه لا يليق إثارة المقاومين حتى لا تلتهب نار الضيق، فيقول... [لعلّهم لم يعرفوا أن رب البيت ومعلّمنا الأعظم كثيرًا ما كان ينسحب بعيدًا عن الذين ألقوا له الشباك، بل وأحيانًا لا يسير علانيّة بسببهم. وفي وقت آلامه انسحب، ولم يسلّم نفسه لهم منتظرًا مجيئهم إليه بسيوف وعصيّ، قائلاً لهم: "كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصيّ لتأخذونني" (مت 26: 55)، وهم "أسلموه" إلى بيلاطس (مت 27: 2). وما حدث معه تكرّر مع تلاميذه المتمثلين به، متذكِّرين كلماته الإلهيّة التي نطق بها ليثبِّتنا وقت الاضطهاد، قائلاً: "اِحذروا من الناس، لأنهم سيسلّمونكم إلى مجالس وفي مجامع يجلدونكم" (مت 10: 17). يقول إنهم يسلّموننا لا أن نسلِّم نحن أنفسنا. إنكم تقدَّمون أمام ولاة وملوك من أجلي، لا أنتم الذين تقدِّمون أنفسكم. إنه يريدنا أن نعبر من موضع إلى موضع حيث يوجد المضطهِّدون وذلك من أجل اسمه.]

    قابل السيّد المسيح ثورة الأشرار وطلبهم هلاكه بالانصراف عن موضع الشرّ، لا ليستكين وإنما ليقدّم الحب للجميع خلال العمل بلا انقطاع؛ يسكب عطفه وحنوُّه على كل أحد، عاملاً بوداعة، مهتمّا بكل نفس مهما كانت محطّمة وأيا كانت جنسيتها. يقول الإنجيلي: "وتبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعًا. وأوصاهم أن لا يظهروه. لكي يتمّ ما قيل بإشعياء النبي القائل. هوذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي سُرَّت به نفسي. أضع روحي عليه، فيخبِر الأمم بالحق. لا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يُطفئ، حتى يخرج الحق إلى النصرة. وعلى اسمه يكون رجاء الأمم" [15-21].

    هكذا يركّز الإنجيلي على نبوّة إشعياء النبي التي تتحقّق في شخص المسيّا، مؤكدًا لنا أنه:

    أ. المختار لتتميم الخلاص.

    ب. فيه يسرّ الآب بنا.

    ج. مشتهى الأمم ورجائهم.

    د. بالوداعة يهب النصرة.

    ه. يترفّق بكل ضعيف.

    يقول الآب عن المسيّا المخلّص "هوذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي سُرَّت به نفسي"، فإن كان الآب قد اختار ابنه الوحيد ليتمّم الخلاص، معلنًا كمال الحب الإلهي فإنّنا إذ ندخل فيه وننعم بالعضويّة في جسده نصير نحن أيضًا مختارين من الآب موضع حبّه وسروره! يقول الرسول بولس "مبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحيّة في السماويّات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قدّيسين وبلا لوم قدّامه في المحبّة، إذ سبق فعيَّننا للتبنّي بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرَّة مشيئته" (أف 1: 3-5).

    بمعنى آخر إن كان السيّد المسيح لا يقاوم الشرّ بل يغلبه بالخير، مقدّمًا الحب عِوض كراهيتّهم وحسدهم، فإنّنا نحن أيضًا إذ نقبل الاتّحاد مع أبيه فيه، نظهر كمختاري الله، ونقف أمام الآب بلا لوم حاملين قداسة المسيح، بكوننا أعضاء جسده الذي بلا لوم والمقدّس، فيدعونا الآب أبناء له خلال ثبوتنا في ابنه الوحيد، ويُسرّ بنا كأحبًاء له تحقّقت فينا مشيئته الصالحة.

    إن كان الآب يدعو ابنه الوحيد: "حبيبي الذي سُرَّت به نفسي". فإن كل من يجد له موضعًا في الابن يسمع هذه الكلمات الإلهيّة موجّهة إليه شخصيًا، ويُحسب حبيب الله.

    يقول: "أضع روحي عليه فيُخبر الأمم بالحق". من هو روح الآب إلا روح الابن؟ لقد أرسل الآب روحه القدّوس على القدّيسة مريم ليهيّئ عمليّة التجسّد الإلهي، وأرسل روحه القدوس ليصعد به إلى الجبل، ليدخل في المعركة الحاسمة مع إبليس على جبل التجربة. إنه روح الابن الذي لن ينفصل قط عنه، هذا الذي منذ الأزل ينبثق من عند الآب ويستقر فيه! وها هو يقدّم لنا روحه القدّوس بعد أن تمّم الفداء وارتفع إلى يمين العظمة، حتى نحمل نحن رسالة المسيح نفسه "نُخبر الأمم بالحق". بالصليب أعلن السيّد بالحق، مقدّمًا كمال الحب الإلهي للبشريّة، دافعًا ثمن خطايانا حتى الفلس الأخير. بقيَ لنا أن نعمل بروحه لنشهد للحق الذي قدّمه الابن الوحيد لنا!

    لا يقدر أحد أن يخبر بالحق في كماله إلا الابن المصلوب، لذا فإن عمل الكنيسة في كرازتها هو تقديم المسيح نفسه - بالروح القدس - لإعلان الحق! لهذا لا نعجب إن سمعنا السيّد يقول: "أنا هو الحق". وكأنه لا عمل لنا إلا أن نقبله فينا ونشهد له، أي نقدّمه للآخرين بحياتنا فيه، فننعم بالحق وينعم الآخرون به!

    لقد ظنّ اليهود أن الحق لا يُعلن إلا بالقوّة الزمنيّة أو استخدام العنف، فتوقّعوا في المسيّا ملكًا أرضيًا وقائدًا محنكًا يقدر أن يغتصب الدول لحساب إسرائيل، مقيمًا مملكة داود لتسود العالم كله! هذا الفكر المادي تسلّل إلى فكر القادة والشعب، لذا أراد السيّد تصحيح مفهومهم بكل وسيلة وفي أكثر من مناسبة. هنا يؤكّد السيّد أن سرّ غلبته ونصرته هو إعلان الحق خلال الوداعة المملوءة حبًا: "لا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصِف، وفتيلة مدخّنة لا يُطفئ، حتى يخرج الحق إلى النصرة، وعلى اسمه يكون رجاء الأمم".
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 1:57 pm

    إن كانت الخطيّة قد جرحت البشريّة وحطّمتها فلا يكون خلاصها بالعنف والقوّة الزمنيّة، بل بروح الوداعة الهادئ المملوء حبًا وترفُّقًا. تحتاج البشريّة إلى مخلّص لا ليدينها، وإنما يترفّق بها ويسند كل قصبة مرضوضة حتى تستقيم، ويعين كل فتيلة مدخِّنة حتى تلتهب، يتأنّى على الجميع حتى يقبلوا الحق خلال الحب، ويمتلئوا رجاءً عِوض اليأس الذي حطّمهم!

    لقد حمل الرسول بولس روح سيّده حين كتب: "شجّعوا صغار النفوس، اِسندوا الضعفاء، تأنّوا على الجميع" (1 تس 5: 14). يقول أيضًا القدّيس أمبروسيوس: [يا رب هب لي أن تكون سقطات كل إنسان أمامي، حتى احتملها معه، ولا انتهره في كبرياء، بل أحزن وأبكي. ففي بكائي من أجل الآخرين أبكي على نفسي، قائلاً: "هي (ثامار) أبرّ مني" (تك28: 26).] ويقول القدّيس يوحنا الدرجي: [أيها الراعي النشيط، أطلب الضال، واحمله على منكبيك بفرح، فتقدر على شفاء الأمراض المميتة المؤلمة، فالمحبّة تعظِّم الجبابرة وهى موهبة الطبيب.]

    3. الغلبة على الشيطان

    بعد أن قدّم مفهومًا جديدًا للعبادة والسلوك الروحي الحق أعلن مفهوم الغلبة على الشيطان بشفائه مجنون أعمى وأخرس، إذ يقول الإنجيلي: "حينئذ أُحضِر إليه مجنون أعمى وأخرس، فشفاه حتى أن الأعمى الأخرس تكلَّم وأبصر. فبهت كل الجموع وقالوا: ألعلّ هذا هو ابن داود؟!" [22-23]. لقد أدركت الجموع أنه "ابن داود" المسيّا الملك، القادر أن يُخرج الروح الشرّير الذي حرَم هذا الرجل من عقله وبصره ونطقه. فبقيام مملكة المسيّا يُعلن انهيار مملكة الشيطان، التي تُفقد الإنسان فكره السليم وتعمي بصيرته الروحيّة عن رؤية السماويات وتُخرس لسانه فلا ينطق بالتسبيح.

    بينما رأى الشعب في هذا التصرّف إعلانًا لمملكة المسيّا ابن داود، إذ بالفرّيسيّين يجدّفون عليه: "أمّا الفرّيسيّون فلما سمعوا قالوا هذا لا يخرج الشيّاطين إلا ببعلزبول رئيس الشيّاطين. فعلم يسوع أفكارهم، وقال لهم: كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وكل مدينة وبيت منقسم على ذاته لا يثبت. فإن كان الشيطان يُخرج الشيطان، فقد انقسم على ذاته فكيف تثبت مملكته؟ وإن كنتُ أنا ببعلزبول أُخرج الشيّاطين، فأبناؤكم بمن يُخرِجون؟ لذلك هم يكونون قضاتكم. ولكن إن كنتُ أنا بروح الله أُخرج الشيّاطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله. أم كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولاً، وحينئذ ينهب بيته؟من ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمع معي فهو يفرِّق. لذلك أقول لكم كل خطيّة وتجديف يُغفر للناس. وأما التجديف على الروح فلن يُغفر للناس. ومن قال قال كلمة على ابن الإنسان يُغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يُغفر له، لا في هذا العالم ولا في العالم الآتي. اجعلوا الشجرة جيّدة وثمرها جيد... الخ." [24-33].

    لقد أعطى القدّيس أغسطينوس اهتمامًا خاصًا بهذا الفصل، وذلك لأن البعض يسيء فهم "التجديف على الروح القدس" فيغلقون باب الرجاء أمام الكثيرين وأمام أنفسهم، إذ يتشكّكون أنهم سقطوا فيه، الأمر الذي يحرمهم من المغفرة. وإنّني إذ أقدّم موجزًا لكلمات القدّيس بعد تقسيم كلماته إلى ستّة بنود أود أن أُوضِّح مقدّمًا أن التجديف على الروح في حقيقته هو الإصرار على عدم التوبة، فيخطئ الإنسان ضدّ الروح القدس الذي به تكون وحدة الكنيسة وتحقيق الشركة بين أعضائها بعضهم البعض في المسيح يسوع ربّنا، وبهذا يَحرم الإنسان نفسه من ينبوع المغفرة، ويستحق الإدانة بسبب الروح المنقسم على ذاته.

    يحدّثنا القدّيس أغسطينوس في هذا الفصل عن:

    أولاً: المسيح ليس ببعلزبول رئيس الشيّاطين.

    ثانيًا: مملكة الشيطان، لا الكنيسة منقسمة على ذاتها.

    ثالثًا: هل يوجد إنسان لم يجدّف على الروح القدس؟

    رابعًا: هل يُقصد بالتجديف المعنى الشامل أم الخاص؟

    خامسًا: ما هو المعنى الخاص الذي قصده الرب بالتجديف؟

    سادسًا: الظروف المحيطة التي نطق فيها السيّد بهذه الكلمات.

    أولاً: المسيح ليس ببعلزبول

    يقول القدّيس أغسطينوس: [حتى لا يَحسب الفرّيسيّون أن يسوع المسيح برئيس الشيّاطين يخرج الشيّاطين يلزمهم أن ينصتوا إلى قوله: "إن كنتُ أنا ببعلزبول أُخرج الشيّاطين فأبناؤكم فبمن يُخرجون؟ لذلك هم يكونون قضاتكم" [27]. بلا شك يقصد بهم تلاميذه، هؤلاء الذين هم من أبناء هذا الشعب. فمن المؤكد تمامًا أنهم لم يتلقَّنوا شيئًا من الفنون الشيطانيّة من سيّدهم الصالح حتى يمكنهم التسلّط على الشيّاطين، لذلك قال لهم: "هم يكونون قضاتكم". إنهم أوفياء، من أقل الطبقات، لا يعرفون الحقد بل يتّسمون ببساطة قوّتي المقدّسة. إنهم شهود لي وقضاة عليكم، لذلك أضاف: "ولكن إن كنتُ أنا بروح الله أُخرج الشيّاطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله"... فإن كنتُ أنا بروح الله أُخرج الشيّاطين فأبناؤكم الذين لم أُعلّمهم أي تعليم مخادع وإنما ببساطة الإيمان فقط يُخرجون الشيّاطين... لذلك سيُقبل عليكم ملكوت الله وتهلك مملكة الشيطان وأنتم تهلكون معها.]

    بقوله: "فأبناؤكم بمن يُخرجون؟" يظهر لهم أنهم يفعلون ذلك بحسب نعمته وليس كاستحقاقهم. لذلك يقول: "أم كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته، إن لم يربط القوي أولاً وحينئذ ينهب أمتعته؟" فأبناؤكم الذين آمنوا به والذين سيؤمنون به يُخرجون الشيّاطين ببساطة القداسة وليس بقوة بعلزبول. إنهم بلا شك كانوا أشرّارًا وخطاة مثلكم، فإذ كانوا في بيت الشيطان وآنية له، فكيف يستطيعون الخلاص منه هذا الذي ربطهم بالظلمة وتسلّط عليهم، ما لم يكن قد ربطه الرب بسلاسل عدالته وأخذ منه الآنية التي كانت للسخط وجعلها للرحمة؟ هذا هو عين ما قاله الرسول الطوباوي عندما زجر المتكبّرين المتّكلين على برِّهم الذاتي، قائلاً: "لأنه من يميّزك؟" (1 كو 4: 7)، أي من يميّزك من الهلاك الأبدي الموروث عن آدم، أو من يحوِّلك عن كونك إناءً للسخط؟ فإذ لا يستطيع أحد أن يجيب بأنه ببرّه الذاتي يتغيّر عن كونه إناءً للسخط، لذلك يضيف الرسول "وأي شيء لك لم تأخذه؟" يتحدّث الرسول بولس عن تغيير نفسه من كونه إناءً للسخط بقوله "وكنا بالطبيعة أبناء غضب كالباقين أيضًا" (أف 2: 3). فقد كنت مضطهدًا للكنيسة، "كنت مجدّفا ومقاومًا وحاقدًا وحاسدًا، كنت إناءً في منزل ذلك القوي في الشرّ، ولكن المسيح الذي ربط هذا الشيطان القوي أخذ آنية الهلاك وجعلها آنية مختارة".

    هكذا يؤكّد السيّد المسيح أنه ليس ببعلزبول رئيس الشيّاطين يخرج الشيّاطين، إنّما وهو ابن الله الوحيد يعمل بروحه القدّوس، أمّا علامة ذلك فتظهر في حياة التلاميذ البسطاء الذين عاش في وسطهم ويدركون كل حياتهم الماضية، وها هم يحملون قوّة وسلطانًا، الأمر الذي يؤكّد ظهور "ملكوت الله". يقول السيّد: "ولكن إن كنتُ بإصبع الله أُخرج الشيّاطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله". لقد ظهر السيّد بيننا يحطّم مملكة الشيطان ويقيم مملكة الله الروحيّة، السلطان الذي مارسه لحسابنا جميعًا، ووهبه لتلاميذه حتى يُعلن ملكوت الله في كل الأمم.

    يقول البابا كيرلّس الكبير: [حسنًا قال: "قد أقبل عليكم ملكوت السماوات"، بمعنى أنّني إذ صرتُ إنسانًا مثلكم وأُخرج الشيّاطين بروح الله، فبهذا اِغتنت البشريّة فيّ من ملكوت السماوات، إذ نالت مجدًا بطرد الشيّاطين وانتهار الأرواح الشرّيرة.] ويقول القدّيس أمبروسيوس: [لقد أظهر بذلك وجود سلطان ملوكي للروح القدس (إصبع الله)، ونحن أيضًا إذ يسكن الروح القدس فينا نصير مسكنًا ملوكيًا، لذلك ففي موضع آخر يقول: "ملكوت الله داخلكم" (لو 17: 21).]

    ثانيًا: مملكة الشيطان، وليست الكنيسة منقسمة على ذاتها

    يقول القدّيس أغسطينوس بأن كنيسة المسيح تمثِّل مملكة الله غير المنقسمة، فهي كنيسة جامعة، أمّا الهراطقة الذين يحملون اسم المسيح وهم منشقّون على الكنيسة فلا ينتمون لمملكة الله، ولا يعني وجودهم أن انقسامًا قد حدث في جسد المسيح، فإن لهم مجرّد الاسم دون العضويّة.

    حقًا إن كل انقسام سواء على مستوى الكنيسة الجامعة أو المحليّة أو كنيسة البيت أو داخل قلب المؤمن، إنّما هو غريب عن روح المسيح، يفقد الإنسان عضويّته الحقّة في جسد المسيح الواحد. إنه من عمل الشيطان!

    ثالثًا: هل يوجد من لم يجدّف على الروح القدس؟

    يستغل عدوّ الخير كلمات السيّد بخصوص عدم مغفرة التجديف على الروح القدس لتحطيم بعض النفوس، فيشكِّكها أنه قد مرّ على فكرها تجديفًا على الأرواح ليُغلق أمامها باب الرجاء في الخلاص! وإذ عانى القدّيس أغسطينوس كأسقف من هذا الأمر وسط شعبه أراد أن يبعث فيهم روح الرجاء محطّما كل تشكيك شيطاني، فبدأ بتأكيد أن كل إنسان معرّض لفكر تجديف، إن لم يكن بالنطق بكلمة تجديف خاصة قبل إيمانه. فهل يُغلق باب الخلاص أمام الجميع؟

    يقول القدّيس أغسطينوس:

    [من ذا الذي لم يخطئ بكلمة ضدّ الروح القدس قبل كونه مسيحيًّا أو قبل كونه تابعًا للكنيسة الجامعة؟

    1. الوثنيون: أليس الوثنيّون الذين يعبدون آلهة كثيرة باطلة، ويسجدون للأصنام، ويقولون بأن الرب يسوع صنع معجزاته بقوة السحر، يكونون كمن قالوا بأنه برئيس الشيّاطين يُخرج الشيّاطين، وإذ يجدّفون على مقدّساتنا يوميًا... ألا يكون ذلك تجديفًا على الروح القدس؟!

    2. اليهود: أليس اليهود بنطقهم تلك الكلمات أثاروا المناقشة التي أعالجها؟! ألا ينطقون إلى اليوم بكلمة تجديف ضدّ الروح القدس بإنكارهم حلوله في المسيحيّين؟!

    لقد أنكر الصدّوقيّون الروح القدس، أمّا الفرّيسيّون فلم ينكروه مؤكِّدين وجوده، لكنهم أنكروا علاقته بالرب يسوع المسيح، إذ حسبوه برئيس الشيّاطين يُخرج الشيّاطين مع أنه أخرجها بالروح القدس.

    3. الهراطقة: كل من اليهود والهراطقة الذين يعتقدون بوجود الروح القدس ينكرون علاقته بجسد المسيح، أي كنيسة الواحدة الوحيدة الجامعة، هؤلاء بلا شك كالفرّيسيّين الذين رغم اعترافهم بوجود الروح القدس إلا أنهم أنكروا وجوده في السيّد المسيح، ناسبين إخراج الشيّاطين إلى كونه رئيسًا للشيّاطين...

    لقد اتّضح أن كلاً من الوثنيّين واليهود والهراطقة قد جدّفوا على الروح القدس، فهل يُهمل هؤلاء، ويفقدون الرجاء بحسب العبارة "وأما من قال كلمة على الروح القدس فلن يغفر له، لا في هذا الدهر، ولا في الآتي". هل لا يمكن أن يوجد من لم يجدّف على الروح القدس إلا المسيحي الذي نشأ منذ طفولته في الكنيسة الجامعة؟

    حقًا إن كل الذين آمنوا بكلمة الله وتبعوا الكنيسة الجامعة، سواء كانوا وثنيّين أو يهودًا أو هراطقة، نالوا نعمة المسيح وسلامه. فلو لم يكن لهم غفران عن الكلمات التي تفوّهوا بها ضدّ الروح القدس لكان وعدنا لهم وتبشيرنا بالرجوع إلى الله لينالوا السلام وغفران الخطايا أمرًا باطلاً... لأن العبارة لم تقل: "لا تُغفر إلا بالمعموديّة" بل قال "لا يُغفر له لا في هذا الدهر ولا في الآتي".

    4. المسيحيّون: قد يظن البعض بأنه لا يخطئ إلى الروح القدس غير الذين اغتسلوا في جرن الولادة الجديدة، فخطيتّهم هذه تكون بجحدهم العطيّة العُظمى التي وهبهم المخلّص إيّاها، ملقين بأنفسهم ـ بعد نوالهم العطيّة ـ في الخطايا المهلكة كالزنا والقتل والارتداد عن المسيحيّة أو عن الكنيسة الجامعة... ولكن كيف يمكننا أن نُبرهن على صحّة هذا؟ إنّني لا أستطيع القول بهذا، لأن الكنيسة لن ترفض التوبة عن أي خطيّة كانت. والرسول بولس يقول بأنه يمكن توبيخ الهراطقة (أي المسيحيّين الذين انحرفوا) لأجل نوالهم التوبة: "عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق، فيستفيقوا من فخ إبليس إذ قد اِقتنصهم لإرادته" (2 تي 2: 25-26). وما الفائدة من إصلاحهم إن لم يكن لهم رجاء في نوال المغفرة؟ كذلك لم يقل الرب: "المسيحي المعمَّد الذي يقول كلمة على الروح القدس"، بل قال "وأما من قال كلمة..." أي من قال كلمة سواء كان وثنيًا أو يهوديًا أو مسيحيًا أو هرطوقيًا.]

    رابعًا: هل يقصد بالتجديف المعنى الشامل، أم معنى خاص؟

    بعد أن أكّد القدّيس أغسطينوس أن أبواب مراحم الله مفتوحة للجميع حتى الذين تعرّضوا للتجديف على الروح القدس سواء قبل الإيمان بالسيّد المسيح من اليهود أو أمم أو حتى بعد الإيمان مثل السقوط في هرطقات ضدّ الروح القدس أو اِرتكاب خطايا مرّة، بدأ يوضّح كلمات السيّد المسيح عن "التجديف على الروح القدس" في العبارة التي بين أيدينا ليظهر أنه لا يقصد المعنى الشامل، أي كل تجديف ضدّ الروح القدس وإنما يقصد معنى خاصًا.

    يقول القدّيس أغسطينوس:

    [لم يقل الرب "لا يُغفر كل تجديف على الروح" أو "من قال أيّة كلمة" بل "وأما من قال كلمة". فلو ذُكرت كلمة "كل" لما أمكن للكنيسة أن تحتضن الخطاة والأشرار والمقاومين لتعطيهم المسيح ومقدّسات الكنيسة، سواء كانوا يهودًا أو أمميّين أو ثنيّين أو هراطقة... أو حتى الضعفاء من المسيحيّين الذين ينتمون للكنيسة الجامعة نفسها. حاشا أن يكون ذلك هو قصد الرب!

    أقول، حاشا أن يقول الرب "كل" أو "أي" تجديف أو كلمة على الروح القدس ليس لها مغفرة... إذن فبلا شك توجد تجديفات وكلمات معيّنة لو قيلت على الروح القدس لا يكون لها غفران. فما هي هذه الكلمة؟ هذه هي إرادة الله أن نسأل هذا السؤال ليوضّحه لنا؛ إرادته أن نسأله لا أن نعترض على كلامه.

    غالبًا ما يستخدم الكتاب المقدّس هذه الطريقة، وهي أن يعبّر عن أمر ما دون تحديد إن كان يقصد به معنى عامًا أم خاصًا، وبذلك لا توجد ضرورة ملزمة لفهمه بالمعنى العام أو الخاص؛ فهو لا يستخدم كلمة "كل" ولا "بعض"؛ لا يتحدّث بصيغة عامة ولا صيغة خاصة.
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 1:58 pm

    أمثلة:

    أ. لكي يظهر لكم ذلك بأكثر وضوح تأمّلوا قول الرب نفسه عن اليهود: "لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطيّة" (يو 15: 22). هنا لم يحدّد المعنى، كما لو أنه قصد بأن اليهود ما كان لهم أي خطيّة لو لم يكن قد جاء المسيح وكلّمهم. لكن الحقيقة هي أنه جاء ووجدهم مثقّلين بالخطايا (مت 11: 28، رو 5: 20، مت 9: 13)... فكيف إذن لو لم يكن قد جاء المسيح لم تكن لهم خطيّة؟... إنه لم يقل "أيّة خطيّة" لئلا يكذب الحق، ولا قال بصيغة محدّدة "بعض خطايا معيّنة" لئلا لا نتدرّب على الشغف بالبحث. فإن الكتاب المقدّس غني بالأجزاء الواضحة لكي نتغذى بها والأجزاء الغامضة لكي نتدرّب بها. بالأولى يُنزع الجوع والثانية ننال اللذّة.

    إذ نعود إلى قوله نجد أن اليهود بالضرورة ارتكبوا بعض الخطايا، لكن ليس جميعها، هذه التي لم تكن موجودة قبل مجيئه وهي إنكار الإيمان به... فبقوله "لم تكن لهم خطيّة" لا نفهمها بمعنى "لم تكن لهم أيّة خطيّة"، وإنما بعضها. كذلك إذ نسمع إنجيل اليوم "التجديف على الروح القدس لن يغفر" لا نفهمه على أنه كل تجديف بل أنواع معيّنة منه...

    ب. وإذ قيل "الله لا يجرِّب أحدًا" (يع 1: 3)، لا يفهم أن الله لا يجرِّب أحدًا بأي نوع من التجارب بل لا يجرِّبه بأنواع معيّنة، لئلا يكون المكتوب باطلاً: "الرب إلهكم يمتحنكم (يجرّبكم)" (تث 13: 3). فالله لا يجرِّبنا بالتجربة التي تقودنا للخطيّة، لكنّه يهبنا أن نُجرَّب بالتجربة التي بها يمتحن إيماننا.

    ج. وهكذا أيضًا عندما نسمع: "من آمن واِعتمد خلص" (مر 16: 16)، بالطبع لا نفهمها على كل من يؤمن أيّا كان إيمانه، "فالشيّاطين يؤمنون ويقشعرٌّون" (يع 2: 19). ولا نفهمها على كل من اِعتمد، فسِيمون الساحر بالرغم من قبوله المعموديّة إلا أنه لم يكن ممكنًا أن يخلُص... فقوله "من آمن واِعتمد" لم يقصد به جميع الذين يؤمنون ويعتمدون، بل بعضهم، هؤلاء الراسخون في ذلك الإيمان الذي يوضّحه الرسول بأنه "العامل بالمحبّة" (غل 5: 6)...]

    خامسًا: ما هو المعنى الخاص الذي قصده بالتجديف على الروح القدس؟

    يفسر القدّيس أغسطينوس أن ما قصده الرب هنا هو "الإصرار على عدم التوبة" حتى آخر نسمة من نسمات حياتنا. يقول بأن الروح القدس هو روح الآب والابن، من خواصه الشركة بين الأقنومين، كما أنه هو الذي يعطينا الشركة مع الله، إذ به تنسكب محبّة الله فينا، فتستر خطايانا، بهذا فإن عمله هو غفران الخطايا ومصالحتنا مع الله. ومن ناحية أخرى فإن الروح هو الذي يعطي الشركة بين أعضاء الكنيسة الواحدة في الرب، وهو الذي يهب العضو التوبة والتبكيت كما يعطي للكنيسة حق حلّ خطاياه... إذن عمل الروح القدس في حياتنا هو التوبة لنوال الحلّ... فالتجديف هو الإصرار على عدم التوبة وبالتالي الحرمان من العضويّة الكنسيّة الحقيقية.

    يقول القدّيس أغسطينوس:

    [أحبّائي... أنتم تعلمون أن سرّ التثليث غير المنظور... الذي يقوم عليه إيماننا، وتعتمد عليه الكنيسة الجامعة وتكرز به، أن الآب ليس أبًا للروح القدس بل للابن، والابن ليس ابنًا للروح القدس بل للآب، وأما الروح القدس فليس روح الآب وحده ولا الابن وحده بل روح الآب والابن... لقد سلَّمت إلينا فكرة العلّة في الآب (أي المصدر)، والبنوّة في الابن، والشركة في الروح القدس، والمساواة في الثلاثة‎. بذلك صارت مسرة الله أن ننال بواسطة من هو رابطة الوحدة بين أقنومي الآب والابن، الشركة مع بعضنا البعض ومع الثالوث القدّوس... بنفس العطيّة نجتمع معًا في وحدانيّة... ننالها بواسطة الروح القدس الذي هو الله وفي نفس الوقت عطيّة الله...

    عطيّة الله الأولى في الروح القدس هي "مغفرة الخطايا"؛ هذا ما بدأت به بشارة يوحنا المعمدان السابق للرب... قائلاً "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات" (مت 3: 1-2)، وهو أيضًا ما بدأ به ربّنا بشارته (مت 4: 17). ومن الأمور التي تحدّث بها يوحنا إلى الذين جاءوا ليعتمدوا منه قوله: "أنا أعمِّدكم بماء للتوبة ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى منّي، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه، هو سيعمّدكم بالروح القدس ونار" (مت3: 11). وقال الرب أيضًا: "يوحنا عمّد بالماء وأما أنتم فستعمِّدون بالروح القدس، ليس بعد هذه الأيام بكثير" (أع 1: 5)... فالنار بالرغم من إمكان فهمها على أنها الضيقات التي يتحمَّلها المؤمنون من أجل المسيح، لكن من المعقول هنا أن المقصود بها الروح القدس نفسه. لذلك عندما حلّ الروح القدس قيل: "وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرّ ت على كل واحد منهم" (أع 2: 3). وقد قال الرب نفسه: "جئت لأُلقي نارًا على الأرض" (لو 12: 49)، ويقول الرسول: "حارِّين في الروح" (رو 12: 11)، لأن من الروح القدس (النار) تأتي غيرة (حرارة) الحب، "لأن محبّة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطَى لنا" (رو 5: 5)، وعلى العكس قال الرب: "تبرد محبّة الكثيرين" (مت 24: 12). إذن الحب الكامل هو عطيّة الروح القدس (النار) الكاملة، لكن عطيّته الأولى هي غفران الخطيّة التي بها أنقذنا من سلطان الظلمة (كو 1: 13)، ومن رئيس هذا العالم (يو 12: 31) الذي يعمل الآن في أبناء المعصية (أف 2: 2)... فالروح القدس الذي به يجتمع شعب الله في واحد يُطرد الروح الشرّير المنقسم على ذاته.]

    هكذا يبلغ بنا القدّيس أغسطينوس إلى أن عمل الروح القدس هو حياة الشركة مع الله ومع إخوتنا، خلالها لا يكون لإبليس موضع فينا، وذلك بالتوبة، لهذا يكمّل قائلاً: [فالقلب غير التائب ينطق بكلمة ضدّ الروح القدس، ضدّ هذه العطيّة المجّانيّة، وضد النعمة الإلهيّة. عدم التوبة هو التجديف على الروح القدس الذي لن يغفر لا في هذا العالم ولا في الآتي.]

    هل يمكن الحكم على إنسان بالتجديف على الروح القدس؟

    يقول القدّيس أغسطينوس: [عدم التوبة أو القلب غير التائب أمر غير مؤكّد طالما لا يزال الإنسان حيًا في الجسد. فعلينا ألا نيأس قط من إنسان مادامت أناة الله تقود الشرّير إلى التوبة، ومادام الله لم يأخذه سريعًا من هذا العالم: "هل مسرَّةً أُسرُّ بموت الشرّير يقول الرب، إلا برجوعه عن طرقه فيحيا؟!" (حز 18: 23). قد يكون الإنسان اليوم وثنيًا لكن من أدراك فقد يصبح مسيحيًا في الغد... ليحثك الرسول أيها الأخ قائلاً: "لا تحكموا في شيء قبل الوقت" (1 كو 4: 5)... أكرّر قولي بأن التجديف لا يمكن أن يثبت على إنسان بأي حال من الأحوال مادام على قيد الحياة.]

    لماذا يغفر لمن يجدّف على ابن الإنسان ولا يغفر لمن يجدّف على الروح القدس؟

    يقول القدّيس أغسطينوس: [حقًا إن كل خطيّة وتجديف يُغفر للبشر ليس فقط، ما يقال ضدّ ابن الإنسان. فمادامت لا توجد خطيّة عدم التوبة، هذه التي توجّه ضدّ الروح القدس الذي به تغفر الكنيسة جميع الخطايا، فإن جميع الخطايا تُغفر... إن قول رب المجد: "من قال كلمة على ابن الإنسان يُغفر له وأما من قال على الروح القدس فلن يُغفر له" لا يعني أن الروح القدس أعظم من الابن، فإنّنا لم نسمع عن هرطقة نادت بهذا. إنّما يُقصد بهذا أن من يقاوم الحق ويجدّف عليه، أي على المسيح بعد إعلانه عن ذاته بين البشر، إذ "صار جسدًا وحلّ بيننا" (يو 1: 14)... ولم يقل كلمة على الروح القدس أي عاد فتاب عن مقاومته وتجديفه على المسيح فإن خطاياه تغفر له... الروح القدس مساوٍ للآب والابن الوحيد في الجوهر حسب لاهوته.]

    هكذا يوضّح القدّيس أغسطينوس أن كل تجديف يغفر، إنّما خص "التجديف على الروح القدس" يقصد عدم التوبة وليس تمييزًا له عن الآب والابن.

    أوضح القدّيس أيضًا أن الآب يغفر الخطايا (مت 6: 14) والابن يغفر الخطايا (مت 9: 6)، لأن المغفرة هي عمل الثالوث القدّوس، لكنها تخص الروح القدس بكونه روح التبنّي (رو 8: 15)، وواهب الشركة (في 2: 1).... لذلك فإن غفران الخطايا لا يوهب إلا بالروح القدس خلال الكنيسة الجامعة التي لها الروح القدس!

    سادسًا: الظروف المحيطة التي نطق فيها السيّد هذه الكلمات

    يقول القدّيس أغسطينوس: [لقد شرح الرب بوضوح ما رغب أن يعرِّفنا إيّاه: وهو أن من يجدف على الروح القدس - أي يقاوم بعدم توبته - ويقاوم وحدة الكنيسة التي فيها يعطي الروح القدس مغفرة الخطايا، لا يأخذ هذا الروح القدس... ولئلا يظن أحد أن ملكوت المسيح منقسم على ذاته بسبب هؤلاء الذين يجتمعون في جماعات شاذّة خارج الحظيرة تحت اسم المسيح، لذلك أردف قائلاً: "من ليس معي فهو عليّ ومن لا يجمع معي فهو يفرق" (مت 12: 30)... فالذي يجمع بدون المسيح، مهما جمع باسمه لا يكون معه الروح القدس. وبهذا يجبرنا على أن نفهم بأنه لا يتمّ الغفران عن أي خطيّة أو تجديف - بأي حال من الأحوال - إلا باتّحادنا معًا في المسيح الذي لا يفرق...]

    كأن السيّد المسيح في حديثه عن "التجديف على الروح القدس" ليس فقط يحذِّر من عدم نوال المغفرة بسبب عدم التوبة، إنّما يطالب بما هو إيجابي: وهو "العمل لحساب المسيح"، فمن لا يعمل معه يكون كمن هو مقاوم له! فالمسيحي ملتزم بالعمل لحساب المسيح لبنيان الكنيسة، وإلا حُسب كمن يهدم مملكته. وكما يقول القدّيس جيروم: [من ليس للمسيح فهو لضد المسيح.]، ويقول القدّيس كبريانوس: [من يكسر سلام المسيح واتّفاقه يصنع هذا في مضاداة له؛ من يجمع في غير الكنيسة (جماعات الهراطقة) يبعثر الكنيسة.] لهذا يقول القدّيس أمبروسيوس: [إنه يتحدّث هنا عن الذين يخرِّبون وحدة الكنيسة.]

    حين قاومت عائلة هليودرس Heliodrus ذهابه إلى الدير بطريقة قاسية ومرّة، كتب إليه القدّيس جيروم يذكره بقول السيّد المسيح: "من ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمع معي فهو يفرق"، قائلاً: [تذكَّر اليوم الذي سُجِّل اسمك في سجلاّت الكنيسة حينما دُفنت مع المسيح في المعموديّة، وتعهَّدت أن تكون مخلصًا له، معلنًا أنك لأجله تترك أباك وأمك. حقًا إن العدوّ يجاهد أن يذبح المسيح في صدرك... فلتهرب بعيون باكية إلى الصليب.]

    ولئلا يتعثّر البعض ظانِّين أنهم بطبيعتهم أشرار لذلك فهم غير قادرين على تقديم التوبة خلال الأعمال الصالحة، يتحدّث السيّد المسيح مع الفرّيسيّين، قائلاً: "اجعلوا الشجرة الجيّدة وثمرها جيدًا، أو اجعلوا الشجرة رديئة وثمرها رديًا، لأن من الثمر تُعرف الشجرة" [33]. بهذا يفتح أمامهم باب الرجاء، فإنهم وإن سقطوا في التجديف لكن بإرادتهم يستطيعون أن ينعموا بإمكانيّة الله لتغيير شجرة حياتهم. إن كانت كلماتهم المملوءة تجديفًا تكشف عن نوعيّة شجرهم الداخلي العقيم، لكنهم قادرون بالرب أن يغيِّروا طبيعة شجرهم.

    يُعلّق القدّيس أغسطينوس على كلمات السيّد: [ينبغي على الإنسان أن يتغيّر هو أولاً حتى تتغيّر أعماله، فإن بقيَ الإنسان في حالته الشرّيرة لا يمكن أن تكون أعماله صالحة، وإن بقيَ في حالة صالحة لا يمكن أن يحمل ثمرًا شريرًا.]

    يقول أيضًا: [غيرّ القلب فتتغيّر الأعمال! اقتلع الشهوات واغرس المحبّة، فكما أن الشهوة (محبّة المال) أصل كل الشرور (1 تي 6: 10) هكذا المحبّة أصل الصلاح.]

    ويعلق القديس أغناطيوس على العبارة: "لأن من الثمر تُعرف الشجرة"، قائلاً: [يُعرف من يتكلَّم عن الإيمان من أعماله. فلا يكفي أن نُعلن عن إيماننا، وإنما يلزمنا أن نُظهره عمليًا حتى النهاية.]

    إن كنّا في حاجة إلى تغيير الشجرة الداخليّة أي القلب، بالمسيح ربّنا واهب الإنسان الجديد في مياه المعموديّة بروحه القدّوس، حتى نأتي بثمر صالح ولا يكون لنا ثمرة واحدة شرّيرة، فإنّنا أيضًا ملتزمون بالجهاد ألا ننطق بكلمة رديئة أو شرّيرة... لهذا يكمّل السيّد حديثه، قائلاً: "ولكن أقول لكم إن كل كلمة بطالة يتكلّم بها الناس سوف يُعطون عنها حسابًا يوم الدين. لأنك بكلامك تتبرر، وبكلامك تُدان" [36- 37].

    يتحدّث القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن ضبط اللسان، قائًلا:

    [إن الوعاء الذهبي لا يُستعمل للأشياء الدنيئة لغِلوّ ثمنه، فكم بالأحرى الفم فهو أثمن من الذهب والمرجان، فلا يجوز أن ندنِّسه بالكلام القبيح والشتم وطعن الآخرين.]

    "الحكيم يقول أن الذين سقطوا بعثرات اللسان أكثر من الذين سقطوا من السيوف" (سيراخ 8: 21)، والمسيح يقول: "ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان" (مت 15: 11). والحكيم يقول أيضًا: "واجعل لفمك بابا ومزلاجًا" (سيراخ 8: 29)."

    ويقول الأب يوحنا من كرونستادت: [اهتم بكلماتك فإن الكلمة ثمينة!... لتنطق بكلمة الله الخلاّقة، فإن كلمة الله هو علّة كل الخليقة، فيه يوجد الحاضر والماضي والمستقبل.] كما يقول: [إن كنت تتحدّث مع قريبك، فتكلَّم بتعقُّل ووقار وبطريقة بنّاءة، متجنِّبًا كل كلمة بطّالة بكونها سمّ الحيّة.]

    4. مفهوم الآية

    "حينئذ أجاب قوم من الكتبة والفرّيسيّين قائلين:

    يا معلّم نريد أن نرى منك آية.

    فأجاب وقال لهم: جيل شرّير وفاسق يطلب أيّة ولا تُعطَى له أيّة إلا أيّة يونان النبي.

    لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالي،

    هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالي" [38-40].

    يرى القدّيس كيرلّس الكبير أن السيّد المسيح رفض تقديم آية لهم لأنهم طلبوا ذلك بمكر، فقد قدّم لهم قبل ذلك آيات فاتهموه أنه برئيس الشيّاطين يخرج شيّاطين، لذا لم يستحقّوا التمتّع بآياته، إذ يقول: [نَبَع طلبهم عن مكر فلم يُستجاب لهم كقول الكتاب: "يطلبني الأشرار ولا يجدونني" (راجع هو 5: 6)... لقد نسبوا لبعلزبول أعمالاً مجيّدة هكذا وعجيبة ولم يخجلوا من تحطيم الآخرين مع تحطيم أنفسهم بذات الأمور التي كان يجب أن تكون علّة تثبيت للإيمان بالمسيح. لهذا لم يرد أن يقدّم لهم آية أخرى، فلا يقدّم القُدْس للكلاب ولا يُلقي الدُرر للخنازير، إذ كيف يستحق هؤلاء الذين قدّموا افتراءات مرّة على المعجزات التي تمت أن يتمتّعوا برؤية معجزات أخرى؟... لهذا قال لهم أنه لا تعطى لهم سوى آية يونان التي تعني الصليب والقيامة من الأموات... وقد كان يمكن ليسوع ألا يريد أن يموت بالجسد على الصليب ولا يقدّم الآية لليهود، لكن هذه الآلام ضروريّة لخلاص العالم، فأعطيت لغير المؤمنين (من اليهود) لدينونتهم. في حديثه معهم قال: "اُنقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أُقيمه" (يو 2: 19). إن إبادته للموت وإصلاحه الفساد بالقيامة من الأموات لهو علامة عظيمة على قوّة الكلمة المتجسّد وسلطانه الإلهي وبرهانًا كافيًا كما أظن في حكم الناس الجادِّين. لكنهم رشوا عسكر بيلاطس بمبلغ كبير من المال ليقولوا أن "تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه" (مت 28: 13). لقد كانت (قيامته) علامة ليست بهيّنة بل كافية لإقناع سكان الأرض كلها أن المسيح هو الله، وأنه تألّم بالجسد باختياره وقام ثانية آمرًا قيود الموت أن ترحل والفساد أن يُطرد خارجًا. لكن اليهود لم يؤمنوا حتى بهذا لذلك قيل عنهم بحق "ملكة التيمن ستقوم في الدين مع هذا الجيل وتدينه" [42].

    كأن السيّد أراد أن يؤكّد لهم بأن الآية ليست عملاً استعراضيًا، وإنما هي عمل إلهي غايته خلاص الإنسان، يتقدّم هذا كلّه الآية التي حملت رمزًا لدفن السيّد المسيح وقيامته من الأموات ليهبنا الدفن معه والتمتّع بقوة قيامته، أي آية يونان النبي.

    إن كانت الآيات والمعجزات غايتها "حياة الإنسان الروحيّة"، لهذا يرى الآباء أن الحياة الفاضلة هي أفضل من صنع المعجزات. إذ لا يديننا الله على عدم صنع معجزات، إنّما يديننا إن كنّا لا نحيا بروحه القدّوس الحياة اللائقة كأولاد له. ويؤكّد السيّد أن في اليوم العظيم، سيدين الأشرار حتى وإن كانوا قد صنعوا باسمه آيات، حاسبًا أنه لا يعرفهم.

    v لا تطلب علامات بل صحّة النفس.

    لا تطلب أن ترى ميّتًا قام، فقد تعلَّمت أن العالم كلّه يقوم.

    لا تطلب أن ترى أعمى يشفى، بل أن يتطلّع الكل الآن لينعم بنظرة أفضل وأنفع، وتتعلَّم أن تنظر بطهارة فتُصلح عينيك.

    إن كنّا نعيش كما يليق يندهش أبناء الوثنيّين بنا أكثر من صانعي المعجزات.

    v إن أردت أن تصنع معجزات أيضًا عليك أن تتخلَّص من المعاصي بهذا تحقّق المعجزات تمامًا.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v علينا ألا نُخدع لمجرد تسميتهم باسم المسيح دون أن يكون لهم الأعمال، بل ولا المعجزات تخدعنا، لأن الرب الذي صنع المعجزات لغير المؤمنين، حذّرنا من أن نُخدع بالمعجزات، ظانّين أنه حيثما وُجدت المعجزة المنظورة توجد الحكمة غير المنظورة، لذلك أضاف قائلاً: "كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبّأنا، وباسمك أخرجنا شيّاطين، وباسمك صنعنا قوّات كثيرة، فحينئذ أصرِّح لهم: إني لا أعرفكم قط، اذهبوا عنّي يا فاعلي الإثم" (مت 7: 22-23) فهو لا يعرف غير صانعي البرّ.

    القدّيس أغسطينوس

    أما ارتباط يونان بشخص السيّد المسيح فهو ارتباط الرمز بالمرموز إليه، وكما يقول القدّيس كيرلّس الأورشليمي: "إن كان يونان قد ألقيَ في بطن الحوت، فالرب يسوع نزل بإرادته إلى حيث حوت الموت غير المنظور، ليجبره على قذف الذين كان قد ابتلعهم، كما هو مكتوب: "من يد الهاوية أفديهم، من الموت أخلِّصهم".

    ويقول القدّيس باسيليوس الكبير: [أعطاهم علامة لكن ليست من السماء، لأنهم لم يكونوا يستحقّون رؤيتها، إنّما من أعماق الجحيم، أعنى علامة تجسّده ولاهوته وآلامه وتمجيده بقيامته بعد دخوله إلى الجحيم ليحرّر الذين ماتوا على رجاء.] كما يقول القدّيس أمبروسيوس: [آية يونان ترمز لآلام ربّنا، وفي نفس الوقت شهادة ضدّ خطيّة اليهود الخطيرة التي يرتكبوها. بأهل نينوى يُشير إلى العقاب (إذ يقدّم اليهود العذابات للسيّد المسيح) وفي نفس الوقت الرحمة، فلا ييأس اليهود من المغفرة إن مارسوا التوبة.]

    لقد تمتّع أهل نينوى بيونان الكارز المنطلق من بطن الحوت، أمّا نحن فتمتّعنا بيونان الحقيقي القادر أن يطلقنا من أعماق الهاوية ويدخل بنا إلى ملكوته السماوي: "هوذا أعظم من يونان ههنا" [41].

    صار لنا أيضًا من هو أعظم من سليمان، الذي لا يحدّثنا بكلمات حكمة فحسب، بل يطرد عنّا مملكة إبليس: "ملكة التيمن ستقوم في الدين مع هذا الجيل وتدينه، لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وهوذا أعظم من سليمان ههنا. إذا خرج الروح النجس من الإنسان يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة ولا يجد. ثم يقول أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه، فيأتي ويجده فارغًا مكنوسًا مزيّنًا. ثم يذهب ويأخذ معه سبعة أرواح أُخر أشرّ منه فتدخل وتسكن هناك، فتصير أواخر ذلك الإنسان أشرّ من أوائله، هكذا يكون أيضًا لهذا الجيل الشرّير" [42-45].

    يُعلّق القدّيس كيرلّس الكبير على هذه العبارة بقوله: [جاءت هذه المرأة تطلب أن تسمع سليمان، وقد تحمّلت السفر لمسافة طويلة لتحقيق هذا الهدف، لتصغي لحكمته الخاصة بطبيعة الأمور المنظورة، والحيوانات والنباتات، أمّا أنتم فحاضر بينكم الحكمة عينه تستمعون إليه، هذا الذي جاء ليحدِّثكم عن الأمور غير المنظورة السماويّة، مؤكِّدًا أقواله بأعماله ومعجزاته، فتهربون من كلماته وتجتازون بعيدًا عن طبيعتها العجيبة. كيف إذن، ليس من هو أعظم من سليمان ههنا أي فيّ؟ أسألكم مرّة أخرى أن تلاحظوا حذاقة لغته فإنه يقول: "ههنا" ولا يقول "فيّ" لكي يجتذبنا بتواضعه عندما يمنحنا عطاياه الروحيّة. ومن ناحية أخرى فإنه غير مستحب لدى اليهود أن يسمعوه يقول: "إن أعظم من سليمان فيّ"، فإنهم لو سمعوه يقول هذا لتجاسروا قائلين: "انظروا إنه يقول أنه أعظم من الملوك الذين حكموا علينا في مجد"، فلأجل التدبير استخدم المخلّص لغة التواضع قائلاً: "ههنا" عوضًا عن قوله "في".

    ويقول القديس أمبروسيوس: [هنا أيضًا يدين الشعب اليهودي، إذ يعبِّر بقوة عن سرّ الكنيسة في ملكة الجنوب، خلال رغبتها في نوال الحكمة، إذ تأتي من أقاصي الأرض لتسمع كلمات سليمان صانع السلام؛ الملكة التي لها مملكة غير منقسمة تضم أممًا مختلفة ومتباينة في جسدٍ واحدٍ.]

    إن كان قد جاء السيّد المسيح الذي هو أعظم من يونان الذي اجتذب أهل نينوى للتوبة، وأعظم من سليمان الذي جاءت إليه ملكة التيمن من أقصى الأرض تسمع حكمته، فقد صار لنا إمكانيّة التمتّع بالملكوت الجديد، فيطرد الشيطان الذي احتلّ القلب زمانًا طويلاً ليسكن الرب فيه. هذه العطيّة المجّانيّة المقدّمة لنا تديننا إن تهاونّا فيها، فتركنا القلب للعدو مرّة أخرى خلال تراخينا، ليتقدّم بصورة أكثر شراسة حتى يحتل ما قد فُقد منه، وكما نرى عمليًا حينما يرتدّ المؤمن عن الحياة المقدّسة يصير في شرّه أبشع ممّا كان عليه قبل الإيمان أو التوبة.

    يرى القدّيس يوحنا كليماكوس أن هذا القول الإلهي ينطبق بصورة واضحة على الشاب المتحمِّس الذي ينجح في تركه شهوات الجسد والحياة المترفة، لكنّه بعد دخوله إلى الحياة الرهبانيّة النسكيّة يسقط خلال تهاونه داخل ميناء الأمان، إذ يقول: [يا له من منظر يُرثى له، إذ نرى الذين بعدما عاشوا في مخاطر البحر يعانون من تحطيم السفينة داخل الميناء.]

    5. الاتّحاد معه

    "وفيما هو يكلِّم الجموع، إذ أمه وإخوته قد وقفوا خارجًا طالبين أن يكلِّموه.

    فقال له واحدًا: هوذا أمك واخوتك واقفون خارجًا طالبين أن يكلّموك.

    فأجاب وقال للقائل له: من هي أمي؟ ومن هم إخوتي؟.

    ثم مدّ يده نحو تلاميذه، وقال: ها أمي وإخوتي.

    لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي" [46-50].

    "مدّ يسوع يده نحو تلاميذه" مشيرًا إلى تجسّده وحلوله في وسطنا، إذ بهذا دخل بنا إلى علاقة جديدة فحسبنا أمه واخوته.

    إن عدنا إلى حديث القدّيس يوحنا المعمدان مع الفرّيسيّين والصدّوقيّين: "يا أولاد الأفاعي... لا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا، لأني أقول لكم أن الله قادر أن يُقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" (مت 3: 7، 9)، لأدركنا أن القدّيس يوحنا لم يقصد أن ينكر العلاقة الجسديّة بأبيهم إبراهيم، لكنهم خلال الشرّ فقدوا ارتباطهم به روحيًا وارتبطوا بالبنوّة للأفاعي، إذ يعملون عملها. هنا من الجانب الآخر لم ينكر السيّد المسيح علاقة القدّيسة مريم به، أي أمومتها له حسب الجسد، لكنّه يؤكّدها ويثبِّتها خلال حياتها الإيمانيّة العاملة مشيئة الأب. لقد فتحت القدّيسة مريم العذراء الطريق لا للنساء فقط، وإنما لكل إنسان أن يحملوا(يحمل؟؟) السيّد المسيح روحيًا في قلوبهم وتصير النفس كأنها أم له.

    v إنه لم يقل "أنتِِ لستِ أمي"، بل قال: "من هي أمي؟" وكأنه يقدّم مفهومًا جديدًا للارتباط به، ليس خلال علاقة جسديّة خلال الدم واللحم والنسب، وإنما خلال الطاعة لإرادة أبيه، ألا ترى أنه في كل مناسبة لم ينكر القرابة حسب الطبيعة، لكنّه أضاف إليها ما هو بواسطة الفضيلة؟!

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v هذا يعني أنه حتى بالنسبة لأمي التي تدعونها مطوّبة، إنّما هي مطوّبة لحفظها كلمة الله، ليس فقط لأن كلمة الله صار فيها جسدًا وحلّ بيننا، وإنما لأنها تحفظ ذات كلمة الله الذي خلقها، وقد صار جسدًا فيها. ليته لا يفرح أحد بالنسب الجسدي، إنّما يفتخر إن كان بالروح مرتبطًا بالله.

    القدّيس أغسطينوس

    هذا وقد سبق لنا الحديث عمّا يمكننا تسمِيَتُه بأمومة النفس للسيّد المسيح بكونها حاملة له في داخلها، وعن مفهوم "إخوة الرب" بكونهم أبناء مريم زوجة كلوباس، أخت القدّيسة مريم (يو19 : 25)، في كتابنا "القدّيسة مريم في المفهوم الأرثوذكسي".

    1 في ذلك الوقت ذهب يسوع في السبت بين الزروع فجاع تلاميذه و ابتداوا يقطفون سنابل و ياكلون
    2 فالفريسيون لما نظروا قالوا له هوذا تلاميذك يفعلون ما لا يحل فعله في السبت
    3 فقال لهم اما قراتم ما فعله داود حين جاع هو و الذين معه
    4 كيف دخل بيت الله و اكل خبز التقدمة الذي لم يحل اكله له و لا للذين معه بل للكهنة فقط
    5 او ما قراتم في التوراة ان الكهنة في السبت في الهيكل يدنسون السبت و هم ابرياء
    6 و لكن اقول لكم ان ههنا اعظم من الهيكل
    7 فلو علمتم ما هو اني اريد رحمة لا ذبيحة لما حكمتم على الابرياء
    8 فان ابن الانسان هو رب السبت ايضا
    9 ثم انصرف من هناك و جاء الى مجمعهم
    10 و اذا انسان يده يابسة فسالوه قائلين هل يحل الابراء في السبوت لكي يشتكوا عليه
    11 فقال لهم اي انسان منكم يكون له خروف واحد فان سقط هذا في السبت في حفرة افما يمسكه و يقيمه
    12 فالانسان كم هو افضل من الخروف اذا يحل فعل الخير في السبوت
    13 ثم قال للانسان مد يدك فمدها فعادت صحيحة كالاخرى
    14 فلما خرج الفريسيون تشاوروا عليه لكي يهلكوه
    15 فعلم يسوع و انصرف من هناك و تبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعا
    16 و اوصاهم ان لا يظهروه
    17 لكي يتم ما قيل باشعياء النبي القائل
    18 هوذا فتاي الذي اخترته حبيبي الذي سرت به نفسي اضع روحي عليه فيخبر الامم بالحق
    19 لا يخاصم و لا يصيح و لا يسمع احد في الشوارع صوته
    20 قصبة مرضوضة لا يقصف و فتيلة مدخنة لا يطفئ حتى يخرج الحق الى النصرة
    21 و على اسمه يكون رجاء الامم
    22 حينئذ احضر اليه مجنون اعمى و اخرس فشفاه حتى ان الاعمى الاخرس تكلم و ابصر
    23 فبهت كل الجموع و قالوا العل هذا هو ابن داود
    24 اما الفريسيون فلما سمعوا قالوا هذا لا يخرج الشياطين الا ببعلزبول رئيس الشياطين
    25 فعلم يسوع افكارهم و قال لهم كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب و كل مدينة او بيت منقسم على ذاته لا يثبت
    26 فان كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم على ذاته فكيف تثبت مملكته
    27 و ان كنت انا ببعلزبول اخرج الشياطين فابناؤكم بمن يخرجون لذلك هم يكونون قضاتكم
    28 و لكن ان كنت انا بروح الله اخرج الشياطين فقد اقبل عليكم ملكوت الله
    29 ام كيف يستطيع احد ان يدخل بيت القوي و ينهب امتعته ان لم يربط القوي اولا و حينئذ ينهب بيته
    30 من ليس معي فهو علي و من لا يجمع معي فهو يفرق
    31 لذلك اقول لكم كل خطية و تجديف يغفر للناس و اما التجديف على الروح فلن يغفر للناس
    32 و من قال كلمة على ابن الانسان يغفر له و اما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم و لا في الاتي
    33 اجعلوا الشجرة جيدة و ثمرها جيدا او اجعلوا الشجرة ردية و ثمرها رديا لان من الثمر تعرف الشجرة
    34 يا اولاد الافاعي كيف تقدرون ان تتكلموا بالصالحات و انتم اشرار فانه من فضلة القلب يتكلم الفم
    35 الانسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يخرج الصالحات و الانسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور
    36 و لكن اقول لكم ان كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابا يوم الدين
    37 لانك بكلامك تتبرر و بكلامك تدان
    38 حينئذ اجاب قوم من الكتبة و الفريسيين قائلين يا معلم نريد ان نرى منك اية
    39 فاجاب و قال لهم جيل شرير و فاسق يطلب اية و لا تعطى له اية الا اية يونان النبي
    40 لانه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة ايام و ثلاث ليال هكذا يكون ابن الانسان في قلب الارض ثلاثة ايام و ثلاث ليال
    41 رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل و يدينونه لانهم تابوا بمناداة يونان و هوذا اعظم من يونان ههنا
    42 ملكة التيمن ستقوم في الدين مع هذا الجيل و تدينه لانها اتت من اقاصي الارض لتسمع حكمة سليمان و هوذا اعظم من سليمان ههنا
    43 اذا خرج الروح النجس من الانسان يجتاز في اماكن ليس فيها ماء يطلب راحة و لا يجد
    44 ثم يقول ارجع الى بيتي الذي خرجت منه فياتي و يجده فارغا مكنوسا مزينا
    45 ثم يذهب و ياخذ معه سبعة ارواح اخر اشر منه فتدخل و تسكن هناك فتصير اواخر ذلك الانسان اشر من اوائله هكذا يكون ايضا لهذا الجيل الشرير
    46 و فيما هو يكلم الجموع اذا امه و اخوته قد وقفوا خارجا طالبين ان يكلموه
    47 فقال له واحد هوذا امك و اخوتك واقفون خارجا طالبين ان يكلموك
    48 فاجاب و قال للقائل له من هي امي و من هم اخوتي
    49 ثم مد يده نحو تلاميذه و قال ها امي و اخوتي
    50 لان من يصنع مشيئة ابي الذي في السماوات هو اخي و اختي و امي
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 1:59 pm

    الأصحاح الثالث عشر

    أمثلة الملكوت

    إذ قدّم السيّد المسيح مفاهيم جديدة للملكوت، من جهة العبادة والسلوك والجهاد والخلاص والاتّحاد مع الله، قدّم لنا أمثلة خاصة بهذا الملكوت السماوي المسيحاني، تكشف لنا عن أسراره من جوانب متعدّدة.

    1. مثل الزارع 1-9.

    2. الحاجة إلى الأمثال 10-17.

    3. تفسير المثل 18-23.

    4. مثل الزوان 24-30.

    5. مثل حبّة الخردل 31-32.

    6. مثل الخميرة 33-35.

    7. تفسير مثل الزوان 36-43.

    8. مثل الكنز المُخفى 44.

    9. مثل اللؤلؤة 45-46.

    10. مثل الشبكة 47-50.

    11. الكاتب المتعلّم 51-53.

    12. موقف أهل وطنه 54-58.

    1. مثل الزارع

    التقى السيّد المسيح بالجموع خارج البيت، إذ يقول الإنجيلي: "في ذلك اليوم خرج يسوع من البيت وجلس عند البحر. فاجتمع إليه جموع كثيرة حتى أنه دخل السفينة وجلس، والجمع كلّه وقف على الشاطئ" [1-2]. أمّا عند تفسيره المثل للتلاميذ، فكان معهم داخل البيت بعدما صرف الجموع [36]، فماذا يقصد بالبيت؟

    أولاً: ربّما قصد بالبيت "الكنيسة المقدّسة كجماعة المؤمنين" فقد خرج السيّد المسيح خارج ليلتقي مع جماهير غير المؤمنين، الذين لم يدخلوا بعد في العضويّة الكنسيّة، ولا وُلدوا كأبناء لله... يخرج إليهم ليلتقي معهم خلال محبّته بكلمة الكرازة، ويجلس عند البحر، الذي يُشير إلى العالم المملوء اضطرابًا، لكي يدخل بهم إلى كنيسته، بدخوله هو إلى سفينة إنسانيّتنا وحديثه معهم عن ملكوت السماوات خلال الأمثال.

    بحبّه يتحدّث مع الجميع، لكنّه لا يأتمن أحدًا على أسرار الملكوت وتذوّق الأمجاد الأبديّة خارج البيت. إنه يصرف الجماهير ليلتقي مع تلاميذه وحدهم داخل البيت، ويحدّثهم في أمورٍ لا ينطق بها ومجيدة.

    يقول العلاّمة أوريجينوس: [عندما يكون يسوع مع الجموع يكون خارج بيته، لأن الجموع خارج البيت. هذا العمل ينبع عن حبّه للبشر، إذ يترك البيت ويذهب بعيدًا إلى أولئك الذين يعجزون عن الحضور إليه.]

    ثانيًا: يُشير البيت أيضًا إلى السماء بكونها هيكل الله. فإذ عجزت البشريّة عن الارتفاع إلى السماء لتلتقي بخاِلقها نزل هو إليها. إنه كمن يخرج من البيت ليلتقي بالبشريّة خلال إنسانيّتهم، حتى بدخوله إليهم لا يهابونه كديّان، فيهربون منه، بل يسمعون صوته خلال السفينة الخشبيّة، أي خلال الصليب ليجتذبهم بالحب إلى السمويّات "بيته"، ويكشف لهم أسراره كعريس يناجي عروسه في حجاله الأبدي. لا يحدّثها عن أسراره علانيّة بين الجماهير، بل خلال علاقة الحب الشخصي في لقائهما معًا تحت سقف واحد!

    ليتنا بالحق لا نكتفي بالوقوف مع الجماهير عند الشاطئ لنسمع الأمثال، إنّما ندخل به وفيه إلى بيته، ننعم بالعضويّة الروحيّة في كنيسته والدخول إلى سماواته، فنرتمي في أحضانه الإلهيّة ليحدّثنا حديث حُبّه السرّي الفائق.

    هوذا الزارع قد خرج

    غاية الله فينا هو "الخروج exodus"، ينطلق بنا كما مع بني إسرائيل من أرض العبوديّة إلى خيرات أرض الموعد. إنه يشتهي أن يخرج بنا من عبوديّة الخطيّة إلى حرّية مجد أولاد الله. ولما كان الخروج بالنسبة لنا مستحيلاً خرج هو أولاً كما من أمجاده، حتى يخرج بنا نحن أيضًا من طبيعتنا الفاسدة، فنلتقي معه وفيه، متمتّعين بالطبيعة الجديدة التي على صورته.

    يتحدّث القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن هذا الخروج الإلهي هكذا: [خرج ذاك الذي هو كائن في كل مكان، لكنّه غير محدود بمكان؛ جاءنا في ثوب جسدنا. يتحدّث المسيح بحق عن اقترابه إلينا كخروج. لأننا قد طُردنا خارج الله كمن هم مدينين وثائرين مطرودين من حضرة الملك. لكن ذاك الذي يرغب في مصالحتهم مع الملك يخرج إليهم، ويتحدّث معهم خارج المملكة، ومتى تأهّلوا يحضرهم إلى الحضرة الإلهيّة. هذا هو ما فعله المسيح.] كما يقول: [لم يخرج إلى موضع إنّما يُعلن عن حياة وتدبير يخصّان خلاصنا، إذ صار قريبًا لنا بالتحافه جسدنا. فإذ لم نستطع نحن أن ندخل بسبب خطايانا خرج هو إلينا. ولماذا خرج؟ هل لكي يُهلك الأرض التي أنتجت أشواكًا؟... لا، إنّما خرج ليهتمّ بالأرض ويبذر كلمة الحنو. إذ يدعو تعاليمه هنا بذارًا، ونفوس البشر حقلاً مفلحًا، ويدعو نفسه بالباذر.]

    السيّد المسيح هو الزارع الذي يخرج دومًا ليلقي ببذار حبّه فينا لكي تثمر في قلبنا شجرة حب يشتهي الله أن يقطف ثمارها، قائلاً: "قد دخلتِ جنتي يا أختي العروس، قطفتِ مرِّي مع طيبي، أكلتِ شهدي مع عسلي، شربتِ خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب اشربوا واسكروا أيها الأحبّاء" (نش 5: 1). ألقى الله بذاره في الفردوس، لكن أبويْنا الأوّلين قبِلا الزوان عِوض بذار الرب، فخرجا يحملان ثمار المرارة والعصيان. عاد الله وخرج إلى شعبه خلال موسى لينطلق بهم من أرض العبوديّة، مقدّمًا لهم الشريعة كبذارٍ إلهيّة، لكن القلب الذي ارتبط بعبادة الأوثان المصريّة، خاصة عِجل أبيس الذهبي، رفض البذار الإلهيّة مثمِرًا شجرة تذمُّر مستمر. وفي ملء الزمان خرج كلمة الله بنفسه إلينا متجسّدًا، وحلّ وسطنا، لنتقبّله حالاًّ فينا، فنثمر ثمار روحه القدّوس. وقد تمّ كمال خروجه بانطلاقه خارج أورشليم حاملاً عار الصليب، حتى نخرج نحن أيضًا بالصليب خارج "الأنا"، أي خارج ذواتنا المتعجرفة، فنلتقي به عند صليبه ونتقبّل ينبوع دمه الطاهر بذار حب تعمل فينا؛ الأمر الذي أوضحه الرسول بقوله "لذلك يسوع أيضًا لكي يقدّس الشعب بدم نفسه تألّم خارج الباب؛ فلنخرج إذًا إليه خارج المحلّة، حاملين عاره" (عب 13: 12-13).

    البذار

    ما هي البذار التي يلقيها السيّد المسيح في حياتنا كما في الأرض؟ قديمًا كان موسى والأنبياء يتقبّلون الكلمة من الله، أي يستعيرونها لكي ينعمون بها في حياتهم ويقدّمونها للشعب، إنها عارية! أمّا السيّد المسيح فهو بعينه الكلمة الإلهي، يوَد أن يُدفن في قلب المؤمن، لكي يُعلن ذاته شجرة حياة في داخله. إنه لا يقدّم شيئًا خارجًا عنه استعارة، إنّما يقدّم حياته سرّ حياة لنا، وقيامته علّة قيامتنا، ونصرته بكر نصرتنا، وأمجاده سرّ تمجيدنا! إنه الباذر والبذرة في نفس الوقت.

    الأرض

    الأرض التي تستقبل السيّد المسيح نفسه كبذرة لها أن تقبله أو ترفضه، وقد قدّم لنا السيّد المسيح أربعة أنواع من التربة: الطريق، والأرض المحجرة، والأرض المملوءة أشواكًا، والأرض الجيّدة. حقًا إن الزارع واحد، والبذار واحدة، لكن الثمر أو عدمه يتوقّف على الأرض التي تستقبل البذار. وقد استغلّ البعض هذا المثل للمناداة بوجود طبائع مختلفة لا يمكن تغييرها، فالشرّير إنّما يصنع الشرّ بسبب طبيعته، والصالح بسبب صلاح طبيعته، وكأن الإنسان ملتزم بتصرّفات لا يمكنه إلا أن يفعلها، وكأنه لا يحمل حرّية إرادة. هذه البدعة تصدّى لها كثير من الآباء، لكنّني هنا أود تأكيد أن هذا المفهوم لا يمكن استنباطه من المثل، فلو أن الله يُعلّم هذا، فلماذا ضرب لنا المثل؟ إنه يقول: "من له أذنان للسمع فليسمع" [9]، وكأنه يأمرنا أن ننصت لكلماته فنطلب تغيير طبيعتنا إلى الأرض الجيّدة.

    v عند سماعكم هذا لا تبتدئوا تفتكروا في طبائع مختلفة كبعض الهراطقة، الذين يذكرون أن للواحد طبيعة شرّيرة وللآخر صالحة، وأن البعض تقودهم إرادتهم خلال تكوينهم إلى ما هو صالح أو شرير. أضف إلى هذا أن الكلمات "قد أُعطى لكم"، تعني أنه لكم إرادة.

    الأب غريغوريوس (الكبير)

    v (عن إمكانيّة التحوّل إلى تربة صالحة)

    اقلبوا التربة الصالحة بالمحراث، أزيلوا الحجارة من الحقل، انزعوا الأشواك عنها.

    احترزوا من أن تحتفظوا بذلك القلب القاسي الذي سرعان ما تعبر عنه كلمة الرب ويفقدها.

    احذروا من أن تكون لكم تربة خفيفة فلا تتمكن جذور المحبّة من التعمق فيها.

    احذروا من أن تختنق البذار الصالحة التي زُرعت فيكم خلال جهادي، وذلك بواسطة الشهوات واهتمامات هذا العالم.

    كونوا الأرض الجيّدة، وليأتِ الواحد بمائة والآخر بستين وآخر ثلاثين.

    القدّيس أغسطينوس

    ماذا يقصد بقوله: "من له أذنان للسمع فليسمع"؟ يُعلّق القدّيس جيروم على هذه العبارة هكذا: [يقول إشعياء "أعطاني الرب أذنًا" (إش 50: 4). لتفهم ماذا يقول؟ لقد أعطاني الرب أذنًا، إذ تكون لي أذن القلب؛ وهبني الأذن التي تسمع رسالة الله فما يسمعه النبي إنّما يسمعه في قلبه. وذلك كما نصرخ نحن أيضًا في قلوبنا قائلين: أيها الأب أبّا، وهي صرخة صامتة، لكن الرب يسمع الصمت هكذا بنفس الكيفية يحدّث الرب قلوبنا التي تصرخ: "أيها الأب أبّا".]

    أولاً: الطريق

    "وفيما هو يزرع، سقط بعض على الطريق، فجاءت الطيور وأكلته" [4]. هذا الطريق هو القلب المتعجرف الذي على مستوى مرتفع عن الأراضي الزراعيّة، إنه مطمع للطيور المرتفعة، أي لشيّاطين الكبرياء التي تعوق تلاقينا الحقيقي مع الله الكلمة! والطريق دائمًا مفتوح، ليس له سور يحفظه من المارة، كالإنسان صاحب الحواس المفتوحة لكل غريب، ليس من رقيب يحفظها! ما أحوج هذا الإنسان إلى الصراخ لله مع المرتّل، قائلاً: "ضع يا رب حافظًا لفمي وبابًا حصينًا لشفتيَّ"، فينعم بالروح القدس نفسه كسورٍ ناريٍ يحيط به، لا يقدر الشرّ أن يقترب إليه.

    يتحدّث القدّيس كيرلّس الكبير عن الطريق، قائلاً: [الطريق دائمًا صلب، تَطَأه أقدام كل العابرين على الدوام، لهذا لا تبذر فيه بذار. هكذا من كانت لهم الأفكار العنيفة وغير الخاضعة، لا تَدخل الكلمة الإلهيّة المقدّسة فيهم، ولا تسندهم، لكي يتمتّعوا بثمر الفضيلة المفرح. مثل هؤلاء يكونون كالطريق الذي تطأه الأرواح الدنسة ويدوسه الشيطان نفسه، فلا يأتون بثمرٍ مقدّسٍ بسبب قلوبهم المجدبة العقيمة.]

    ثانيًا: الأماكن المحجرة

    "وسقط آخر على الأماكن المحجرة،

    حيث لم تكن له تربة كثيرة.

    فنبت حالاً، إذ لم يكن له عمق أرض،

    ولكن لما أشرّقت الشمس اِحترق،

    وإذ لم يكن له أصل جف" [5-6].

    هذه المنطقة الحجريّة المغطّاة بطبقة خفيفة من التربة إنّما تمثّل القلب المرائي الذي يخفي طبيعته الحجريّة وراء مظاهر برّاقة. فيتقبّل الكلمة سريعًا لتنبت ويفرح الكل به، لكن الرياء الخفي كفيل بقتل كل حيويّة فيه. إنه لا يحتمل إشراق الشمس فيحترق، لأن ليس فيه أصل فيجف. يودّ أن يبقى رياؤه مخفيًا، لكن الضيقة تفضحه وتكشف أعماقه، إذ يقول البابا كيرلّس الكبير: [يوجد آخرون يحملون الإيمان بغير اِكتراث في داخلهم، إنه مجرّد كلمات عندهم! تديُّنِهم بلا جذور، يدخلون الكنيسة فيبتهجون برؤيتهم أعدادًا كبيرة مجتمعة هناك وقد تهيّأوا للشركة في الأسرار المقدّسة، لكنهم لا يفعلون ذلك بهدف جاد وسموّ للإرادة. وعندما يخرجون من الكنائس فإنهم في الحال ينسون التعاليم المقدّسة. متى كان المسيحيّون في سلام يحتفظون بالإيمان، لكنّه متى ثارت الاضطهادات يفكّرون في الهروب طالبين الأمان. يتحدّث إرميا لمثل هؤلاء، قائلاً: "اعدّوا المجن والترس، وتقدّموا للحرب" (إر 46: 30). لأن يد الرب المدافع عنكم لا يمكنها أن تنهزم، وكما يقول بولس غزير العلم: "الله أمين، الذي لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا" (1كو10: 13).
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 2:02 pm

    ثالثًا: الأرض المملوءة أشواكًا

    "وسقط آخر على الشوك،

    فطلع الشوك وخنقه" [7].

    إنها تمثِّل النفس التي تخنقها أشواك اهتمامات العالم، فإنه لا يمكن للكلمة الإلهيّة أن تبقى عاملة في قلب متمسِّك باهتمامات العالم، أو ما دعاه السيّد: "همّ هذا العالم وغرور الغنى" [22]. ويلاحظ هنا أنه لم يقل "العالم والغنى" بل "همّ العالم وغرور الغنى" وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ليتنا لا نلُم الأشياء في ذاتها، وإنما نلوم الذهن الفاسد، فإنه يمكنك أن تكون غنيًا، لكن بلا غرور الغنى، وأن تكون في العالم دون أن يخنقك باهتماماته.] يوضّح القدّيس إكليمنضس السكندري بأنه لا يجب أن نلوم المال، بل سوء استعماله، كذلك ليس فضل أن يكون الإنسان فقيرًا، ولكن الفضل أن نمارس مسكنة الروح، أي عدم التعلُّق بالأموال.

    يتحدّث الأب غريغوريوس (الكبير) عن غرور الغنى، قائلاً: [من يصدّقني إن فسَّرت الأشواك بأنها الغنى، خاصة وأن الأشواك تؤلمنا، بينما الغنى يبهجنا؟ ومع ذلك فهي أشواك تجرح النفس بوخزات الأفكار التي تثيرها فينا، وبتحريضنا على الخطيّة، إنها تلطِّخنا بفسادها كالدم الخارج من الجرح... الغنى يخدعنا إذ لا يمكن أن يبقى معنا إلى الأبد، ولا أن يُشبع احتياجات قلبنا. الغنى الحقيقي وحده هو ذاك الذي يجعلنا أغنياء في الفضائل، لهذا أيها الاخوة، إن أردتم أن تكونوا أغنياء أحبّوا الغنى الحقيقي، إن أردتم الكرامات العُليا اطلبوا ملكوت السماوات. إن كنتم تحبّون التمتّع بالمجد بدرجة عالية، فأسرعوا لكي تُحصى أسماؤكم بين طغمة الملائكة الممجّدة.]

    ويُعلّق القدّيس كيرلّس الكبير على الشوك بكونه هموم الحياة وغناها ولذّاتها، قائلاً: [يزرع الفادي البذور، فتصادف قلوبًا تظهر قويّة مثمرة، ولكن بعد قليل تخنقها متاعب الحياة وهمومها، فتجف البذور وتَبلى، أو كما يقول هوشع النبي: "إنهم يزرعون الريح ويحصدون الزوبعة، زرع ليس له غلة لا يصنع دقيقًا، وإن صنع فالغرباء تبتلعه" (هو 8: 7). لنكن زارعين ماهرين، فلا نزرع البذور إلا بعد تطهير الأرض من أشواكها، حتى نقول مع المرنم: "الذاهب ذهابًا بالبكاء حاملاً مِبذَر الزرع، مجيئًا يجيء بالترنم حاملاً حزمه" (مز 126: 6). كل من رمى البذر على أرض تنبت شوكًا وحسكًا يتعرّض لخسارتين: البذر الذي يفنى، والتعب المضني. لنعلم أنه لا يمكن أن تزهر البذور الإلهيّة إلا إذ نزعْنا من عقولنا الهموم العالميّة وجردّْنا أنفسنا عن زهو الغنى الباطل، "لأننا لم ندخل العالم بشيء وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء" (1 تي 6: 7). لأنه ما الفائدة من اِمتلاكنا للأشياء الزائلة الفانية؟ "الرب لا يُجيع نفس الصديق ولكن يدفع هوى الأشرار" (أم 10: 3). ألم تلاحظ أن الشرور الفاسدة من نهم وطمع وشره وجشع وسكر وعبث ولهو وكبرياء تخنقنا، أو كما يقول رسول المخلّص: "كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظّم المعيشة، ليس من الأب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد" (1 يو 2: 16).]

    رابعًا: الأرض الجيّدة

    "وسقط آخر على الأرض الجيّدة،

    فأعطى ثمرًا بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين.

    من له أذنان للسمع فليسمع" [8-9].

    إنها الأرض المنخفضّة التي خضعت للحرث، فتعرَّضت تربتها خلال الحرث للشمس، وتنساب المياه إليها. هذه هي النفس المتواضعة التي تتقبّل التجارب كمحراث يقلب تربتها، فتتعرّض تربتها الداخليّة أي الإنسان الداخلي لإشراقات شمس البرّ نفسه أي المسيح، وتتقبّل إنسياب مياه الروح القدس عاملاً فيها. مثل هذه النفس تأتي بثمر مائة وستين وثلاثين.

    v إنها أرض غنيّة ومثمرة تنتج مائة ضعف!

    صالحة ومثمرة هي النفوس التي تتقبّل الكلمة بعمق وتحتفظ بها، وتهتم بها.

    يُقال عن مثل هذه النفوس ما قاله الرب على فم أحد الأنبياء: "ويطوِّبكم كل الأمم لأنكم تكونون أرض مسرَّة، قال رب الجنود" (مل 3: 12). فإنه عندما تسقط الكلمة الإلهيّة على نفس طاهرة من الأمور المحزنة، تخرج جذورًا عميقة، وتأتي بسنابل حنطة تحمل ثمرًا متزايدًا.

    القدّيس كيرلّس الكبير

    الأرض الجيّدة هي هبة الله لنا بروحه القدّوس الذي يعطينا في المعموديّة الطبيعة الجديدة التي على صورة السيّد المسيح، القادرة أن تثبت في المسيح، وتأتي بثمر الروح المتكاثر. كنّا قبلاً بالخطيّة طريقًا صعبًا تدوسه الأقدام وتلتقط الطيور منه البذار. ومن أجلنا صار السيّد المسيح الطريق الذي لن يقدر عدوّ الخير أن يقترب منه، ولا تتجاسر الطيور أن تختطف منه شيئًا. إنه الطريق الآمن الذي لا يعرف القسوة أو العنف، إنّما هو طريق الحق الذي يدخل بنا إلى حضن الأب. أما كوننا أرضًا محجرة، فهذا ليس بالأمر الغريب فقد قبلت البشريّة آلهة من الحجارة عِوض الله الحيّ، وتعبّدت للأوثان زمانًا هذا مقداره، فجاء السيّد المسيح كحجر الزاوية الذي يربط البناء كله، ليس حجرًا جامدًا يقتل الزرع، إنّما حجر حيّ قادر أن يُقيم فينا فردوسًا سماويًا يفرح الآب! أمّا الأشواك والحسك الخانقة للنفس فقد حملها السيّد على رأسه، دافعًا ثمن خطايانا لنتبرّر أمام الآب، ونُوجد في عينيّه بلا لوم، ليس فينا شوك ولا حسك بل ثمر الروح المفرح!

    لنرفع قلوبنا بالشكر للذي نزع عنّا ما كان لنا بسبب عصياننا من طريق قاسي وأرض محجرة وأشواك وحسك، واهبًا إيّانا الطبيعة الجديدة الغنيّة فيه ليقيمنا فردوسًا سماويًا يأتي بثمار كثيرة.

    درجات الثمر

    قدّم السيّد بذاره لأربعة أنواع من الأراضي، لكن لم تتجاوب كل الأراضي معها، وحتى التي تجاوبت إنّما بدرجات متفاوتة، فالبعض أنتج مائة ضعف وآخر ستين وثالث ثلاثين. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [اخبرني إذن كيف فُقد الجزء الأكبر من البذار؟ إنها لم تفقد بسبب الباذر، إنّما بسبب الأراضي التي لم تقبلها، أي النفوس التي لم تنصت لها.]

    يرى بعض الآباء مثل القدّيس جيروم أن هذا الثمر مع اختلاف كميّته لكنّه يصدر عن أرضٍ واحدةٍ وحقلٍ واحدٍ، لكن شخصًا يثمر ثلاثين وهو المتزوّج الذي حفظ المضجع غير دنّس ويحمل علاقة حب طاهرة بين الزوج وزوجته، وآخر يأتي بالستّين وهو الأرمل أو الأرملة الذي يحتمل ضيق الترمل والتعب بفرح، وأما الذي يثمر المائة فهو البتول.

    2. الحاجة إلى الأمثال

    "فتقدّم التلاميذ وقالوا له: لماذا تكلّمهم بأمثالظ

    فأجاب، وقال لهم: لأنه قد أعطى لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات،

    وأما لأولئك فلم يُعط.

    فإن من له سيعطي ويُزاد،

    وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه.

    من أجل هذا أكلّمهم بأمثال" [10-13].

    يقول الله على لسان المرتّل: "اَفتح بمثل فمي، أُذيع ألغازًا منذ القدّم" (مز 78: 2). هكذا يتكلّم السيّد بأمثالٍ، لا لكي يحرم أحدًا من أسراره، إذ "يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تي 2: 4)، إنّما أراد أن يجتذب المشتاقين لمعرفة الحق إليه. فقد اعتاد البشر أن ينجذبوا نحو الأحاديث الغامضة، فيدخلوا معه في علاقة سرّيّة خلالها يقدّم لهم مقدّساته التي لا ينطق بها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن هذه الأمثال كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [حملت توبيخات غير مباشرة للسامعين، إذ لم يرد أن يوبّخهم بعنف (مباشرة) حتى لا يسقطوا في اليأس.] هذا وبحديثه خلال الأمثال لا يلقي السيّد بمقدّساته للجميع لئلا يحتقرها غير راغبي الحق ويدوسونها بأقدامهم.

    يقول السيّد: "من له سيعطَي ويزداد، وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه" [12]. فبقدر ما يكون الإنسان أمينًا على المقدّسات الإلهيّة يفيض الله عليه أمجاد معرفة حقيقية من يوم إلى يوم. فيتذوّق أمثال السيّد، ليدخل خلالها إلى بيته، يسمع أسراره بعبوره إلى المجد وجهًا لوجه. أمّا غير الأمين فحتى ما يسمعه من أمثال يُنزع منه، ويصير سماعه علّة إدانته عِوض أن يكون سرّ مجد له. لقد أوضح السيّد المسيح ذلك بمثَل الوزنات، فإن صاحب الوزنات الخمسة إذ تاجر فيها وربح أُعطى له خمس مدن. أمّا الذي له وزنة واحدة وقد أخفاها في الطين، ولم يتاجر بها، فحتى هذه الوزنة سُحبت منه لتُعطى لمن تاجر وربح! حياتنا مع السيّد المسيح هي انطلاقة مستمرّة من مجدٍ إلى مجدٍ، وتفاعل دائم مع روح الله القدّوس الذي لا يكف عن أن يُعلن لنا الحق، ويذكرنا بكل ما قاله لنا السيّد؛ يأخذ ممّا للمسيح ويعطينا! إنها حياة ديناميكيّة لا تتوقف قط. أمّا الإنسان السلبي المكتفي بما لديه من معرفة وخبرات، حاسبًا في نفسه أنه غني وقد استغنى، فإن ما لديه يؤخذ منه، ليهوى من ضعفٍ إلى ضعفٍ، ومن حرمانٍ إلى حرمانٍ، ليهبط إلى الجهالة التي تُظلم ذهنه وتُحجِّر قلبه. وكما يقول الرب لملاك كنيسة اللاودكيّين: "لأنك تقول إني أنا غني، وقد اِستغنيت ولا حاجة لي إلى شيء ولستَ تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان" (رؤ 3: 17).

    هذا ما حدث مع الشعب اليهودي الذي عاش في سلبيّة مكتفيًا بالاتكال على أنهم أهل الختان، ومن نسل إبراهيم، وأنهم أصحاب المواعيد، ومنهم الآباء والأنبياء. خلال هذه السلبيّة جاءهم المسيّا المخلِّص، فرأوه بالجسد دون الروح، ولمسوه حسب الظاهر دون إدراك حقيقته. لهذا يقول السيّد عنهم: "لأنهم مبصرين لا يُبصرون، وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون. قد تمَّت فيهم نبوّة إشعياء القائلة: تسمعون سمعًا ولا تفهمون، ومُبصرين تُبصرون ولا تنظرون. لأن قلب هذا الشعب قد غلظ، وآذانهم قد ثقل سماعها، وغمَّضوا عيونهم لئلا يبصروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأُشفيهم [13-15]. لقد سمعوا السيّد وأبصروه، لكنهم بقسوة قلبهم لم يسمع إنسانهم الداخلي، ولا عاينت بصيرتهم الداخليّة، فصار صوته ورؤيته ليس سرّ خلاص لهم، بل علّة ازدياد قلبهم في الغلاظة. فازدادت قسوتهم قسوة وعماهم عمى وشرِّهم شرًا. وكما يقول الرسول بولس: "لأننا رائحة المسيح الذكيّة لله في الذين يخلُصون وفي الذين يهلكون. لهؤلاء رائحة موت لموت، ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 15-16).

    مجيء السيّد المسيح وتصرفاته أضافت إلى قسوة الأشرار قسوة بسبب حبّهم للشرّ وكبريائهم، بينما فتحت بصيرة البسطاء الروحيّة لإدراك أسراره الفائقة والتمتّع بما اشتهى الأنبياء معاينته، إذ يقول السيّد المسيح لتلاميذه: "ولكن طوبى لعيونكم لأنها تبصر، لآذانكم لأنها تسمع. فإني الحق أقول لكم أن أنبياء وأبرارًا كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا" [16-17].

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ما معنى القول: يبصرون ولا يبصرون [13]؟ إنهم يبصرون كيف يخرج الشيّاطين، ويقولون فيه شيطان؛ يُبصرون القائمين من الأموات ولا يسجدون له، بل يفكِّرون في قتله.]

    كانوا مبصرين إذ لديهم النبوّات واضحة عن المسيّا المخلّص، بل وقام بعضهم بإرشاد هيرودس والمجوس إلى موضع ميلاد السيّد، لكنهم بقوا غير مبصرين داخليًا. فلم يلتقوا معه على صعيد خلاص نفوسهم وتمتّعهم بالحياة الجديدة. لقد رأوا من تحدّث عنه الأنبياء واشتهوا أن يروه ويسمعوا صوته وينعموا بعمله فيهم، لكن للأسف لم يتمتّعوا به في حياتهم بل قاوموه.

    ما أكثر النعم التي صارت لنا في المسيح يسوع ربّنا، إذ صار لنا ما تشتهي الملائكة معاينته والتمتّع به، لكننا هل نحيا بها ونعيشها؟

    3. تفسير المثَل

    "تعرّضنا له أثناء حديثنا عن المثَل نفسه".

    4. مثَل الزوان

    في المثَل السابق أعلن السيّد المسيح العمل الإلهي في إقامة مملكته داخلنا، فقد خرج الزارع بنفسه، وألقى بذار الكلمة منتظرًا الثمر، أمّا هنا فيُعلن عن وجود عدوّ مقاوم، أي إبليس رئيس مملكة الظلمة الذي لا يطيق مملكة النور.

    "قدّم لهم مثلاً آخر، قائلاً:

    يشبه ملكوت السماوات إنسانًا زرع زرعًا جيدًا في حقله.

    وفيما الناس نيام جاء عدوّه وزرع زوانًا في وسط الحنطة ومضى،

    فلما طلع النبات وصنع ثمرًا حينئذ ظهر الزوان أيضًا" [24-25].

    لم يقل السيّد "وفيما الزارع نائم جاء عدوّه وزرع زوانًا، إنّما قال "فيما الناس نيام". وكأن الله يسهر على كرمه، ويهتمّ به، لكن الكرّامين إذ ينامون يتسلّل العدوّ إلى الكرم. إنه يحترم الإرادة الإنسانيّة ويأتمنها، فإذ يسلّم الكرم للكرّامين يطلب سهرهم، فيعمل فيهم على الدوام ولا يقدر العدوّ أن يلقي بالزوان، لكن إن ناموا لحظة يتسلّل العدوّ.

    لم يقل السيّد "جاء عدوّهم"، إنّما "جاء عدوّه" فالعدو لا يقصد الكرّامين بل صاحب الكرم. العامل الحقيقي ضدّ الكرم هو إبليس عدوّ الله نفسه، حتى في مضاداته لنا يقصد الله نفسه الساكن فينا. أنها حرب بين الله وإبليس، بين النور والظلمة، ليس لنا عدوّ غير إبليس نفسه وملائكته الأشرار المقاومين لعمل الله فينا.

    أما النوم هنا فلا يعني نوم الجسد الطبيعي، وإنما التراخي والإهمال أو نسيان الله في العمل الرعوي كما في الجهاد الروحي. فالراعي ينام حينما يبذل كل الجهد في رعايته خلال "الأنا"، فيحسب نفسه المسئول الأول عن الكرم، فيختفي الله لتُعلن الذات البشريّة. ويرى القدّيس جيروم أن النوم إنّما يُشير إلى تراخي الذهن عن الالتصاق بالعريس، إذ يقول: [لا تسمح للعدو أن يلقي زوانًا وسط الحنطة بينما الزارع نائم، أي عندما يكون الذهن الملتصق بالله في غير حراسة، وإنما قل على الدوام مع عروس نشيد الأناشيد: "في الليل على فراشي طلبت من تحبّه نفسه، اخبرني أين ترعى أين تربض عند الظهيرة؟(نش 3: 1؛ 1: 7).] هكذا يليق بكل مؤمن - كاهن أو من الشعب - ألا ينام روحيًا بل يكون دائمًا في يقظة ملتصقًا بالله، فيحرس الرب كرمه من العدوّ حتى لا يلقي بزوانه وسط الكنيسة أو في قلب المؤمن كعضو فيها.

    ما هو الزوان؟

    أولاً: يُشير الزوان إلى الهرطقات التي تدخل الكنيسة خلسة، خاصة في غفلة روحيّة من الرعاة. يقول القدّيس جيروم: [ليت أسقف الكنيسة لا ينام لئلا بإهماله. يأتي إنسان عدوّ ويلقي بالزوان أي تعليم الهراطقة.]

    ثانيًا: يُشير الزوان أيضًا إلى الخطيّة التي تتسلّل إلى الفكر والقلب في غفلة روحيّة من المؤمن. يتحدّث الآب إسيذورس بالبلسان عن الأفكار الشرّيرة، قائلاً: [لماذا تنبع الأفكار الشرّيرة من القلب وتنجِّس الإنسان (مت 15: 19-20)؟ بلا شك لأن العاملين نيام، مع أنه كان يلزم أن يكونوا ساهرين حتى يحفظوا ثمار البذار الصالحة لكي تنمو. فلو لم نضعف أثناء سهرنا بسبب النهم والتراخي وتدنيس الصورة الإلهيّة أي فساد البذرة الصالحة ما كان يمكن لباذر الزوان أن يجد وسيلة للزحف وإلقاء الزوان المستحق للنار.]

    ثالثًا: يُشير إلى الأشرار بوجه عام الذين يحملون شكليّة العضويّة الكنسيّة دون روحها وحياتها.

    ظهور الزوان وانتظار وقت الحصاد

    "فلما طلع النبات وصنع ثمرًا، حينئذ ظهر الزوان أيضًا.

    فجاء عبيد رب البيت، وقالوا له:

    يا سيّد أليس زرعًا جيّدًا زَرعت في حقلك، فمن أين له زوان؟

    فقال لهم: إنسان عدوّ فعل هذا.

    فقال له العبيد: أتريد أن نذهب ونجمعه؟

    فقال له: لا، لئلا تقلعوا الحنطة مع الزوان وأنتم تجمعونه.

    دعوهما ينميان كلاهما معًا إلى الحصاد.

    وفي وقت الحصاد أقول للحصّادين:

    اِجمعوا أولاً الزوان واِحزموه ليُحرق، وأما الحنطة فاجمعوها إلى مخزني" [26-30].

    هكذا ينصحنا السيّد ألا ننشغل بنزع الزوان، إنّما نتركه حتى يأتي وقت الحصاد، فيرسل الله ملائكته كحصّادين يجمعونه ويحرقونه. وأما الحنطة فيجمعونها إلى ملكوته عِِوض أن ندين الأشرار. فإن هذا ليس عملنا! ومن جهة أخرى فإنه مادام الوقت قائمًا فإنّنا لا نيأس قط، مجاهدين لا في اقتلاع الزوان، بل في العمل على تحويل الزوان إلى حنطة.

    يقول الأب إيسيذورس بالبلسان أن الملائكة يطلبون نزع الزوان أي عقاب الأشرار، لكنهم يُمنعون من ذلك حتى يتمتّع الأشرار بفرصة للتوبة، ولا يُضار الصالحون. فإن الله لم يقطع عيسو الشرّير حتى لا يهلك معه أيوب البار الذي جاء من نسله، ولم يقتل لاوي العشّار حتى لا يفقده ككارز بالإنجيل، ولا اِنتقم لإنكار سمعان بطرس الذي قدّم دموع التوبة بحرقة، ولا ضرب شاول الطرسوسي بالموت حتى لا نفقد بولس الرسول الذي كرز بالخلاص في أقاصي الأرض.

    v سمح الله بالزمن لأجل التوبة. إنه يحذّرنا هنا لئلا نقطع أخًا قبل الوقت المناسب، فإن من يكون اليوم مصابًا بالتعاليم السامة قد يعود غدًا إلى صوابه ويصير مدافعًا عن الحق.

    القدّيس جيروم

    v كثيرون يكونون في البداية زوانًا، لكنهم يصيرون بعد ذلك حنطة، فإن لم نحتملهم بالصبر وهم خطاة، لما يمكن بلوغهم إلى هذا التحوّل المستحق لكل تقدير.

    v اهدأوا، فإنه ليس الآن وقت للحصاد. سيأتي الوقت لعلّه يجد الزوان قد صار حنطة! لماذا لا تحتملون بصبرٍ خلطة الأشرار بالأبرار؟ إنهم معكم في الحقل، لكن الأمر لا يكون هكذا في المخزن!

    v إنك تجد القمح والزوان بين الكراسي العُظمى كما بين العلمانيّين أيضًا. فليحتمل الصالحون الأشرار، وليصلح الأشرار من أمرهم مقتدين بالصالحين.

    القدّيس أغسطينوس

    ويرى القدّيس جيروم في كلمات الديّان بترك الزوان إلى وقت الحصاد حنوًا على الخطاة لأجل توبتهم، فيناجيه قائلاً: [حقًا يُحسب الناس والملائكة قساة إن قورنوا بك، فأنت وحدك الملك الكُلي الحنو... نسألك أن تكون أنت الديّان، لأنك تحنو على جميع الأمم!]

    يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم في هذا المثل صورة حيّة لواقع الكنيسة فإنه بقدر ما تُبذر بذار الحق، يبذل عدوّ الخير كل الجهد أن يلقي بالزوان في وسطها. إنه يقول: [بعد الأنبياء يأتي أنبياء كذبة، وبعد الرسل يأتي رسل كذبة، وبعد المسيح يأتي ضدّ المسيح.]

    هل يُترك الفساد (الزوان)

    هل يترك الزوان داخل جماعة المؤمنين أو داخل قلب المؤمن؟ ألم يقل الرسول: "ألستم تعلمون أن خميرة صغيرة تخمِّر العجين كله! إذًا نقّوا منكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجينًا جديدًا كما أنتم فطير" (1 كو 5: 6-7)!

    لم يقصد السيّد ترك البدع والخطيّة، وإنما أراد تأكيد مبدأ هام، ألا وهو أن نزع الشرّ من عمل الله نفسه لا الإنسان. فالكنيسة في معالجتها للشرّ لا تحتاج إلى مقاومة فلسفيّة ومناقشات بقدر ما تحتاج إلى التقديس. لست أنكر التزامنا نحن كرعاة ورعيّة في رفض البدع والخطيّة. لكن ينبغي أولاً أن نتسلَّح بالجانب الإيجابي ألا وهو الحياة النقيّة المقدّسة، فنحمل السيّد المسيح نفسه فينا، هو الديّان وحده القادر أن يطرد الظلمة بإشراقه علينا كشمس البرّ! لست بهذا أقلّل من شأن أبطال الإيمان الذين وقفوا أمام الهرطقات، والقدّيسين الذين صوّبوا السهام ضدّ الخطيّة، وإنما كان هؤلاء مختفين في السيّد المسيح نفسه الصخرة الحقيقيّة، الذي يحطّم كل موجة للشك، وكان القدّيسون بالروح القدس الساكن فيهم يصوّبون "السيّد المسيح" نفسه كالسهم الناري لقتل الخطيّة والشرّ!

    حقًا لقد طالبنا السيّد ألا نقتلع الزوان، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [أنه لا يجوز للكنيسة أن تأمر بقتل هرطوقي، فهذا ليس عملها، لكنها تقاومه فكريًا.] وأوضح القدّيس أغسطينوس موقف الكنيسة من الهراطقة "الزوان" قائلاً: [إن كان أحد المسيحيّين وهو ثابت في الكنيسة قد أُخذ في خطيّة من نوع يستحق أن يُحرم من الكنيسة، فلْيتِم هذا: تجنّب حدوث انشقاق، بمعالجة الأمر بالحب فتصحّح عِوض أن تُقتلع. فإن لم يأت إلى معرفة خطأه ولم ينصلِح بالتوبة يُطرد. ليقطع بإرادته من شركة الكنيسة، لأن قول الرب: "دعوهما ينميان كلاهما معًا"، قد أضيف إليه السبب وهو "لئلا تقلعوا الحنطة مع الزوان"، مقدمًا تفسيرًا واضحًا. أمّا هنا فالسبب غير موجود، فبقطعه لا يوجد قلق على سلامة الحنطة متى كانت جريمته واضحة ويظهر لكل واحد أنه ليس من يدافع عنه أو على الأقل أنه ليس له مدافعون يسبّبون انقسامًا
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 2:03 pm

    . مثل حبّة الخردل

    "قدّم لهم مثلاً آخر، قائلاً:

    يشبه ملكوت السماوات حبّة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله.

    وهي أصغر جميع البذور،

    ولكن متّى نمت فهي أكبر البقول،

    وتصير شجرة حتى أن طيور السماء تأتي وتتآوى في أغصانها" [31-32].

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ حدّثنا السيّد بأن ثلاثة أقسام من البذار يهلك (في مثل الزارع 1-9) والقسم الأخير يخلص، بل حتى هذا الذي يخلص يهلَك بعضه بسبب الزوان الذي يُزرع في وسطه، فلئلا يقول أحد: إذن من يخلص؟... لهذا قدّم مثل حبّة الخردل لينزع عنهم هذا القلق.]

    حقًا في المثل الأول يحدّثنا عن عمل الله في ملكوته بكونه الزارع الذي يقدّم ذاته بذارًا حيّة داخل القلب، وفي المثل الثاني يحدّثنا عن التزامنا باليقظة من عدوّ الخير الذي يُلقي الزوان سرًا ليملك العدوّ على القلب عِوض المسيّا المخلّص. أمّا في هذا المثل، فيقدّم لنا عن إمكانيّة الملكوت الحيّ الذي يعمل في القلب ليمتد في العالم بالرغم من مقاومة العدوّ. إنه يشبَّه بحبّة الخردل الصغيرة، وقد ألقيت في حقل وسط التربة، تحاصرها الظلمة من كل جانب، ويضغط ثقل الطين عليها، لكن "الحياة" الكامنة فيها تنطلق خلال هذه التربة لتصير شجرة تجذب إليها الطيور لتأوي فيها.

    حقًا إن المؤمن كعضو في ملكوت السماوات يحاصر عدوّ الخير من كل جانب بظلمته ليفقده استنارته الروحيّة. ويحرمه من التمتّع بشمس البر،ّ والارتفاع عن الأرضيّات، ويثقِّل عليه بالطين، فيستخدم شهوات الجسد الترابي ليكتم أنفاس روحه. لكن الروح القدس الناري في قلبه ينطلق به خلال هذا الجهاد كعملاق حيّ، لا ليحيا مقدّسًا للرب فحسب، وإنما ينجذب نحوه الكثيرون. يسندهم في الحياة المقدّسة. يكون كشجرة تضم داخلها طيورًا كثيرة، على أغصانها تتراقص متهلّلة بالتسابيح المقدّسة، وتقيم أعشاش فتأتي بصغار يتعلّمون الطيران منطلقة نحو السماويات.

    حبة الخردل والمسيح المتألّم

    إن كان ملكوت السماوات المعلن في داخلنا يعلن عن حلول السيّد المسيح في داخلنا. نقبله فينا مصلوبًا، قائمًا من الأموات، نحمل شركة آلامه فينا لننعم بقوة قيامته، متمثلين بشبه موته، فإن حبة الخردل التي تُدفن في الحقل هي المسيح المتألّم الذي يُدفن فينا ويقوم شجرة حياة في قلبنا!

    يرى الآباء في حبّة الخردل الصغيرة أن قيمتها لا تظهر إلا بدفنها. فتظهر شجرة عظيمة تأوي طيور السماء، ويستظل تحتها حيوانات البرّيّة، أو بسحقها تقدّم طعامًا مفيدًا "الموستاردة". هكذا بالتجسّد الإلهي ظهر الله الكلمة كصغير جدًا، إذ صار عبدًا، لكن بقبره قام واهبًا إيّانا سرّ الحياة. نأوي في أغصان كنيسته كطيور محلّقة في السماوات، ونستظل تحته، كقول النشيد: "تحت ظلِّه اشتهيت أن أجلس" (نش 2: 3). بسحقه قدّم لنا جسده طعامًا روحيًا، ذبيحة حقَّة واهبة التقديس!

    v يقارن الرب نفسه بحَبَّة الخردل، وهي أمرّ البذور وأصغرها، تُعلن فضيلتها (نفعها) خلال سحقها.

    القدّيس هيلاري أسقف بواتييه

    v إنه حَبّة الخردل، نمت في بستان القبر إلى شجرة عظيمة. لم يكن إلا حَبّة حين مات وشجرة عندما قام. كان بذرة في تواضع جسده وشجرة في قوّة عظمته!... في هذه الفروع تجد الطيور راحتها، لأن النفوس النقيّة إذ ترتفع بأجنحة نعمته تجد في كلماته راحتها من الهموم الأرضيّة والتعزية من قلاقل الحياة الحاضرة.

    الأب غريغوريوس (الكبير)

    حَبَّة الخردل وإنجيل المسيح

    إن كانت حَبّة الخردل تمثّل شخص السيّد المسيح المتألّم، فهي تمثِّل إنجيله والكرازة به. أو قُل هي الإيمان بالمسيّا المصلوب. إنها تحمل قوّة في داخلها قادرة على جذب الكثيرين للملكوت، بالرغم من أن الكارزين بها بسطاء وأُميُّون.

    v بذرة الإنجيل هي أصغر البذور، لأن التلاميذ كانوا أكثر حياءً من غيرهم، لكنهم يحملون فيهم قوّة عظيمة، فانتشرت كرازتهم في العالم كله.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v عندما تنمو تعاليم الفلاسفة لا تُعلن شيئًا كامل النضوج أو حيويًا، بل كل ما هو رخو ومترهِّل. إنها غزيرة في أوراقها وسيقانها التي تذبل بسرعة وتهلك. أمّا الإنجيل فإذ يُكرز به يبدو في البداية غير واضح، لكنّه إذ يُبذر داخل نفس المؤمن ينتشر في كل العالم، ولا يرتفع كشُجيْرة بل كشجرة تأتي طيور السماء لتسكن في أغصانها، أي أرواح المؤمنين أو القوّات المكرّسة لخدمة الله.

    إنها تصير شجرة، وكما اَعتقد أن أغصان الشجرة الإنجيليّة التي تنبت عن بذرة الخردل إنّما هي التعاليم المقدّسة المتنوّعة، التي يقال عنها أن الطير يجد فيها راحته. ليتنا نأخذ أجنحة حمامة ونطير لنسكن في فروع هذه الشجرة، ونصنع لأنفسنا عشًا في تعاليمها، تاركين وراءنا الأمور الأرضيّة، مسرعين إلى ما هو سماوي.

    القدّيس جيروم

    حَبَّة الخردل والإيمان بالمسيّا المتألّم

    يقول القدّيس أمبروسيوس:

    [إن كان ملكوت السماوات يشبه حَبّة الخردل، والإيمان أيضًا يشبه حَبّة خردل (مت 17: 20)، إذًا فالإيمان بالحق هو ملكوت السماوات، وملكوت السماوات هو الإيمان، (بمعنى أن من له إيمان له ملكوت السماوات، ملكوت السماوات داخلنا (لو 17: 21)، والإيمان أيضًا داخلنا...

    والآن ليتنا نقيّم المقارنة التالية من طبيعة الخردل:

    حقًا إن حَبّة الخردل هي بسيطة جدًا وقليلة القيمة، لكنها إن سُحقت أو عُصِرت تظهر قوّتها، هكذا يبدو الإيمان بسيط جدًا، لكنّه إن سُحق خلال الأعداء يُبرهن على قوّته، إذ يملأ الآخرين الذين يسمعون أو يقرأون عنه برائحة حلاوته. شهداؤنا فيلكس ونابور وفيكتور تمتّعوا برائحة الإيمان الزكيّة، لكن أثناء حياتهم كانوا في غموض، وعندما جاء الاضطهاد أرخوا أذرعتهم وأحنوا رقابهم فضُربت بالسيف، وبهذا فإن نعمة استشهادهم قد انتشرت إلى أقاصي الأرض، وبحق قيل: "خرجت أصواتهم إلى كل الأرض" (مز 19: 4).

    فالإيمان تارة يُسحق، وأخرى يُعصر، وفي وقت آخر يُزرع (يدفن). الرب نفسه هو حَبّة الخردل، بدون الآلام ما كان للشعب أن يعرفه كحَبَّة خردل ولا يلاحظه. لقد اختار أن يُسحق، لكن نقول: "لأننا رائحة المسيح الزكيّة لله" (2 كو 2: 15). اختار أن يُضغط عليه (يُعصر) حيث قال بطرس: "الجموع يضيِّقون عليك ويزحمونك" (لو 8: 45). واختار أن يُزرع في الأرض كبذرة أخذها إنسان وغرسها في بستانه. ففي البستان أُخذ المسيح سجينًا وأيضًا في البستان دُفن. لقد "نبت" في بستان حيث قام من الأموات وصار شجرة، كما هو مكتوب: "كالتفاح بين شجر الوعْر كذلك حبيبي بين البنين" (نش 2 : 3).

    هكذا ليُزرع المسيح في بستانك، فإن البستان هو الموضع الممتلئ زهورًا وثمارًا متنوّعة، فتنمو الفضيلة التي لجهادك وتفيح العذوبة المتعدّدة لفضائله الكثيرة!

    حيث يوجد الثمر يوجد المسيح.

    لتَزرع يسوع الرب، فهو بذرة حين يَمسك به إنسان، وهو شجرة حين يقوم، إنه الشجرة التي تعطي ظلاً للعالم!

    إنه بذرة يُدفن في القبر، وهو شجرة حين يقوم إلى السماء!

    لتضغط عيه باقترابك إليه جدًا ولتبذر الإيمان! فإنّنا نتبعه عن قرب ونبذر الإيمان عندما نعبد المسيح المصلوب. فقد اقترب إليه بولس بإيمان عندما قال "وأنا لمّا أتيتُ إليكم أيها الإخوة أتيتُ ليس بسموّ الكلام أو الحكمة مناديًا لكم بشهادة المسيح، لأني لم أعزِم أن أعرف شيئًا بينكم إلا يسوع المسيح وإيّاه مصلوبًا" (1 كو 2: 1-2)...

    إننا نبذر الإيمان عندما نؤمن بآلام الرب خلال الكتابات النبويّة والرسوليّة. لذلك نبذر الإيمان كما لو كنّا ندفنه في تربة جسد الرب اللطيفة والرقيقة حتى أنه باحتضانه الجسد المقدّس وحرارته ينتشر الإيمان في الخارج. من يؤمن أن ابن الله صار إنسانًا، يؤمن أنه مات لأجلنا وقام أيضًا؛ لذلك أبذر الإيمان عندما أزرعه في قبر السيّد.

    أتريد أن تعرف المسيح البذرة؟ المسيح المزروع؟ "إن لم تقع حَبّة الحنطة في الأرض وتمُت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير" (يو 12: 24)...

    لا تحتقر حَبّة الخردل هذه فإنها "وهي أصغر جميع البذور ولكن متى نَمَت فهي أكبر البقول وتصير شجرة" [32]. إن كان المسيح هو حَبّة الخردل، ففي أي شيء هو أصغر البذار؟ وكيف ينمو؟ بالحق إنه لا ينمو في طبيعته، وإنما في الخارج (الجسد)! أتريد أن تراه أصغر الجميع؟ نراه، "لا صورة له ولا جمال" (إش 53: 2)، انظر إليه فتجده أكبر الكل "أنت أبرع جمالاً من بنيّ البشر" (مز 45: 3). فمن لا جمال له ولا صورة يصير أبرع جمالاً من الملائكة وفوق مجد الأنبياء!...

    المسيح هو بذرة، لأنه من نسل إبراهيم: "وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله، لا يقول وفي الأنسال كأنه عن كثيرين، بل كأنه عن واحد، وفي نسلك الذي هو المسيح" (غل 3: 16). إنه ليس في حكمة هذا العالم، لكن فجأة كشف عن شجرة السمو المرتفع لقدرته، حتى نقول: "تحت ظلِّه اشتهيتُ أن أجلس" (نش 2: 3)... هناك تستريح الملائكة والقوّات السماويّة والذين يستحقّون أعمال الروح أن يطيروا إليه. هناك استراح يوحنا عندما اتكأ على صدر يسوع (يو 13: 25؛ 21: 20).

    ومن ساق الشجرة تخرج أغصانًا؛ فبطرس غصن وأيضًا بولس مثله، إذ "يَنسى ما هو وراء ويمتدّ إلى ما هو قدّام" (في 3: 13)... هذا الذي يحدّثنا معلّما إيّانا نحن الذين كنّا قبلاً بعيدين (أف 2: 13)، فاجتمعنا من الأمم، نحن الذين كنّا في ارتباكات روح الشرّ وهموم هذا العالم وقد أُلقينا خارجًا في زمانًا طويلاً، والآن قد صار لنا أجنحة القداسة، مسرعين بالطيران لكي نحتمي في ظلال القدّيسين من حرّ هذا العالم، فنسكن بسعادة في سلام هذا الميناء الأكيد، مادامت نفوسنا التي كانت قبلاً كالمرأة المذكورة في الإنجيل أنها مثقّلة بالخطايا وقد خلصت كالعصفور من فخ الصيّادين (مز 124: 7) وارتفعت على الجبال إلى أغصان الرب (مز 10: 1)].

    القدّيس أمبروسيوس
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 2:04 pm

    . مثل الخميرة

    بعد أن كشف السيّد المسيح عن الدور الإلهي في ملكوت السماوات، ومقاومة العدوّ له، وإمكانيّات الملكوت، يحدّثنا هنا عن دور الكنيسة العملي في إعلان ملكوت السماوات خلال حياة الشركة، قائلاً: "يشبه ملكوت السماوات خميرة أخذتها امرأة وخبّأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اِختمر الجميع" [33].

    لقد شبّه الكنيسة بامرأة تمسك بيديها خميرة تُخبِّئها في ثلاثة أكيال دقيق لتحوّلها إلى خبز تَقدمة للثالوث القدّوس. فإن الدقيق بدون يديّ هذه المرأة العاملة والحاملة للخميرة لا يصلح إلا أن يقدّم للحيوانات، لكنّه بالخميرة التي في يديّ المرأة يصير خبزًا مقدّسًا يُسر به الثالوث القدّوس. ما هي المرأة العاملة هنا؟ وما هي الخميرة؟ وما هي الثلاثة أكيال دقيق؟

    أولاً: إن كانت المرأة تمثِّل الكنيسة الأم، فإن رسالتها تتركّز في تقديم السيّد المسيح "الخميرة واهبة الحياة" للدقيق حتى يختمر، فيحمل سمات المسيح فيه. الخميرة في واقعها مأخوذة من الدقيق، لكنها تحمل "قوّة الاختمار"، إشارة إلى السيّد المسيح الذي أخذ جسده منّا، وصار كواحدٍ منّا، ليس بغريبٍ عنّا، لكنّه هو الحياة. أمّا كمّية الدقيق فثلاثة أكيال، وكما يقول القدّيس جيروم: [أن الكيلة وِحدة قياس في فلسطين تحوي حوالي 3 جالونات. على أي الأحوال كمّية الدقيق ثلاث أكيال لأنه يمثّل الوِحدة بين الروح والنفس والجسد، فالكنيسة إنّما تقدّم السيّد المسيح كسرّ تقديس للإنسان في كليَّته، روحًا ونفسًا وجسدًا.]

    ثانيًا: يرى القدّيس هيلاري أسقف بواتييه في المرأة المذكورة هنا المجمع اليهودي الذي حكم على السيّد المسيح "الخميرة" بالدفن، فقام السيّد واهبًا للدقيق اختمارًا أي "الحياة المقامة"، أمّا رقم ثلاثة هنا يُشير إلى الناموس والأنبياء والإنجيل، ففي المسيح يسوع ربّنا يظهر الثلاثة عجينًا واحدًا. غاية الناموس هو المسيح وهدف النبوّات هو الإعلان عنه. وأما الإنجيل فهو الكرازة بالمسيح يسوع. تظهر وحدة الكتاب المقدّس كلّه بنواميسه ونبوّاته وبشارته المفرحة. في التجلّي أراد بطرس أن يُقيم ثلاث مظال واحدة لموسى ممثلاً الناموس، وأخرى لإيليّا ممثلاً الأنبياء، والثالثة للسيّد المسيح ممثلاً الإنجيل، لكن الله لم يرسل ثلاث مظال، بل سحابة واحدة إشارة إلى هذه الوحدة في المسيح يسوع!

    رقم 3 يُشير أيضًا إلى الأمم والشعوب التي جاءت عن سام وحام ويافث، أولاد نوح الثلاثة... وكأن الكنيسة الأم تقدّم السيّد المسيح لهذه الشعوب المتفرِّقة فتختمر معًا في وحدة الروح والفكر، تحمل سمات المسيح الواحد!

    ثالثًا: يرى القدّيس أغسطينوس في هذا المثل صورة حيّة لملكوت السيّد المسيح بكونه ملكوت الحب الحيّ العامل في البشريّة، وذلك بدخول المحبّة "المسيح" في الحياة البشريّة لتقديسها لله [الخميرة تعني الحب، الذي يخلق ويلهب الغيرة والمرأة تعني الحكمة، والثلاثة أكيال طعام (دقيق) يعني إمّا الأمور الثلاثة في الإنسان (الخاصة بحب الله) "من كل القلب ومن كل النفس ومن كل الذهن" (مت 21: 37)، أو ثلاث درجات الإثمار: "مائة ضعف وستون وثلاثون" (مت 13: 8، 23)، أو الثلاث أنواع من الرجال: "نوح ودانيال وأيوب" (حز 14: 14).]

    رابعًا: يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم صورة فعّالة لملكوت السماوات، فإنه لا يمكن للدقيق أن يختمر ما لم تُدفن فيه الخميرة أو تحبس في داخله. لم يقل السيّد أن المرأة وضعت الخميرة في الدقيق، بل "خبّأتها"، هكذا إن لم يلتقِ بمضايقيه محتملاً الأتعاب بفرح لا تتحوّل حياة المضايقين إلى الاختمار. وكما يقول القدّيس: [عندما تكونون واحدًا مع من يهاجمكم وتمتزجون معهم تغلبونهم (بالحب والإيمان). وكما أن الخميرة المختفية في عجين لا تهلك، بل بالأحرى تُغيّر طبيعة العجين، هكذا أيضًا في الكرازة بالإنجيل. لذلك لا تخافوا عندما أُخبركم عن الضيقات أنها قادمة، لأن نوركم لا يقدر أحد أن يُطفئه، إنّما يغلب كل البشر.]

    7. تفسير مثل الزوان

    "حينئذ صرف يسوع الجموع وجاء إلى البيت،

    فتقدّم إليه تلاميذه قائلين: فسِّر لنا مثل زوان الحقل" [36].

    لقد صرف السيّد الجموع وجاء إلى البيت لكي يدخل بتلاميذه إلى كنيسته السماويّة ويختلي بهم، معلنًا لهم أسرار الملكوت، لكنّه لم يقدّم التفسير إلا بعد أن تقدّموا يسألونه. فإنه لا يهب أسراره الإلهيّة ونِعمه المجّانيّة السماويّة للمتهاونين. حقًا في الأمور الأرضيّة يهب الجميع حتى الأشرار دون أن يسألوه، إذ "يُشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويُمطر على الأبرار والظالمين" (مت 5: 45). أمّا النِعم الروحيّة والأمجاد السماويّة بالرغم من وعده "قد أُعطى لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات" [11] لكنّه يطلب منهم السؤال المستمر علامة الشوق الحقيقي والمثابرة على نوال النعم. الله يعطي ويمنع ليس عن محاباة، إنّما قدومًا يفتح الإنسان فمه ليملأه؛ أمّا إن أغلق فمه أمامه وأعطاه القفا لا الوجه فلا يلتزم الله بالعطاء، بل يمتنع، لأن الإنسان قد حرَّم نفسه بنفسه من العطايا بل ومن واهبها.

    v إن تقدّم أحد وكان غيورًا، فالله من جانبه يعطيه كل شيء، أمّا من لم ينشغل بهذه الأمور ولا يساهم بشيء من جانبه فلن تمنح له عطايا الله.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    "حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" [43].

    يقول القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص: [إذ يترك الإنسان (محبّة) هذا العالم المظلم يصبح نقيًا طاهرًا بعمل الروح وبالتصاقه بالنقاء الحقيقي... فتشع النفس ضوءًا وتصير هي نفسها نورًا كوعد الرب.]

    ويقول القدّيس أمبروسيوس: [أليس بصالحٍ ذاك الذي رفع الأرض إلى السماء، وعكس مجده في السماء كما على مجموعات بهيّة من الكواكب... فجعل طغمات الرسل والشهداء والكهنة يُضيئون مثل كواكب مجيدة تنير العالم!]

    8. مثل الكنز المُخفى

    "أيضًا يشبِه ملكوت السماوات كنزًا مُخفَى في حقل،

    وجده إنسان فأخفاه،

    ومن فرحه مضى وباع كل ما كان له واشترى ذلك الحقل" [44].

    في المثَل السابق قدّم لنا السيّد المسيح صورة حيّة عن دور الكنيسة بكونها المرأة المقدّسة، التي تقدّم شخص السيّد المسيح كسرّ الملكوت الحقيقي لكل إنسان، حتى يختمر العجين كله، ويحمل الكل شركة طبيعة المخلّص. هنا يقدّم لنا في مثَل الكنز المُخفى صورة لدور المؤمن بالجهاد المستمر لاكتشاف المسيح "الكنز المُخفى في الحقل".

    ما هو هذا الحقل إلا الكتاب المقدّس بعهديه الذي يحوي في داخله سرّ المسيح ككنز مُخفى لا يتمتّع به غير المثابرين بالحفر المستمر في الكتاب؟ لهذا يليق بالمؤمن أن يبيع كل شيء ليقتني هذا الحقل الحاوي للكنز، لينعم بالكنز ويخفيه في قلبه كما تَخفي الكنيسة مسيحها وسط البشريّة. حقًا لا يستطيع أحد أن يحمل الكتاب المقدّس في قلبه ويتفاعل معه لما لم يبع من قلبه كل شيء ليتفرّغ لكلمة الله بهدف الالتقاء مع الكلمة الإلهي المتجسّد! فما كان يمكن ليوسف أن يتسلّم مخازن مصر ما لم يترك ثوبه في يديّ سيّدته المصريّة ويهرب عاريًا، وهكذا لا يمكن ليوسفنا الداخلي أن يتفهّم كلمة الله، وينعم بمخازن المعرفة الروحيّة، ما لم يترك ثوبه في يديّ العالم، وينطلق عاريًا متقبلاً السجن من أجل المسيح، ويرتفع إلى حيث الغِنى الحقيقي، لا ليَشبع بمفرده من خيرات المعرفة، وإنما يفتح يديه ليهبنا بغنى معرفة المسيح الفائقة.

    v حقًا إن الحقل كما يبدو لي حسب ما جاء هنا هو الكتاب المقدّس الذي فيه زُرع ما هو ظاهر من كلمات من التاريخ والناموس والأنبياء وبقيّة الأفكار؛ فإنها عظيمة ومتنوّعة هي نباتات الكلمات التي في كل الكتاب! أمّا الكنز المُخفى في الحقل فهو الأفكار المختومة والمُخفية وراء الأمور المنظورة، الحكمة المَخفيّة في سِرّ، المسيح "المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (1 كو 2: 3).

    قد يقول آخر أن الحقل هو مسيح الله الذي بالحقيقة مملوء... أمّا الكنز المُخفى فيه فهو الأمور التي قال عنها بولس أنها مخفيّة في المسيح: "المذخَّر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم"، الأمور السماويّة. لذلك حتى ملكوت السماوات كُتب في الكتب المقدّسة كما في رمز!

    العلاّمة أوريجينوس

    يرى الأب غريغوريوس (الكبير) أن الكنز المُخفى هو إرادة المؤمن المقدّسة ونيّته الصالحة الخفيّة، التي لا يراها إلا الله نفسه ليكافئنا عليها، فالمؤمن إذ يتقدّس بالروح القدس يحمل إرادة المسيح فيه وفكر المسيح الخفي. هذا هو كنزه غير المنظور الذي يراه الآب فينا، فيُسر ويبتهج بنا. يقول الأب غريغوريوس: [الكنز الذي وُجد أُخفي لكي يُحفظ... فإنّنا في الحياة الحاضرة نسلك كمن يتقدّمون في الطريق الذي يقودنا إلى وطننا. وفي الطريق يوجد أعداء خبثاء يهاجموننا كلصوص، لهذا من يحمل كنزًا بصورة علنيّة في طريقة يتعرّض للسطو عليه. أقول هذا لا بمعنى لا يرى قريبنا أعمالنا، إذ هو مكتوب: "لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات" (مت 5: 16)، وإنما لكي لا نطلب مديحًا عمّا نفعله أمام الآخرين. يلزم أن تتم أعمالنا الظاهرة بطريقة تبقَى فيها النيّة خفيّة. بهذا تصير أعمالنا مثلاً لقريبنا، بينما نيّتنا التي يُسر الله بها تَبقى غير معروفة. الكنز الذي عليه تقوم الرغبات السماويّة، والحقل الذي فيه يُخفى هذا الكنز يُشير إلى السلوك (الداخلي)، خلاله نبلغ هذه الرغبات. هذا الحقل يشتريه من يبيع كل ما لديه، مستهينًا بملذّات الجسد، وضابطًا الاشتياقات الأرضيّة، وحافظًا التعاليم الإلهيّة، فلا يبتهج في شيء ممّا يُبهج الجسد، ولا تَحجم نفسه عن ممارسة ما يُميت الحياة الجسدانيّة.]

    9. مثل اللؤلؤة الكثيرة الثمن

    "أيضًا يُشبه ملكوت السماوات إنسانًا تاجرًا يطلب لآلئ حسنة.

    فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن

    مضى وباع كل ما كان له واشتراها" [45-46].

    بعد أن كشف السيّد عن جهادنا المستمر خلال كلمة الله لمعرفة السيّد المسيح عن قرب واِحتضانه فينا، فنُخفيه في قلوبنا، يقدّم لنا هنا تكلفة الملكوت، فإنه لا يستطيع أحد أن يقتني السيّد المسيح، اللؤلؤة الكثيرة الثمن، ما لم يبِع كل ما له من القلب ليتربَّع وحده فيه.

    طالب القدّيس جيروم فيوريا Furia ألا تقرأ الكتب غير النافعة، وإنما تبيعها جميعًا لتقتني "اللؤلؤة الكثيرة الثمن" خلال الكتاب المقدّس وكتابات الآباء، قائلاً: [بعد قراءة الكتب المقدّسة اِقرأي كتب المتعلّمين المشهود لإيمانهم. يلزمك ألا تذهبي إلى الوحل لتبحثي عن الذهب. لديكِ جواهر كثيرة، فلِتشتريِ بها اللؤلؤة الواحدة.] حقًا يليق بالمؤمن ليس فقط أن يتخلّى عن الكتب الرخيصة تمامًا، معطيًا المجال لكلمة الله أن تُعلن المسيح متجلِّيًا في حياته، وإنما حتى في الكتب الأخرى يلزم ألا تشغله عن إيمانه! لقد كان القدّيس إكليمنضس السكندري فيلسوفًا ولم يخلع ثوب الفلاسفة حتى بعد استلامه مدرسة الإسكندرية المسيحيّة، لكن الفلسفة لم تكون عائقًا له عن إيمانه، إنّما رآها طريقًا يُعلن خلاله عن الإيمان بين الفلاسفة. فالبيع ليس عمليّة حرفيّة مظهريّة، لكنها انسحاب القلب نحو الله لاقتناء الملكوت السماوي كسرّ حياتنا. كثيرون لا يقرأون إلا الكتاب المقدّس والكتب الدينيّة لكن قلوبهم لا تلتقي مع "المسيح"، بينما آخرون يرونه في كل حياتهم وقراءاتهم.

    يتحدّث العلاّمة أوريجينوس عن هذه اللؤلؤة الكثيرة الثمن هكذا:

    [أي شيء تطلب؟ أجسر فأقول اللؤلؤة التي من أجلها يترك الإنسان كل ما يمتلك ويحسبه نفاية: "أحسب (كل الأشياء) نفاية لكي أربح المسيح" (في 3: 18)، قاصدًا بكل الأشياء اللآلئ الصالحة، حتى أربح المسيح، اللؤلؤة الواحدة كثيرة الثمن.

    ثمين هو السراج للإنسان أثناء الظلمة، فهناك حاجة إليه حتى تُشرق الشمس! وثمين هو مجد وجه موسى والأنبياء أيضًا، فهو كما أظن يمثّل رؤيا جميلة، خلالها دخلنا لكي نرى مجد المسيح، الذي يشهد عنه الآب قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت 3: 17). لكن "المُمجّد لم يمجَّد من هذا القبيل بسبب المجد الفائق" (2 كو 3: 10)؛ ونحن في حاجة أولاً إلى المجد الذي يزول حتى نبلغ المجد الفائق؛ وفي حاجة إلى المعرفة الجُزئيّة التي تزول حين تأتي المعرفة الكاملة (1 كو 13: 9-10).

    إذًا كل نفسٍ تأتي أولاً إلى الطفولة، وتنمو حتى تبلغ كمال الزمان؛ تحتاج إلى معلّمين ومرشدين وأوصياء، وفي وجود هؤلاء تبدو أنها لا تختلف عن العبد مع أنها صاحبة الجميع (غل 4: 1-2). أنها إذ تتحرّر من المعلّمين والمرشدين والأوصياء تبلغ سن الرشد، فتنعم باللؤلؤة كثيرة الثمن والكاملة، وببلوغها يزول ما هو جزئي، عندما يقدر الإنسان أن يبلغ إلى "فضل معرفة المسيح" (في 3: انجيل متى Icon_cool بعد أن كانت تتدرّب على أشكال المعرفة هذه التي تفوقها معرفة المسيح.]

    ويتحدّث الأب غريغوريوس (الكبير) عن اللؤلؤة الكثيرة الثمن قائلاً: [من يطلب معرفة الحياة السماويّة بطريقة كاملة قدر المستطاع فإنه يهجر كل ما أحبّه سابقًا، وهو في سعادة فائقة! فإن قورنت تلك العذوبة التي صارت له لا يجد لشيء ما قيمة، فتتخلَّى نفسه عن كل ما اقتنته، وتبدِّد كل ما قد جمعته. وإذ تلتهب بحب السماويات لا تبالي بأمرٍ أرضي، فيبدو لها ما كانت تظنّه جميلاً بالأمر القبيح. إذ يشرق فيها سمو اللؤلؤة التي لا تقدَّر بثمن وحدها. عن هذا الحب يقول سليمان "المحبّة قويّة كالموت" (نش 1: 6)؛ فكما يَحرم الموت الجسد من الحياة، هكذا تقتِل محبّة الأبديّات محبّة الزمنيّات. فمن ينال هذا الحب بالكمال يصير كمن هو بلا إحساس نحو الممتلكات الأرضيّة.]

    ويرى القدّيس جيروم أن اللآلئ التي يبيعها الإنسان إنّما هي الطرق المتعدّدة التي تتركها لندخل الطريق الواحد الذي هو المسيح. لقد سبق فأعلن إرميا النبي: "قفوا على الطرق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة: أين هو الطريق الصالح، وسيروا فيه فتجدوا راحة لنفوسكم" (إر 6: 16)، هكذا خلال الآباء والأنبياء نبلغ إلى السيّد المسيح الطريق الصالح، الذي فيه وحده تجد النفس راحتها الأبديّة. وكما يقول القدّيس جيروم: [خلال الطرق الكثيرة نجد الطريق الواحد.] كما يقول: [ماذا نفهم باللآلئ الكثيرة والطرق الكثيرة، والدروب الكثيرة، لكي نقتني اللؤلؤة الواحدة والطريق الواحد والدرب الواحد؟ إبراهيم واسحق ويعقوب، موسى ويشوع بن نون وإشعياء وإرميا وحزقيال والإثناء عشر نبيًا، هؤلاء هم الدُروب، التي ندخلها أولاً لنصل إلى الأخيرة درب الأناجيل، فنجد هناك المسيح.]

    10. مثل الشبكة المطروحة

    "أيضًا يُشبه ملكوت السماوات شبكة مطروحة في البحر، وجامعة من كل نوع.

    فلما امتلأت أصعدوها على الشاطئ،

    وجلسوا وجمعوا الجياد إلى أوعِية،

    وأما الأردياء فطروحها خارجًا.

    هكذا يكون في انقضاء العالم،

    يخرج الملائكة ويَفرزون الأشرار من بين الأبرار.

    ويطرحونهم في أتون النار.

    هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" [47-50].

    يقدّم لنا السيّد المسيح في هذا المثل سِمة جوهريّة لملكوت السماوات، هي "الحياة الديناميكيّة"، أي استمراريّة العمل بغير توقّف. فإن ملكوت السماوات يشبه شبكة مطروحة في العالم كما في بحر متلاطم الأمواج تجمع من كل نوع، لا تُرفع إلى الشاطئ إلا بعد امتلائها بكل المختارين [48].

    ما هي هذه الشبكة إلا شخص السيّد المسيح نفسه، الذي ألقى بنفسه في العالم خلال إنسانيّتنا لكي يجتذب كل نفس إليه؟ وإذ تجتمع فيه الكنيسة كلها جسده المقدّس، ويضم من كل الأمم والألسنة أعضاء له مقدّسين في حقّه، يرتفع بهم عن العالم إلى سمواته ينعمون به. حقًا يتسلّل إلى الشبكة بعض الأردياء الذين يحملون اسم المسيح، وينعمون بالعضويّة الكنسيّة الروحيّة، لكنهم إذ لا يثبتون في المسيح يُطردون خارجًا.

    ويمكننا أيضًا أن نفهم الشبكة بكونها الكنيسة "جسد المسيح"، هذه التي تنزل في العالم لتخدمه وتضم السمك فيها، أي المؤمنين. ولكن إن تسلّل إليها سمك رديء، ففي انقضاء الدهر يُفرز ويُطرد عن الكنيسة المرتفعة إلى السماوات. إنه يسمح لهم بالدخول إلى الكنيسة، لعلّهم بالتوبة يصيرون سمكًا جيدًا، لكن يأتي وقت يُنزعون عنها. إنهم كالزوان الذي تركه السيّد مع الحنطة، ولم يسمح باقتلاعه حتى وقت الحصاد [29]. وقد سبق لنا في أكثر من موضع أن رأينا الكنيسة الأولى تتطلّع إلى المؤمنين كسمكٍ صغير، يتمثل بالسيّد المسيح السمكة الكبيرة.

    والشبكة أيضًا تُشير إلى الكتاب المقدّس الذي يأسِر النفس البشريّة ويصطادها من وسط العالم، لكي يدخل بها إلى ملكوت السماوات. يقول العلاّمة أوريجينوس: [ملكوت السماوات يُشبه شبكة من نسيج متنوِّع، إشارة إلى الكتاب المقدّس: العهد القديم والعهد الجديد. إنه منسوج من أفكار من كل نوع، فهو متنوِّع تمامًا. أمّا بخصوص السمك الذي سقط في الشبكة، فبعضه في جانب، والآخر في جانب آخر، لكن الكل مجتمع في الموضع الذي فيه تمّ الاِصطياد (أي في الشبكة الواحدة). دخل البعض شبكة الكتاب المقدّس خلال الجانب النبوي، مثل إشعياء أو إرميا أو دانيال. والبعض الآخر دخل خلال شبكة الإنجيل. والبعض خلال شبكة الكتابات الرسوليّة. فعندما يؤسَر إنسان بواسطة الكلمة يبدو كمن هو أسير يأخذ موضعًا معينًا في الشبكة الكلّيّة.]

    يشرح الأب غريغوريوس (الكبير) هذا المثل قائلاً: [تُقارن الكنيسة المقدّسة بشبكة، إذ هي أيضًا سُلِّمت إلى صيّادين، وبواسطتها نحن سُحبنا من أمواج هذا العالم وأُحضرنا إلى المملكة السماويّة، لكي لا تبتلعنا أعماق الموت الأبدي. لقد ضمَّت كل أنواع السمك، إذ تقدّم مغفرة الخطيّة للحكماء والجهلاء، للأحرار والعبيد، للأغنياء والفقراء، للأقوياء والضعفاء. لهذا يقول المرتّل لله: "إليك يأتي كل جسد" (مز 65: 3). ستمتلئ هذه الشبكة تمامًا عندما تحتضن كل الجنس البشري، ويجلس الصيادون بجوارها على الشاطئ. إن كان الزمن يُشار إليه بالبحر، فإن الشاطئ يُشير إلى نهاية الزمن، حيث يُفصل السمك الجيد ويحفظ، بينما يُطرح الرديء خارجًا، إذ يسلَّم الجيِّد للراحة الأبديّة. أمّا الأشرار، فإنهم إذ فقدوا نور الملكوت الداخلي يُطردون إلى الظلمة الخارجيّة. حاليًا نحن هنا نختلط معًا، يختلط الصالحون مع الأشرار، كالسمك في الشبكة، لكن الشاطئ سيُخبرنا عمّا كان في الشبكة، أي في الكنيسة المقدّسة. إذ يُحضَر السمك إلى الشاطئ، لا تصير له فرصة التغيّر، أمّا الآن ونحن في الشبكة، فيمكننا إن كنّا أشرّارًا أن نتغيّر ونصير صالحين. إذن لنفكِّر حسنًا يا إخوة، إذ لا يزال الصيد قائمًا، لئلاّ يحتقرنا الشاطئ فيما بعد.]

    11. الكاتب المتعلّم

    "فقال لهم يسوع: أفهمتم هذا كله؟

    فقالوا: نعم يا سيّد.

    فقال لهم: من أجل ذلك كل كاتب مُتعلِّم في ملكوت السماوات

    يشبه رجلاً رب بيت يُخرج من كنزه جددًا وعُتَقاء.

    ولما أكمل يسوع هذه الأمثال انتقل من هناك" [51-53].

    أراد السيّد أن يُقارن بين كتبة اليهود الحَرفيّين الجامدين وبين كتبة ملكوت السماوات. حقًا لقد كان كتبة اليهود حريصين على نَسخ الكتاب المقدّس على الورق وهم متطهِّرون. إنهم يطهِّرون أقلامهم كلما أرادوا كتابة اسم الله، ويراجعون كل سطر بدقّة، لئلا يكونوا قد نسوا أو أضافوا شيئًا. لكنهم إذ توقَّفوا عند هذا الحدّ حوّلوا كلمة الله إلى كلمة مكتوبة جامدة، بسبب جمود قلوبهم وحرفيّة أفكارهم. أمّا من يدخل ملكوت السماوات، فيحمل مسيحه في قلبه، يحمل "الكنز الحقيقي" الذي يجعل منه "رب البيت"، فيُقيمه سيِّدًا بعد أن كان عبدًا للحرف. إنه ملك يحمل في قلبه ملك الملوك، لا تُأسره الحروف، ولا يقتِله الجمود. بالسيّد المسيح الكنز الداخلي يتمتّع الكاتب الحقيقي بالجُدد والعُتقاء، أي يتمتّع بأسرار الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد كأسرار حيّة عاملة بلا توقف.

    الكاتب الجديد ينقش بقلم الروح القدس الساكن فيه كلمة الله القديمة الجديدة، فهي كلمة قديمة لكنها جديدة على الدوام، عاملة فينا لتجديدنا.

    v يليق بنا أن نجاهد بكل طريقة أن نجمع في قلوبنا "نعكف على القراءة والوعظ والتعليم" (1 تي 4: 13)، وأن "نلهج في ناموس الرب نهارًا وليلاً" (مز 1: 2)، ليس فقط خلال الأقوال الجديدة التي للأناجيل والرسل وإعلانهم، وإنما أيضًا الأقوال القديمة للناموس التي هي "ظل الخيرات العتيدة" (عب 10: 1)، وللأنبياء الذين تنبَّأوا في اتِّفاق معًا. لنجمع هذه جميعًا معًا عندما نقرأها ونتعرّف عليها ونتذكّرها، مقارنين الروحيّات بالروحيّات... حتى بفم شاهدين (سفرين) أو ثلاثة شهود (ثلاثة أسفار) من الكتاب المقدّس تثبت كل كلمة الله...

    الرجل رب البيت ربّما هو يسوع نفسه الذي يُخرج من كنزه الجدد... أي الأمور الروحيّة التي تتجدّد دائمًا بواسطته العاملة في الإنسان الداخلي للأبرار الذين يتجدّدون على الدوام. كل يوم فيوم (2 كو 4: 16). ويُخرج أيضًا العتقاء، أي الأمور المنقوشة على حجارة (2 كو 3: 7) أي على القلوب الحجريّة للإنسان القديم، حتى أنه بمقارنة الحرف بإعلان الروح يتشبّه الكاتب بمعمله ويتمثّل به...

    ويُفهم أيضًا يسوع كربّ البيت بصورة أبسط، إذ يُخرج من كنزه جددًا أي التعليم الإنجيلي، وعتقاء أي الأقوال المأخوذة من الناموس والأنبياء لتجد لها موضعًا في الأناجيل.

    بخصوص الجدد والعتقاء لنصغ أيضًا إلى الناموس الروحي القائل في اللاويين: "فتأكلون العتيق المُعتّق وتخرجون العتيق من وجه الجديد، وأجعل مسكني في وسطكم" (لا 26: 10-11). بالبركة نأكل العتيق أي الكلمة النبويّة، والعتيق المعتق أي كلمات الناموس، وعندما يأتي الجديد أي الكلمات الإنجيليّة، أي نعيش حسب الإنجيل، فتخرج الأمور العتيقة التي للحرف من وجه الجديد، ويجعل خيمته فينا، محقّقًا الوعد الذي نطق به: "أجعل مسكني في وسطكم".

    العلاّمة أوريجينوس

    يقدّم الأب غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا رمزيًا لمفهوم الجُدد والعُتقاء، فيرى في الانجذاب نحو السماويات جُددًا، والرعب من عذابات جهنّم عتقاء... إذ يقول: [الكارز المتعلّم في كنيستنا هو ذاك الذي يستطيع أن ينطق بالأمور الجديدة الخاصة بمباهج ملكوت السماوات، وأيضًا يستدعي الأمور القديمة الخاصة برعب العقوبة، فإن الأخيرة تقدر على الأقل أن ترهب من لم تجتذبهم المكافأة. ليت كل إنسان إذن يصغي بحرص إلى الأمور الخاصة بالملكوت.]

    12. موقف أهل وطنه

    دخل التلاميذ مع السيّد إلى البيت وتقدّموا إليه يسألونه، فنالوا أسرار معرفته التي تنطلق بهم إلى "ملكوت السماوات". أمّا الذين بقوا في الخارج، فكانوا يسمعونه، ويرون أعماله العجيبة فيتعثّرون فيه، إذ يقول الإنجيلي: "يهتمّوا وقالوا: من أين لهذا هذه الحكمة والقوّات؟ أليس هذا هو ابن النجّار؟ أليست أمه تدعى مريم وإخوته يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا؟ أو ليست أخواته جميعهنّ عندنا؟! فمن أين لهذا هذه كلها؟ فكانوا يتعثّرون فيه" [54-57].

    النفس التي لا تهتم بخلاصها تتعثّر حتى في السيّد المسيح. حقًا قد تُبهَر بكلماته، لكنها لا تتقبّلها كسِرّ خلاصها وحياتها. ترى قوّاته، فعِوض تسليم ذاتها بين يديه ليعمل فيها بسلطانه لإقامتها. تقف متفرِّجة. تتساءل عن أمور خارج حياتها وأبديّتها، مثل هذه النفس تُعطِّل عمل الله لعدم إيمانها.

    أما ما يُحزن القلب فإن الذين حُرموا من عمل السيد المسيح متعثّرين فيه هم أهل وطنه، إذ يقول الإنجيلي: "وأما يسوع فقال لهم: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته. ولم يصنع هناك قوّات كثيرة لعدم إيمانهم" [57-58].


    1 في ذلك اليوم خرج يسوع من البيت و جلس عند البحر
    2 فاجتمع اليه جموع كثيرة حتى انه دخل السفينة و جلس و الجمع كله وقف على الشاطئ
    3 فكلمهم كثيرا بامثال قائلا هوذا الزارع قد خرج ليزرع
    4 و فيما هو يزرع سقط بعض على الطريق فجاءت الطيور و اكلته
    5 و سقط اخر على الاماكن المحجرة حيث لم تكن له تربة كثيرة فنبت حالا اذ لم يكن له عمق ارض
    6 و لكن لما اشرقت الشمس احترق و اذ لم يكن له اصل جف
    7 و سقط اخر على الشوك فطلع الشوك و خنقه
    8 و سقط اخر على الارض الجيدة فاعطى ثمرا بعض مئة و اخر ستين و اخر ثلاثين
    9 من له اذنان للسمع فليسمع
    10 فتقدم التلاميذ و قالوا له لماذا تكلمهم بامثال
    11 فاجاب و قال لهم لانه قد اعطي لكم ان تعرفوا اسرار ملكوت السماوات و اما لاولئك فلم يعط
    12 فان من له سيعطى و يزاد و اما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه
    13 من اجل هذا اكلمهم بامثال لانهم مبصرين لا يبصرون و سامعين لا يسمعون و لا يفهمون
    14 فقد تمت فيهم نبوة اشعياء القائلة تسمعون سمعا و لا تفهمون و مبصرين تبصرون و لا تنظرون
    15 لان قلب هذا الشعب قد غلظ و اذانهم قد ثقل سماعها و غمضوا عيونهم لئلا يبصروا بعيونهم و يسمعوا باذانهم و يفهموا بقلوبهم و يرجعوا فاشفيهم
    16 و لكن طوبى لعيونكم لانها تبصر و لاذانكم لانها تسمع
    17 فاني الحق اقول لكم ان انبياء و ابرارا كثيرين اشتهوا ان يروا ما انتم ترون و لم يروا و ان يسمعوا ما انتم تسمعون و لم يسمعوا
    18 فاسمعوا انتم مثل الزارع
    19 كل من يسمع كلمة الملكوت و لا يفهم فياتي الشرير و يخطف ما قد زرع في قلبه هذا هو المزروع على الطريق
    20 و المزروع على الاماكن المحجرة هو الذي يسمع الكلمة و حالا يقبلها بفرح
    21 و لكن ليس له اصل في ذاته بل هو الى حين فاذا حدث ضيق او اضطهاد من اجل الكلمة فحالا يعثر
    22 و المزروع بين الشوك هو الذي يسمع الكلمة و هم هذا العالم و غرور الغنى يخنقان الكلمة فيصير بلا ثمر
    23 و اما المزروع على الارض الجيدة فهو الذي يسمع الكلمة و يفهم و هو الذي ياتي بثمر فيصنع بعض مئة و اخر ستين و اخر ثلاثين
    24 قدم لهم مثلا اخر قائلا يشبه ملكوت السماوات انسانا زرع زرعا جيدا في حقله
    25 و فيما الناس نيام جاء عدوه و زرع زوانا في وسط الحنطة و مضى
    26 فلما طلع النبات و صنع ثمرا حينئذ ظهر الزوان ايضا
    27 فجاء عبيد رب البيت و قالوا له يا سيد اليس زرعا جيدا زرعت في حقلك فمن اين له زوان
    28 فقال لهم انسان عدو فعل هذا فقال له العبيد اتريد ان نذهب و نجمعه
    29 فقال لا لئلا تقلعوا الحنطة مع الزوان و انتم تجمعونه
    30 دعوهما ينميان كلاهما معا الى الحصاد و في وقت الحصاد اقول للحصادين اجمعوا اولا الزوان و احزموه حزما ليحرق و اما الحنطة فاجمعوها الى مخزني
    31 قدم لهم مثلا اخر قائلا يشبه ملكوت السماوات حبة خردل اخذها انسان و زرعها في حقله
    32 و هي اصغر جميع البزور و لكن متى نمت فهي اكبر البقول و تصير شجرة حتى ان طيور السماء تاتي و تتاوى في اغصانها
    33 قال لهم مثلا اخر يشبه ملكوت السماوات خميرة اخذتها امراة و خباتها في ثلاثة اكيال دقيق حتى اختمر الجميع
    34 هذا كله كلم به يسوع الجموع بامثال و بدون مثل لم يكن يكلمهم
    35 لكي يتم ما قيل بالنبي القائل سافتح بامثال فمي و انطق بمكتومات منذ تاسيس العالم
    36 حينئذ صرف يسوع الجموع و جاء الى البيت فتقدم اليه تلاميذه قائلين فسر لنا مثل زوان الحقل
    37 فاجاب و قال لهم الزارع الزرع الجيد هو ابن الانسان
    38 و الحقل هو العالم و الزرع الجيد هو بنو الملكوت و الزوان هو بنو الشرير
    39 و العدو الذي زرعه هو ابليس و الحصاد هو انقضاء العالم و الحصادون هم الملائكة
    40 فكما يجمع الزوان و يحرق بالنار هكذا يكون في انقضاء هذا العالم
    41 يرسل ابن الانسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر و فاعلي الاثم
    42 و يطرحونهم في اتون النار هناك يكون البكاء و صرير الاسنان
    43 حينئذ يضيء الابرار كالشمس في ملكوت ابيهم من له اذنان للسمع فليسمع
    44 ايضا يشبه ملكوت السماوات كنزا مخفى في حقل وجده انسان فاخفاه و من فرحه مضى و باع كل ما كان له و اشترى ذلك الحقل
    45 ايضا يشبه ملكوت السماوات انسانا تاجرا يطلب لالئ حسنة
    46 فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن مضى و باع كل ما كان له و اشتراها
    47 ايضا يشبه ملكوت السماوات شبكة مطروحة في البحر و جامعة من كل نوع
    48 فلما امتلات اصعدوها على الشاطئ و جلسوا و جمعوا الجياد الى اوعية و اما الاردياء فطرحوها خارجا
    49 هكذا يكون في انقضاء العالم يخرج الملائكة و يفرزون الاشرار من بين الابرار
    50 و يطرحونهم في اتون النار هناك يكون البكاء و صرير الاسنان
    51 قال لهم يسوع افهمتم هذا كله فقالوا نعم يا سيد
    52 فقال لهم من اجل ذلك كل كاتب متعلم في ملكوت السماوات يشبه رجلا رب بيت يخرج من كنزه جددا و عتقاء
    53 و لما اكمل يسوع هذه الامثال انتقل من هناك
    54 و لما جاء الى وطنه كان يعلمهم في مجمعهم حتى بهتوا و قالوا من اين لهذا هذه الحكمة و القوات
    55 اليس هذا ابن النجار اليست امه تدعى مريم و اخوته يعقوب و يوسي و سمعان و يهوذا
    56 اوليست اخواته جميعهن عندنا فمن اين لهذا هذه كلها
    57 فكانوا يعثرون به و اما يسوع فقال لهم ليس نبي بلا كرامة الا في وطنه و في بيته
    58 و لم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم ايمانهم
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 2:07 pm

    الأصحاح الرابع عشر

    الملكُ المشبَع

    يقدّم لنا الإنجيلي شخص السيّد المسيح بكونه الملك الذي يُشبع الروح والجسد، الذي يقوتنا روحيًا ونفسانيًا وجسديًا. وعلى العكس يقدّم لنا هيرودس الملك كإنسانٍ جائعٍ يسيطر عليه الخوف كفاقد السلام، والشهوة كفاقد الطهارة. أراد أن يُشبع قلب فتاة راقصة بمملكته كلها لكنّه فشل. إنه كجائعٍ لا يقدر أن يُشبع غيره!

    1. هيرودس الجائع 1-12.

    2. المسيح الجذّاب 13.

    3. المسيح المُشبع 14-21.

    4. المسيح واهب السلام 22-32.

    5. المسيح واهب الشفاء 33-36.

    1. هيرودس الجائع

    "في ذلك الوقت سمع هيرودس رئيس الربع خبر يسوع.

    فقال لغلمانه: هذا هو يوحنا المعمدان.

    قد قام من الأموات، ولذلك تُعمل به القوات" [1-2].

    كان هيرودس قد قتل القدّيس يوحنا المعمدان، الصوت المُرهِب، الذي أعلن الحق، مانعًا زواجه من هيروديّا امرأة أخيه فيلبس. فبحسب الشريعة لم يكن ممكنًا للإنسان أن يتزوّج امرأة أخيه (لا 18: 16) إلا إذا كان أخوه قد مات ولم تنجب له امرأته، عندئذ يتزوّجها الأخ ليس اشتياقًا إليها، وإنما ليُقيم لأخيه الميّت نسلاً. لقد كان خطأ هيرودس أنه أراد الزواج بامرأة أخيه الذي على ما يُظن كان حيًا.

    قتل هيرودس القدّيس يوحنا المعمدان ليكتم صوته، لكن الصوت لم يتوقّف، بل كان يزداد صراخًا في ذهن هيرودس. لهذا إذ سمع هيرودس عن يسوع المسيح فكَّر في الحال أنه يوحنا المعمدان قام من الأموات يصنع القوات. لقد قتل يوحنا لكي يهدِّئ ضميره، وتستريح نفسه فيه، لكن الخوف لم يفارقه. لقد كان هيرودس الملك جائعًا، ليس فيه سلام، بل خوف، لأن الخطيّة تفقد الإنسان شبعه الداخلي!

    يروي لنا الإنجيلي قصّة استشهاد القدّيس يوحنا المعمدان على يديّ هيرودس ليكشف خلال تفاصيلها عن جوع الملك هيرودس، إذ يقول: "فإن هيرودس كان قد أمسك يوحنا وأوْثقه، وطرحه في سجنٍ، من أجل هيروديّا امرأة فيلبس أخيه. لأن يوحنا كان يقول له: لا يحلّ لك أن تكون لك" [3-4].

    كان هيرودس صاحب السلطان يظن أنه قادر أن يكتم صوت الحق، ويحبسه بسجن يوحنا، مشتاقًا أن يقتله فيُبيد الصوت تمامًا، لكن الحبس كان يُزيد الصوت قوّة، والموت يختم على الصوت بختم الأبديّة، فصار موضوع كرازة الأجيال. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد سُمع صوت يوحنا بأكثر علوّ بعد هذه الأمور.] لقد حاول الشيطان يومًا أن يتخلَّص من كلمة الله بالصليب، فجاء الصليب ينقش بالحب الكلمة الإلهيّة على القلوب المحجرة ليُقيمها هيكلاً للرب. وتحالف اليهود مع الأمم ضدّ الكنيسة لإبادتها، وبقدر ما اضطهدوها كان صوت الله يُعلن بأكثر وضوح وسط العالم خلال الكنيسة!

    يرى العلاّمة أوريجينوس في سجن النبي وقتله إشارة إلى ما فعلته الأُمّة اليهوديّة، إذ أرادت أن تكتم النبوّات وظنّت أنها قادرة على منع تحقيقها بموت المسيّا، إذ يقول: [إنه قيّد الكلمة النبويّة وسجَنها ومنَعها من الاستمرار في إعلان الحق في حرّية كما كان سابقًا.]

    لقد أراد هيرودس قتله، لكنّه بسبب الخوف من الشعب توقَّف، ربّما إلى حين. بهذا استراح ولو مؤقَّتًا، وأقام حفلاً رسميًا، نعِم فيه بما يًشبع ذاته دون مُبكِّت. إذ يقول الإنجيلي: "ثم لما صار مولد هيرودس رقصت ابنة هيروديّا في الوسط، فسرَّت هيرودس. من ثم وعد بقسمٍ أنه مهما طلبت يعطيها" [6-7ٍ]. أقام هيرودس الجائع حفلاً يُشبع غروره وشهواته، وإذ رقصت ابنة هيروديّا، وسُرّ بها مشتهيًا أن يعطيها شيئًا يُشبعها! إن كانت هيروديّا تمثل الخطيّة التي يشتهيها هيرودس، فإن الخطيّة تلد خطيّة قادرة أن تأسِر قلبه الفارغ، مشتهيًا أن يقدّم كل حياته ثمنًا لرقصة واحدة! يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [كان أسيرًا بواسطة شهواته، حتى قدّم مملكته ثمنًا لرقصة"، كما يقول: "بينما كان يجب عليه أن يشكر الله إذ جاء به في مثل هذا اليوم إلى النور (يوم ميلاده) تجاسر بارتكاب هذه الأعمال الشرّيرة، وبينما كان ينبغي عليه أن يحرّر من هم في القيود إذ به يُضيف إلى القيود قتلاً.]

    في عيد ميلاد هيرودس قُتل القديس يوحنا المعمدان، فقد ظنّ أنه لا يستطيع أن ينعم بالحياة السعيدة ويُشبع شهوات جسده خلال حبّه لامرأة أخيه ورقصات ابنتها، إن لم يكتم أنفاس القدّيس يوحنا المعمدان. لكن يوحنا مات، وبقيَ صوته خالدًا إلى الأبد. ارتبط هيرودس بالشهوات الزمنيّة فزال مع الزمن، وارتبط يوحنا بالحق، فدخل إلى عدم الموت مع الحق نفسه. ونحن أيضًا إن أردنا أن ندخل إلى عدم الموت لنرتبط بيسوعنا "الحق الذي لا يموت"، فندخل معه وفيه إلى حضن أبيه حيث لا يمكن للموت أن يقترب إلينا!

    أيّامنا محدودة وزائلة إن ارتبطت بالأمور الزائلة من محبّة العالم وشهوات الجسد؛ وخالدة إن اختفت في ربّنا يسوع المسيح الذي لم يقدر الموت أن يُمسك به، ولا القبر أن يغلق عليه، ولا متاريس الجحيم أن تقف أمامه!

    يتساءل البعض: إن كان هيرودس قد أخطأ بوعده لابنة هيروديّا أن يعطيها ما تطلبه بقسم، فهل كان لهيرودس بعد أن طلبت رأس القدّيس يوحنا أن يحنث بوعده؟ يجيب القدّيس أمبروسيوس: [أحيانًا يكون الوفاء بالوعد بقسمٍ لا يتّفق مع الواجب، كما فعل هيرودس حين أقسم أن يُعطي ابنة هيروديّا ما تطلبه، وقد أدّى هذا إلى مقتل يوحنا حتى لا يحنث الملك بقسمه، وهكذا كان الحال مع يفتاح الذي قدّم ابنته ذبيحة، لأنها كانت أول من يقابله عندما رجع إلى بيته منتصرًا، وبهذا أوفى بقسمه... كان من الأفضل ألا يُعطي وعدًا بنذر، من أن يَفي بعهده بموت ابنته.] وكأنه من الخطأ أن يعدْ الإنسان بقسم، إذ يكون الإيفاء به أشرّ إن كان مخالفًا للوصيّة الإلهيّة.

    هذا عن هيرودس، ولكننا لا نتجاهل موقف يوحنا الذي كان يمكنه أن يتخلَّص من الموت بصمتِه، لكنّه فضّل الشهادة للحق مع موت الجسد عن التغاضي عن الحق، مع راحة الجسد وسلامته إلى حين. وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [كان يمكنه أن يصمت... لقد عرف تمامًا أنه سيموت إن وقفَ ضدّ الملك، لكنّه فضّل الفضيلة عن الطمأنينة، فأي شيء يليق بالقدّيس مثل الألم الذي يجلب مجدًا؟!]

    2. المسيح الجذّاب

    "فلما سمع يسوع انصرف من هناك في سفينة إلى موضع خلاء منفردًا،

    فسمع الجموع وتبعوه مشاه من المدن" [13].

    إذ سمع السيّد المسيح ما فعله هيرودس بالقدّيس يوحنا المعمدان انصرف إلى موضع خلاء، أي إلى البرّيّة، وكأنه يُعلن أنه منطلق إلى جماعة الأمم التي صارت برّيّة وقفرًا، ليُقيم منها فردوسًا له، بعد أن رفضته الأمة اليهوديّة، ممثّلة في شخص هيرودس قاتل يوحنا المعمدان.

    ومن جهة أخرى فإن انصراف السيّد في سفينة يؤكّد المبدأ الذي قدّمه للبشريّة وهو الهروب من الشرّ وعدم مقاومته. لقد ترك الموضع الذي فيه قَتل هيرودس يوحنا، كما سبق في طفولته فهرب مع أمه والقدّيس يوسف من وجه هيرودس الكبير، محقّقًا عمليًا ما أعلنه لتلاميذه حين دعاهم للخدمة، سائلاً إيّاهم أن يهربوا من مضايقيهم.

    v "متى طردوكم في هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى" (مت 10: 23). عندما تحل تجربة، إن كان ليس في استطاعتنا تجنُّبها يلزمنا أن نحتملها بشجاعة عظيمة وشهامة، أمّا إذا كان في استطاعتنا تجنُّبها ولم نفعل ذلك نحسب كمتهوِّرين.

    العلاّمة أوريجينوس

    لقد كان هيرودس يمثّل فاقد الحق، بل ومقاومه، يليق بنا أن نتركه باتّحادنا مع المسيح الحق لننطلق إلى سفينة الصليب، ونُحمل إلى موضع خلاء، فيه نلتقي مع الله نناجيه ويناجينا! ما أحوجنا أن نهرب من الأشرار ولا نقاومهم، خاصة المملوءين غضبًا، حتى لا نثير غضبهم، فيزدادون شرًا! لننصرف من روح الغضب كما من هيرودس القاتل، وبدخولنا إلى حياة الصلب (السفينة) ننطلق إلى الاتّحاد مع الله.

    انصراف السيّد لم يكن خوفًا بل حكمة كنائب عنّا، وبانصرافه وانطلاقه إلى موضع الخلاء ليلتقي مع أبيه المتَّحد معه، أدركت الجموع أنه مصدر الشبع، فجاءت إليه من المدن وتبعوه مشاة. الانطلاقة إلى البرّيّة الحقيقيّة والانفراد مع الله يجذب النفوس، وينمّي الخدمة لحساب ملكوت السماوات!

    3. المسيح المُشبع

    "فلما خرج يسوع أبصر جمعًا كثيرًا،

    فتحنّن عليهم، وشفَى مرضاهم" [14].

    إن كانت الجموع قد تركت المدن وخرجت مشاة لتلتقي مع السيّد المسيح المنصرف إلى موضع خلاء منفردًا، فالسيّد بدوره "خرج" إليهم ليلتقي بهم مقدّمًا مفهومًا جديدًا للخلوة والوحدة. أنها ليست عزلة عن البشريّة ولا انغلاقًا للقلب، بل هي انفتاح للقلب نحو الله والناس. تختلي النفس بالله، لا في انفراديّة متقوْقعة، وإنما هي تنفرد به لتحمل أمامه الكنيسة كلها، بل والعالم كلّه بالحب، لذا ينجذب الناس إليها وهي تخرج إليهم متحنّنة ومترفّقة، تشتهي شفاء كل نفس، إذ يقول: "تحنّن عليهم وشفَى مرضاهم".

    وقد لاحظ العلاّمة أوريجينوس أن السيّد قد تحنّن على المرضى وشفاهم قبل أن يقدّم لهم خبز البركة، إذ يقول: [لقد شفَى المرضى، حتى إذ يصيروا أصحّاء يشتركون في خبز البركة، ولكن ماداموا مرضى فلا يقدرون أن ينالوا خبز بركة يسوع.] لعلّ هذا يحمل رمزًا لالتزامنا بسرّ التوبة والاعتراف لأجل شفاء النفس من مرضها الروحي، قبل أن تدخل إلى مذبح الرب، وتتقبّل من يديّ السيّد، لا خبز بركة بل جسده المقدّس.

    أمضت الجماهير النهار كلّه مع السيّد تسمع صوته، وتتقبّل أعمال محبّته ورعايته. "ولما صار المساء، تقدّم إليه تلاميذه، قائلين: الموضع خلاء والوقت قد مضى، اصرف الجموع إلى القرى، ويبتاعوا لهم طعامًا" [15].

    لقد رأى التلاميذ بأعينهم أعمال السيّد العجيبة، ومع هذا عندما جاء المساء ارتبكوا طالبين صرف الجموع إلى القُرى لشراء طعام يكفيهم. حقًا كثيرًا ما نرتبك في أمور الخدمة والمخدومين بحسابات بشريّة، مع أن الرب الحالّ في وسطنا قادر أن يعطي ويهب فوق كل حدود الطبيعة. فإن كنّا في موضع قفر والوقت مساء، لكن الرب الحالّ فينا قادر أن يُشبع. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [بالرغم من أن الموضع قفر، إلا أن الذي يعول العالم موجود فيه. وإن كان الزمن قد أزفْ، لكن الذي لا يخضع للزمن يتحدّث معهم.]

    لقد ركّز الإنجيلي في عرضه لإشباع الجموع أن الوقت كان مساءً وأن الموضع قفر، ليقدّم لنا صورة للواقع الذي نعيشه الآن، فقد جاء السيّد المسيح إلى العالم كما في وقت الساعة الحادية عشر، وفي المساء. وكما يقول القدّيس يوحنا: "أنها الساعة الأخيرة" (1 يو 2: 18). فقد انتهت الأيام وجاء ملء الزمان حيث توقَّفت النبوّات مئات من السنوات، وصار العالم في حالة قفر روحي شديد، ليس لهم طعام يأكلونه، حتى يئس التلاميذ، وأرادوا صرف الجموع جائعين، لكن الرب الحالّ فيهم جاء ليقدّم لهم ذاته طعامًا جديدًا يُشبع النفوس الجائعة.

    نعود إلى المعجزة لنجد السيّد المسيح يجيب التلاميذ: "لا حاجة لهم أن يمضوا، أعطوهم أنتم ليأكلوا. فقالوا له: ليس عندنا ههنا إلا خمسة أرغفة وسمكتان. فقال: اِئْتوني بها إلى هنا" [16-18].

    لماذا طلب السيّد من التلاميذ أن يعطوا الجموع لتأكل؟

    أولاً: ربّما أراد السيّد في محبّته للتلاميذ الذين عاشوا معه زمانًا، وسمعوا كلماته ولمسوا أعماله الفائقة، أن يقوموا هم بهذا العمل. كان يشتاق أن يكون لهم الإيمان لإشباع الجماهير، خاصة وإن واهب البركة حالّ في وسطهم.

    ثانيًا: بسؤاله هذا أراد أن يكشف عن إمكانيّاتهم، لكي يضرموا مواهبهم، ويقدّموا ما لديهم مهما بدا قليل الشأن وعاجز عن الإشباع. فإن كان هو الذي يعول شعبه، لكنّه يطلب من الشعب أن يقدّم ما لديهم، حتى وإن كان ما لديهم هو سمكتين وخمس خبزات. إنه يطلب منّا ألا نبخل بالقليل الذي لدينا، إنّما نقدّمه فيَشبع به الكثيرين، ويفيض منه أكثر ممّا نقدّمه؛ يفيض اثنني عشر قُفّة مملوءة.

    ثالثًا: كان التلاميذ يُمثِّلون الكنيسة التي يستخدمها الله لإشباع أولاده، مهما بدت فقيرة ومحتاجة. الله هو الذي يُعطي، وهو الذي يُبارك، وهو الذي يُقدّس، لكنه يعمل خلال جسده المقدّس أي الكنيسة. على سبيل المثال، في سرّ المعموديّة تقدّم الكنيسة المياه والزيت والصليب مع الصلوات وكأنها سمكتان وخمس خبزات، يتقبّلها العريس ليهب طالبي العماد البنوّة لله والعضويّة في جسده المقدّس، وينعم عليهم بالإنسان الجديد الذي على صورته. وهكذا في كل الأسرار وفي كل الليتورجيّات يتقبّل الله من الكنيسة أمورًا بسيطة جدًا خلالها يهب عطاياه المجّانيّة التي لا تقدَّر.

    رابعًا: يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد أراد من تلاميذه أن يقدّموا له القليل لينالوا من يديه ما يقدّموه للشعب، فيشهدون بأيديهم عن عمل بركته.

    بين معجزتيّ إشباع الجموع

    يروي لنا الإنجيلي معجزتين لإشباع الجموع، واحدة هي التي بين أيدينا والأخرى وردت في الأصحاح الخامس عشر [32-33]. ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد المسيح الذي صنع معجزات بلا حصر، لم يُشبع الجموع إلا مرتين، قائلاً: [لم يفعل هذه المعجزة على الدوام، وإنما مرتين فقط لكي يتعلّموا ألا يكونوا عبيدًا لبطونهم، وإنما يلزمهم أن يلتصقوا دومًا بالروحيّات. هكذا نلتصق نحن أيضًا بالروحيّات فنطلب الخبز السماوي، وبهذا نطرد عنّا كل اهتمام زمني. إن كان هؤلاء قد تركوا بيوتهم ومدنهم وأقرباءهم، تركوا الكل وقطنوا في الخلاء، فإنه إذ ضغط عليهم الجوع لم يتراجعوا، هكذا يليق بنا نحن أيضًا أن نظهر ضبطًا للنفس (تركًا) بصورة أعظم لنقترب إلى مثل هذه المائدة، مهتمّين بالروحيّات، وحاسبين الأمور الملموسة أمورًا ثانوية بالنسبة لها.]

    حقًا لم يكرّر السيّد هذه المعجزة كثيرًا حتى لا يربط علاقتنا به خلال الأمور الجسديّة، ولكي لا نطلب في حياتنا معه أن يشبع احتياجاتنا الجسديّة بطريقة معجزيّة. لهذا رأيناه يترك تلاميذه الجائعين أن يقطفوا سنابل حنطة يوم السبت ويأكلون (مت 12: 1) دون أن يشبعهم بطريقة معجزيّة، بل وسمح لرسوله بولس أن يجتاز فترات جوع وعطش وعُري (2 كو11 : 22) ليشاركه آلامه، هذا الذي كان المرضى يأخذون الأقمطة من جسده المريض ليلمسوها فيُشفوا. إنه يريدنا أن نجري وراءه من أجل شخصه، لا من أجل العطايا الماديّة أو البركات الزمنيّة.

    لماذا لم يكتفي السيّد بمعجزة واحدة؟

    لقد أشبع الجموع مرتين، إنّما ليُعلن أنه جاء ليُشبع المؤمنين من الأصل اليهودي، كما الذين هم من أصل أممي. فالمعجزة التي بين أيدينا تُشير إلى اهتمامه باليهود، أمّا الأخرى (15: 32-38) فتُشير إلى اهتمامه بالأمم، يظهر ذلك خلال التفسير الرمزي لملامح وأحداث كل معجزة، منها:

    أولاً: المادة التي استخدمها السيّد هنا سمكتان وخمس خبزات، أمّا في المعجزة التالية فاستخدم سبع خبزات وقليل من صغار السمك (مت 15: 34). فإن كان الطعام المُشبع هو شخص المسيح نفسه، فقد قدّم نفسه لليهود خلال الخمس خبزات أيضًا خلال أسفار موسى الخمسة التي تحوي الناموس الذي غايته المسيح (رو 10: 4). ويرى العلاّمة أوريجينوس أن الخمس خبزات تُشير إلى الحواس، فقد قدّم الله الكلمة نفسه لليهود بتجسّده كواحد منهم يمكنهم أن يلتقوا به خلال الحواس، ليتعرّفوا فيه على ما هو فوق الحواس. لقد رأوه وسمعوه ولمسوه وتذوّقوا حلاوته وتنسّموا رائحته الذكيّة، لكي يلتقوا به "ابن الله الوحيد الجنس" الذي يُشبع نفوسهم ويرويها!

    عِوض الخمس خبزات نجد في المعجزة التالية سبع خبزات، فإن الأمم لم ينعموا بأسفار موسى الخمس، ولا رأوا السيّد المسيح بالجسد في وسطهم يلمسونه خلال حواسهم الخمس، وإنما تمتّعوا به خلال الكرازة بالروح القدس الذي يُعلن إشعياء النبي عن عطاياه السبع: "روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح المعرفة ومخافة الرب" (إش 11: 2). الروح القدس هو الذي يقدّم للأمم "مسيحنا" المُشبع لنا.

    أما بالنسبة للسمك، ففي المعجزة الأولى استخدم الرب سمكتين، وهما كما يقول الآب مكسيموس أسقف تورينو من رجال القرن الخامس [أنهما يُشيران إلى العهد القديم وكرازة يوحنا المعمدان، فقد جاء يوحنا يكرز بوضوح عن المسيّا مشيرًا إليه، هذا الذي سبق فأعلن عنه العهد القديم بناموسه ونبوّاته وأحداثه كاشفًا عن شخصه وأعماله الخلاصيّة. أمّا بالنسبة لنا فأظن أن السمكتين اللتين تُشبعا جموع الكنيسة المقدّسة هما العهدان القديم والجديد، إذ ننعم بالسيّد المسيح خلالهما... أمّا بالنسبة للأمم فقدّم لهم شبعًا خلال قليل من صغار السمك، إذ ليس لهما العهد القديم ولا كرازة يوحنا المعمدان، إنّما قدّم الكرازة خلال التلاميذ البسطاء، القطيع الصغير. لقد أشبعهم هؤلاء الصغار بالمسيح موضوع كرازتهم.]

    ثانيًا: في المعجزة الأولى "فضَل من الكِسَر اثنتا عشر قُفّة مملوءة" [20]، أما في المعجزة التالية فقد "رفعوا ما فضل من الكِسَر سبعة سلال مملوءة" (مت 15: 26).

    إن كانت كنيسة العهد القديم قد أشير إليها برقم 12، حيث كان عدد أسباطها اثني عشر، فإن السيّد أشبع جميع الأسباط، حيث ملأ الكل بالروح القدس. وقد رفع التلاميذ هذه السلال، إشارة إلى رفع اليهود الذين قبلوا الإيمان بالمسيح عن الفكر المادي الأرضي، ليختبروا الحياة السماويّة، كقول الرسول بولس: "أجلسنا معه في السماويات".

    ويرى القدّيس جيروم أن الاثنتي عشرة قُفّة تُشير إلى الاثني عشر تلميذًا الذين احتلوا مركز الأسباط الاثتى عشر، إذ يقول: ]أطعم شعبه بخبزه وما تبقى جمعه في اثنتي عشرة قفة، أي في الاثني عشر رسولاً، حتى أن ما فُقد في الاثني عشر سبطًا يَخلُص في الاثني عشر رسولاً.]

    أما كنيسة الأمم المرفوعة بأيدي التلاميذ، فيُشار إليها بسبعة سلال، فقد أعلن سفر الرؤيا عنها أنها كنائس سبع (رؤ 1: 4، 20) يرمز إليها بسبع منائر، إشارة إلى عمل الروح فيها ليُنيرها ويجعلها نورًا للعالم.

    ثالثًا: في هذه المعجزة "أمر الجموع أن يتّكِئوا على العشب" [19]. بينما في المعجزة التالية "أمر الجموع أن يتّكِئوا على الأرض" (مت 15: 35). فإذ عاش اليهود زمانًا يتّكلون على الجسد مثل الختان والانتساب لإبراهيم والتطهيرات الجسديّة... ما كان يمكنهم أن ينعموا بالبركة الخاصة بالحياة الإنجيليّة، أو ما كان يمكنهم أن يقبلوا السيّد المسيح طعامًا روحيًا مشبعًا، ما لم يضعوا هذه الأمور تحتهم، أي يتّكئوا عليها، كما على العشب، لأن العشب يُشير إلى الجسد (إش 40: 6، رو 8: 6). ونحن أيضًا لا يمكننا أن نلتقي بالسيّد المسيح ولا نتقبّل عطيّة إلهيّة خلال التلاميذ أي الكنيسة، مادمنا نعيش حسب الجسد، لنُخضع الجسد لنفوسنا بالروح القدس ونتكئ عليه، فيكون خادمًا مطيعًا، يعمل في انسجام مع الروح، لا في مقاومة لها، عندئذ ننعم بالروحيّات.

    أما بالنسبة للأمم فقد اتّكأوا على الأرض، إذ صار الأمم كالأرض، عبدوا الآلهة الباطلة فصاروا باطلين. انحطَّت حياتهم وأفكارهم إلى الأرض، لذا لن ينعموا بالطعام السماوي، إن لم يتّكئوا على الأرض ليجعلوها تحتهم لا أن يُستعبدوا هم لها.

    رابعًا: في هذه المعجزة شبع نحو 5000 رجلاً ما عدا النساء والأطفال، وفي المعجزة التالية نحو 4000 رجلاً ما عدا النساء والأطفال. وقد سبق في دراستنا لسفر العدد أن رأينا في شيء من التوسُّع أن الله لم يحصِ النساء والأطفال إنّما الرجال وحدهم، ليس احتقارا للمرأة والطفل، وإنما رمزًا لرفض النفس المدلّلة كالمرأة وغير الناضجة كطفل. إنه يريد أن يكون كل مؤمن ناضجًا ومجاهدًا بالروح، يحارب الخطيّة لحساب مملكة النور. نكتفي هنا أن نقتطف عبارات من كلمات القدّيس أغسطينوس: [لم يشمل العدد الأطفال والنساء... فإن المدلّلين (المخنثين) الذين بلا فهم هم خارج العدد. لقد سُمِح لهم أن يأكلوا... ليأكل الأطفال لعلّهم ينمون فلا يعودوا بعد أطفالاً، وليأكل المدلّلون حتى يُصلح أمرهم ويتقدّسوا. إننا نوزِّع عليهم الطعام، وبسرورٍ نخدمهم.]

    أما من جهة الأرقام فإن المعجزة الأولى أشبعت 5000 رجلاً، إشارة إلى أسفار موسى الخمسة (5) وقد دخلت إلى مفهوم روحي سماوي (1000)، أي أشبعت الذين عاشوا في الناموس، لكنهم تحرّروا من الحرف، وانطلقوا إلى الروح أو الفكر السماوي. هذا ورقم 5000 يُشير إلى الإنسان المسيحي الذي يشبع من الطعام الروحي، إذ تتقدّس حواسه الخمس لتحمل طبيعة سماويّة (1000).

    أما في المعجزة الثانية فقد أشبع 4000 رجلاً إشارة إلى شبع العالم في جهاته الأربع، وقد حمل الطبيعة السماويّة (4× 1000). ويمكننا أن نلمس ذلك في حياتنا، إذ خلال الطعام الروحي يتقدّس جسدنا الترابي (رمزه رقم 4) ليحمل أيضًا فيه فكرًا سماويًا (1000).

    في اختصار نقول أن السيّد المسيح هو سرّ شبعنا يمسك بالسمكتين والخمس خبزات ليُشبع اليهود، أو بالقليل من السمك والسبع خبزات ليُشبع الأمم. إنه يُشبع الجميع خلال تلاميذه ولا يترك إنسانًا قادمًا إليه يرجع جائعًا! إنه وحده الذي يقدر أن يهبنا شبعًا خلال كنيسته (التلاميذ) بواسطة الناموس الروحي (5 خبزات) والكشف عن أسرار العهدين (السمكتين)، وكلمة الكرازة (قليل من السمك)، وعمل الروح القدس (السبع خبزات)... إنه يُشبع الفكر والقلب، ويقدّس المواهب ويضرمها فينا، ويقود الجسد والروح والنفس معًا بروح واحد نحو السماويات.

    4. المسيح واهب السلام

    إن كان هيرودس بكل مملكته لم تشبع نفسه، مشتهيًا رقصة فتاة، ليقدّم عنها ما تريد، لكن السيّد المسيح الملك السماوي افتقر لكي يغني كل من يؤمن به. إذ انصرف إلى موضع خلاء، انجذبت إليه الجموع [13] فجاءت إليه مشاة من المدن تطلب فيه شبعها الروحي. إنه كملك روحي شفى مرضاهم [14]، وأشبعهم روحيًا وجسديًا أيضًا، حتى فضل من الكِسَر اثنتا عشرة قُفّة مملوءة [20]. والآن يُلزم السيّد تلاميذه أن يدخلوا السفينة ليُعلن لهم عمل ملكوته الداخلي فيهم.

    "وللوقت ألزم يسوع تلاميذه أن يدخلوا السفينة

    ويسبقوه إلى العبر حتى يصرف الجموع.

    وبعدما صرف الجموع صعد إلى الجبل منفردًا ليصلّي.

    ولما صار المساء كان هناك وحدة" [22-23].

    إنه تصرُّف غريب، فقد ألزم التلاميذ أن يدخلوا السفينة، وصرف الجموع، أمّا هو فصعد إلى الجبل!

    فمن جهة التلاميذ ألزمهم أن يدخلوا السفينة ليأمر العاصفة، أو يسمح لها أن تثور. إن ربّنا يسوع المسيح يحترم الإرادة البشريّة ويقدّسها، لكن حين يُلقي الإنسان بنفسه في يديه الإلهيتين بكامل حريّته يلزمه السيّد بالسلوك حسبما يريد. هذا ما نلمسه من قول الإنجيلي أنه ألزم تلاميذه أن يدخلوا السفينة، وكأنهم إذ سلَّموا حياتهم في يديه بكامل حريتّهم، كان يدفعهم إلى وسط البحر، ليختبروا حضرته كسِرّ سلامهم عند هياج العاصف ضدّهم. إنه يعرف ما هو لصالحهم، فيقدّمهم إلى الطريق الكرب والباب الضيّق، ليس إمعانًا في آلامهم، وإنما ليلتقوا به وسط الآلام كمصدر تعزية لهم.

    هذا، ومن ناحية أخرى فإن السيّد ألزمهم بالعبور كمن يدفعهم إلى السير وسط تيّارات هذا العالم - محمولين بالصليب - أي السفينة، ليجتازوا إلى الميناء السماوي في البرّ الآخر. وكما يقول العلاّمة أوريجينوس: [هذا هو عمل تلاميذ يسوع، أقصد أن يذهبوا إلى الجانب الآخر، ويعبروا وراء الأمور المنظورة والماديّة الزمنيّة، وينطلقوا إلى الأبديّات غير المنظورة.]

    أما من جهة الجموع فقد شبعوا من الطعام المادي، وتوقّفوا عند هذا الحد، فلم يكن لهم أن ينعموا بالدخول في السفينة والعبور إلى البرّ السماوي.

    أما السيّد المسيح فقد صعد إلى الجبل منفردًا، وكأنه قد ارتفع إلى السماء هناك ليلتقي مع الآب من أجل تلاميذه. إنه يصلّي، أي يتحدّث مع أبيه، مقدّمًا دمه الكريم شفاعة فيهم يغفر خطاياهم، هذا هو الرصيد الذي يعيش به التلاميذ في وسط التجربة عندما تهب العواصف، وأيضًا العون الحقيقي لهم للعبور على الأبديّة. بصعوده إلى الجبل يصعدون هم أيضًا معه وبه وفيه، ليلتقوا مع الآب السماوي الذي يسندهم في الضيّق ويهبهم طبيعة الحياة السماويّة.

    صعود السيّد إلى الجبل منفردًا ليصلّي لا يعني هروبًا من الخدمة، وإنما تأكيدًا للحياة العاملة التأمّليّة وخدمة الجماهير باللقاء السرّي مع الآب. حقًا ما أحوجنا إلى الجبل أو البرّيّة لتسندنا أثناء جهادنا الروحي والرعوي. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [البرّيّة هي أم السكون، إنها الهدوء والميناء الذي ينجينا من كل المتاعب.] وكما يقول مار اسحق السرياني: [أن مجرّد النظر إلى القفر يهب النفس سكونًا، ويقتل شهوات الجسد فينا.]

    البرّيّة ليست مكانًا للهروب من الخدمة أو من العالم، لكنها بحق هي ميدان حرب روحيّة ضدّ إبليس نفسه، فيه تنفضح النفس وتتكشف أعماقها إن كانت ثابتة في الرب، مجاهدة في الطريق الروحي، أو خائرة ومستكينة. البرّيّة تصقّل الرجال وتزيدهم نضوجًا في الروح، وتفضح المتهاونين وتُعلن تراخيهم أو شرّهم!

    "وأما السفينة فكانت قد صارت في وسط البحر معذّبة من الأمواج،

    لأن الريح كانت مضادة.

    وفي الهزيع الرابع من الليل مضى إليهم يسوع ماشيًا على البحر.

    فلما أبصره التلاميذ ماشيًا على البحر اضطربوا، قائلين:

    إنه خيال، ومن الخوف صرخوا" [24-26].

    يقول العلاّمة أوريجينوس: [لقد ألزم المخلّص التلاميذ أن يدخلوا سفينة التجارب، وأن يذهبوا قدّامه ليعبروا إلى الشاطئ الآخر... لكنهم إذ جاءوا إلى وسط البحر منعتهم أمواج التجارب والرياح المضادة من السير نحو الشاطئ الآخر، وصاروا عاجزين، يصارعون كمن هم بدون يسوع لكي يغلبوا الأمواج والأرواح المضادة لبلوغ الشاطئ الآخر. وإذ بذلوا كل ما في قدرتهم لبلوغ الشاطئ الآخر ترفّق بهم الكلمة وجاء إليهم ماشيًا على البحر، هذا الذي لا تعوقه أمواج أو رياح.]

    ما حدث هنا يقدّم لنا صورة حيّة لقصة الخلاص كلها، فقد دخلت البشريّة إلى وسط البحر في الهزيع الأول، حين سقط أبوانا الأوّلاًن في الفردوس، وتعرّضت حياتهما للموت الأبدي خلال الريح المضادة، أي خداع الشيطان. وفي الهزيع الثاني خارج الفردوس خضعت البشريّة كلها، وهي تحت الناموس الطبيعي للموت الأبدي أيضًا، وليس من يخلّص أو ينقذ. وفي الهزيع الثالث قدّم الله الناموس الموسوي الذي عجز عن إنقاذ الإنسان من الموت، والعبور به إلى حياة البرّ. أمّا في ملء الزمان، وفي الهزيع الرابع، وسط الظلام الحالك، فقد جاء السيّد المسيح مشرقًا على الجالسين في الظلمة ليخلّصهم من الأمواج المهلكة. إنه الشخص الوحيد الذي يقدر أن يتقدّم إلى البشريّة ماشيًا على المياه، ولا تقدر الرياح المضادة أن تقف ضدّه. أمّا الذين سبقوه فلم يستطع أحد منهم قط أن يسير على مياه العالم أو يواجه الريح المضادة دون أن يغرق. لقد تثقَّلت البشريّة كلها بالخطيّة كما بالرصاص (زك 5: 7)، فغاصت في مياه غامرة (خر 15: 10)، أمّا كلمة الله فهو وحده بلا خطيّة يقدر أن يرتفع على المياه فلا تبتلعه!

    تقدّم إليهم السيّد موجدًا لنفسه طريقًا على المياه، أي على العالم، دون أن يبتلعه العالم كسائر البشر، وكان متّجهًا نحو السفينة كما إلى الصليب أو إلى كنيسته، لكي يحمل تلاميذه معه فيها، ليكونوا معه وهو معهم، ويكونون فيه وهو فيهم، عابرًا بهم إلى الميناء الأبدي بسلام.

    تقدّم إليهم وسط الأمواج الهائجة ليُعلن لتلاميذه أن الضيقات هي المناخ الذي فيه يتجلّى السيّد وسط أولاده. إنه لا ينزع الآلام، وإنما يتجلّى أمام أعينهم، معلنًا حضرته وأبوّته ورعايته قبل أن يُهدِّئ الأمواج.

    v إنه لم ينزع الظلمة ولا أعلن ذاته لهم في الحال، بل كما سبق فقلت أنه كان دائمًا يدرّبهم على احتمال هذه المخاوف ويعلّمهم أن يكونوا مستعدّين للألم... لم يُعلن المسيح نفسه قبل أن يصرخوا إليه حتى عندما يزداد رعبهم يزداد ترحيبهم بقدومه إليهم.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    إذا جاء السيّد المسيح إلى البشريّة في هزيعها الرابع، والأخير، وسط الظلمة القاتمة، سائرًا على الأمواج، ظنّ الكثيرون أنه خيال، فلم يدركوا حقيقة مجيئه ولا فهموا أسرار عمله الخلاصي، ولا أمكنهم الالتقاء معه وإدراك وجوده كمخلّص في حياتهم. تشكّك البعض في ناسوته ككثير من الغنوسيّين حاسبين أن جسده وهْم وخيال، وأنكر البعض لاهوته كالأريوسيّين. لكن الكلمة الإلهي المتجسّد يُعلن مؤكِّدًا: "تشجّعوا، أنا هو لا تخافوا" [27]. وكأنه يؤكّد حقيقة تأنّسه ووجوده في وسطنا كسِرّ قوّة روحيّة وسلام، نازعًا عنّا كل خوف.

    لا يزال يسمح الله لكل مؤمن أن يدخل في السفينة وسط الأمواج، حتى يستطيع أن يدرك حقيقة وجوده في داخله، وسلطانه إذ هو قادر أن يهدِّئ الأمواج الخارجيّة والداخليّة، واهبًا إيّاه سلامًا فائقًا بإعلان حضرته الإلهية فيه!

    بطرس على المياه

    "فأجابه بطرس وقال:

    يا سيّد إن كنت أنت هو،

    فمُرْني أن آتي إليك على الماء.

    فقال تعال.

    فنزل بطرس من السفينة، ومشى على الماء، ليأتي إلى يسوع.

    ولكن لما رأى الريح شديدة خاف،

    وإذ ابتدأ يغرق، صرخ قائلاً: يا رب نجّني.

    ففي الحال مدّ يسوع يده وأمسك به، وقال له:

    يا قليل الإيمان لماذا شككت؟

    ولما دخلا السفينة سكنت الريح.

    والذين في السفينة جاءوا وسجدوا له، قائلين:

    بالحقيقة أنت ابن الله" [28-33].

    في دراستنا لسفر الخروج سمعنا موسى النبي وشعبه يسبّحون الله من أجل خلاصهم وهلاك فرعون وجنوده قائلين: "قد هبطوا في الأعماق كحجر" (خر 15: 5). فالشرّ كالحجر أو الرصاص يغطس في المياه حتى الأعماق، أمّا الفضيلة الخفيفة فتعوم على المياه، والذين يسيرون فيها يطيرون كالسحاب وكالحمام بأجنحتهم الصغيرة (إش 9: انجيل متى Icon_cool.

    يقول العلاّمة أوريجينوس: [لقد مشى ربّنا ومخلّصنا على المياه، هذا الذي بالحقيقة لا يعرف الخطيّة، ومشى تلميذه بطرس مع أنه ارتعب قليلاً إذ لم يكن قلبه طاهرًا بالكلّيّة، إنّما حمل في داخله بعضًا من الرصاص... لهذا قال له الرب: "يا قليل الإيمان لماذا شككت؟" فالذي يخلص إنّما يخلص كما بنار (1 كو 3: 15)، حتى إن وُجد فيه رصاص يصهره.]

    رأى القدّيس بطرس شخص السيّد المسيح سائرًا على المياه فاشتهى أن يلتقي به عليها، وإذ طلب من الرب أمَره أن يأتي إليه، لكن بطرس خاف إذ رأى الريح شديدة. إنها صورة البشريّة قبل التجسّد، التي آمنت بالله القادر أن يسير على مياه العالم، فخرجت تلتقي به، لكنها عجزت تمامًا، وكادت أن تغرق. لكن إذ مدّ السيّد يده أي تجسّد الابن الكلمة، وأمسك بيده المجروحة أيدينا الضعيفة ضمَّنا إلى أحشائه غافرًا خطايانا، فصار لنا به إمكانيّة السير معه وفيه على المياه دون أن نغرق. به دخلنا إلى سفينة العهد الجديد كما دخل بطرس مع السيّد، ليبحر بنا إلى أورشليم العليا.

    والعجيب أن السيّد لم يهدِّئ الأمواج لكي يسير بطرس على المياه، وإنما قال لبطرس: "تعال"، مهدّئًا أمواج قلبه الداخليّة ليسير بالإيمان على الأمواج ولا يغرق. حقًا إن سرّ غرقنا ليست الأمواج الخارجيّة، وإنما فقدان القلب سلامه وإيمانه!

    5. المسيح واهب الشفاء

    إذ وهب السيّد المسيح السلام للنفوس المضطربة بسبب الرياح المضادة ودخل بها إلى سفينة كنيسته المقدّسة لتعيش في سلامه الفائق، عبر بها إلى أرض جنِّيسارت، وهناك تعرّف عليه رجال هذا الموضع، فأحضروا إليه جميع المرضى، وطلبوا أن يلمسوا فقط هدب ثوبه، فجميع الذين لمسوه نالوا الشفاء.

    إن كان ثوبه يُشير إلى كنيسته الملتصقة به، فإن جميع الذين قبلوه أرادوا أن يبقوا كهُدب ثوبه، أي يحتلّوا الصفوف الأخيرة في كنيسته لكي بالتواضع ينالوا الشفاء لنفوسهم كما لأجسادهم.

    1 في ذلك الوقت سمع هيرودس رئيس الربع خبر يسوع
    2 فقال لغلمانه هذا هو يوحنا المعمدان قد قام من الاموات و لذلك تعمل به القوات
    3 فان هيرودس كان قد امسك يوحنا و اوثقه و طرحه في سجن من اجل هيروديا امراة فيلبس اخيه
    4 لان يوحنا كان يقول له لا يحل ان تكون لك
    5 و لما اراد ان يقتله خاف من الشعب لانه كان عندهم مثل نبي
    6 ثم لما صار مولد هيرودس رقصت ابنة هيروديا في الوسط فسرت هيرودس
    7 من ثم وعد بقسم انه مهما طلبت يعطيها
    8 فهي اذ كانت قد تلقنت من امها قالت اعطني ههنا على طبق راس يوحنا المعمدان
    9 فاغتم الملك و لكن من اجل الاقسام و المتكئين معه امر ان يعطى
    10 فارسل و قطع راس يوحنا في السجن
    11 فاحضر راسه على طبق و دفع الى الصبية فجاءت به الى امها
    12 فتقدم تلاميذه و رفعوا الجسد و دفنوه ثم اتوا و اخبروا يسوع
    13 فلما سمع يسوع انصرف من هناك في سفينة الى موضع خلاء منفردا فسمع الجموع و تبعوه مشاة من المدن
    14 فلما خرج يسوع ابصر جمعا كثيرا فتحنن عليهم و شفى مرضاهم
    15 و لما صار المساء تقدم اليه تلاميذه قائلين الموضع خلاء و الوقت قد مضى اصرف الجموع لكي يمضوا الى القرى و يبتاعوا لهم طعاما
    16 فقال لهم يسوع لا حاجة لهم ان يمضوا اعطوهم انتم لياكلوا
    17 فقالوا له ليس عندنا ههنا الا خمسة ارغفة و سمكتان
    18 فقال ائتوني بها الى هنا
    19 فامر الجموع ان يتكئوا على العشب ثم اخذ الارغفة الخمسة و السمكتين و رفع نظره نحو السماء و بارك و كسر و اعطى الارغفة للتلاميذ و التلاميذ للجموع
    20 فاكل الجميع و شبعوا ثم رفعوا ما فضل من الكسر اثنتي عشرة قفة مملوءة
    21 و الاكلون كانوا نحو خمسة الاف رجل ما عدا النساء و الاولاد
    22 و للوقت الزم يسوع تلاميذه ان يدخلوا السفينة و يسبقوه الى العبر حتى يصرف الجموع
    23 و بعدما صرف الجموع صعد الى الجبل منفردا ليصلي و لما صار المساء كان هناك وحده
    24 و اما السفينة فكانت قد صارت في وسط البحر معذبة من الامواج لان الريح كانت مضادة
    25 و في الهزيع الرابع من الليل مضى اليهم يسوع ماشيا على البحر
    26 فلما ابصره التلاميذ ماشيا على البحر اضطربوا قائلين انه خيال و من الخوف صرخوا
    27 فللوقت كلمهم يسوع قائلا تشجعوا انا هو لا تخافوا
    28 فاجابه بطرس و قال يا سيد ان كنت انت هو فمرني ان اتي اليك على الماء
    29 فقال تعال فنزل بطرس من السفينة و مشى على الماء لياتي الى يسوع
    30 و لكن لما راى الريح شديدة خاف و اذ ابتدا يغرق صرخ قائلا يا رب نجني
    31 ففي الحال مد يسوع يده و امسك به و قال له يا قليل الايمان لماذا شككت
    32 و لما دخلا السفينة سكنت الريح
    33 و الذين في السفينة جاءوا و سجدوا له قائلين بالحقيقة انت ابن الله
    34 فلما عبروا جاءوا الى ارض جنيسارت
    35 فعرفه رجال ذلك المكان فارسلوا الى جميع تلك الكورة المحيطة و احضروا اليه جميع المرضى
    36 و طلبوا اليه ان يلمسوا هدب ثوبه فقط فجميع الذين لمسوه نالوا الشفاء
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 2:08 pm

    الأصحاح الخامس عشر

    نَاقدوا الملك وَطالبوه

    الكتبة والفرّيسيّون الذين اؤتمنوا على كلمة الله لحفظها وتفسيرها رفضوا "الكلمة المتجسّد"، بينما المحرومون من الكلمة، جماعة الأمم، سعوا وراء الكلمة المتجسّد يطلبون خلاصه. انشغل الأوّلون بالنقد مع المباحثات والمجادلات حول شخص السيّد المسيح، بينما جرى الآخرون إليه يطلبون عمله فيهم، هذا لا يعني أن جميع اليهود رفضوا السيّد، إنّما من ظنّ في نفسه أنه حكيم، أمّا البسطاء منهم فجاءوا إليه ليجدوا فيه سرّ شفائهم وشبعهم.

    1. تعدّي تقليد الشيوخ 1-9.

    2. الأيدي غير المغسولة 10-20.

    3. لقاء مع المرأة الكنعانيّة 21-28.

    4. انجذاب البسطاء إليه 9-31.

    5. تحنّنه على طالبيه 32-39.

    1. تعدّي تقليد الشيوخ

    "حينئذ جاء إلى يسوع كتبة وفرّيسيون الذين من أورشليم، قائلين:

    لماذا يتعدّى تلاميذك تقليد الشيوخ،

    فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزًا؟" [1-2].

    بينما كانت الجماهير تشتهي أن تلمس هُدب ثوبه لتُشفى (مت 14: 36)، إذا بالكتبة والفرّيسيّين لا يطيقون كلماته الملوكيّة ولا يحتملون حبّه الإلهي للبشريّة، فأخذوا منه موقف الناقدين والمجرِّبين. لقد أُؤتُمن الكتبة على كلمة الله لكي يكتبوها بدقّة، والفرّيسيّون لكي يفسِّروها للشعب، حتى متى جاء كلمة الله ذاته متجسّدًا يفرحون ويتهلّلون ويدخلون مع الشعب إليه ليملك في قلوبهم، ويستجيبون له بكل حياتهم. كان يليق بالكتبة والفرّيسيّين أن يتسلّموا بالأكثر قيادة الشعب منحنين أمام كلمة الله الحيّ الملك المسيّا، لكن إذ تحوّلت قلوبهم عن خدمة الكلمة إلى خدمة ذواتهم، صاروا رافضين الكلمة الإلهي ومقاومين له، وكأنه قد جاء ليسحب الكراسي من تحتهم أو يغتصب مراكزهم.

    جاء المسيّا ليملك على القلب، فقاومه هيرودس بينما كان السيّد طفلاً، لئلا يغتصب عرشه. وعندما بدأ خدمته لم يقدر الشيطان إلا أن يُعلن الحرب علانيّة خشية أن تنهار مملكة ظلمته. وفي أثناء الخدمة هرع أصحاب الكراسي والكرامات يقاومونه لئلا ينهاروا في أُعين الشعب. وبقي السيّد موضع هجوم حتى ارتفع على الصليب. وبينما تكاتفت القُوى لهدم مملكته، إذ بهذا الموقف يصير جزءً لا يتجزأ من إعلان ملكوته الخفي في قلوب الكثيرين، وإذ ظنّ المقاومون أنهم بالصليب يضعوا حدًا لنهاية عمله، إذ بهم يكتشفون أن الصليب عينه هو السبيل الوحيد لإعلان مملكته، واجتذاب الأمم إلى خلاصه المجّاني. فالمقاومة للحق لا تحطّمه، بل تفتح أمامه الطريق ليُعلن بأكثر قوّة وعلى أوسع نطاق.

    إن رب المجد يبقى مُقاوَمًا في شخصه وصليبه وإنجيله عبر الأجيال للأسف حتى ممن يحملون اسمه أحيانًا ،والذين يظهرون كأبناء مملكته. لكن بقدر ما تزداد مقاومته يتجلّى بوضوح وسط مملكته، ويشرق بهاؤه على الجالسين في الظلمة. ما أعجب ما قاله القدّيس أغسطينوس الذي قاوم الرب كثيرًا قبل قبوله الإيمان بفلسفته ودنس حياته، والذي كرّس كل طاقاته لحساب الملك المسيح عندما تعرّف عليه، فإنه يرى في المقاومين للكِتاب والهراطقة أنهم يدفعوننا بالأكثر إلى معرفة الأسرار، إن كنّا نعيش بتقوى، إذ يقول: [لتلاحظوا أيها الإخوة المقدّسين فائدة الهراطقة، هذه التي حسب تدبير الله الذي يستخدم حتى هؤلاء الأشرار استخدامًا نافعًا. فبينما ترتد تدابيرهم إليهم لا يرتدّ إليهم الخير الذي يُخرجه الله منهم.]

    تقليد الشيوخ

    اُتُّهِم السيّد بأن تلاميذه يتعدُّون تقليد الشيوخ بعدم غسل أيديهم حينما يأكلون خبزًا، وكانت إجابة السيّد:

    "وأنتم أيضًا لماذا تتعدُّون الله بسبب تقليدكم؟

    فإن الله أوصى، قائلاً: اَكرم أباك وأمَّك،

    ومن يشتم أبًا أو أمّا فليمت موتًا.

    وأما أنتم فتقولون: من قال لأبيه أو أمه قربان

    هو الذي تنتفع به مني، فلا يكرم أباه أو أمه.

    فقد أبطلتم وصيّة الله بسبب تقليدكم" [3-6].

    في دراستنا للتقليد رأينا تمييزًا واضحًا بين نوعين من التقليد:

    أولاً: تقليد هو وصايا للناس، يتعارض مع الوصيّة الإلهيّة لهدف أو آخر، كالمثال الذي قدّمه السيّد المسيح. فلأجل المنفعة الشخصيّة وضع قادة اليهود وصيّة تحمل مظهر العطاء الظاهري وتخفي كسْرًا للناموس الإلهي. كأن يستطيع الابن أن يَحرم والديه من حقوقهما، فلا يعولهما بحجّة أن ما يدفعه لهما يقدّمه قربانًا لله، فيكسِر وصيّة إكرام الوالدين ويكون كمن شتمهما بأعماله، وهذا أقسى من السبّ باللسان، إذ يحرمهما من حق الحياة الكريمة، ويدخل بهما إلى ضنك العيش تحت ستار العطاء للهيكل. وكما يقول العلاّمة أوريجينوس: [إذ يسمع الآباء أن ما ينبغي تقديمه لهم صار من القربان المخصّص لله يحجمون عن أخذه من أبنائهم، حتى وإن كانوا في عوْز شديد لضرورات الحياة.] كما يقول: [بأن الفرّيسيّين كانوا محبّين للمال (لو 6: 14) فتظاهروا بجمعه للعطاء للفقراء، حارمين الوالدين من عطايا أولادهم.]

    هذا من جانب ومن جانب آخر قدّموا في تقليدهم بعض الحرفيّات والشكليّات في العبادة والسلوك، لا هدف لها سوى حب الظهور بثوب التديّن دون الروح الداخلي الحيّ.

    ثانيًا: تقليد حيّ حفظ لنا أسفار العهد القديم وقدّم لنا تفسيرًا لنصوصها، كما أعلن لنا الحياة مع الله خلال العبادة والسلوك، وحفظ لنا بعض المعرفة شفاهًا أو كتابة. الأمر الذي لا يرفضه العهد الجديد، لأنه غير مخالف للوصيّة الإلهيّة بل خادم لها، وقد استخدمه العهد الجديد نفسه، نذكر على سبيل المثال:

    أ. عن التقليد اليهودي عرف الرسول بولس اسمي الساحرين المقاومين لموسى النبي (2تي3: انجيل متى Icon_cool.

    ب. عنه نقل يهوذا الرسول مخاصمة ميخائيل رئيس الملائكة إبليس، محاجًا عن جسد موسى بروح متواضع بغير افتراء (يه 9).

    ج. ذكر العهد الجديد ما ورد في التقليد اليهودي أن استلام الشريعة كان بيد ملائكة.

    د. في أكثر من موضع أكّد الرسول بولس ضرورة الاهتمام بالتقليد، أو التسليم (1 كو 11: 34؛ 2 تي 1: 5؛ 2 تس 3: 6).

    نعود إلى كلمات السيّد موبّخًا الكتبة والفرّيسيّين ناقدي السيّد المسيح خلال حرفيّات وشكليّات أفسدت مفهوم الوصيّة الإلهيّة:

    "يا مراؤون، حسنًا تنبّأ عنكم إشعياء، قائلاً:

    يقترب إليّ هذا الشعب بفمه ويُكرمني بشفتيْه،

    وأما قلبه فمبتعد عنّي بعيدًا.

    وباطلاً يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس" [7-9].

    يدعوهم مرائين لأنهم يَظهرون كمُدافعين عن الحق وهم كاسِروه، يحملون صورة الغيرة على مجد الله وهم يهتمّون بما لذواتهم. يتقدّمون كمعلّمين وهم عميان في حاجة إلى من يعلّمهم. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان يُحسب أمرًا خطيرًا ألا يكون للأعمى قائد (يرشده)، فكم بالأكثر إن أراد الأعمى أن يقود غيره!]

    احتلّ الكتبة والفرّيسيّون الصفوف الأولى بين المتعبّدين، أمّا قلوبهم فلم يكن لها موضع قط بل هي مبتعدة عن الله بعيدًا، يعبدون الله ليس عن حب، وإنما لتحقيق أهداف بشريّة ذاتيّة، فصارت تعاليمهم "وصايا الناس".

    يُعلّق القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص على كلمات السيّد هذه معلنًا اهتمام الله بالقلب نفسه، أكثر ممّا بكلمات العبادة أو العمل الظاهر. [ماذا يعني هذا؟ إن الاتّجاه السليم للنفس نحو الحق لهو أثمن في عينيّ الله من العبادات، فإن الله يسمع تنهُّدات القلب التي لا يُنطق بها،] أي يريد الله نقاوة القلب الداخليّة أثناء العبادة لا المظهر الخارجي. ويقول الآب يوحنا من كرونستادت: [يلزم أن تكون صلاتنا عميقة وصادقة وحكيمة ومثمرة، تُغيّر قلبنا وتوجِّه إرادتنا للصلاح وتسحبنا من الشرّ.]

    2. الأيدي غير المغسولة

    دعا السيّد المسيح الجميع، وفي رقّة "قال لهم: اسمعوا وافهموا" [10]. إنه الطبيب الحكيم الذي يعرف متى يحتاج المريض إلى ضربات المشرط ليقتلع كل فساد، ومتى يستخدم الدُهن الطيِّب ليُلطِّف الجراحات، متى يجرح ومتى يضمِّد. لم يكن ممكنًا شفاء المعلّمين المرائين بالكلمات الطيّبة، فإن هذا يغطي على شرّهم في الداخل ليفسد الجسد كله، أمّا الشعب البسيط فلا يحتمل كلمة قاسية لئلا يتحطّم ويتعسَّر باليأس، وإنما يحتاج إلى كلمات رقيقة تسنده وترفعه إلى الرجاء. بهذا يملك الرب على القلوب، مستخدمًا الكلمة القاسية كما الرقيقة لينفتح له القلب. هكذا دعا السيّد الجموع ليشرح لهم أمر الأيدي غير المغسولة، ليس دفاعًا عن تلاميذه، وإنما لأجل بنيانهم الروحي، ولكي لا يتعثّروا بسبب الشكوك التي يثيرها الكتبة والفرّيسيّون.

    "ليس ما يدخل الفم ينجِّس الإنسان

    بل ما يخرج من الفم هذا ينجِّس الإنسان" [11].

    أراد السيّد أن يمسك الجماهير البسيطة بيده ويدخل بهم إلى الحياة الداخليّة، ليُدركوا أن سرّ الحياة والقداسة لا يكمن في الأعمال الخارجيّة الظاهرة، وإنما في الحياة الداخليّة. إنه لم يتجاهل ما يدخل الفم تمامًا، لكنّه ليس هو الذي يُنجِّس، بل ما في داخل الإنسان والمُعلن خلال ما يخرج من الفم.

    عندما تنجّس قلب الأبوين الأوّلين الداخلي اهتمّا لا بعلاج الداخل، إنّما بستر جسديهما في الخارج، كمن يُزيّن بيته المُنهار عِوض معالجة أساساته. هكذا اهتم قادة اليهود بغسل الأيدي قبل الطعام حتى لا يتنجّسوا، ولم يهتمّوا بما يصدر عن قلوبهم من نجاسات تظهر خلال كلماتهم المملوءة رياءً وإدانة.

    "تقدّم تلاميذه وقالوا له:

    أتعلم أن الفرّيسيّين لما سمعوا القول نفروا.

    فأجاب وقال: كل غُرس لم يغرسه أبي السماوي يُقلع.

    اُتركوهم. هم عميان قادة عميان.

    وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة" [12-14].

    لم يستطع الفرّيسيّون أن يسمعوا كلمات السيّد، لأنها كالمشرط الذي يُصوِّبه الطبيب على العضو الفاسد، فيفتحه ليُخرج العفونة ويظهر الفساد، الأمر الذي لا يطيقه المرائي. إنهم كآبائهم الذين استراحوا للأنبياء الكذبة في أيام إرميا، لأنهم نطقوا بالناعمات، قائلين: سلام سلام، ولم يكن سلام. وحينما حذّرهم إرميا النبي طالبًا التوبة، ألقوه في الجب، ووُضع في السجن، وكان موضع سخريتهم ومضايقاتهم. أمّا السيّد المسيح الذي يُقيم مملكة حقيقيّة أشبه بالفردوس الذي يغرس الآب أشجاره، ويسنده بدم المسيح المقدّس، ويرويه بينابيع الروح القدس، فلم يهتز بنُفور الفرّيسيّين من كلماته، فهو لا يهتمّ بعدد من يلتفون حوله بل نوعهم. يهتمّ بالدخول إلى الحق لا إلى المظهر. من أجل غرس واحد حقيقي قدّم السيّد دمه الطاهر وحياته ثمنًا مقابله، لكنّه لا يطلب أشجارًا صناعية، بلا ثمر الروح، لهذا قال: "أتركوهم". الترك هنا لا يحمل رغبة السيّد في التخلِّي عنهم، إنّما أراد حرمانهم من الجماهير التي بالغت في تقديم الكرامات لهم، ففقدوا تواضعهم، وأصيبت قلوبهم بالعَمى الروحي. إنهم في حاجة إلى الترك كي يختلوا بأنفسهم ويدركوا أنهم عميان، اختلسوا كراسي القيادة الروحيّة، فقادوا العميان بقلبهم الأعمى ليسقط الكل في حفرة الجهل والظلمة.

    3. لقاء مع الكنعانيّة

    إن كان قد تحوّل رجال الكتاب المقدّس - الكتبة والفرّيسيّون - بعمى قلوبهم عن الكلمة الإلهي المتجسّد، فصاروا مقاومين له ومناضلين لمملكته الروحيّة، عِوض أن ينعموا بها ويكرزوا، لهذا يقول الإنجيلي: "ثم خرج يسوع من هناك، وانصرف إلى نواحي صور وصيدا". وكأنه يُعلن تركه للشعب اليهودي الرافض الإيمان ليبحث عن أولاده من بين الأمم. بخروجه ينزع الأغصان الأصيلة بسبب كبريائهم وعدم إيمانهم، لكي يطعم فيه الأغصان البرّيّة لتنعم بثمر روحه القدّوس.

    بينما انهمك اليهود - في أشخاص قادتهم - في حرفيّة الناموس وشكليّات التقليد بغير روح، صاروا يبحثون عن خطأ يرتكبه المسيّا المخلّص، وإذا بكنيسة الأمم ممثّلة في هذه الكنعانيّة تخرج إليه لتطلب منه احتياجها.

    "وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه؛ قائلة:

    ارحمني يا ابن داود،

    ابنتي مجنونة جدًا" [22].

    لقد حُرمت زمانها كلّه من سماع كلمة الله، ولم تتسلّم الناموس ولا ظهر في وسطها أنبياء بل عاشت حياتها في عبادة الأوثان، لكنها بالسماع عرفت القليل عن المسيّا "ابن داود"، فخرجت من تخومها، كما من كُفرها وعبادتها الوثنيّة، لتلتقي به. رفضه الذين لديهم قوائم الأنساب وبين أيديهم الرموز والنبوّات تحدِّد شخصه، وجاءت إليه غريبة الجنس، لا لتدخل في مناقشات غبيّة ومجادلات، إنّما لتغتصب حبّه الإلهي ومراحمه، لينقذ ابنتها المجنونة جدًا، لقد قبلته مخلّصًا لها، إذ شعرت بالحاجة إليه لأن نفسها كابنة لها مجنونة جدًا، فقدت تعقلها وحكمتها!

    حقًا إذ انطلق السيّد إلى نواحي صور وصيدا، إذا بالمرأة تخرج من تخومها، وكأن السيّد وهو محب للبشر ينصرف إليهم، لكنّه لا يلتقي بهم داخل تخوم الأوثان بل خارجها. لقد حقّقت بهذا ما لم يعلنه لها داود النبي: "اسمعي يا بنت وانظري وأميلي أذنك، واِنسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيّدك فاُسجدي له" (مز 45: 10-11). لقد تمّمت الوصيّة وخرجت من شعبها، وتركت بيت أبيها تطلب الملك الحقيقي.

    يقول الإنجيلي: "لم يجبها بكلمة" [23]... لماذا؟

    أولاً: عدم إجابته لها في البداية هو إعلان عن عمله الخلاصي، فقد جاء وسط بني إسرائيل وركّز غالبية أعماله وقوّاته على هذا الشعب، الذي تمتّع بالوعود والنبوّات والشرائع، حتى إذا ما رفضه يكون قد امتلأ كأسه، فيرفضه الرب، ليفتح الباب على مصراعيه للأمم. لقد ركّز على هذا الشعب في البداية ليكون الخميرة المقدّسة لتخمير العجين كلّه، خلال الكرازة والتبشير. ونحن لا ننكر أنه وإن رفضه اليهود لكن قلّة منهم كانوا التلاميذ والرسل الذين كرزوا في العالم.

    ثانيًا: كان صمت السيّد إلى حين يثير التلاميذ لكي يتقدّموا من أجلها. لقد أراد أن يكشف لهم رسالتهم أن يهتمّوا بالعالم الوثني المتألّم والفاقد وعيه الروحي وخلاصه.

    ثالثًا: كان السيّد صامتًا في الخارج، لكن يده غير المنظورة تسند قلبها وإيمانها، وعيناه تترقّبان بفرح تواضعها الفائق. لقد أراد بصمته لا أن يتجاهلها، وإنما بالأحرى يزكّيها أمام الجميع. يقول القدّيس أغسطينوس: [إذا كانت تشغف على الحصول على الرحمة صرخت وبجسارة قرعت، فظهر كأنه لم يسمعها. لم ترفضها الرحمة إلى النهاية، إنّما ما حدث كان لكي يُلهب رغبتها ويُظهر تواضعها. صرخت وكأن المسيح لا يسمعها، مع أنه كان يدبّر الأمر بهدوء.] كما يقول: [كانت دائمة الصراخ، داومت على القرع، وكأنها سبق فسمعت قوله: "اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم" (مت 7: 7).]

    "فتقدّم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين:

    اصرفها لأنها تصيح وراءنا.

    فأجابهم وقال: لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" [23-24].

    كيف لم يُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، وهو القائل لنيقوديموس "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة" (يو3: 16)؟ بل وسبق فشهد الأنبياء في العهد القديم عن مجيء المسيّا للعالم كله، اليهود والأمم معًا؟

    يجيب القدّيس أغسطينوس: [إننا نفهم من هذا أنه لاق به أن يُعلن عن حضوره بالجسد وميلاده، وعمل معجزاته وقوّة قيامته وسط هذا الشعب، فإنه هكذا قد دبّر الأمر منذ البداية. ما سبق فبُشِّر به قد تحقّق بمجيء المسيح يسوع لأمّة اليهود كي يُقتل، لكنّه يربح منهم الذين سبق فعرفهم، فإنه لم يدن الشعب كلّه، إنّما فحصهم فوجد بينهم تبنًا كثيرًا، ووجد أيضًا حنطة مختفية. منهم ما هو يُحرق، ومنهم ما يملأ المخازن، فإنه من أين جاء الرسل؟!] كما يقول: [لأنه لم يذهب بنفسه للأمم، بل أرسل تلاميذه، فيتحقّق ما قاله النبي: "شعب لم أعرفه يتعبّد لي" (مز 18: 43). انظر كيف أوضحت النبوّة الأمر كيف تحقّق؟! تحدّثت بوضوح: "شعب لم أعرفه"؛ كيف؟ يكمّل قائلاً: "من سماع الأذن يسمعون لي" (مز 18: 44)، أي يؤمنون لا خلال النظر بل خلال السمع، لهذا نال الأمم مديحًا عظيمًا. فإن (اليهود) رأوه فقتلوه، الأمم سمعوا عنه وآمنوا به.]

    لقد أكمل السيّد حديثه، قائلاً: "ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب؟" [26]. لماذا نطق هكذا؟ هل كان يحتقر الأمم فيدعوهم كلابًا؟! بلا شك لا يحتقر السيّد خليقته، ولكنه ربّما قال هذا مردِّدًا ما كان يردِّده اليهود لكي يمجِّد من ظنَّهم اليهود كلابًا، معلنًا كيف صاروا أعظم إيمانًا من البنين أنفسهم. هذا ومن ناحية أخرى، فإن الأمم بإنكارهم الإيمان بالله، وصنعهم الشرور الكثيرة حتى أجاز الكثيرون أطفالهم في النار، وقدّموا بنيهم ذبائح للأصنام، فعلوا ما لا تفعله الكائنات غير العاقلة. إنه لا يقصد تمييز اليهود عن الأمم، إنّما يكشف عن فعل الخطيئة فينا، كما كشف عن أعماق قلب المرأة الكنعانيّة التي سبقت بتواضعها العجيب أبناء الملكوت. فقد قالت: "نعم يا سيّد، والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها" [27].

    يقول القدّيس أغسطينوس: [أنها لم تثُرْ ولا غضبت، لأجل دعوتها ككلبٍ عندما طلبت البركة وسألت الرحمة، بل قالت: "نعم يا سيّد". لقد دعوتني كلبًا، وبالحق أنا هكذا، فإنّني أعرف لقبي! إنك تنطق بالحق، لكن ينبغي ألا أُحرم من البركة بسبب هذا... فإن الكلاب أيضًا تأكل من الفتات الساقط من مائدة أربابها. ما أرغبه هو البركة بقدر معتدل، فإنّني لا أزحم المائدة، إنّما أبحث فقط عن الفتات. انظروا أيها الإخوة عظمة التواضع الذي أمامنا!... إذ عرفت نفسها، قال الرب في الحال: "يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن كما تريدين" [28]. لقد قلتِِ عن نفسكِ إنكِ "كلبًا"، لكنّني أعرفك إنكِ "إنسان"... لقد سألتي وطلبتي وقرعتي، فيُعطَى لك وتجدين ويُفتح لك. انظروا أيها الإخوة كيف صارت هذه المرأة الكنعانيّة مثالاً أو رمزًا للكنيسة؟! لقد قدّمت أمامنا عطيّة التواضع بدرجة فائقة!] ما حُرم منه اليهود أصحاب الوعود بسبب كبريائهم نالته الأمم المحرومة من المعرفة خلال التواضع. الذين ظنّوا في أنفسهم أبناء، حُرموا أنفسهم من مائدة الملكوت خلال جحودهم، والذين كانوا في شرّهم ودنسهم كالكلاب، صاروا بالحق أبناء يدخلون وليمة أبيهم السماوي.

    لقد حقّقت هذه المرأة الخارجة من تخوم صور ما سبق فأعلنه النبي عنها: "بنت صور أغنى الشعوب تترضَّى وجهك بهديّة" (مز 45: 12). أيّة هدية تقدّمها بيت صور هذه إلا إعلان إيمانها الفائق خلال صمت السيّد، وتظاهره بعدم العطاء في البداية. لقد وهبها الفرصة لتقديم أعظم هديّة يشتهيها الرب، إذ يقول "يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن لكِ كما تريدين" [28]. لقد فتحت بهذه الهديّة كنوز السيّد، لتنال كل ما تريد، بينما أغلق قادة اليهود أبواب مراحم الله أمام أنفسهم. قبل هديّتها القلبيّة الفائقة، وردّ لها الهديّة بما هو أعظم، إذ مدَحها أمام الجميع، فاتحًا أبواب محبّته أمامها، مقيمًا إيّاها رمزًا لكنيسة الأمم التي اغتصبت الرب نفسه بالإيمان.

    4. انجذاب البسطاء إليه

    مرة أخرى يصعد السيّد إلى الجبل ليجلس هناك، فتجتمع الجماهير البسيطة، تحمل إليه العرج والعمي والخرس الخ.، يطرحونهم عند قدميه فيشفيهم. إن كان القادة بريائهم الذي أعمى قلوبهم فلم يعاينوا شمس البرّ، فإن الغرباء (الأمم) في شخص المرأة الكنعانيّة التقوا به خلال الشعور بالاحتياج إليه، وهكذا أيضًا بسطاء اليهود أدركوا في بساطة قلوبهم في يسوع المسيح ملكهم المخلّص، الأمر الذي حُرم منه القادة.

    5. تحنّنه على طالبيه

    إذ التفَّت الجماهير حوله ليمكثوا معه ثلاثة أيام، لم ينتظر التلاميذ أن يسألوه أن يصرف الجموع لكي يمضوا إلى القرى، ويبتاعوا طعامًا كما حدث قبلاً (مت 14: 15) إنّما استدعاهم ليقدّم خلالهم لشعبه احتياجاتهم حتى الجسديّة؛ ربّما لأن الشعب في هذه المرة لم يشعر بالجوع بسبب بقائهم مدة طويلة يستمعون كلماته المشبعة، أو لأن التلاميذ اختبروه قبلاً في إشباعهم. وقد سبق لنا الحديث عن إشباع الجموع (مت 14).

    1 حينئذ جاء الى يسوع كتبة و فريسيون الذين من اورشليم قائلين
    2 لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ فانهم لا يغسلون ايديهم حينما ياكلون خبزا
    3 فاجاب و قال لهم و انتم ايضا لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم
    4 فان الله اوصى قائلا اكرم اباك و امك و من يشتم ابا او اما فليمت موتا
    5 و اما انتم فتقولون من قال لابيه او امه قربان هو الذي تنتفع به مني فلا يكرم اباه او امه
    6 فقد ابطلتم وصية الله بسبب تقليدكم
    7 يا مراؤون حسنا تنبا عنكم اشعياء قائلا
    8 يقترب الي هذا الشعب بفمه و يكرمني بشفتيه و اما قلبه فمبتعد عني بعيدا
    9 و باطلا يعبدونني و هم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس
    10 ثم دعا الجمع و قال لهم اسمعوا و افهموا
    11 ليس ما يدخل الفم ينجس الانسان بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الانسان
    12 حينئذ تقدم تلاميذه و قالوا له اتعلم ان الفريسيين لما سمعوا القول نفروا
    13 فاجاب و قال كل غرس لم يغرسه ابي السماوي يقلع
    14 اتركوهم هم عميان قادة عميان و ان كان اعمى يقود اعمى يسقطان كلاهما في حفرة
    15 فاجاب بطرس و قال له فسر لنا هذا المثل
    16 فقال يسوع هل انتم ايضا حتى الان غير فاهمين
    17 الا تفهمون بعد ان كل ما يدخل الفم يمضي الى الجوف و يندفع الى المخرج
    18 و اما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر و ذاك ينجس الانسان
    19 لان من القلب تخرج افكار شريرة قتل زنى فسق سرقة شهادة زور تجديف
    20 هذه هي التي تنجس الانسان و اما الاكل بايد غير مغسولة فلا ينجس الانسان
    21 ثم خرج يسوع من هناك و انصرف الى نواحي صور و صيدا
    22 و اذا امراة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت اليه قائلة ارحمني يا سيد يا ابن داود ابنتي مجنونة جدا
    23 فلم يجبها بكلمة فتقدم تلاميذه و طلبوا اليه قائلين اصرفها لانها تصيح وراءنا
    24 فاجاب و قال لم ارسل الا الى خراف بيت اسرائيل الضالة
    25 فاتت و سجدت له قائلة يا سيد اعني
    26 فاجاب و قال ليس حسنا ان يؤخذ خبز البنين و يطرح للكلاب
    27 فقالت نعم يا سيد و الكلاب ايضا تاكل من الفتات الذي يسقط من مائدة اربابها
    28 حينئذ اجاب يسوع و قال لها يا امراة عظيم ايمانك ليكن لك كما تريدين فشفيت ابنتها من تلك الساعة
    29 ثم انتقل يسوع من هناك و جاء الى جانب بحر الجليل و صعد الى الجبل و جلس هناك
    30 فجاء اليه جموع كثيرة معهم عرج و عمي و خرس و شل و اخرون كثيرون و طرحوهم عند قدمي يسوع فشفاهم
    31 حتى تعجب الجموع اذ راوا الخرس يتكلمون و الشل يصحون و العرج يمشون و العمي يبصرون و مجدوا اله اسرائيل
    32 و اما يسوع فدعا تلاميذه و قال اني اشفق على الجمع لان الان لهم ثلاثة ايام يمكثون معي و ليس لهم ما ياكلون و لست اريد ان اصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق
    33 فقال له تلاميذه من اين لنا في البرية خبز بهذا المقدار حتى يشبع جمعا هذا عدده
    34 فقال لهم يسوع كم عندكم من الخبز فقالوا سبعة و قليل من صغار السمك
    35 فامر الجموع ان يتكئوا على الارض
    36 و اخذ السبع خبزات و السمك و شكر و كسر و اعطى تلاميذه و التلاميذ اعطوا الجمع
    37 فاكل الجميع و شبعوا ثم رفعوا ما فضل من الكسر سبعة سلال مملوءة
    38 و الاكلون كانوا اربعة الاف رجل ما عدا النساء و الاولاد
    39 ثم صرف الجموع و صعد الى السفينة و جاء الى تخوم مجدل
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 2:10 pm

    الأصحاح السادس عشر

    بنَاءُ الملكوتُ المسيحاني

    لكي يقوم الملكوت المسيحاني كبناءٍ شامخٍ يبلغ السماوات يلزم حفر أساسات عميقة بهدم مملكة الظلمة لإقامة مفاهيم جديدة. بمعنى آخر يلزم أولاً هدم الإنسان القديم ليقوم الإنسان الجديد، خلال صليب ربّنا يسوع المسيح وقيامته. وقد ركّز الإنجيلي هنا على هدم "الرياء" كأساس الإنسان العتيق وقيام "الإيمان" كأساس الإنسان الجديد، أمّا تكلفة هذا العمل فهو الصلب.

    1. اتفاق الفرّيسيّين والصدّوقيّين ضدّه 1-4.

    2. هدم الرياء محطِّم الملكوت 5-12.

    3. قيام الإيمان كأساس الملكوت 13-20.

    4. الصلب تكلفة الملكوت 21-23.

    5. دورنا الإيجابي في الملكوت 24-26.

    6. الملكوت الأخروي 27-28.

    1. اتفاق الفرّيسيّين والصدوقين ضدّه

    "وجاء إليه الفرّيسيّون والصدوقيون ليجرِّبوه،

    فسألوه أن يريهم آية من السماء" [1].

    لقد اتفق المتعارضون فكريًا معًا ضدّ السيّد المسيح، إذ لا تقبل مملكة الظلمة النور، ولا يطيق الباطل الحق حتى وإن تضارب الباطل فيما بينه. لقد اتَّفقوا معًا على تجربته، سائلين إيّاه أن يريهم آية من السماء. طلبوا علامة ظاهرة في الطبيعة، ولم يدركوا أن هذه الآيات والعلامات تسبق مجيئه الأخير للدينونة، علامة انحلال العالم وقوّات الشرّ قدامه لإقامة العالم الجديد، أي ملكوته الأبدي. أمّا الآن فقد جاء ليخلّص لا ليدين، جاء ليقدّم علاماته وآياته في حياة الناس لأجل توبتهم وتغيير طبيعتهم الداخليّة. جاء ليُعلن تحنّنه على البشريّة وترفُّقه بنا لا ليستعرض قوّته وسلطانه.

    في تعامله مع فرعون ليدينه قدّم له مثل هذه العلامات الخاصة بالطبيعة ليُرهبه، أمّا مع الأصدقاء فلا حاجة لمثلها. لقد قدّم لهم الخلاص الذي تحقّق رمزيًا في يونان النبي، إذ أجاب مجرِّبيه، قائلاً: لهم: "إذا كان المساء قلتم صحو، لأن السماء مُحمَرّة . وفي الصباح اليوم شتاء، لأن السماء مُحمَرَّة بعبوسة. يا مراؤون تعرفون أن تميّزوا وجه السماء، وأما علامات الأزمنة فلا تستطيعون. جيل شرّير فاسق يلتمس آية، ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي، ثم تركهم ومضى" [2-4].

    لقد وهب الله الإنسان عقلاً يفكّر به ليميّز الأمور، فيستطيع أن يتعرّف على حالة الجو خلال العلامات الظاهرة في السماء، لكن للأسف لم يستخدم الفرّيسيّون والصدّوقيّون هذه العطيّة الإلهيّة لحساب ملكوت الله، مع أن بين أيديهم نبوّات الأنبياء تُعلن بوضوح عن شخص السيّد المسيح وأعماله الخلاصيّة. إنهم يقولون أن المساء صحو، لأن السماء مُحمَرة، وقد جاء مساء العالم، ملء الأزمنة، ليبذل الرب دمه لخلاصنا فرفضوه ولم يقولوا أن الوقت صحو، أي وقت مقبول لرجوعهم إليه والتمتّع بأعماله الخلاصيّة. وقد اقترب صباح الأبديّة ولم يدركوا أنهم في شتاء (برودة) الروح يفقدون الإكليل السماوي، وشركة الأمجاد الإلهيّة. صاروا يميّزون وجه السماء ماديًا، ولا يدركون أسرار الملكوت الروحي، فيبقى يونان النبي وغيره من الأنبياء شهود حق ضدّهم.

    2. هدْم الرياء محطِّم الملكوت

    إن كان السيّد المسيح يُقيم ملكوته السماوي فينا، فإن هذا البناء الإنجيلي يحتاج أولاً إلى هدم المفاهيم الخاطئة لوضع أساس روحي جديد. بدون هدم رياء الفرّيسيّين والصدّوقيّين لا يمكن التمتّع بالإيمان الحيّ الخاص بالملكوت، وبدون تحطيم الإنسان القديم لا يمكن إقامة الإنسان الجديد.

    يروي لنا الإنجيلي لقاءً تمّ بين السيّد المسيح وتلاميذه، نستطيع أن نقول أنه أشبه بمجمع كنسي يضم الرعاة وقد حلّ السيّد في وسطهم ليُعلن لهم أسرار ملكوته، فيما يلي تفاصيله:

    "ولما جاء تلاميذه إلى العَبْر نسوا أن يأخذوا خبزًا" [5]. لقد انجذب التلاميذ إلى السيّد المسيح؛ فانطلقوا إلى العَبْر الآخر كما إلى الحياة الأخرى، ليعيشوا بفكرٍ سماويٍ، تاركين كل شيء، حتى الضروريّات، إذ نسوا أن يأخذوا خبزًا.

    "وقال لهم يسوع: انظروا وتحرّزوا من خمير الفرّيسيّين والصدّوقيّين.

    ففكّروا في أنفسهم قائلين: إننا لم نأخذ خبزًا.

    فعلم يسوع وقال لهم: لماذا تفكّرون في أنفسكم يا قليلي الإيمان أنكم لم تأخذوا خبزًا؟

    أحتّى الآن لا تفهمون، ولا تذكرون خمس خبزات الخمسة آلاف وكم قُفّة أخذتم؟

    ولا سبع خبزات الأربعة آلالاف وكم سلاً أخذتم؟

    كيف لا تفهمون إني ليس عن الخبز قلت لكم أن تتحرّزوا من خمير الفرّيسيّين والصدّوقيّين؟

    حينئذ فهموا أنه لم يقل تحرّزوا من خمير الخبز

    بل من تعليم الفرّيسيّين والصدّوقيّين" [6-12].

    حيث يجتمع الرعاة معًا في المسيح يسوع ربنا، يقوم السيّد نفسه بقيادتهم وتوجيههم، من الجانب السلبي والإيجابي، فيُحذّرهم من الرياء كما يكشف لهم أسرار الآب [17].

    فمن الجانب السلبي سألهم أن يتحرّزوا من خمير الفرّيسيّين والصدّوقيّين، وللأسف انسحب فكرهم إلى "الخمير" أو الخبز بالمفهوم المادي، بل ويبدو أنهم ارتبكوا جدًا بسبب عدم وجود طعام، فوبّخهم السيد، مذكّرًا إيّاهم بمعجزتي إشباع الجموع. بهذا عالج السيّد ضعفًا جديدًا في حياتهم، ألا وهو الارتباك بالأمور الماديّة والاحتياجات الزمنيّة.

    في اختصار نقول أن السيّد عالج الجانب السلبي من ناحيتين: الأولي هي الهروب من الرياء "خمير الفرّيسيّين"، والثانية هي عدم الارتباك في التدابير الماديّة خاصة متى اجتمع بزملائه الرعاة في شخص السيّد المسيح، هذان المرضان للأسف يصيبان الكثير من اجتماعات الرعاة الكنسيّين.

    لقد حذّرهم من خطيّة الرياء بكونها أخطر عدوّ للملكوت، لأن الخطايا الظاهرة يُمكن تداركها والتوبة عنها، أمّا الرياء فيتسلّل إلى حياة القادة الروحيّين والخدّام والمتعبّدين، لا ليشغلهم عن الخدمة والعبادة، وإنما ليُشعل فيهم الشوق نحو الخدمة والعبادة دون الالتقاء مع السيّد المسيح نفسه، فيرتفع الإنسان بذاتيّته وأنانيّته تحت ستار الدين والخدمة ويظهر البناء شاهقًا بلا أساس ليسقط هاويًا.

    يشبّه القدّيس يوحنا الذهبي الفم الرياء باللص الذي يتسلّل خفية إلى صفوف المتعبّدين. رعاة ورعيّة، يسرق قلوبهم خلسة دون أن يكتشفوه. ويقول القدّيس أمبروسيوس: [يقدّم لنا ربّنا تأكيدًا قويًا على ضرورة حفظ البساطة مع غيرة الإيمان، فلا نكون كاليهود غير المؤمنين الذين يمارسون أمرًا ما ويتظاهرون في كلماتهم بالغيرة.]

    أما عن تشبيه الرياء بالخميرة فيقول القدّيس غريغوريوس النزينزي: [عندما تُمتدح الخميرة إنّما لأنها تخص خبز الحياة، وعندما تُذم إنّما لأنها تُشير إلى المكر المرّ الذي يستقر (فيمن يعتاد عليه).]

    هذا بخصوص الرياء، أمّا الجانب السلبي الآخر فهو تحذيرهم من الارتباك في التدابير الماديّة والتنظيمات أثناء اجتماع الرعاة، عِوض أن يكون "المسيح" نفسه غايتهم. فقد انشغل التلاميذ وارتبكوا بالخبز ولم يدركوا أن الحال في وسطهم هو المسيح "الخبز الحيّ" المشبع للكل!

    لقد ترك التلاميذ خدمة الموائد للشمامسة (أع 7) المملوءين بالروح القدس وشهود الحق لكي يتفرّغوا هم لخدمة الكلمة! حقًا ليست هناك ثنائيّة بين كلمة الكرازة وأعمال الحب وخدمة الفقراء وتدبير أمور الكنيسة، لكن من أجل تفرّغ كل عضو في الكنيسة للعمل اللائق به يلزم على الرعاة الروحيّين ألا ينشغلوا بخدمة الموائد، ليس تحقيرًا لها، وإنما من أجل التخصّص. فكما أن العين تنظر لحساب الجسد كلّه لكنها لا تسمع بذاتها إنّما خلال الأذن، هكذا يمثّل العمل الكنسي وحدة متكاملة معًا، كما لأعضاء كثيرة في جسدٍ واحدٍ يعمل معًا، كل في تخصّصه.

    نعود إلى حديث السيّد مع تلاميذه لنلاحظ أنه إذ أراد توجيههم لم يُحذّرهم أمام الجماهير، حتى لا يجرح مشاعرهم، بل تحدّث معهم على انفراد، مقدّمًا لهم صورة حيّة عن الأبوّة الروحيّة التي تترفّق حتى عندما تُحذِّر وتُنذِر.

    3. قيام الإيمان كأساس الملكوت

    بعد أن أعلن السيّد المسيح التزام التلاميذ بهدم الرياء وعدم الارتباك بالأمور الزمنيّة، قدّم لهم الجانب الإيجابي الذي يقوم عليه التعليم الإنجيلي أو بناء الملكوت، ألا وهو "الإيمان"، وذلك من خلال لقاء جديد مع تلاميذه، وكأنه اجتماع رعوي جديد. في هذا الاجتماع سأل تلاميذه قائلاً: "من يقول الناس إنّي أنا ابن الإنسان؟" [13]

    بهذا السؤال أبرز السيّد جانبًا هامًا في إيماننا به بدعوته "ابن الإنسان" تأكيدًا لتأنُّسه. فإن كان الآب يُعلن لبطرس الرسول أنه ابن الله الحيّ مؤكدًا لاهوته، فإن الابن نفسه يؤكّد ناسوته. كأن إيماننا به إنّما يقوم على "تأنُّسه"... فبالتجسّد الإلهي تقدّم ابن الله كرأس للكنيسة ملكوت الله على الأرض، وباتّحادنا مع ابن الله المتأنّس ندخل - خلال مياه المعموديّة - إلى العضويّة في هذا الملكوت الروحي الجديد، ننعم بصورة خالقنا ونتمتّع بحياته فينا، فنحمله داخلنا كسرّ حياة أبديّة.

    سألهم السيد: "من يقول الناس إني أنا، ابن الإنسان؟" [13]، وإذ هم من الناس لم يستطيعوا من ذواتهم أن يدركوا سرّ لاهوته، وأمام دهشتهم لتصرُّفاته قال: "قوم يوحنا المعمدان، وآخرون إيليّا، وآخرون إرميا، أو واحد من الأنبياء" [14]. حقًا إن الحاجة إلى الله نفسه لكي يُعلن لنا سرّ المسيح.

    عاد السيّد يسألهم:" وأنتم من تقولون إنّي أنا؟" [15] ويرى القدّيس جيروم في قول السيّد "وأنتم..." بعد قوله "من يقول الناس..."، أن التلاميذ لم يعودوا بعد من الناس، لكنهم صاروا به آلهة، قائلاً: [كأنه يقول لهم أنهم كبشر قد فكّروا في أمور بشريّة، وأنتم كآلهة من تقولون إني أنا؟]

    سؤال السيّد لتلاميذه لم يكن اِستفسارًا ولا لكي يَعلم ما في قلوبهم، وإنما ليعطيهم الفرصة لنزع الأفكار البشريّة الخاطئة، وقبول الإعلان الإلهي؛ وكما يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [أنه كان يهيّئ تلاميذه لآلامه حتى لا يتشكّكوا فيه.]

    إذ قدّم السيّد لهم السؤال، "أجاب سمعان بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحيّ [16]. "فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحمًا ودمًا لم يُعلن لك، لكن أبي الذي في السموات" [17]. إيماننا بالمسيّا الملك، ابن الله المتأنّس، ليس فكرة فلسفيّة نعشقها، ولا هو وليد إيمان عقلاني نتقبّله من لحم ودم، إنّما هو إعلان إلهي يشرق به الآب بروحه القدّوس على شعبه خلال الرسل والتلاميذ، فتسلّمته الكنيسة كإعلان إلهي رسولي، كوديعة تَقدِمه من جيلٍ إلى جيلٍ، ليس كتسليمٍ بشري إنّما هو تسليم إلهي، يشرق به الله في قلوب المؤمنين خلالها. إنه عمل إلهي في داخل القلب قادر أن يربط النفس بملكها، فنعيش الحياة الملكوتيّة السماويّة. وما تمّ لبطرس الرسول يتحقّق مع كل عضو في كنيسة المسيح المقدّسة وإن كان بطرق مختلفة، خلال الكاهن أو كلمة وعظ أو كلمة مكتوبة، لكن المعلن الخفي هو الله نفسه، الذي يعمل في القلوب لإعلان الإيمان فيها.

    وفيما يلي بعض تعليقات الآباء على هذه العبارة:

    v ما لم يستطع اللحم والدم أن يعلنه، تعلنه نعمة الروح القدس. لهذا السبب تقبّل (سمعان بطرس) اسمًا يعني أنه قد تسلّم إعلانًا من الروح القدس. لأن "ابن يونا" في لساننا يعني "ابن الحمامة"، وإن كان البعض يفهمها ببساطة أن سمعان الملقب بطرس هو "ابن يوحنا" معتبرين أن الاسم "ابن يونا Jona" إنّما قصد به "يوحنا Joanaa"... وكلمة "يوحنا" تعني نعمة الله. بهذا فإن الاسم يفسر سرّيًا بالحمامة أي الروح القدس أو نعمة الله أي عطيّة الروح.

    القدّيس جيروم

    v طوبى لذاك الذي يُمدَح لإدراكه وفهمه الذي فوق الرؤيا بالعيون البشريّة، فلا يتطلّع إلى ما هو من الجسد واللحم، إنّما ينظر ابن الله خلال الإعلان له من الآب السماوي. لقد صار مستحقًا أن يكون أول من اعترف بلاهوت المسيح.

    القدّيس هيلاري أسقف بواتييه

    v انظر كيف يُعلن الآب عن الابن، والابن عن الآب. فإنّنا لا نتعلّم عن الابن سوى من الآب. هنا يُعلن لنا أن الابن واحد مع الآب ومساوٍ له، مسجود له معه.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v آمِن إذن كما آمَنَ بطرس لتُطوَّب أنت أيضًا، وتستحق سماع الكلمات: "إن لحمًا ودمًا لم يُعلنا لك، لكن أبي الذي في السماوات". فاللحم والدم لا يقبلان إلا الأرضيّات، وعلى العكس من يتحدّث عن الأسرار بالروح فلا يعتمد على تعاليم اللحم والدم، وإنما على الإعلان الإلهي. لا تعتمد على اللحم والدم لتأخذ منهما أوامرك، فتصير أنت نفسك لحمًا ودمًا، وأما من يلتصق بالروح فهو روح واحد (1 كو 6: 17).

    القدّيس أمبروسيوس

    يكمّل السيّد حديثه مع القدّيس بطرس: "وأنا أقول لك أيضًا أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" [18].

    كلمة "بطرس" مشتقّّة عن اليونانيّة "بترا Petra" أي صخرة، فقد أقام السيّد كنيسته التي هي ملكوته على الصخرة التي هي الإيمان بالسيّد المسيح المعلن للقدّيس بطرس. الإيمان بالمسيّا هو الأساس الذي يقوم عليه بناء الملكوت المرتفع حتى السماوات عينها. بالتجسّد الإلهي تقدّم ابن الله الحيّ كحجر زاوية يسند البناء كلّه فلا تقدر الزوابع أن تحطّمه ولا العواصف أن تهز حجرًا واحدًا منه.

    v إنه لم يقل له أنت صخرة tu es Petra بل أنت بطرس tu es Petrus، فإن الصخرة كانت المسيح (1 كو10: 4)، التي اعترف بها سمعان كما لو اعترفت الكنيسة كلها، لذلك دُعى "بطرس".

    القدّيس أغسطينوس

    v لقد عنى بهذا: أنه على هذا الإيمان وعلى هذا الاعتراف ابني كنيستي. لقد أظهر بهذا أن كثيرين يؤمنون بما اعترَف به بطرس، كما أنه بهذا رفع من روحه وجعله راعيًا.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v كما أنه هو النور ويهب تلاميذه أن يدعوا "نور العالم"، كذلك نالوا الأسماء الأخرى من الرب. لقد أعطى لسمعان الذي آمن بالمسيح الصخرة أن يُدعى بطرس "الصخرة".

    القدّيس جيروم

    v من يتمثل بالمسيح فهو صخرة.

    العلاّمة أوريجينوس

    v عظيمة هي محبّة المسيح الذي أعطى كل ألقابه لتلاميذه، فيقول: "أنا هو نور العالم" (يو 8: 12) ومع ذلك يعطي من طبعه لتلاميذه قائلاً: "أنتم نور العالم" (مت 5: 14). يقول: "أنا هو الخبز الحيّ" (يو 6: 35)، ونحن جميعًا خبز واحد (1 كو 10: 17). يقول: "أنا هو الكرمة الحقيقيّة" (يو 15: 1)، ويقول لك: "غرستُك كرمة سورَق زرع حق كلها" (إر 2: 21).

    المسيح هو الصخرة: "كانوا يشربون من صخرة روحيّة تابعتهم، والصخرة كانت المسيح" (1 كو 10: 4)، ولم يحرم تلميذه من هذا الاسم، فهو أيضًا صخرة، إذ تكون لك صلابة الصخر الراسخ وثبات الإيمان. اجتهد أن تكون أنت أيضًا صخرة، فلا يبحثون عن الصخرة خارجًا عنك وإنما في داخلك.

    صخرتك هي عملك، وهي روحك، وعليها تبني بيتك فلا يقدر عاصف من عواصف الروح الشرّير أن يسقطه.

    صخرتك هي الإيمان الذي هو أساس الكنيسة، فإن كنتَ صخرة تكون كنيسة، وإن كنتَ في الكنيسة فأبواب الجحيم لن تقدر عليك، هذه التي هي أبواب الموت.

    القدّيس أمبروسيوس

    "وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات

    فكل ما تربطوه على الأرض يكون مربوطًا في السماوات،

    وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات" [19].

    إن كان ملكوت السماوات هو عمل إلهي يعلنه الآب في قلوبنا بالروح القدس في ابنه، فقد قدّم مفاتيح هذا الملكوت بين يديّ الكنيسة، لا لتسيطر، وإنما لتخدم البشريّة. لقد تسلّمت السلطان لا لتعمل بذاتها بل بالروح القدس الساكن فيها. فتشترك العروس في عمل العريس نفسه، لتنال كرامة الشركة معه على أن تتم إرادته الإلهيّة في سلوكها.

    مفتاح الملكوت في الحقيقة هو في ملكيّة ابن داود نفسه الذي يفتح ولا أحد يُغلق، ويُغلق ولا أحد يفتح، فإن كان السيّد قد وهب كنيسته هذا المفتاح الإلهي إنّما يأتمنها عليه ويبقى هو العامل سرّيًا في داخلها، يعرف من يستحق فيفتح له خلالها ومن يتركه خارجًا يغلق عليه.

    v لو أن هذا قيل لبطرس وحده لما حمل أي أساس لعمل خاص بالكنيسة.

    القدّيس أغسطينوس

    v لذلك خلال تغيير الأزمنة وتتابعها يفيض نظام الأساقفة تباعًا في تدبير الكنيسة (بالسلطان الذي أعطى لهم).

    القدّيس كبريانوس

    v ليت الذي يربط غيره أو يحلُّه أن يكون هو نفسه بلا لوم، فيوجد مستحقًا أن يربط أو يحلّ في السماء. من يقدر أن يغلق أبواب الجحيم بفضائله تُعطى له مفاتيح ملكوت السماوات كمكافأة. فإنه إذ يبدأ إنسان في ممارسة كل نوع من الفضيلة يكون كمن يفتح لنفسه أبواب السماء، إذ يفتحها الرب بنفسه، فتكون الفضيلة عينها هي باب السماء ومفتاحه. كل فضيلة إنّما هي ملكوت السماوات.

    العلاّمة أوريجينوس

    v الأساقفة والكهنة الذين لا يفهمون هذا الأمر (فيحكمون بلا تمييز) يأخذون لأنفسهم نوعًا من كبرياء الفرّيسيّين حتى يظنّون أنهم يقدرون أن يدينوا الأبرياء ويغفروا للمجرمين؛ لكن الله لا ينظر إلى حكم الكهنة وإنما إلى حياة الذين يُدانون.

    القدّيس جيروم

    4. الصلب تكلفة الملكوت

    "من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه

    أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم،

    ويتألّم كثيرًا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة،

    ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم" [21].

    إذ أعلن السيّد ملكوته بكونه هدمًا وبناءً، اِقتلاعًا وغرسًا، فيه يُهدم الإنسان القديم بأعماله لكي يقوم الإنسان الجديد؛ فإن تكلفة هذا الملكوت هو "الصلب". لقد بدأ السيّد يتحدّث علانيّة مع تلاميذه عن التزامه بحبّه الإلهي أن يذهب إلى أورشليم، ليحُفظ هناك كفصحٍ حقيقيٍ يُقدَّم عن البشريّة كلها، فيهدم الخطيّة بمملكتها ويُقيم ملكوته بقيامته! بصليبه دان الخطيّة في جسده، هذا الذي لم يعرف خطيّة صار خطيّة من أجلنا، لكي يحطِّم مملكتها ويبدّد سلطانها، فنقوم فيه مقدّسين بدمه، أعضاء جسده المقدّس، أبناء الملكوت الجديد.

    يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على ذلك معلنًا إمكانيّة علامة الصليب في إقامة الملكوت بالقول: [كما أنها حطَّمت أبواب الجحيم وفتحت أبواب السماوات وقدّمت مدخلاً جديدًا للفردوس وهدمت حصون الشيّاطين، فلا عجب إن تغلَّبت أيضًا على المواد السامة والحيوانات الكاسرة، وما شابهها.]

    لم يكن ممكنًا للقدّيس بطرس في ذلك الحين أن يدرك الملكوت الداخلي، وبالتالي أن يتفَّهم "سرّ الصليب"، لهذا يقول الإنجيلي: "أخذ بطرس إليه واِبتدأ ينتهره قائلاً: حاشاك يا رب، لا يكون لك هذا. فالتفت، وقال لبطرس: اذهب عنّي يا شيطان، أنت معثَرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس" [22-23]. لقد ظنّ الرسول بطرس أنه إذ ينتهر السيّد رافضًا إهانته وآلامه يُعلن بذلك حبّه له. لكنّه فوجئ بالسيّد ينتهره: "اذهب عنّي يا شيطان".

    بطرس الرسول الذي تقبَّل إعلان الآب عن لاهوت الابن فصار إيمانه الصخرة التي تقوم عليها الكنيسة، وحُسب أهلاً أن يتمتّع مع التلاميذ بمفاتيح الملكوت، إذ رفض الصليب دعاه السيّد " شيطانًا"، و"معثرة لي" و"مهتمّا بما للناس لا بما لله". لقد جاء السيّد يُقيم مملكته خلال صليبه، فمن يرفض الصليب يرفض الفكر الإلهي، ويصير معثرة مهتمّا بالأمور الظاهرة، التي تفرِّح قلب الناس لا الله. فالصليب هو العمل الإلهي الذي شغل فكر الله منذ الأزل لأجل خلاصنا، بدونه يتعثّر الدخول إلى المملكة الإلهيّة، ويتحوّل الملكوت الإلهي إلى ملكوت بشري.

    5. دورنا الإيجابي في الملكوت

    إن كان السيّد قد دفع تكلفة الملكوت على الصليب، فإنّنا لا ننعم بهذا الملكوت ولا ننمو فيه ما لم نشترك إيجابيًا فيه بحمل الصليب مع عريس الملكوت المصلوب. لهذا يكمّل السيّد حديثه مع تلاميذه عن صلبه بالتزامهم بحمل الصليب، إذ يقول الإنجيلي:

    "حينئذ قال يسوع لتلاميذه:

    إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه،

    ويحمل صليبه ويتبعني" [24].

    وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: أن السيّد المسيح بهذا قد وبّخ القدّيس بطرس الذي انتهره عن حمل الصليب، [كأنه يقول لبطرس: أنت تنتهرني لأني أريد أن أتألّم، لكنّني أخبرك بأنه ليس فقط من الخطأ أن تمنعني عن الآلام، وإنما أقول لك أنك لن تقدر أن تخلُص ما لم تمُت أنت أيضًا.]

    إن كان ملكوت السموات هو التبعيّة للمسيّا الملك، فإنه لا يقدر أحد أن يقبل هذه التبعيّة ما لم يدخل دائرة الصليب، ويحمل سمات الملك نفسه، أي الصليب. يلتزم أن ينكر نفسه أو يجحدها أو يكْفر بها، فتُصلب ذاته على الصليب، لا ليعيش في ضعف وضيق بلا أحاسيس أو مشاعر أو إرادة، وإنما وهو يدخل بالروح القدس إلى صليب السيّد يموت عن ذاته، ليحمل السيّد نفسه في داخله. تختفي الإرادة البشريّة الضعيفة، لا ليعيش بلا إرادة، إنّما تحلّ إرادة المسيح الحكيمة والقادرة لتعمل فيه. ولا ليعيش بلا أحاسيس أو عواطف إنّما وهو يموت عن هذه جميعها يتقبّلها جديدة من يديّ الآب بالروح القدس، فتكون له أحاسيس السيّد المسيح نفسه ورقَّته ووداعته وحنوُّه، ليحيا حاملاً سمات المسيح متجلِّية فيه. هذا هو مفهوم الصليب أنه يحمل خسارة، لكن في الحقيقة هو مكسب، وفيما يبيع المسيحي كل شيء يقتني ما هو أعظم. لذلك يقول السيد: "فإنّ من أراد أن يخلّص نفسه يُهلكها، ومن يُهلك نفسه من أجلي يجدها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟! أو ماذا يُعطي الإنسان فداء عن نفسه؟!" [25-26].

    هذا هو الطريق الملوكي الحق الذي فيه يحتمل كل تعب، حتى هلاك حياته الزمنيّة، ليجد نفسه متمتّعا بما هو فائق للحياة، وفيما هو يترك العالم يقتني ما هو أعظم. إنه أخذ مستمر خلال الترْك والتخلِّي! لذلك كتب القدّيس أغناطيوس الأنطاكي في رسالته إلى أهل روما هكذا [ماذا تفيدني ملذّات العالم؟ ما لي وفتنة ممالك هذا العالم؟ إني أُفضِّل أن أموت مع المسيح من أن أملك أطراف المسكونة، إني أطلب المسيح الذي مات من أجلنا، وقام أيضًا من أجلنا. قد قربت الساعة التي سأُولد فيها، اغفروا لي يا إخوتي، دعوني أحيا، اُتركوني أموت. إني أريد أن أكون لله. لا تتركوني في العالم، لا تتركوني ومغريات الأرض. دعوني أبْلغ إلى النور النقي.]

    ماذا يعني إنكار الإنسان نفسه؟

    v ينكر الإنسان ذاته عندما لا يهتمّ بجسده متى جُلد أو احتمل آلامًا مشابهة، إنّما يحتملها بصبر.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v إذ يحب أحد الله يبغض ذاته أي إنساننا الجسداني... ففي داخلنا وفي أفكارنا وقلوبنا وإرادتنا قوّة غير عادية تعمل دائمًا كل يوم وفي كل لحظة لتسحبنا من الله؛ تقترح علينا أفكارًا ورغبات واهتمامات ونيّات ومشاغل وكلمات، وأعمال باطلة تثير فينا الشهوات وتدفعها بعنف فينا؛ أقصد المكر والحسد والطمع والكبرياء والمجد الباطل والكسل والعصيان والعناد والخداع والغضب.

    الأب يوحنا من كرونستادت

    6. الملكوت الأخروي

    يختم السيّد حديثه عن بناء ملكوت السماوات كحياة داخليّة نعيشها هنا بالإعلان عنه كملكوت أُخروي أبدي، هو في حقيقته ليس غريبًا عن الملكوت الداخلي بل اِمتداد له. فما نعيشه الآن في المسيح يسوع خلال الإيمان ننعم به في كمال المجد خلال القيامة أخرويًا، إذ يقول: "فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله" [27].

    الحياة الملكوتيّة التي نعيشها هنا وننعم بها ما هي إلا عربون للحياة الخالدة الممتدّة فوق حدود الزمن حين يظهر السيّد المسيح الملك مع ملائكته ليجازي كل واحد حسب عمله. إن كان الإيمان هو أساس الملكوت إلا أنه يلزم أن يكون "عمليًا" حتى يقدّم لنا السيّد الأكاليل الأبديّة مجازيًا "كل واحد حسب عمله".

    وإذ أراد أن يدخل بتلاميذه إلى هذا الملكوت بطريقة ملموسة سمح لثلاثة من تلاميذه أن ينعموا بتجلّيهK ليختبروا لحظات من الحياة الملكوتيّة الأخرويّة، إذ يقول: "الحق أقول لكم إن من القيام ههنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته" [28]. ويرى القدّيس أمبروسيوس أنه يليق بالمؤمن أن ينعم بالتمتّع بهذه الحياة السماويّة في عربونها وهو بعد على الأرض، إذ يقول: [ليس أخنوخ وحده حيّ، إذ ليس بمفرده أُخذ إلى فوق لكن بولس أيضًا أُخذ إلى فوق ليلتقي بالمسيح.] وكأنه يليق بنا أن نتمتّع بارتفاع النفس إلى فوق لتحيا مع السيّد المسيح السماوي فلا يغلبها الموت إلى الأبد.


    1 و جاء اليه الفريسيون و الصدوقيون ليجربوه فسالوه ان يريهم اية من السماء
    2 فاجاب و قال لهم اذا كان المساء قلتم صحو لان السماء محمرة
    3 و في الصباح اليوم شتاء لان السماء محمرة بعبوسة يا مراؤون تعرفون ان تميزوا وجه السماء و اما علامات الازمنة فلا تستطيعون
    4 جيل شرير فاسق يلتمس اية و لا تعطى له اية الا اية يونان النبي ثم تركهم و مضى
    5 و لما جاء تلاميذه الى العبر نسوا ان ياخذوا خبزا
    6 و قال لهم يسوع انظروا و تحرزوا من خمير الفريسيين و الصدوقيين
    7 ففكروا في انفسهم قائلين اننا لم ناخذ خبزا
    8 فعلم يسوع و قال لهم لماذا تفكرون في انفسكم يا قليلي الايمان انكم لم تاخذوا خبزا
    9 احتى الان لا تفهمون و لا تذكرون خمس خبزات الخمسة الالاف و كم قفة اخذتم
    10 و لا سبع خبزات الاربعة الالاف و كم سلا اخذتم
    11 كيف لا تفهمون اني ليس عن الخبز قلت لكم ان تتحرزوا من خمير الفريسيين و الصدوقيين
    12 حينئذ فهموا انه لم يقل ان يتحرزوا من خمير الخبز بل من تعليم الفريسيين و الصدوقيين
    13 و لما جاء يسوع الى نواحي قيصرية فيلبس سال تلاميذه قائلا من يقول الناس اني انا ابن الانسان
    14 فقالوا قوم يوحنا المعمدان و اخرون ايليا و اخرون ارميا او واحد من الانبياء
    15 قال لهم و انتم من تقولون اني انا
    16 فاجاب سمعان بطرس و قال انت هو المسيح ابن الله الحي
    17 فاجاب يسوع و قال له طوبى لك يا سمعان بن يونا ان لحما و دما لم يعلن لك لكن ابي الذي في السماوات
    18 و انا اقول لك ايضا انت بطرس و على هذه الصخرة ابني كنيستي و ابواب الجحيم لن تقوى عليها
    19 و اعطيك مفاتيح ملكوت السماوات فكل ما تربطه على الارض يكون مربوطا في السماوات و كل ما تحله على الارض يكون محلولا في السماوات
    20 حينئذ اوصى تلاميذه ان لا يقولوا لاحد انه يسوع المسيح
    21 من ذلك الوقت ابتدا يسوع يظهر لتلاميذه انه ينبغي ان يذهب الى اورشليم و يتالم كثيرا من الشيوخ و رؤساء الكهنة و الكتبة و يقتل و في اليوم الثالث يقوم
    22 فاخذه بطرس اليه و ابتدا ينتهره قائلا حاشاك يا رب لا يكون لك هذا
    23 فالتفت و قال لبطرس اذهب عني يا شيطان انت معثرة لي لانك لا تهتم بما لله لكن بما للناس
    24 حينئذ قال يسوع لتلاميذه ان اراد احد ان ياتي ورائي فلينكر نفسه و يحمل صليبه و يتبعني
    25 فان من اراد ان يخلص نفسه يهلكها و من يهلك نفسه من اجلي يجدها
    26 لانه ماذا ينتفع الانسان لو ربح العالم كله و خسر نفسه او ماذا يعطي الانسان فداء عن نفسه
    27 فان ابن الانسان سوف ياتي في مجد ابيه مع ملائكته و حينئذ يجازي كل واحد حسب عمله
    28 الحق اقول لكم ان من القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الانسان اتيا في ملكوت
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 2:13 pm

    الأصحاح السابع عشر

    ملكوت أخروي وَاقعي

    إذ وعد السيّد تلاميذه أن قومًا منهم يرون ابن الإنسان آتيًا في ملكوته، أخذ ثلاثة من تلاميذه ودخل بهم إلى ملكوته الأبدي متجليًا على جبل تابور، لكنّه عاد فنزل معهم، لنعيش هذا الملكوت خلال حياتنا الواقعية على الأرض متجهيّن نحو الصليب.

    1. التجلّي 1-8.

    2. الحاجة إلى إيليّا 9-13.

    3. هدم مملكة الشيطان 14-21.

    4. الحاجة إلى الصليب 22-23.

    5. إيفاء الدرهمين 24-27.

    1. التجلّي

    التجلّي هو دخول بالنفس إلى تذوّق الحياة الأخرويّة، لترى عريسها قادمًا في ملكوته، معلنًا لها أمجاده الإلهيّة بالقدر الذي يمكنها أن تحتمله وهي بعد في الجسد. هذا العمل الإلهي الذي تحقّق بطريقة ملموسة على جبل تابور أمام ثلاثة من التلاميذ ونبيّين من رجال العهد القديم، يتحقّق بصورة أو أخرى داخل القلب من حين إلى آخر، لكي يقدر أن ينسحب نحو العُرس الأبدي مشتاقًا إلى الانطلاق نحو الحياة الإنقضائيّة، فيحمل دفعة روحيّة قويّة تسند الإنسان في حمله الصليب والشهادة للسيّد المسيح.

    التجلّي هو إعلان" الملكوت السماوي" الممتد فوق كل حدود الزمان، يقدّم للنفس البشريّة التي قبلت أن تكون إيجابيّة فيه بحمل صليب عريسها الملك، والدخول معه إلى الموت يوميًا للتمتّع بقوة قيامته. إنه يمثّل دفعه قويّة يهبها الملك المسيّا لجنوده الروحيّين للجهاد المستمر ضدّ إبليس وأعماله، ليهب فيهم الحنين نحو المكافأة الأبديّة والتمتّع بشركة الأمجاد السماويّة.

    إذن فالتجلّي الذي تحقّق مرّة في حياة ثلاثة من التلاميذ، صار رصيدًا قدّمه السيّد لحساب الكنيسة كلها، تسحب منه كل يوم فيتزايد. تطلبه فتجده خبرة يوميّة تقويّة، يعيشها المؤمن على جبال الله المقدّسة، أي وصاياه، خلال الكنيسة سواء في عبادته الجماعيّة أو العائليّة أو الشخصيّة، كما يتذوّقها أثناء عمله بل ونومه، وفي تعامله مع الأتقياء كما مع الأشرار. إنه لقاء مستمر مع ربّنا يسوع المسيح على الدوام، فيه يكشف أمجاده جديدة في كل لحظة من لحظات حياتنا، حتى نلتقي به وجهًا لوجه في مجيئه الأخير.

    بين التجلّي وأحداث الصلب

    ارتبط التجلّي بأحداث الصلب والقيامة، فإنه لا يمكن للمؤمن أن يرتفع على جبل التجلّي ليرى بهاء السيّد ما لم يقبل صليبه ويدخل معه آلامه ليختبر قوّة قيامته فيه، فيُعلن الرب أمجاده له. ومن جانب آخر ما كان يمكن للتلاميذ أن يتقبّلوا آلامه ويُدكوا سرّ قيامته ما لم يهيِّئهم - خلال ثلاثة منهم - بالتجلّي.

    v إذ تحدّث الرب كثيرًا عن المخاطر التي تنتظره وآلامه وموته، وعن موت التلاميذ والتجارب القاسية التي تلحق بهم في الحياة... كما حدثهم عن أمور صالحة كثيرة يترجّونها، من أجلها يخسرون حياتهم لكي يجدوها، وإنه سيأتي في مجد أبيه ويهبنا الجزاء، لهذا أراد أن يُظهر لهم ما سيكون عليه مجده عند ظهوره، فيروا بأعينهم ويفهموا قدر ما يستطيعون، لهذا أظهر لهم ذلك في الحياة الحاضرة (بالتجلّي)...

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v القوم الذين قال عنهم أنهم لا يذوقون الموت حتى يعاينوا صورة مجيئه ورمزه، هم هؤلاء التلاميذ الثلاثة الذين أخذهم معه إلى الجبل، وأعلن لهم طريقة مجيئه في اليوم الأخير في مجد لاهوته وجسد تواضعه...

    صعد بهم إلى جبل عال لكي يُظهر لهم أمجاد لاهوته... فلا يتعثّروا فيه عندما يرونه في الآلام التي قبلها بإرادته، والتي احتملها بالجسد من أجلنا...

    صعد بهم إلى جبل لكي يُظهر لهم ملكوته قبلما يشهدوا آلامه وموته، فيرون مجده قبل عاره، حتى متى كان مسجونًا ومُدانًا من اليهود يفهمون أنه لم يصلب بواسطتهم عن عجز، بل لأنه سُرّ بصلاحه أن يتألّم لأجل خلاص العالم.

    أصعدهم إلى جبل لكي يُظهِر لهم قبل قيامته مجد لاهوته حتى متى قام من الأموات يدركون أنه لم يتقبّل هذا المجد كجزاء لعمله كمن لم يكن له هذا المجد، وإنما له هذا المجد منذ الأزل مع الآب والروح القدس. وكما سبق فقال عندما ذهب إلى الآلام بإرادته: "الآن مجّدني أيها الآب بالمجد الذي لي قبل إنشاء العالم" (يو17: 9).

    القدّيس مار إفرآم السرياني

    الستّة أيام

    يؤرِّخ معلّمنا متّى حادثة التجلّي "بعد ستّة أيام" [1] من وعد السيّد لتلاميذه أن منهم قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته (16: 28). بينما يؤرِّخه القدّيس لوقا باليوم الثامن من هذا الوعد. ليس في هذا تناقض، وإنما اتفاق وسرّ روحي عجيب. فمعلّمنا لوقا الإنجيلي أحصى اليوم الذي فيه أعلن الرب وعده ويوم التجلّي ذاته، أمّا معلّمنا متّى فتحدّث عن الأيام الستّة ما بين اليوم الذي أعلن فيه وعده واليوم الذي تمّ فيه التجلّي. ولم يحدث هذا بلا هدف، وإنما كشف متّى البشير حقيقة يكمّلها لوقا البشير. فإن التجلّي هو إعلان ملكوت المسيّا المخلّص الأخروي، الذي يتحقّق بعد الزمان أي يتمّ في اليوم الثامن الذي يُشير إلى الأبديّة بكونه اليوم الذي يلي نهاية الأسبوع "7". وقد سبق لنا الإشارة إلى رقم 8 في مواضع كثيرة كرمزٍ للحياة الأخرويّة المُقامة. أمّا رقم 6 الذي أورده هنا معلّمنا متّى فيحمل معانِ كثيرة منها:

    أولاً: نحن نعلم أن رقم 6 يُشير إلى النقص، لهذا فإن اسم الوحش عدده 666 أي ناقص إلى النهاية، وفي نفس الوقت يُشير إلى كمال عمل الإنسان على الأرض حيث يعمل ستّة أيام ويبقى ناقصًا حتى يتمّ براحته في اليوم السابع أو السبت. هذا الكمال البشري مهما بلغ فهو ناقص، لأننا إن فعلنا كل البرّ نقول أننا عبيد بطّالون. وكأن لمحات التجلّي المُبهجة توهَب للنفس المجاهدة في الرب، الحاملة الصليب كل أيامها الستة، والتي تحسب كاملة في جهادها ناقصة في عينيّ نفسها. حينما يدخل الإنسان إلى حياة الجهاد القانوني بالروح القدس يعترف الإنسان بنقصه، أمّا الله فيراه بارًا، مشرقًا عليه بتجلٍّ خفي في القلب كهبة إلهيّة تسنده وتلهبه لجهاد أعظم، مشتهيًا التمتّع بالتجلّي لا على جبل تابور، وإنما في الأعالي على العرش الإلهي.

    ثانيًا: يرى العلاّمة أوريجينوس أن المؤمن لا يقدر أن يرتفع مع السيّد على جبل تابور لينعم بالتجلّي ما لم يعبّر الأيام الستّة للعمل وخلقه العالم المنظور، أي يتعدّى المنظورات وينطلق خارج محبّة العالم، إذ يقول: "خلق العالم في ستّة أيام، أي العدد الكامل (للعمل)... لهذا أظن أن من يتخطّى كل أمور العالم غير ناظر إلى المنظورات لأنها وقتيّة، إنّما يتطلّع إلى غير المنظورات وحدها بكونها أبديّة، يتمّ فيه القول: "بعد ستّة أيام أخذ يسوع..." أشخاصًا معيّنين. فمن يرغب في أن يأخذه يسوع، ويصعد به إلى جبلٍ عال،ٍ ويتأهّل لرؤية تجلِّيه منفردًا، يلزمه أن يجتاز الأيّام الستّة، فلا يرى المنظورات ولا يحب العالم ولا الأشياء التي فيه (1 يو 2: 15)، ولا يرغب في شهواته التي هي شهوات الجسد، ولا يطلب غنى الجسد ومجده، الأمور التي تشتِّت الذهن وتسحبه عن الأمور الإلهيّة الصالحة، وتنحدر به إلى أسفل، وتخدعه بأمور هذه الحياة من غنى ومجد وراحة في الشهوات، التي هي أعداء الحق. من يعبر الأيام الستّة كما قلنا إنّما يحفظ سبتًا جديدًا، ويفرح على جبل عالِ، إذ يرى يسوع متجلِّيًا قدّامه، لأن الكلمة يحمل أشكالاً متعدّدة، فيظهر لكل واحد قدر احتماله، ولا يُعلن عن نفسه أكثر من قُدرة ناظره".

    ثالثًا: يرى القدّيس أمبروسيوس في هذا إشارة إلى انقضاء الدهر إذ يقول: [نستطيع أن نقول أنه بعد ستّة آلاف سنة، لأن ألف سنة عند الرب كيوم (مز 89: 4)... إذ خلق العالم في ستّة أيام. بهذا يكشف لنا عن القيامة التي تحدُث عند نهاية زمن العالم. بمعنى آخر من يرتفع فوق العالم، فوق أزمنة الدهر، ويثبت في الأعالي يتطلّع إلى ثمار الأبديّة التي للقيامة العتيدة. إذن فلنتخطّى أعمال الحياة حتى نستطيع أن نرى الله وجهًا لوجه.]

    التلاميذ الثلاثة

    اختار السيّد المسيح ثلاثة من تلاميذه للتمتّع بالتجلّي، هم بطرس ويعقوب ويوحنا، فإن بطرس الذي يعني الصخرة يُشير إلى الإيمان، ويعقوب عُرف بجهاده وحياته البارة، كما عُرف يوحنا بالحبيب. وكأن النفس لن ترتفع على جبل تابور للتمتّع برؤية عريسها في ملكوته الأبدي، ما لم تحمل في داخلها الإيمان العامل بالمحبّة. ويرى القدّيس هيلاري أسقف بواتييه أن الثلاثة رجال يشيرون إلى البشريّة كلها، كل الأمم، التي جاءت كنسلٍ لسام وحام ويافث، صار لها حق الصعود مع السيّد للتمتّع بتجلّيه.

    الجبل العالي

    ما هو هذا الجبل العالي الذي نرتفع به ليُعلن الكلمة الإلهي ذاته لنا إلا كلمة الله ذاته ووصيّته الإلهيّة! يقول العلاّمة أوريجينوس: [أن السيّد أعلن لاهوته للذين صعدوا على الجبل العالي، أمّا للذين هم أسفل فظهر لهم في شكل العبد. إنه يسأل من يشتاق أن يتعرّف على حقيقة السيّد ويتجلّى قدامه أن يرتفع مع يسوع خلال الأناجيل المقدّسة على جبل الحكمة خلال العمل والقول.] وفي نفس المعنى يقول القدّيس أمبروسيوس: [هلم نصعد على الجبل ونتضرّع إلى كلمة الله ليكشف لنا عن ذاته في مجده وجماله.]

    لا يقدر الإنسان أن ينطلق إلى الملكوت ليرى المجد الإلهي إلا خلال كلمة الله المكتوبة وكلمة الله المتجسّد. فإن السيّد المسيح المتجسّد يحملنا خلال الكلمة المكتوبة وينطلق بنا فيه ومعه ليرتفع بنا إلى القمم العالية منفردين، فيتصاغر العالم جدًا في أعيننا، ونخلع عنّا كل ارتباك وهمّ، كما يفقد العالم قوّة إغراءاته، لتنسحب قلوبنا بالكامل نحو السماء، فنرى ملكوت الرب معلنًا أمامنا وفينا.

    تغيير هيئته

    "وتغيّرت هيئته قدّامهم، وأضاء وجهه كالشمس،

    وصارت ثيابه بيضاء كالنور" [2].

    هذا التغيير في الحقيقة هو كشف لحقيقة مخفيّة وأمجاد قد سترها الله وراء الجسد حتى يمكنه أن يقترب من جُبلتنا الضعيفة، ونحن نقترب إليه دون أن نحترق! إنه يُعلن بهاء لاهوته قدر ما نحتمل وحسبما يسندنا، حتى ندخل في اليوم الأخير إلى التمتّع بكمال أمجاده.

    هذا التجلّي أيضًا كان بصورة أو أخرى لحسابنا، فكما بإعلان بنوَّته الإلهيّة الفريدة في مياه المعموديّة صار لنا حق البنوّة فيه للآب، فقد صار لنا بالتجلّي حق التمتّع بالطبيعة الجديدة المجيّدة التي على صورته المقدّسة، بخلعنا الإنسان العتيق الفاسد وحملنا الإنسان الجديد، والذي يتجدّد أيضًا كل يوم في المسيح يسوع بروحه القدّوس، فينطلق بنا من مجد إلى مجد، ويرتفع بنا من جبل إلى جبل، واهبًا إيّانا جناحيّ حمامة منطلقة نحو عريسها لتستقرّ في أحضانه، وتبقى معه في الفلك الأبدي بين يديه.

    يضيء وجه السيّد كالشمس فتستضيء حياتنا به كالقمر، ونبقى في نوره الأبدي لا تقدر الظلمة الدهرية أن تقترب إلينا، ولا يكون لرئيسها موضع فينا، لا في الروح ولا في الجسد. نتلألأ كمؤمنين حقيقيّين على جبل التجلّي بنور السيّد المسيح ككواكبٍ مشرقةٍ مملوءةٍ بهاءً، فتضيء نفوسنا بثمار الروح القدس والنار وتتقدّس أجسادنا بكل أعضائها وأحاسيسها ومواهبها وعواطفها، ويتحوّل الإنسان إلى ملاك منير منجذب نحو النور بغير تردّد.

    v ظهر لتلاميذه حسبما يكون عليه في الدينونة العتيدة، لكن لا يظن أحد أنه خلع عنه شكله الأرضي ومظهره الخارجي، أو نزع عنه حقيقة جسده...

    لقد وصف الإنجيلي كيف تغيّرت هيئته، قائلاً: "وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور (أو كالثلج)".

    عندما يتحدّث عن ضياء وجهه وبياض ثيابه لا يخفي هيئته، إنّما تتغيّر بالمجد. إنها بلا شك تغيّرت على شبه مجده الذي سيكون له في ملكوته. صبغ هيئته بالسمُوّ، لكنّه لم ينزع عنه مظهره الخارجي.

    القدّيس جيروم

    v أضاء وجهه ليس كما أضاء وجه موسى من الخارج، وإنما أشعّ مجد لاهوته من وجهه (أي من ذاته)، ومع هذا ظلّت أمجاده فيه. من ذاته يشع نوره ويبقى نوره فيه. إنه لا يأتيه من الخارج ليزيِّنه!... ولا يقبله لاستخدامه إلى حين! إنه لم يكشف لهم أعماق لاهوته التي لا تُدرك، وإنما كشف لهم قدر ما تقدر أعين التلاميذ أن تتقبّل وتميّز!

    مار إفرآم السرياني

    v يضيء وجهه كالشمس ليُعلن ذاته لأبناء النور، هؤلاء الذين خلعوا أعمال الظلمة ولبسوا أسلحة النور (رو 13: 12)، فلم يعودوا بعد أبناء ظلمة أو أبناء ليل، بل صاروا أبناء نهار، يسلكون بأمانة كما في النهار (رو13:13، 1تس5: 5). بكشفه عن ذاته يضيء عليهم ليس بشمس بسيطة، وإنما بكونه شمس البر.

    العلاّمة أوريجينوس

    أما الثوب الأبيض فيُشير إلى كنيسة المسيح الملتصقة به كمن هو ملتحف بها، قد صارت بيضاء كالنور لأن عريسها حالّ في داخلها، شمس البرّ الذي جاء يضيء فيها، فتصير بيضاء كالنور، تحمل طبيعة النور. وقد سبق فرأينا أن هذا الثوب يُشير إلى العرس الأبدي، حيث تتقدّم أيضًا العروس بثوب إلى الرجلين (رؤ 19: انجيل متى Icon_cool. لتُزفّ مع عريسها في حضرة الأربعة وعشرين قِسِّيسًا.


    v ثيابه هي الكنيسة... في هذا الثوب كان بولس كما لو كان هُدْبًا، إذ قال عن نفسه: "لأني أصغر الرسل" (1 كو 15: 9). في موضع آخر يقول: "لأني آخر الرسل"؛ الهُدْب في الثوب هو آخر وأقل شيء فيه، لذلك فإن المرأة التي كانت تعاني من نزف الدم إذ لمست هُدْب ثوب المسيح بَرِئت، هكذا الكنيسة التي جاءت من الأمم صارت صحيحة خلال تعاليم بولس الرسول. أي عجبٍ في الإشارة إلى الكنيسة بالثوب الأبيض إن سمعت إشعياء النبي يقول: "إن كانت خطاياكم كالقرمز تبْيَض كالثلج" (إش 1: 18)!

    القدّيس أغسطينوس

    ويُعلّق العلاّمة أوريجينوس على قول الإنجيلي: "تغيّرت هيْئته قدّامهم" [2]، مركِّزًا على كلمة "قدّامهم". فإن السيّد المسيح هو هو لا يتغيّر، لكن من يتطلّع إليه خلال الأناجيل المقدّسة دون أن يصعد على جبل الحكمة المقدّسة، لا يقدر أن يرى مجده ويُدرك أسراره، أمّا من يرتفع على هذا الجبل فينعم بالتجلّي.

    ظهور موسى وإيليّا

    "وإذا موسى وإيليّا قد ظهرا لهم يتّكلمان معه" [3].

    ليس عجيبًا أن الله الذي يُعلن ملكوته هنا خلال شعبه وسط كنيسته مختفيًا فيها، يُعلن لنا بهاءه الأبدي ليس منعزلاً عنّا. إنه يحيط به قدّيسوه وينعمون بالحديث معه كأب وأخ بكر وعريس وصديق. إنه يفرح بالبشريّة، ويدخل معهم في معاملات، لا على مستوى زمني مؤقَّت، وإنما معاملات أبديّة لا تنتهي. أمّا اختيار موسى وإيليّا فلم يكن بلا هدف، وإنما يمكن تعليله هكذا:

    أولاً: كان موسى الرجل الذي شهد عنه الله نفسه أنه أحلم إنسان على الأرض، إذ قاد هذا الشعب غليظ الرقبة أربعين عامًا وسط تذمُّرات منهم بلا انقطاع، يشفع فيهم لدي الله. لقد أعلن الله غضبه، بقوله: "اتركني ليَحمَى غضبي عليهم وأفنيهم فأصيِّرك شعبًا عظيمًا" (خر 32: 10)، أمّا هو فتضرّع عنهم أمامهم، مفضلاً الشعب عن نفسه بقوله: "والآن إن غفرتَ خطيتّهم وإلا فامحني من كتابك الذي كَتبتْ" (خر 32: 32). وكان إيليّا الرجل الناري الملتهب بالغيرة الذي وقف أمام أخاب الملك وإيزابل، وقتل كهنة البعل، وطلب نارًا لتحرق رسل الملك... وكأن ملكوت المسيح إنّما هو ملكوت الوداعة والحلم، لكن ليس بلا غيرة؛ ملكوت الحب ولكن ليس بتدليل؛ الملكوت المتَّسِع لمغفرة الخطايا والصفْح عن السقطات في استحقاقات الدم، ولكن ليس في استهانة أو استهتار. فالسيّد المسيح بتجلّيه يكشف عن ملكوته الذي هو كنيسته، تحمل روح الحلم فتشفع في الخطاة، خلال الصليب المقدّس، لكن دون تهاون في الحق أو مهادنة مع الخطيّة.

    لعلّ السيّد أحضر موسى وإيليّا كمََثلين للتلاميذ فيََغِِيروا منهما في الأمور الحُسنَى، فتكون لهم وداعة موسى وغيرة إيليّا على مجد الله.

    ثانيًا: جاء موسى النبي إلى حضرة الملك المسيّا ممثِّلاً الأعضاء الراقدة في الرب، النفوس التي رحلت عنّا بالجسد لكنها مرتبطة معنا حول المسيح الواحد الذي يملك على الجميع. وأما إيليّا النبي فجاء يمثّل الأعضاء المجاهدة إذ لم يمت إيليّا. وكأن الكل يلتقون معًا كأحياء في الرب.

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [بهذا يُخبرهم أن له سلطان على الموت والحياة، وأنه المدبِّر في الأعالي وأسفل، لهذا جلب من مات، ومن لم يُعاني من الموت.]

    ثالثًا: إن كان موسى قد تسلّم الناموس وإيليّا يمثّل الأنبياء، فإن تجلِّي السيّد المسيح بينهما إنّما يُشير إلى أنه هو غاية الناموس ومركز النبوّات.

    v أمّا كوْن موسى وإيليّا هما وحدهما من كل جموع القدّيسين قد حضرا فهذا يعني أن المسيح في ملكوته يقف بين موسى وإيليّا.

    القدّيس هيلاري أسقف بواتييه

    v من يرى مجد موسى مدرِكًا الناموس روحيًا في توافق مع يسوع، وينظر الحكمة المخفيّة في الأنبياء في سرّ (1 كو 2: 7)، إنّما يرى موسى وإيليّا وهما مع يسوع (أثناء التجلي).

    العلاّمة أوريجينوس

    v ما هو نفع موسى وإيليّا، أي الشريعة والنبوّة إلا الحديث مع الرب؟! يشهد بذلك الذين يقرأون الناموس والنبوّة عن الرب. لاحظ كيف يعبّر الرسول عن ذلك باختصار: "لأن بالناموس معرفة الخطيّة، وأما الآن فقد ظهر برّ الله بدون الناموس" الذي ينظر الشمس مشهودًا لها من الناموس والأنبياء (رو 3: 20-21).

    القدّيس أغسطينوس

    رابعًا: موسى وإيليّا يمثّلان رجال العهد القديم، وبطرس ويعقوب ويوحنا يمثِّلون رجال العهد الجديد، وكأن السيّد المسيح هو مركز الكتاب المقدّس بعهديه، أو هو سرّ خلاص الكل ومشتهى الجميع. يرى القدّيس مار إفرآم السرياني أن موسى وإيليّا جاءا نيابة عن رجال العهد القديم يشاركان رجال العهد الجديد بهجتهم بالتمتّع بالمسيّا المخلّص الذي طال انتظار البشريّة له، إذ يقول: [هكذا كان حديثهما معه؛ يقدّمان له الشكر إذ حقّق ما قالاه هما وكل الأنبياء... لقد امتلأ الأنبياء بهجة وأيضًا التلاميذ بصعودهم على الجبل. لقد فرح الأنبياء لأنهم شاهدوا تأنّسه... وابتهج التلاميذ لأنهم رأوا مجد لاهوته الذي لم يكونوا بعد قد عرفوه.]

    خامسًا: يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن الجموع سبق فقالت عن السيّد أنه إيليّا أو أحد الأنبياء (مت 16: 14)، لهذا جاء بقائدي طغمة الأنبياء ليُظهر لتلاميذه الفارق بين العبيد والرب، وأن بطرس على حق في اعترافه أنه ابن الله الحيّ.

    سادسًا: إن كان السيّد المسيح في طريقة للمحاكمة يُتّهم بأنه صانع شرّ أي ناقض للناموس، ومجدّف أذ ينسب لنفسه مجد الآب. لهذا قدّم السيّد شهادة سابقة على مستوى فائق من موسى كمستلم الناموس يشهد للسيّد أنه حافظ للناموس وليس ناقضًا له؛ ومن إيليّا الغيور على مجد الله معلِنًا مجد يسوع. وكأن موسى جاء يشهد عن المسيح أنه ليس بفاعل شر،ّ وإيليّا يشهد عنه أنه ليس بمجدّف.

    سابعًا: جاء موسى وإيليّا يُعلنان الغلبة الحقيقيّة للسيّد المسيح على الشيطان. لقد واجه موسى فرعون وغلب، وواجه إيليّا آخاب وغلب، أمّا يسوع فيُواجه إبليس ليغلب عن البشريّة كلها وباسمها.

    ثامنًا: إذ ارتفع موسى على جبل سيناء تقبَّل الشريعة المقدّسة وسط سحاب كثيف، أمّا إيليّا وهو على الجبل فطلب من الله أن يُرسل نارًا ليحرق رئيسيّ الخمسين وجنودهما. لقد تحقّق هذا في كماله في المسيح يسوع ربّنا الذي هو كلمة الله المقدّم لنا خلال تجسّده ،مختفيًا كما في سحاب، فلا يقدر أحد أن يعاينه بنفسه. وهو النار المتّقدة الذي أحرق رياء اليهود ووثنيّة الأمم لتقديس البشريّة كلها.

    تاسعًا: يقدّم لنا القدّيس جيروم تعليلاً لظهور موسى وإيليّا بقوله: [لنلاحظ أنه رفض تقديم آية من السماء للكتبة والفرّيسيّين الذين طلبوا منه ذلك، وها هو يعطي علامة من السماء لكي يزيد إيمان تلاميذه، إيليّا نزل من حيث صعد، وموسى يقوم من بين الأموات.]

    عاشرًا: في التجلّي ظهر موسى وإيليّا وكان حاضرًا بطرس ويعقوب ويوحنا؛ فكان السيّد على الجبل بين خمسة من رجال العهدين، وكأن السيّد يريد أن نرتفع بروحه القدّوس إلى جبل تابور فيتجلّى خلال الحواس الخمس المقدّسة. فكلما تقدّست الحواس أعلن السيّد مجده فينا، وظهر بهاءه مُعلنًا في حياتنا.

    اِحدى عشر: إن كان موسى وإيليّا من رجال العهد القديم الذين اهتم بقداسة الجسد، فإن بطرس ويعقوب ويوحنا من رجال العهد الجديد الذين اهتموا بقداسة الروح، وكأنّ تجلّي السيّد المسيح يتحقّق بتقديس الجسد والروح معًا.

    جيد أن نكون ههنا

    "فجعل بطرس يقول ليسوع: يا رب جيد أن نكون ههنا،

    فإن شئتَ نصنع هنا ثلاث مظال،

    لك واحدة ولموسى واحدة، ولإيليّا واحدة" [4].

    إذ يتجلّى السيّد المسيح أمام النفس البشريّة وفي داخلها لا تقدر إلا أن تطلب البقاء معه إلى الأبد. ينسى الإنسان كل احتياجاته حتى الضروريّة، وكل أقربائه، ليبقى متمتّعا بالعريس الأبدي المتجلّي أمامه، لكن السيّد الذي أخلى ذاته من أجل خلاصنا بعد أن قدّم لنا سرّ تجلِّيه داخلنا يطالبنا بالنزول إلى إخوتنا، نشهد لهم عما رأينا وتمتّعنا، حاملين صليب الخدمة بفرح.

    يرى العلاّمة أوريجينوس أن ما قاله الرسول بطرس من شوقه للبقاء في هذا الموضع قصد به بقاء السيّد هناك حتى لا ينزل ههنا، وذلك لخوفه على الرب إذ سمع أنه ينبغي أن يصعد إلى أورشليم. وإذ لم يجسر أن يكرّر القول له: "ارحم نفسك ولا تصعد" استخدم وسيلة أخرى لتحقيق ما في ذهنه. لقد رأى في هذا المكان المنفرد والهادئ موضعًا لائقًا للبقاء فيه. وإذ رغب أن يبقى فيه على الدوام كمكان للسكن طلب أن يصنع ثلاث مظال. لقد ظنّ بهذا أن الرب لا يصعد إلى أورشليم وبالتالي لا يتعرّض للموت. وإذ كان يُعلم أن الكتبة يترقّبونه فكّر أن معهم إيليّا الذي أنزل نارًا على الجبل (2 مل 1) وموسى الذي دخل في السحابة وتكلّم مع الله (خر 24: 33)، بهذا يكون هذا الجبل موضعًا لائقًا للاختفاء لا يمكن لأحد المضطهِدين أن يعرفه.

    المظال الثلاث

    أمر الله موسى النبي أن يقيم خيمة اجتماع أو مظلّة يحلّ فيها، علامة حضرته وسط شعبه ورعايته لهم، لكن معلّمنا بطرس الرسول إذ لم يكن بعد قد أدرك سرّ الوحدة بين الناموس والأنبياء والإنجيل، لم يطلب مظلّة واحدة تضم الثلاثة كعلامة للحضرة الإلهيّة، وإنما طلب ثلاث مظال.

    لا ننسى موقف القدّيس بطرس المملوء محبّة، فإنه لم يطلب أن يُقيم لنفسه مظلّة، لأن "المحبّة لا تطلب ما لنفسها". وقد أجاب السيّد أيضًا بالمحبّة فلم يقبل أن تقام له مظلّة حتى لا يستقر على الجبل بعيدًا عن طريق الألم، إنّما أرسل سحابة نيّرة تظلِّله إلى حين، حتى إذ يتمّم إعلانه ينزل إلى الصليب. إنه لم يطلب ما لنفسه. وبنزوله نزل معه القدّيسون بطرس ويعقوب ويوحنا لكي يحملوا معه صليب الكرازة، ويسيروا معه طريق الآلام، طالبين ما هو للغير وليس ما هو لأنفسهم. اشتهى بطرس أن يبقى على الجبل، لكن السيّد ألزمه بالنزول ليُمارس الحب العامل.

    v أُخذ بطرس وابنا زبدي على جبل تعاليم الحق، ورأوا تجلِّي يسوع، وظهور موسى وإيليّا معه في المجد. لقد اِشتاقوا أن يُقيموا في داخلهم مظال لكلمة الله المزمع أن يحلّ في داخلهم، ولناموسه الذي رأوه في مجد، وللنبوة التي تتنبّأ عن الموت المزمع أن يتمّ (لو9: 31).

    وإذ كان بطرس محبًا لحياة التأمّل مفضلاً التمتّع بها عن الحياة وسط الجماهير بضوضائها، تحدّث باسم من يحبون التأمّل: "جيد أن نكون ههنا" [4]. ولما كانت "المحبّة لا تطلب ما لنفسها" (1 كو 13: 5) لم يحقّق يسوع ما ظنه بطرس كأمرٍ حسنٍ، بل نزل من الجبل إلى غير القادرين على الصعود والتمتّع بتجلّيه حتى يشاهدوه قدر ما يحتملون. فإنه يليق بالإنسان البار الذي له المحبّة التي لا تطلب ما لنفسها وهو حرّ في كل شيء أن يربط نفسه بالعبوديّة لجميع من هم أسفل حتى يربحهم (1كو9: 19).

    العلاّمة أوريجينوس

    v تعب بطرس من الجموع وقد وُجد على الجبل وحده معه يسوع خبز الروح، لكن لاق به أن يرجع مرّة أخرى للعمل محتملاً الألم، مقتنيًا الحب المقدّس من أجل الله.

    v إنك ترغب في البقاء على الجبل يا بطرس، انزل "اِكرز بالكلمة، اِعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب. وبّخ، انتهر، عظ بكل أناة وتعليم" (2 تي4 : 2). احتمل، جاهد... حتى تنال ما يعنيه ثوب المسيح الأبيض من بهاء وجمال خلال عمل المحبّة المستقيم. فإنه متى قُرئ الرسول نسمعه يمدح المحبّة، قائلاً: "لا تطلب ما لنفسها" (1 كو 13: 5)... وفي موضع آخر يطالب أعضاء المسيح أي المؤمنين بهذا الأساس للمحبّة: "لا يطلب أحد ما لنفسه، بل كل واحد ما هو للآخر" (1 كو 10: 24)... ويتحدّث عن نفسه: "غير طالب ما يوافق نفسي بل الكثيرين لكي يخلّصوا" (1 كو 10: 33). هذا ما لم يفهمه بطرس حين رغب في البقاء مع المسيح على الجبل، لقد حُفظ هذا ليكون لك يا بطرس بعد الموت (أي في السماء)، أمّا الآن فيلزمك أن تنزل للعمل على الأرض لكي تخدم عليها. لقد نزل "الحياة (يسوع)" على الأرض لكي يُرذَل ويُصلَب ويُذبَح، نزل الخبز لكي يجوع، نزل الطريق لكي يتعب، نزل الينبوع لكي يعطش، فهل ترفض أنت هذا العمل؟ لا تطلب ما هو لنفسك، بل لتكن لك المحبّة. أكرز بالحق، حينئذ تنطلق إلى الأبديّة لثمر السلام والأمان.

    القدّيس أغسطينوس

    السحابة النيِّرة

    "وفيما هو يتّكلم إذ سحابة نيِّرة ظلَّلتهم،

    وصوت من السحابة، قائلاً:

    هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت، له اِسمعوا" [5].

    إن كانت السحابة تُشير إلى الحضرة الإلهيّة، هذه التي كانت تملأ جبل سيناء حين قدّم الرب الناموس لموسى (خر 24: 15)، وكانت تملأ خيمة الاجتماع عندما كان الله يتحدّث مع موسى، ويأتي السيّد المسيح في مجيئه الأخير راكبًا إيّاها، فإن السحابة هنا "نيِّرة"، إعلانًا عن عمل التجلّي في حياة المؤمنين. فالنفس إذ تلتقي بالسيّد وتتعرَّف على أسراره قدر ما تحتمل، تستنير أكثر فأكثر بإعلانات سماويّة داخليّة. فتسمع صوت الآب: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت له اسمعوا". هذا هو أعظم إعلان يتقبّله الإنسان من الله في أعماق قلبه، وهو إدراك بنوّة المسيح الطبيعيّة لله كموضع سرور الآب، فتذوب نفسه داخليًا خلال اتّحادها بالابن الوحيد، وتشعر بدفء الحب الإلهي، وتتلمّس رضا الله الآب لها في الابن، وفرحه بها فيه، فتسمع لصوت الآب، وتخضع لعمل المسيح فيها بكونه رأسها! لا يطلب المسيحي إعلانات ملموسة يفخر بها، إنّما هذا هو جوهر إعلان الآب له: تلامسه الحقيقي بالابن الوحيد ليكون موضع سرور الآب خلال طاعته الكاملة حبًا وتواضعًا.

    لقد تمتّعت القدّيسة مريم بالسحابة النيِّرة في أجلَى صورها، بطريقة فريدة حينما حلّ عليها الروح القدس ليظلِّلها بالقوّة الإلهيّة الفائقة. "الروح القدس يحلّ عليك وقوَّة العليّ تظلِّلك". هذه السحابة النيِّرة، أو الروح القدس الناري يهب المؤمنين استنارة للبصيرة الداخليّة لمعاينة المجد الإلهي للابن الوحيد، ويفتح الأذن لسماع صوت الآب، الذي يكشف لنا "سرّ المسيح" الذي صار فينا بالمعموديّة، فنحرص بالروح أن نبقى في حالة توبة مستمرّة وطاعة، لننعم بسرور الآب ونسمع صوته الأبوي.

    v صنع الله السحابة كخيمة إلهيّة، كانت منيرة، إذ هي مثال للقيامة العتيدة تظلِّل الأبرار الذين كانوا قد احتموا فيها واستناروا بها...

    ولكن ما هي هذه السحابة المنيرة التي تظلِّل الأبرار؟

    ألعلَّها هي القوّة الأبويَّة التي يصدر منها صوت الآب شاهدًا للابن أنه المحبوب وموضع السرور، ويحثْ من هم تحت ظلِّه أن يسمعوا له؟! إنه كما تكلَّم قديمًا يبقى يتّكلم على الدوام بإرادته.

    السحابة المنيرة تعني الروح القدس الذي يظلّل على الأبرار، ويقدّم النبوّات الخاصة بالأمور الإلهيّة...

    أتجاسر فأقول هي أيضًا المخلّص...

    السحابة النيِّرة التي للآب والابن والروح القدس تظلِّل تلاميذ يسوع الحقيقيّين، أو تظلِّل الإنجيل والناموس والأنبياء حيث تضيء للذين يقدرون أن يروا نورها في (الكتاب المقدّس).

    العلاّمة أوريجينوس

    v مصدر هذا الظل هو روح الله الذي لا يظلم قلوب البشر، بل يكشف لها الخفيات، هذا نجده في موضع آخر حيث يقول الملاك: "قوّة العليّ تظلِّلك".

    لم توجد السحابة بسبب رطوبة الجبال المدخِّنة (مز 103: 32) ولا بخار الهواء المتكثِّف، ولا غطَّت السماء بظلمة مرهبة، وإنما كانت سحابة نيِّرة، لا تبلِّلنا بالأمطار والسيول، ولا تغمرنا بطوفان، وإنما نَداها الذي يرسله كلمة الله يغمر قلوب البشر بالإيمان.

    القدّيس أمبروسيوس

    v عندما يهدّد الرب بالتأديب، يأتي في ظلام السحاب كما في سيناء (خر 19)، أمّا هنا فإذ أراد أن يُعلّم لا أن يؤدِّب ظهرت سحابة نيِّرة.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v هؤلاء الذين فكّروا في صنع غطاء أرضي من الأغصان أو مظلَّة قد تغطُّوا محتمين في سحابة نيِّرة، هكذا يكون لنا نحن أيضًا!

    القدّيس جيروم

    سحابة واحدة!

    لقد طلب بطرس الرسول أن يُقيم ثلاث مظال، ولم يدرِ أن الحاجة إلى سحابة واحدة، لأن موسى (الناموس) وإيليّا (الأنبياء) يختفيان في الإنجيل المقدّس، ولهذا أيضًا عندما تكلَّم الآب قال "هذا هو ابني الحبيب" ولم يقل "هؤلاء هم أبنائي المحبوبين". فإن كانت الشريعة تبوِّق لنا بالصوت الإلهي، إنّما لتدخل بنا إلى الابن الوحيد الجنس. وإن كان الصوت النبوي يُعلن لنا الأسرار الإلهيّة، إنّما ليدخل بنا إلى السيّد المسيح الذي فيه كل الأسرار. وكما يقول القدّيس جيروم:

    [سُمع صوت الآب من السماوات، مقدّمًا شهادة عن الابن، ومصحِّحًا خطأ بطرس، معلّما إيّاه الحق... لذلك أكمل قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب"، لأجله أقيموا خيمة!

    إنه ابني وهؤلاء عبيدي!]

    خوف التلاميذ

    "ولما سمع التلاميذ سقطوا على وجوههم وخافوا جدًا،

    فجاء يسوع ولمسهم، وقال:

    قوموا، لا تخافوا" [7].

    يرتبط التجلّي بالصلب والقيامة، فقد أوضح معلّمنا لوقا البشير أن السيّد المسيح كان يتحدّث مع موسى وإيليّا في الأمور العتيد حدوثها أي آلامه، وأما متّى البشير فأعلن عن سقوط التلاميذ على وجوههم وخوفهم جدًا حتى يمد السيّد يده، ويلمسهم القائم من الأموات، فيقومون من سقوطهم وينزع عنهم الخوف.

    سقوط التلاميذ على وجوههم يُعلن عن سقوط كل البشريّة تمامًا، وعجزها التام عن القيام والالتقاء مع الله، إذ صارت وجوههم في التراب ساقطة، لا تقدر على معاينة الأمجاد السماويّة. وحلول الخوف الشديد فيهم يُشير إلى فُقدان السلام الحقيقي، لذلك جاءهم يسوع إشارة إلى نزوله إلينا، ومدّ يده مؤكِّدًا تجسّده. أمّا لمسه إيّاهم، فهو علامة حلوله في وسطنا كواحد منّا، يقدر أن يمدّ لنا يده فنقبلها. أخيرًا بسلطان أقامهم ونزع الخوف عنهم. حقًا لقد ظهرت قصّة سقوط الإنسان وقيامه خلال عمل الله الخلاصي واضحة على جبل التجلّي. وكأن سرّ التجلّي إنّما هو سرّ إعلان الله الدائم فينا، بكونه ابن الله المتجسّد المصلوب والقائم من الأموات، من أجلنا جاء ليقيمنا ونبتهج بعمله فينا.

    v إذ كانوا ساقطين منطرحين على الأرض وغير قادرين على القيام تحدّث معهم بوداعة ولمسهم. فبلمسه إيّاهم انصرف الخوف عنهم، وصارت أعضاؤهم المرتعبة قويّة... وكما شفاهم بلمسة يده، شفاهم أيضًا بوصيّته لذلك تبع هذا بقوله: "قوموا، لا تخافوا". لقد نزع عنهم الخوف أولاً حتى يقدّم لهم تعليمه.

    القدّيس جيروم

    v أقامهم الابن الذي اِعتاد أن يُقيم الساقطين.

    القدّيس أمبروسيوس

    يسوع وحده

    "فرفعوا أعينهم ولم يروا أحدًا إلا يسوع وحده.

    وفيما هم نازلون من الجبل وأوصاهم يسوع، قائلاً:

    لا تُعلموا أحدًا بما رأيتم،

    حتى يقوم ابن الإنسان من الأموات" [8-9].

    إذ يختبر المؤمن قوّة قيامة السيّد يرفع عينيه بالروح القدس فلا يرى في قلبه إلا يسوع المسيح وحده يملأ كل حياته. بالقيامة دخل إلى العُليِّة ليكون هو وحده سِرّ سلامهم الحقيقي وفرحهم، يشبع كل احتياجاتهم.

    أما وصيّته لهم بالصمت فلأنه يريدهم أن يأخذوا فترة تأمّل فيما حدث، ليروا أحداث التجلّي في قلوبهم، لا في أحداث خارجيّة، فيتمثلوا بالقدّيسة مريم التي كانت تحفظ الأمور متفكِّرة بها في قلبها (لو 2: 19). ولعلّه أراد منهم الصمت حتى يختبروا بأنفسهم القيامة، ويتجلّى السيّد في حياتهم الداخليّة، عندئذ يكرزون بالتجلّي ويعلنونه. وكما يقول القدّيس هيلاري أسقف بواتييه: [أمرهم بالصمت فيما يخُص ما رأوه حتى يمتلئوا بالروح القدس ويشهدوا للروحيّات.]

    2. الحاجة إلى إيليّا

    "وسأله تلاميذه قائلين:

    فلماذا يقول الكتبة أن إيليّا ينبغي أن يأتي أولاً؟

    فأجاب يسوع وقال لهم:

    إن إيليّا يأتي أولاً، ويرُد كل شيء.

    ولكني أقول لكم أن إيليّا قد جاء ولم يعرفوه،

    بل عملوا به كل ما أرادوا" [10-12].

    كان للكتبة معرفة نظريّة، فقد فهموا من النبوّات أن إيليّا يسبق مجيء المسيّا. جاء لكنهم ولم يعرفوه ولا قبلوه، إنّما عملوا به ما أرادوا.

    من هو إيليّا إلا يوحنا المعمدان، إذ "فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان" [13]. لقد جاء يوحنا بروح إيليّا، لا بمعنى أنه تقمَّص روحه، وإنما يحمل فكره الناري وغيرته الملتهبة على مجد الله، وحياته النُسكيّة في البرّيّة، ليمهّد الطريق بالتوبة من أجل المسيّا المخلّص.

    إن كان سيِّدنا قد جاء مترفّقا بنا ولطيفًا للغاية يشتهي خلاصنا، لكن يلزمنا أن يدخل إيليّا الغيور إلى حياتنا ليهيّئ القلب للمخلّص بالمناداة بالتوبة. إن كان التجلّي هو إعلان ملكوت الله السماوي فينا، فلا طريق لهذا التجلّي فينا بدون إيليّا، أي التوبة.

    3. هدم مملكة الشيطان

    بقدر ما يُعلن ملكوت المسيّا فينا بتجلّيه في حياتنا تنهدم مملكة الشيطان، ولا يكون له موضع فينا، لهذا أوْرَد الإنجيلي بعد التجلّي، أي بعد إعلان مملكة المسيح، إخراج الشيطان من إنسان، إذ يقول الإنجيلي: "ولما جاءوا إلى الجمع تقدّم إليه رجل جاثيًا له، وقائلاً: يا سيّد ارحم ابني، فإنه يُصرَع ويتألّم شديدًا، ويقع كثيرًا في النار، وكثيرًا في الماء" [14-15].

    هذه هي علامات العبوديّة لإبليس والدخول في مملكته، حيث يفقد الإنسان اتّزانه الداخلي وسلامه. فيصير في حالة صرَعْ، ويخسر كل سلام حقيقي. يعيش في آلام داخليّة عنيفة، ويُلقِّيه في صراعات متضاربة، تارة يلتهب بنار الغضب العنيف يحرق كل ما هو حوله، بل يحرق نفسه في نيران لا تنطفئ، وتارة يرتمي في مياه الشهوات الجسديّة ومحبّة العالم، مستهينًا بكل شيء من أجل لذّة مؤقَّتة. في مرارة نقول أن الإنسان بخضوعه للخطيّة وارتباطه بمملكة الظلمة يفقد سلام فكره وجسده وروحه، فيعجز عن التفكير السليم ويخسر حياته الروحيّة، وحتى الجسد أيضًا يصير تحت الألم!

    اشتكى الرجل، قائلاً: "أحضرته إلى تلاميذك فلم يقدروا أن يشفوه. فأجاب يسوع وقال: أيها الجيل غير المؤمن، إلى متى أكون معكم؟ إلى متى احتملكم. قدّموه إلى ههنا" [16-17].

    "عدم الإيمان" هو العائق الذي حرم حتى التلاميذ من إمكانيّة إخراج الشيطان، وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [انتهر ربّنا يسوع المسيح غير المؤمنين حتى الذين هم تلاميذه كما سمعنا في الإنجيل الذي قُرئ الآن. لأنه عندما قالوا له: لماذا لم نقدر أن نخرجه؟ أجابهم قائلاً: "لعدم إيمانكم". إن كان الرسل غير مؤمنين، فمن هم المؤمنون؟ ماذا نفعل نحن الحِملان إن كانت الكباش تهتز؟ لكن الله برحمته لم يستخفْ بهم في عدم إيمانهم، بل انتهرهم وسنَدهم، جعلهم كاملين... لقد شعروا بضعفهم إذ قالوا في موضع آخر: "زد إيماننا" (لو 17: 5)، وكان لمعرفتهم نقصهم نفعًا عظيمًا، إذ تعرَّفوا على من يسألونه... توجَّهوا بقلوبهم إلى الينبوع قارعين ليفتح لهم فيمتلئون، فقد أراد أن يقرع عليه البشر!] كما يقول: [لنُصلِِّ، ولنتكِّل على الله فنحيا... لندعوه كما دعاه التلاميذ، قائلين للرب "زد إيماننا.]

    لقد عجز التلاميذ عن طرد الشيطان بسبب عدم إيمانهم [20]. لهذا نصحهم السيّد بالصوم والصلاة لمساندتهم في طرده بالإيمان، إذ يقول: "الحق أقول لكم لو كان لكم إيمان مثل حبّة خردل، لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل، ولا يكون شيء غير ممكنٍ لديكم. وأمّا هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم" [20-21]. هكذا يربط السيّد المسيح الإيمان بالصلاة والصوم، فإن كنّا بالإيمان نختفي في المسيح يسوع ربّنا الحال فينا، ليطرد العدوّ عنّا هذا الذي لا يقدر أن يقف أمامه، فإنّ إيماننا هذا لا يكون عاملاً بدون الجهاد خلال الصلاة والصوم.

    ما هو هذا الجبل الذي لم يستطع التلاميذ نقله من موضعه في ذلك الحين، إلا ما كتبَ عنه إرميا النبي "أعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا، وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة" (إر 13: 16). إن جبل الخطيّة المظلم الذي يدفع الشيطان الخليقة إليه ليفقدها البنوّة لله، ويقتنصها كأبناء للظلمة. هذا هو الجبل الذي نزحزحه بالإيمان خلال الصلاة والصوم كما علمنا سيِّدنا. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [إذ كان يحثّهم على الصلاة أنهى حديثه بقوله: "وأما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم". إن كان يليق بالإنسان أن يصلّي ليُخرج الشيطان من آخر، فكم بالأولى يليق به أن يُصلّي ليخرج منه طمعه وسكره وترفهه ونجاسته! كم من الأمور قاطنة في الإنسان لو بقيت فيه لا يُقبل في ملكوت السماوات!]

    4. الحاجة إلى الصليب

    "وفيما هم يتردّدون في الجليل، قال لهم يسوع:

    ابن الإنسان سوف يسلَّم إلى أيدي الناس.

    فيقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم، فحزنوا جدًا" [22-23].

    إن كان الارتفاع إلى جبل التجلّي يملأ التلاميذ فرحًا وبهجة، يليق بهم أن ينزلوا إلى الحياة المجاهدة ليسمعوا السيّد من حين إلى آخر، يؤكّد التزامه بتسليم نفسه بين أيدي الناس ليُقتل فتُعلن قيامته. لم يكن التجلّي إلا طريقًا يسند التلاميذ في مرحلة حياتهم مع السيّد المسيح المصلوب، فينعموا بقيامته ويدخلوا إلى بهجة تجلٍّ دائمٍ.

    5. إيفاء الدرهمين

    خضع السيّد المسيح مع تلاميذه لإيفاء الجباية أو الجزية، ليؤكّد مبدأ هامًا في حياتنا الإيمانيّة: أن انتماءنا السماوي يهبنا طاعة وخضوعًا لملوك العالم أو الرؤساء، فنلتزم بتقديم واجباتنا الوطنيّة. فالمسيحي وهو يحمل السيّد المسيح ملكًا سماويًا داخل قلبه، إنّما يحمل روح الوداعة والخضوع في حب للوطن وطاعة.

    إن كان بطرس الرسول قد دُعي للتكريس الكامل والتفرّغ للخدمة لحساب الملكوت السماوي، لكن دون تجاهل للحياة الواقعيّة. لهذا ذهب إلى البحر كما إلى العالم، وألقى بالصنارة ليعمل، وإنِّما بقدر ضئيل، فيجد الله قد أعدّ له أستارًا في فم سمكة، ليفي به عن سيّده وعن نفسه. لقد قدّس الله العمل، لكن دون أن يرتبك فيه الإنسان، أو يدخل به إلى روح الطمع، وإنِّما من أجل الاحتياجات الضروريّة.

    ولعلّ ما فعله بطرس كان يمثِّل التزام المؤمنين ككل، الكنيسة في جامعيّتها، أما بعد حلول الروح القدس فالتزم الرسل للتفرّغ للخدمة ليس احتقارًا للعمل اليومي العادي، وإنما من أجل عدم الارتباك به.

    يُعلن القدّيس كيرلّس الكبير على تصرُّف السيّد المسيح هنا بقوله: [إذ صار الابن الوحيد كلمة الله مثلْنا، وحمل قياس الطبيعة البشريّة انحنى لنير العبوديّة، فدفع بإرادته لجامع الجزية اليهودي الدرهمين حسب ناموس موسى، لكن هذا لم يمنع سِمة المجد الذي فيه. وكأن خضوعنا لكل نظام بروح الرضا والفرح لا يعني إلا مشاركة للسيّد المسيح في خضوعه لننعم معه بمشاركته مجده الداخلي.

    1 و بعد ستة ايام اخذ يسوع بطرس و يعقوب و يوحنا اخاه و صعد بهم الى جبل عال منفردين
    2 و تغيرت هيئته قدامهم و اضاء وجهه كالشمس و صارت ثيابه بيضاء كالنور
    3 و اذا موسى و ايليا قد ظهرا لهم يتكلمان معه
    4 فجعل بطرس يقول ليسوع يا رب جيد ان نكون ههنا فان شئت نصنع هنا ثلاث مظال لك واحدة و لموسى واحدة و لايليا واحدة
    5 و فيما هو يتكلم اذا سحابة نيرة ظللتهم و صوت من السحابة قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا
    6 و لما سمع التلاميذ سقطوا على وجوههم و خافوا جدا
    7 فجاء يسوع و لمسهم و قال قوموا و لا تخافوا
    8 فرفعوا اعينهم و لم يروا احدا الا يسوع وحده
    9 و فيما هم نازلون من الجبل اوصاهم يسوع قائلا لا تعلموا احدا بما رايتم حتى يقوم ابن الانسان من الاموات
    10 و ساله تلاميذه قائلين فلماذا يقول الكتبة ان ايليا ينبغي ان ياتي اولا
    11 فاجاب يسوع و قال لهم ان ايليا ياتي اولا و يرد كل شيء
    12 و لكني اقول لكم ان ايليا قد جاء و لم يعرفوه بل عملوا به كل ما ارادوا كذلك ابن الانسان ايضا سوف يتالم منهم
    13 حينئذ فهم التلاميذ انه قال لهم عن يوحنا المعمدان
    14 و لما جاءوا الى الجمع تقدم اليه رجل جاثيا له
    15 و قائلا يا سيد ارحم ابني فانه يصرع و يتالم شديدا و يقع كثيرا في النار و كثيرا في الماء
    16 و احضرته الى تلاميذك فلم يقدروا ان يشفوه
    17 فاجاب يسوع و قال ايها الجيل غير المؤمن الملتوي الى متى اكون معكم الى متى احتملكم قدموه الي ههنا
    18 فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان فشفي الغلام من تلك الساعة
    19 ثم تقدم التلاميذ الى يسوع على انفراد و قالوا لماذا لم نقدر نحن ان نخرجه
    20 فقال لهم يسوع لعدم ايمانكم فالحق اقول لكم لو كان لكم ايمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا الى هناك فينتقل و لا يكون شيء غير ممكن لديكم
    21 و اما هذا الجنس فلا يخرج الا بالصلاة و الصوم
    22 و فيما هم يترددون في الجليل قال لهم يسوع ابن الانسان سوف يسلم الى ايدي الناس
    23 فيقتلونه و في اليوم الثالث يقوم فحزنوا جدا
    24 و لما جاءوا الى كفرناحوم تقدم الذين ياخذون الدرهمين الى بطرس و قالوا اما يوفي معلمكم الدرهمين
    25 قال بلى فلما دخل البيت سبقه يسوع قائلا ماذا تظن يا سمعان ممن ياخذ ملوك الارض الجباية او الجزية امن بنيهم ام من الاجانب
    26 قال له بطرس من الاجانب قال له يسوع فاذا البنون احرار
    27 و لكن لئلا نعثرهم اذهب الى البحر و الق صنارة و السمكة التي تطلع اولا خذها و متى فتحت فاها تجد استارا فخذه و اعطهم عني و عنك
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 2:14 pm

    الأصحاح الثامن عشر

    الطريق الملوكي

    يقدّم لنا السيِّد المسيح التواضع الحيّ المملوء حبًا وترفُّقًا بكونه أهم ملامح طريق ملكوت السماوات.

    1. الملكوت وتواضع الطفولة 1-5.

    2. المحبّة وعثرة الصغار 6-14.

    3. المحبّة والعِتاب 15-20.

    4. المحبّة الغافرة 21-22.

    5. مثل الملك المترفِّق والعبد الشرّير 23-35.

    1. الملكوت وتواضع الطفولة

    "في تلك الساعة تقدّم التلاميذ إلى يسوع، قائلين:

    فمن هو أعظم في ملكوت السماوات؟

    فدعا يسوع إليه ولدًا وأقامه في وسطهم، وقال:

    الحق أقول لكم، إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد

    فلن تدخلوا ملكوت السماوات" [1-4].

    أحاديث السيِّد المسيح وتصرُّفاته قد ألهَبت قلوب التلاميذ نحو التمتّع بملكوت السماوات، لكنهم لم يكونوا بعد قادرين على التخلُّص من الفكر المادي الذي تثقَّفوا به وورثوه أبًا عن جِدْ، فظنّوه ملكوتًا زمنيًا وسلطانًا أرضيًا، لذا اشتهى كل منهم أن ينعم بنصيبٍ فيه، وأن يحْتل مركزًا أعظم ممّا لغيره. هذا الاشتياق وإن كان وليد الضعف البشري، أي حب العظمة وشهرة المراكز المرموقة، لكن الكل يودّ أن يملأ هذا الفراغ بفكرٍ بشريٍ باطلٍ! يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [ما قام بين التلاميذ وسُجل إنّما هو لنفعنا، حتى أن ما حدث بين التلاميذ القدّيسين يكون علّة تواضعنا، فقد انتهر الرب المرض كطبيبٍ حاذقٍ، قاطعًا الألم الذي ينبع فينا بوصيّته المتّقدة التي تبلغ الأعماق.]

    كان عجيبًا لديهم أن يروا السيِّد يستدعي ولدًا ليُقيمه في وسطهم كمثَلٍ حيٍّ للتمتّع بدخول الملكوت، فقد احتقر الرومان الطفولة، ولم يكن للطفل أي حق من الحقوق، يستطيع الوالدان أن يفعلا بطفلهما ما يشاءا بلا رقيب! وتعرّضت الطفولة لدى اليونان لمتاعب كثيرة، أمّا اليهود فلم يحصروا الأطفال والنساء عند إحصاء الشعب (عد 1-2). لكن السيِّد وهو يرتفع بالبشريّة إلى الحياة الناضجة يقدّم طفلاً كمثل للحياة الناضجة الروحيّة القادرة أن تقتحم الملكوت، وكأنه ينقلهم من نضوج الجسد المتَّكئ على السنوات التي عاشها الإنسان إلى نضوج النفس الداخليّة التي لا ترتبط بزمنٍ معينٍ.

    يؤكّد السيِّد لطالبي الملكوت التزامهم بالرجوع ليصيروا مثل الأولاد، فيدخلوا ملكوت الموات. إنه ليس تراجعًا إلى الوراء، لكنّه نمو نحو الطفولة المتواضعة البسيطة. فالإنسان خلال خبراته على الأرض تنتفخ ذاته جدًا، ولا يستطيع الدخول من الباب الضيق. لهذا يليق به أن يتخلّى عن كل كبرياء لكي تصغر ذاته جدًا وتُصلب تمامًا، فيعبر خلال سيّده المصلوب من باب التواضع، الذي هو الباب الملوكي والمدخل الوحيد للملكوت السماوي.

    بدون التواضع يبقى الإنسان خارجًا، مهما قدّم من عبادة ونسكيّات لا يمكنه الدخول، فإنه لا يمكن لقلب متكبّر أن ينعم بالاتّحاد مع ابن الله المتواضع ليعبّر به وفيه إلى حضن أبيه، لهذا يكمّل السيِّد: "فمن وضع نفسه مثل هذا الولد فهو الأعظم في ملكوت السماوات" [4]. إن كان الكبرياء قد طرد الإنسان من الفردوس، فلا دخول إليه بغير طريق التواضع.

    يحدّثنا القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن دور التواضع في تمتّعنا بالحياة الملكوتيّة في هذا العالم وفي الحياة الأخرى، إذ يقول: [لكي ننعم بالراحة هنا وفي الحياة العتيدة يلزمنا أن نجاهد في غرس أُم كل الصالحات أي التواضع في نفوسنا. بهذا نستطيع أن نعبر بحر هذه الحياة بلا أمواج، وننهي رحلتنا إلى ذلك الميناء الهادئ.] كما يقول: [ليس شيء مقبولاً لدى الله مثل أن يحسب الإنسان نفسه آخر الكل، هذا هو المبدأ الأول للحكمة العمليّة، فإن المتواضع والمجروح في قلبه لا يحب المجد الباطل، ولا هو بغضوب، ولا يحسد قريبه، ولا يلجأ إلى أية شهوة.] ويقول القدّيس باسيليوس الكبير: [إننا نقبل ملكوت الله مثل ولد" (لو 18: 17) إن كنّا نتطلّع إلى تعليم ربّنا كطفل تحت التدريب لا يُعارض معلّميه ولا ينازعهم، وإنما بثقة يتقبّل التعليم في ذهنه وبرغبة في التعلُّم.]

    يقول القدّيس أمبروسيوس: [لا يقصد هنا تفضيل سنٍ على آخر، وإلا صار النمو عملاً هدّامًا. وكنت لا اشتهي البلوغ إلى سن النضوج مادام يسلبني تعبي في ملكوت السماوات، ولما سمح الله بالنمو الذي ينمِّي الرذيلة لا الفضيلة، ولما اختار الرب تلاميذه من الرجال الناضجين، إنما كان يختارهم من الأطفال... فالرب لا يُشير بالطفولة إلى سنٍ، بل إلى المحبّة التي تحمل بساطة الطفولة. الفضيلة ليست عجزًا عن إتمام الخطيّة لكنها رفض لها، ومثابرة للعودة إلى طبيعتنا الأولى وطفولتنا.] كما يقول: [إن كان الأطفال سرعان ما يتشاجرون معًا، لكنهم أيضًا سرعان ما يعودون ليجتمعوا معًا بصداقة عظيمة، إذ هم لا يعرفون السلوك بمكر وخداع.]

    ويقول القدّيس كيرلّس الكبير: [ليكن سموِّنا في تواضعنا، ومجدنا في عدم محبّتنا للمجد، وليكن اشتياقنا منصبًّا فيما يُسِر الله، واضعين في ذهننا ما يقوله لنا الحكيم: "إذ تصيرون عظماء تتّضعون بالأكثر فتجدون نعمة لدى الرب" (ابن سيراخ 3: 18). فإن الله يحتقر المتعجرفين ويحسب المتكبّرين كأعداء له، لكنّه يكلِّل الودعاء ومتواضعي الذهن بالكرامات.]

    الطفولة في المسيح

    إن كان السيِّد يشتاق أن ينعم تلاميذه بالرجوع إلى الطفولة، فيحملون روح التواضع بكونه السمة الملوكيّة التي تسند النفس في عبورها إلى الحياة السماويّة، فإن السيِّد وهو يتحدّث عن الأطفال يقدّم الطفولة كحاملة لاسمه، إذ يقول: "ومن قبِلَ ولدًا واحدًا مثل هذا باسمي فقد قبلني" [5].

    لئلا يستنكف أحد من أن يرجع إلى تواضع الطفولة، يتجلّى السيِّد في حياة الأطفال، فيحسب من يقبلهم باسمه إنّما يقبله هو. هكذا يرفع السيِّد من الطفولة التي احتقرَتها البشريّة بكل أجناسها وألسنتها. فإن كان السيِّد قد كرّم الإنسان خلال تأنُّسِهِ، وكرَّم الفقراء حاسبًا إيّاهم إخوته الأصاغر، ما يُفعل بهم إنّما يقدَّم لحسابه، هنا يُكرم الطفولة، من يقبلها باسمه إنّما يقبَله هو. تُرى من لا يشتهي أن يحمل طبيعة "الطفولة المتواضعة" الحاملة لاسم المسيّا الملك؟! حقًا لقد قدَّس السيِّد الطفولة إذ صار طفلاً، ولا يزال يقدّسها إذ يجعل اسمه محمولاً على أطفاله الصغار؟!

    يقول القدّيس أمبروسيوس: [من هو هذا الطفل الذي يليق بتلاميذ المسيح أن يتمثلوا به إلا الذي قال عنه إشعياء: "يُولد لنا ولد ونعطَى ابنًا..." (إش 9: 6)، هذا الذي قال: "اِحمل صليبك واتبعني" (مت 16: 24). هذا الذي تميّز بأنه "إذ شُتم لم يكن يُشتم عوضًا، وإذ تألّم لم يكن يهدّد" (1 بط 2: 23). هنا الفضيلة الكاملة في الطفولة حيث تحمل الأمور القديمة المكرّمة، كما تحمل الشيخوخة براءة الطفولة".]

    2. المحبّة وعثرة الأطفال

    "ومن أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي،

    فخيرٌ له أن يُعلَّق في عُنقه حجر الرَحَى،

    ويغرق في لُجّة البحر" [6].

    المؤمن إمّا أن يتقبّل الدخول إلى "الطفولة" المتواضعة والبسيطة فيدخل باب الملكوت السماوي أو يقف عثرة عند الباب لا يدخل ولا يترك حتى الأطفال المؤمنين أن يدخلوا. ليس هناك طريق وسط في الحياة مع الله، إمّا أن يعبر نحو الأبديّات أو يعوق الآخرين عن العبور. أمّا سِرّ العثرة فيكمن في أمرين:

    أولا: تحجُّر القلب؛ إذ لا يعرف حب الله أو الناس، فلا يقدر أن يغفر لمن يسيء إليه ولا أن يعاتبه، لذا خيرٌ له أن يُربط في عنقه حجر رحَى، من أن يحمل هذه الطبيعة المتحجّرة والعنُق القاسي الغليظ!

    ثانيًا: الانغماس في الأمور الأرضيّة، فلا يرى سوى الزمنيّات، لهذا خيرٌ له أن يُلقي في لُجّة البحر ولا يلقى بقلبه في بحار هموم هذه الحياة وملذّاتها.

    كأن السيِّد المسيح بقوله: "خيرٌ له أن يُعلّق في عُنقه حجر الرحَى، ويغرق في لُجّة البحر" لا يقدّم إدانة أو حكمًا ضدّ النفس التي تُعثر الآخرين، ولا يودّ هلاكها، إنّما يودّ أن يُعلن حقيقة موقفها، وما بلغت إليه داخليًا خلال هذا التشبيه. فقد تحجَّرت وغرقت في بحر محبّة العالم، الأمر الذي يحمل خطورة أكثر من الغرق الجسدي في البحر خلال ربط الإنسان بحجر في عُنقه.

    يبدو أن اليهود قديمًا كانوا يعاقبون مرتكبي الجرائم الكبرى بربط عنقهم في حجر وإلقائهم في أعماق المياه.

    يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العقوبة بقوله: [بهذه العقوبة التي يستحقَِّها الإنسان الذي يُعثِر غيره، نتعلّم المكافأة لمن يُنقذ الآخرين. فلو لم يكن خلاص نفس واحدة عظيم جدًا لدى المسيح ما كان يهدّد بعقوبة كهذه لمن يُعثِر إنسانًا".]

    أما طريق الأمان ضدّ العثرة فهو كلمة الله أو شريعته كقول المرتّل: "سلامة جزيلة لمُحبّي شريعتك وليس لهم عثرة" (مز 119: 165) وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [عندما سمعتم: "الويل للعالم من العثرات" فكَّرتم كيف تتجاوزن العالم حتى لا تتعرّضوا للعثرات‎. إذن لنتجنّب العثرات. كيف نتجاوز العالم إلا بهروبنا إلى صانع العالم؟ وكيف ننطلق إلى صانع العالم ما لم نُصغ إلى شريعته التي يكرز بها في كل موضع؟! فإن الإصغاء إليها أمر بسيط أن أحببناها. لأن الكتاب المقدّس وهو يحصِّنك من العثرات لم يقل: "سلامة جزيلة لسامعي شريعتك" وإنما "لمُحبِّي شريعتك....] ويقدّم لنا القدّيس أغسطينوس مثالاً عمليًا هو امرأة أيوب التي كانت عثْرة، فجاءت تسحب قلب زوجها للتجديف، لكن كان قلبه محبًا لشريعة الله وليس له عثرة؛ كانت هي معثَرة، لكن ليس له.

    "ويل للعالم من العثرات،

    فلابد أن تأتي العثرات،

    ولكن ويل لذلك الإنسان الذي به تأتي العثرة" [7].

    إن كان السيِّد قد فتح لنا الطريق الملوكي مشتاقًا أن تدخل فيه كل البشريّة المحرومة منه، فإن عدوّ الخير لا يكف عن أن يعمل أيضًا لحساب مملكته، فإنه حيث يوجد السيِّد المسيح عاملاً فينا يُصارع إبليس لحساب ظلمته خلال العثرات. يجنِّد من له لتحطيم النفوس البسيطة، الأمر الذي يحذّرنا منه السيِّد، لا لئلا يُعثرنا الآخرون فقط، وإنما لئلا نتحوّل نحن أيضًا معهم إلى عثرة للآخرين. لكنّنا إذ نحمل فينا مسيحنا غالب العالم وننعم بوصيّته لا نخاف العثْرة. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [عندما تسمع "ويل للعالم من العثرات" لا تخف، وإنما حب شريعة الله، فلا تكون لك عثرة.]

    "فإن أعثَرتك يدك أو رِجلك فاقطعها واِلقها عنك.

    خيرٌ لك أن تدخل الحياة أعرج أو أقطع

    من أن تلقي في النار الأبديّة ولك يدان أو رجلان.

    وإن أعثَرتك عيْنك فاِقلعها واِلقها عنك.

    خيرٌ لك أن تدخل الحياة أعوَر من أن تُلقى في جهنّم النار ولك عيْنان" [8-9].

    هل يمكن للمؤمن أن يَبتُر كل عضو في جسده يُعثِرة أو يُعثِر الآخرين؟ في تاريخ الكنيسة قصص فريدة لأُناس صنعوا هذا، مثل سمعان الخرَّاز والفتاة الطاهرة التي ضربَت بالمِخْراز عينها لتُقدّمها لإنسان بذل كل الجهد لملاقاتها من أجل عينيها الجميلتين. في رأي الآباء أن كلمات السيِّد هنا تحمل معنى رمزيًا روحيًا، فاليد ليست إلا الإنسان الذي يسندني ويعمل لحسابي، إن تحوّل هذا إلى معثَرة لي يفقدني إيماني أو طهارتي أقطعه لاَغتصب السماوات بدونه بالرغم من شوقي إلى خلاصه. لقد مدّ يوسف العنيف يديه بكل قوّة وشجاعة ليبتُرهما حينما ترك الثوب في يديّ سيدته وهرب. لقد فضّل أن يَقطع علاقته بمن تُقدِّم له لُقمة العيش مفضِّلاً أن يُذّل داخل أسوار السجن كمن هو بلا يدين، محرومًا من حرّية الجسد من أجل تمتُّعه بالحياة الطاهرة الفردوسيّة. لم تكن لُقمة العيش قادرة أن تحبس يوسف في العثْرة، مفضِّلا أن يدخل الحياة أقطع من أن يُلقى في نار الشهوة المهلِكة وله يدان! والعجيب أن الله لم يترك يوسف بلا يدين، بل صار هو نفسه يديه أينما حلّ يتبارك العمل، سواء داخل أسوار السجن أو في قصر فرعون. فإن كنّا بالروح القدس الناري نعرف كيف نقدّم أيدينا المُعثِرة لصليب ربّنا يسوع المسيح فتُبتَر، لا نبقى بلا يدين وإنما يصير السيِّد المسيح نفسه يدينا العاملتين معنا وبنا وفينا، وفي كل عمل نعمله يتقدّمنا السيِّد نفسه فيحل ببركته فينا، بل أقول نختفي نحن فيه ليكون هو العامل! إن كل بَتْر لمصدر العثْرة بحكمة الروح القدس ليس خسارة بل هو ربح، فيه أَخْذ لا عطاء!

    ما أقوله عن اليدين أكرّره بخصوص الرجلين، فإن كان أحد يمثّل الرجلين بدونهما نصير كمن هو أعرج غير قادر على الحركة. فإن أعثرتنا هاتان الرجلان نقدّمهما بالروح القدس لصليب ربّنا يسوع المسيح لبترِهما، ونلبس السيِّد نفسه ذي القدمين النحاسيّتين، بهما ندُكْ كل عثْرة في الطريق، حتى نعبُر إلى حِضن أبيه ونحن في أمان روحي وسلام فائق.

    يقول القدّيس أغسطينوس: [قد تأتيك زوجتك لتنصحك بأمر شرّير. إنك تحبّها بكونها زوجتك يجب أن تُحب. هي عضو فيك، لكن إن أعثَرتْك عينك أو يدك أو رجلك كما سمعتَ في الإنجيل فاقطعها واِلقها عنك. مهما كان الإنسان عزيزًا لديك وله تقديره لديك، فإنّه قدر ما تُكرمه وتُحبّه لا تسمح له أن يُعثِرك مقدِّمًا لك مشورة شرّيرة....]

    ويقول أيضًا: [يريد إنسان صاحب سلطان تغطية ظُلمه ونهبه للآخرين فيسألك أن تخدمه بشهادة زور؛ لترفضه. اُرفض القسَم الباطل لئلا تكون قد أنكرت من هو حق. إنه سيغضب وهو صاحب سلطان ويضغط عليك!... ماذا يستطيع ذاك الذي له سلطان أن يفعل لك أو بماذا يقدر أن يضايقك؟... إنه في غضبه وبسلطانه يقتل الجسد!... ليقتله فإن الجسد سيموت حتى وإن لم يُقتل، أمّا النفس فلا يمكن أن يقتلها إلا الظلم!... إن كان ذاك الذي أغضبه بالحق يضايق جسدي بالضيقات فإنّني أصغي لربي القائل: "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد" (مت 10: 28).]

    ولئلا يظن أحد أن بتْر عضو هو أمر سهل، سواء كان يدًا أو رجلاً أو عينًا، قال "انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار، لأني أقول لكم أن ملائكتهم في السماوات كل حين ينظرون وجه أبي في السماوات" [10]. كأنه قبل أن نقدّم على بتر عضو بصليب السيِّد، فنقطع علاقتنا به ننظر إلى خلاصه كأحد الصغار الذين يشتهي الله خلاصهم، فإن ملائكتهم وإن كانت حزينة على انحرافهم، لكنها تقف أمام الآب السماوي كل حين تشفع فيهم ليعمل فيهم لخلاصهم. إن النفس الحكيمة تعمل بكل الطاقة، لا للهروب من الخدمة، وإنما حتى بالنسبة للمعثِرين تبذل كل الطاقة لكي لا تخسر خلاصها وأبديتها، وفي نفس الوقت لا تفقد المعثِرين أنفسهم إن أمكن، مشتهية خلاصهم، متجاوبة مع ملائكتهم بل ومع سيّدهم نفسه، "لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يخلّص ما قد هلك" [11].

    عمليّة البَتْر وإن كانت أحيانًا لازمة وضروريّة، لكنها تكون في أضيق نطاق بعد بذل كل الجهد بكل الطرق، لحَث المعثِرين أنفسهم على قبول الخلاص المقدّم من ابن الإنسان نفسه.

    ولعلّ السيِّد قد أراد بكلماته هذه رفع "الطفولة" وعدم احتقارها، فإن كل إنسان مهما بدأ صغيرًا له ملاكه الذي يقف في حضرة الآب من أجله، بل ابن الإنسان نفسه مهتمّ بخلاصه.

    ولعلّه وهو يطالبنا بالعودة إلى الطفولة أراد تأكيد ما لهذا العمل من بركات، وهو فرح ملائكتهم بهم الذين ينظرون وجه الآب السماوي كل حين، وينعمون بخلاص المسيح المجّاني.

    إذن احتقار النفس البشريّة والاستهانة بخلاصها، سواء كانت نفس طفل صغير أو شخص ناضج، لإنسانٍ عظيمٍ أو حقيرٍ، أو ازدراء الإنسان لنفسه هو غير مبال بالعثْرة، إنّما هو ازدراء بعمل المسيح الخلاصي. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لا تقل هذا عبد هارب أو ذاك لص أو قاتل، أو إنسان مثقّل بخطايا غير معدودة، أو متسوّل أو حقير... بل تأمّل أنه لأجله مات المسيح؛ أَما يكفي هذا ليكون أساسًا لنُعطيه كل اهتمام؟!]

    أوضح السيِّد أبعاد الاهتمام بخلاص كل نفس وعدم اعثار أحد، بقوله:

    "ماذا تظنّون: إن كان لإنسان مائة خروف وضلّ واحد منها،

    أفلا يترك التسعة والتسعين على الجبال ويذهب يطلب الضال.

    وإن اِتَّفق أن يجده،

    فالحق أقول لكم أن يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل.

    هكذا ليست مشيئة أمام أبيكم الذي في السماوات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار" [12-14].

    هكذا يكشف السيِّد عن نظرته للإنسان أنه ليس مجرّد فرد بين عدد لا يُحصى، إنّما يهتمّ به الله شخصيًا وباسمه، مقدّمًا له كل اهتمامه أكثر من كل الجماعة المحفوظة في مراعيه على الجبال المقدّسة، لكي يجتذبه ويدخل به إلى العضويّة في هذه الجماعة، إن الله لا يهتمّ باَلكَمّ إنّما بالنوع، يهتمّ بكل عضو بكونه ابنًا له.

    بهذا الروح الأبوي تطلّع القدّيس يوحنا الذهبي الفم إلى شعبه فلم ينشغل بالكاتدرائيّة المكتظَّة بالعابدين، ولم يفرح بكثرة الملتصقين بالكنيسة، وإنما كان يئن حزينًا لو أن إنسانًا واحدًا في المدينة لم ينعم بعد بالحياة الأبديّة. في اهتمامه بكل عضو يقول: [كل واحد منكم في عينيَّ يساوي المدينة كلها.] [لا يقل لي أحد أن كثيرين قد نفَّذوا الوصيّة فإنّني لا أبتغي هذا، بل أريد الكل أن يفعلوا هكذا. فإنّي لا أستطيع أن التَقط أنفاسي حتى أرى ذلك قد تحقّق، فإن كان واحد قد ارتكب الزنا بين أهل كورنثوس صار بولس يتنهّد كما لو أن المدينة كلها قد ضاعت.]

    3. المحبّة والعِتاب

    إن كان التواضع المملوء حبًا هو مدخل الملكوت السماوي، فإن هذا التواضع يقوم على نفس منفتحة صريحة وواضحة. إن شَعَر المؤمن بأن أخًا له في الإيمان قد أخطأ إليه، ففي محبّة صادقة يذهب إليه ليعاتبه منفردًا حتى إذ يسمع منه يربح أخاه. "إن أخطأ إليك أخوك، فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك فقد ربِحت أخاك" [15].

    هذا السلوك الذي أوصانا به السيِّد ليس مجرّد عمل أخلاقي يلتزم به المؤمن، لكنّه في جوهره هو اختفاء في شخص السيِّد المسيح، فلا يرى المؤمن أخاه يسيء إليه، إنّما يسيء إلى نفسه وإلى تمتّعه بالأبديّة، فيذهب ليعاتبه لا بمعنى أنه يودّ تأكيد خطأه، أو ينتظر أن يعتذر له، وإنما يذهب إليه حاملاً فكر المسيح لكي يقتنيه بالحب للمسيح كعضوٍ حيٍّ في جسده، ينقذه من الخطأ ويربحه كعضوٍ معه في ذات الجسد.

    يذهب إليه منفردًا حتى لا يتحوّل العِتاب إلى نوعٍ من التشهير، ولكي يعطي له الفرصة لمراجعة نفسه بلا عناد؛ يذهب إليه ليحمله إلى التوبة لله لا للاعتذار له. بهذا يطلب المؤمن سلامة حياة أخيه في الرب وليس معاقبته. لهذا يقول السيِّد إنك بهذا تربح أخاك، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إنه لم يقل أنك تنال انتقامًا كافيًا بل تربح أخاك، مظهرًا وجود خسارة مشتركة لك وله بسبب العداوة، إذ لم يقل "يربح نفسه" بل "تربح (أنت) نفسه" مظهِرًا أن الخسارة قد لحقت قبلاً بالاثنين، الواحد خسر أخاه والآخر خسر خلاصه.]

    يقول القدّيس أغسطينوس: [لكي نستطيع أن نتمِّم ما قد أُمرنا به اليوم (كما جاءت العبارة الإنجيليّة التي بين أيدينا) يلزمنا قبل كل شيء ألا نحمل كراهية، لأنه عندما لا تكون هناك خشبة في عينك تقدر أن ترى حقًا ما بعين أخيك، وتكون متضايقًا حتى تُزيل عن عين أخيك ما تكرهه. النور الذي فيك لا يسمح لك بإهمال نور أخيك. أمّا إن حمَلتَ فيك كراهيّة، وتريد إصلاحه، فكيف تصلح نوره وأنت فاقد النور؟! إذ يقول الكتاب المقدّس: "كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس". كما يقول أن من "يبغض أخاه فهو إلى الآن في الظلمة" (1 يو 2: 9). فالبغضة إذن هي ظلمة، فمن يكره الآخرين إنّما يُضير نفسه أولاً، مفسدًا داخله...]

    حقًا لقد أراد السيِّد أن يدخل بتلاميذه إلى حياة الغفران للآخرين، بعيدًا عن روح الانتقام والكراهيّة التي تحجبنا عن ملكوت السماوات. ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على ذلك بقوله: [عندما تُفكِّر في الانتقام، انظر أنك تنتقم من نفسك لا من الآخرين، إذ تربط خطاياك لا خطايا أخيك... أي شيء أكثر خطورة من أن تكون منتقمًا، إن كان هذا ينزع عنك عطيّة الله العُظمى؟!] ويرى نفس القدّيس أن الذي يُخطئ إلينا ويظلمنا، إنّما يسبّب لنا نفعًا عظيمًا إن احتملناه بحب، إذ يقول: [لا تقل أنه شتمك وافترى عليك وصنع بك شرورًا بلا حصر، فإنه بقدر ما تعدّدت هذه الأمور وبكونها صادرة عنه، تُعلن أنه نافع لك. إنه يقدّم لك فرصة لغسل خطاياك، وقدر ما تَعظُم الأضرار التي يصُبَّها عليك، يكون علّة لنوالك غفرانًا عظيمًا للخطايا.] وكما يقول: [إننا نعاقب أنفسنا بكراهيّتنا للآخرين، كما نستفيد بحبّنا لهم.]

    لماذا نذهب للمخطئ ولا ننتظر مجيئه؟

    يجيب القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لأنه ليس بالأمر السهل أن يذهب من ارتكب الخطأ ليعتذر لأخيه وذلك بسبب الخجل وارتباك وجهه. يطالب (السيِّد) الذي أُصيب بالخطأ ليس فقط بالذهاب إلى أخيه، وإنّما يذهب بطريقة بها يُصحّح ما قد حدث، فلم يقل له: اذهب اتَّهمه أو انصحه أو أطلب منه تصفية الحساب معه، وإنما (عاتبه) مخبرًا إيّاه بخطئه، وما هذا إلا تذكيره بما أخطأ به. اخبره بما حلّ بك على يديه، بطريقة لائقة كمن يقدّم له العذر، ويسحبه بغيره نحو المصالحة.]

    ذهابنا إلى المخطئ بمفردنا لمعاتبته لكي نربحه في الحقيقة ليس إلا اقتداءً بالسيِّد المسيح نفسه، فقد جاء إلينا من سمواته ليعاتبنا بالحب، ويدفعنا بعمله الخلاصي للتوبة لكي يربحنا له كأعضاء جسده المقدّس. إنه لم ينتظرنا نذهب بل جاء إلينا! هذا فإن الوصيّة التي يقدّمها لنا السيِّد لا يمكننا أن نكمِّلها ما لم نحمله هو في داخلنا فنسلك سلوكه ونحمل فكره فينا.

    يقول القدّيس أغسطينوس: [إذ أخطأ إليك أخوك سرًا ابحث عنه لتصحِّح خطأه خفية... فإن أردت توبيخه أمام الجميع فأنت لا تكون مصلحًا لأمره بل فاشيًا للسرّ... إن كان قد أخطأ إليك وحدك، وأنت تعرف ذلك، فهو مخطئ إليك وحدك، أمّا إذا أساء إليك أمام كثيرين، فقد أخطأ إليهم أيضًا بمشاهدتهم إساءته إليك... لهذا يجب انتهاره أمام جميع من ارتكب أمامهم الخطأ.]

    ولكن، إن لم يسمع المخطئ منّا فماذا نفعل؟

    "وإن لم يسمع فخذ معك أيضًا واحدًا أو اثنين

    لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أوثلاثة،

    وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة،

    وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عِندك كالوثني والعشّار" [16-17].

    حينما نأخذ معنا واحدًا أو اثنين ينبغي ألا يكون الهدف تأكيد خطأه والشهادة ضدّه وإنما لإقناعه، فنكون كالطبيب الذي يرى المرض يتزايد فيُّصرّ على تقديم دواء أكثر مرارة وأشد فاعليّة، ليس لأجل المرارة في ذاتها، وإنما من أجل شفائه. فإن لم يأتِ هذا التصرّف بثمر نُخْبر الكنيسة، لا كمن يشتكيه أمام المحكمة، وإنّما كمن يُخبر، لتهتم به وتعالجه بحكمة. داود النبي وهو نبي تقي ومشهود له من الله نفسه وحكيم، عندما أخطأ لم يُدرك خطأه حتى تلقَّفته الكنيسة في شخص ناثان النبي، لتُعيد له بصيرته التي أفسدتها الخطيّة، وتردّ له فكره وحكمته.

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ألا ترى كيف أنه يفعل هذا ليس من أجل العقوبة العادلة، وإنّما بقصد الإصلاح؟! لهذا لم يوصه من البداية أن يأخذ معه اثنين، وإنما بعد أن يفشل بمفرده، ولا أن يرسل إليه الجماعة ضدّه وإنما يرسل إليه اثنين أو واحدًا، فإن احتقر هذا التصرّف عندئذ فقط يحضره للكنيسة.]

    أخيرًا إن لم يسمع من الكنيسة، رافضًا أمومتها، يكون قد رفض أبوة الله نفسه فيُحسب كالوثني والعشّار. إنه يلزم تجاهله، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لأن مرضه قد صار غير قابل للشفاء.]

    إذن برفضه الكنيسة يَحرم الإنسان نفسه من العضويّة في جسد المسيح، ويصير من حق الكنيسة أن تربطه. إذ يكمّل السيِّد كلماته هكذا: "الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض، يكون مربوطًا في السماء، وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء" [18]. إنه يربط نفسه بنفسه برفضه الفكر الكنسي، وتلتزم الكنيسة أن تربطه ليس تشفيًا فيه، وإنما لحفظ بقيّة الأعضاء من فساده لئلا يتسرب إليهم، كما تُعزل الخميرة الفاسدة عن العجين كله، أو يُبتر العضو الفاسد. وإن كان هذا الأمر لا يتمّ باستهتار أو بتسرّع. فإنه ليس سهلاً أن يقبل إنسان بتْر عضو من جسده إلا بعد استخدام كل وسيلة ووسيلة لعلاجه، وحينما يجد جسده كلّه في خطر يلتزم تسليمه للبتْر. أقول أنه ما أصعب على قلب الكنيسة أن ترى إنسانًا. يُلقي بنفسه خارجًا ويُلزمها بربطه، أنها تبقى منتظرة من يومٍ إلى يومٍ رجوعه لكي تحِلُّه فيجد بابها مفتوحًا له. لهذا يذكر السيِّد الربط أولاً فالحَل، ليعطي للمربوطين رجاءً في الحَل، وليلهب قلب الكنيسة نحو حلّ المربوطين فلا تستكين من جهة خلاصهم حتى وإن كانوا قد ألقوا أنفسهم بأنفسهم خارج أبوابها.

    إذ يتحدّث السيِّد عن ربط الإنسان الرافض للكنيسة وحله متى رجع إليها بالتوبة، يقول: "وأقول لكم أيضًا إن اِتّفق اثنان منكم على الأرض في إي شيء يطلبانه، فإنه يكون لهما من قِبَل أبي الذي في السماوات. لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم" [20]. كأن السيِّد المسيح يُعلن لكنيسته أن تبقى مصلِّية من أجل المربوطين، حتى وإن كان أعضاء هذه الكنيسة المحليّة اثنين أو ثلاثة على الأرض، فإنهم إذ يُصلّون معًا في اتّفاق بقلبٍ واحدٍ يحلّ المسيح نفسه "المحبّة" في وسطهم، وتُقبل صلواتهم أفضل من صلوات الكثيرين كل على انفراد.

    يقول السيِّد "إن اتِّفق اثنان على الأرض"، لأن في اتِّفاقهما معًا بروح الحب يتّحد معهما بعض أعضاء الكنيسة الراحلين وأيضًا بعض السمائيّين، فيفرح الله بصلاة الشركة هذه!

    يرى البعض في الحديث عن الاثنين أو الثلاثة هنا إشارة إلى كنيسة البيت، حيث يجتمع الزوجان معًا في الرب بروح الحب الحقيقي ومعهما الأولاد، فيسكن الرب في وسط البيت كقائدٍ لهم.

    كما يرى الكثير من الآباء في قول الرب تأكيد لأهمّية حياة الشركة المُقامة على الحب في الرب، وتحذير من حياة العزلة، إذ يقول الكتاب: "اثنان خيرٌ من واحد، لأن لهما أجرة لتعبهما صالحة، لأنه إن وقع أحد يُقيمه رفيقُه، وويلٌ لمن هو وحده، إن وقع إذ ليس ثان ليُقيمه... والخيط المثلوث لا ينقطع سريعًا" (جا4: 9-12).

    v إن كان اثنان بفكر واحد يستطيعان أن يفعلا هكذا فكم بالأكثر متى وُجد اتّفاق في الفكر بين الجميع؟!

    القدّيس كبريانوس

    v إن كان الرب يقول أنه إذا اتّفق اثنان معًا على الأرض في أي شيء يطلبانه يُعطى لهما... فكم بالأكثر إن اجتمعت كل الجماعة معًا باسم الرب؟!

    v آمن أن الرب يسوع حاضر عند اِستدعاء الكاهن، إذ يقول: "حينما اجتمع اثنان أو ثلاثة أكون في وسطهم"، فكم بالأكثر إن اجتمعت الكنيسة وأقيمت الأسرار يهبْنا حضوره؟!

    القدّيس أمبروسيوس

    v الصلاة الجماعيّة تُستجاب سريعًا، وتأتي بثمر كثير عندما تكون متّحدة وباتفاق في الرأي.

    الآب يوحنا من كرونستادت

    v لقد وَضع الاتِّفاق أولاً، وجعل من اتِّفاق السلام أساسًا أوَّليًا، معلِّما إيّانا أنه يليق بنا أن نتَّفق معًا بثبات وإيمان. ولكن كيف يمكن أن يوجد اتِّفاق مع شخص لا يتّفق مع جسد الكنيسة نفسها والأخوة الجامعة؟! كيف يمكن لاثنين أو ثلاثة أن يجتمعوا معًا باسم المسيح مع وضوح انفصالهم عن المسيح وعن إنجيله؟! فإنّنا لم ننفصل نحن عنهم بل هم انفصلوا عنّا، فظهرت الهرطقات والانشقاقات، وأقاموا لأنفسهم أماكن مختلفة للعبادة تاركين رأس الحق ومصدره.

    القدّيس كبريانوس

    4. المحبّة الغافرة

    حينئذ تقدّم إليه بطرس وقال:

    يا رب كم مرّة يخطئ إليّ أخي وأنا اغفر له،

    هل إلى سبع مرّات؟

    قال له: لا أقول لك إلى سبع مرّات، بل إلى سبعين مرّة سبع مرّات" [21-22].

    إن كانت الكنيسة تلتزم بتنقيّة أعضائها، مع اهتمامها الشديد بكل وسيلة لإصلاح المخطئين مهما بلغ شرّهم، فما هو موقف العضو نحو أخيه المخطئ إليه، كم مرّة يغفر له الخطأ الشخصي؟

    لقد ضرب الرسول بطرس رقم (7) بكونه يُشير إلى الكمال عند اليهود، وكأنّه رفع الغفران للأخ إلى اللاحدود من أجل محبّته له، أمّا السيِّد فأكَّد قائلاً: "بل إلى سبعين مرّة سبع مرّات". وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لا يقدّم (السيِّد) هنا عددًا معينًا (70×7=490) بل ما هو غير محدود ودائم إلى الأبد... فلا يحدّد رقمًا للمغفرة، إنّما يطلب أن تكون دائمًا وأبديّة.]

    ويرى القدّيس أمبروسيوس أن رقم 7 يُشير إلى السبت الأبدي أو الراحة، وكأنّ المؤمن إذ يغفر لأخيه يدخل إلى الراحة الأبديّة. فالغفران بلا حدود مادام يطلب راحة بلا حدود!

    ويرى القدّيس أغسطينوس أن السيِّد المسيح يطلب منّا الغفران لإخوتنا 77 مرّة يوميًا لا بمعنى عدم مغفرة الخطأ رقم 78، ولكن لأن رقم 10 يُشير إلى الناموس، والوصيّة بعدم كسره تكون مفهومة ضمنًا تمثل رقم "11" وكأنه متى أخطأ أخوك كاسرًا كل الوصايا (11) بغير حدود (7) فاغفر له لكي تقتنصه بالحب إلى الحياة المقدّسة في الرب.

    يجيب القدّيس جيروم على التساؤل: إن طلب أخي بشفتيَّه لا بقلبه فماذا أفعل؟ قائلاً: [إن أخطأ سبعين مرّة سبع مرّات يوميًا وسألك الصفح فاغفر له، ولا تقل إنه لا يطلب الصفح من أعماق قلبه بل يكذب. أترك الدينونة لله! هو توسّل إليّ وطلب منّي، فإن كان لا ينطق بالحق، فالله هو الذي يعلم. أنا اسمع الصوت لكن المسيح هو الذي يفهم القلب. أنا أقبل ما اسمعه، والمسيح يقبل ما يدركه. هذا ولتفكِّر في مكافأتِك، فإن كان هو يكذب وأنت قبلت كذبه كصدق، يكون لك ذلك خلاصًا أمّا بالنسبة له فيكون موتًا.]

    وقد رأى القديس يوحنا الدرجي في وصية السيِّد انفتاحًا لأبواب الرجاء أمامنا لدى الرب نفسه، إذ يقول: [في أوقات اليأس لا تتوقّف عن تذكُّر وصيّة الرب لبطرس أن يغفر للمخطئ سبعين مرة سبع مرات، فإن الرب الذي أعطى هذه الوصيّة يعمل هو أعظم منها بكثير (نحونا). ولكن عندما نتكبَّر فلنتذكَّر القول: من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة - أي سقط في الكبرياء - فقد صار مجرمًا في الكل.]

    5. مثل الملك المترفِّق والعبد الشرّير

    إذ أراد السيِّد أن يقدّم مثلاً للترفُّق بالآخرين قال:

    "لذلك يشبه ملكوت السماوات إنسانًا ملكًا أراد أن يحاسب عبيده.

    فلما ابتدأ في المحاسبة قدّم إليه واحد مديون بعشرة آلاف وزنة.

    وإذ لم يكن له ما يوفي أمر سيّده أن يُباع هو وامرأته وأولاده وكل ماله ويوفي الدين.

    فخرّ العبد وسجد له قائلاً:

    يا سيّد تمهل عليّ فأوفيك الجميع.

    فتحنّن سيّد ذلك العبد وأطلقه وترك له الدين" [23-27].

    في هذا المثل يظهر الملك رمزًا للديّان الذي يقف أمامه الإنسان مدينًا بعشرة آلاف وزنة، بينما يُعلن الإنسان عجزه التام عن الإيفاء بالدين. ويلاحظ في هذا المثل:

    أولا: يشبه ملكوت السماوات بإنسان ملك، وكما يقول العلاّمة أوريجينوس: [ملكوت السماوات هذا هو ابن الله، عندما صار في شكل جسد الخطيّة، متّحدًا بالناسوت فصار إنسانًا ملكًا.]

    ثانيًا: العشرة آلاف وزنة التي اِسْتَدانها الإنسان، إنّما هي كسر الوصايا الإلهيّة. فإن كان رقم 10 يُشير إلى الوصايا العشرة، ومن أخطأ في وصيّة يكسر الناموس كله، وأما رقم 1000 فيُشير للأبديّة، فإن رقم 10.000 يعني أن الإنسان مدين بكسر وصايا بدِين لا يقدر أن يفيه عَبر حياته الزمنيّة.

    يقول القدّيس أغسطينوس: [يلزمنا أن نؤكِّد أنه كما أُعطى الناموس في عشر وصايا، فإن العشرة آلاف وزنة تعني كل الخطايا التي اُرتكبت في حق الناموس.]

    ما كان يمكن للإنسان أن يفي الدين الإلهي، فصدر الأمر ببيعه هو وزوجته وأولاده وكل ماله، لعلّه يقدر أن يفي شيئًا. إن كسر الوصيّة الإلهيّة قد دفع الإنسان ليفقد كل شيء، يفقد نفسه - أي روحه الداخليّة -التي أصابها الموت الأبدي بحرمانها من الله مصدر حياتها، ويفقده زوجته - أي جسده المرتبط به - ويلزم أن يعوله ويربِّيه، فصار الجسد الصالح دنسًا، مثقّلا بشهوات فاسدة قاتلة تثقِّل النفس وتفسد الفكر والحواس. أمّا الأولاد فيُشيرون إلى المواهب المتعدّدة التي تحوّلت خلال الخطيّة من آلات برّ لله إلى أداة إثم تعمل لحساب الشيطان؛ أمّا كل ماله - فيعني ممتلكاته - من ذهب وفضّة ونحاس الخ. الأمور التي وإن كانت صالحة في ذاتها لكنها خلال فساد الإنسان صارت معثرة له.

    يرى القدّيس جيروم أن الزوجة هنا هي "الغباوة"، فكما أن الحكمة هي زوجة الإنسان البار كقول الكتاب "قل للحكمة أنتِ أختي... لتحفظك من المرأة الأجنبيّة من الغربية المَلِقة بكلامها" (أم 7: 4-5)، فإن الشرّير زوجته "الغباوة". فباتّحاد البار بالحكمة ينجب أفكارًا مقدّسة وسلوكًا فاضلاً في الرب، ينجب بنينًا للحكمة يفرح بهم الرب، هكذا الشرير بالتصاقه بالغباوة ينجب أولادًا هم الأفكار الشرّيرة والتصرّفات الدنسة.

    ويرى القدّيس أغسطينوس في الزوجة "الرغبة الشرّيرة" التي تلتصق بالشرّير، فتلد أبناء هم أعماله الشرّيرة. وكأن الإنسان في شرّه يقدّم لدى الديّان حسابًا عن زوجته، أي رغبته أو إرادته الشرّيرة، وعن أولاده، أي تصرّفاته الشرّيرة.

    لقد تحنّن الملك على المدين فلم يتمهَّل عليه فحسب كطلبه [26]، وإنما أعطاه أكثر ممّا يسأل وفوق ما يفهم، إذ أطلقه حرًا هو زوجته وأولاده، وترك له ما لديه وعفا عنه الدين. كان هذا المسكين يطلب الإمهال ظانًا أنه يقدر أن يفي، ولم يُعلّم أنه عاجز كل العجز في تحقيق هذا الأمر مهما طال الزمن، لهذا أطلقه السيِّد إلى الحرّية خلال الصليب تاركًا له كل الدين بنعمته المجّانيّة. وهبه حرّية النفس والجسد، مقدّسًا مواهبه وكل ما يملكه، ليصير بكلّيته مقدّسًا له.

    كان يمكن لهذا العبد أن يعيش هكذا في الحرّية كمن هو بلا دين يحمل كل شيء مقدّسًا، غير أن المعطِّل الوحيد الذي أوقف هذه النعم ونزعها عنه ليردّه إلى أشرّ ممّا كان عليه هو اِنغلاق قلبه على أخيه الذي كان مدينًا له بمائة وزنة، أي بدين بشري تافه، لأن رقم 100 تُشير إلى الجماعة في هذا العالم.

    مسكين هذا الإنسان الذي ينعم بالتحرّر من عشرة آلاف وزنة، ولا يتنازل لأخيه عن مائة وزنة بل يكون معه قاسيًا، فيرتدّ إليه دينه الأصيل ليعجز عن الإيفاء. مهما ارتكب الإخوة في حقّنا، إنّما نكون دائنين لهم بمائة وزنة، فإن لم نتنازل عنها لن ننعم بالتنازل عن الدين الذي علينا لدى الله. "إن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضًا زلاّتكم" (مت 5: 15).

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ لم يكن بعد صوت المغفرة يدوي في أذنيه إذا به ينسى محبّة سيّده المترفّقة! انظر أي صلاح أن تتذكَّر خطاياك! فلو أن هذا الإنسان احتفظ بها بوضوح في ذاكرته ما كان قد صار هكذا قاسيًا وعنيفًا. لهذا أكرّر القول... إن تذكار معاصينا أمر مفيد للغاية وضروري جدًا. ليس شيء يجعل النفس حكيمة بحق ووديعة ومترفّقة مثل تذكار خطايانا على الدوام. لهذا كان بولس يتذكّر خطاياه التي ارتكبها ليس فقط بعد التطهير وإنما تلك التي ارتكبها قبل عماده مع أن هذه جميعها قد غُفرت في الحال وأزيلت.]

    لقد أحزن هذا قلب العبيد رفقائه جدًا، إذ يقول السيِّد: "فلما رأى العبيد رفقاؤه ما كان حزنوا جدًا، وأتوا وقصّوا على سيّدهم كل ما جرى، فدعاه حينئذ سيّده وقال له: "أيها العبد الشرّير كل ذلك الدين تركته لك لأنك طلبت إليّ، أفما كان ينبغي أنك أنت أيضًا ترحم العبد رفيقك كما رحمتَك أنا؟!"

    إن كان العبد المسكين الذي أسره رفيقه في السجن طالبًا أن يفي بالمائة وزنة لم يفتح فمه ليشتكيه، لكن صوت الجماعة يصرخ من الداخل بالحزن الشديد، ويسمع الله تنهّدات البشريّة الخفيّة من أجل قسوة الناس على إخوتهم وعدم صفحهم لهم، فيكيل لهم بالكيل الذي يكيلون به لإخوتهم.

    إن كان هذا هو حال البشريّة التي تئن من أجل عدم تنازل الإنسان لأخيه عن أخطائه التي سبق فارتكبها ضدّه، فماذا يكون قلب الكنيسة التي تحزن جدًا عندما ترى من أولادها من لا يصفح ليخسر في غباوة ما تمتّع به من عطايا إلهيّة ونِعم مجّانيّة. بل هذا ما هو يحزن قلب السمائيّين، وقلب الله نفسه الذي يطلب أن يجد صورته ومثله فينا!

    لقد أكّد لنا السيِّد أن نغفر ليُغفر لنا: "هكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحدٍ لأخيه زلاته" [35]. ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة الإلهيّة: [لم يقل "أباكم" بل "أبي"، إذ لا يليق أن يدعى الله أبًا لإنسان شرّير هكذا وحقود!]

    1 في تلك الساعة تقدم التلاميذ الى يسوع قائلين فمن هو اعظم في ملكوت السماوات
    2 فدعا يسوع اليه ولدا و اقامه في وسطهم
    3 و قال الحق اقول لكم ان لم ترجعوا و تصيروا مثل الاولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات
    4 فمن وضع نفسه مثل هذا الولد فهو الاعظم في ملكوت السماوات
    5 و من قبل ولدا واحدا مثل هذا باسمي فقد قبلني
    6 و من اعثر احد هؤلاء الصغار المؤمنين بي فخير له ان يعلق في عنقه حجر الرحى و يغرق في لجة البحر
    7 ويل للعالم من العثرات فلا بد ان تاتي العثرات و لكن ويل لذلك الانسان الذي به تاتي العثرة
    8 فان اعثرتك يدك او رجلك فاقطعها و القها عنك خير لك ان تدخل الحياة اعرج او اقطع من ان تلقى في النار الابدية و لك يدان او رجلان
    9 و ان اعثرتك عينك فاقلعها و القها عنك خير لك ان تدخل الحياة اعور من ان تلقى في جهنم النار و لك عينان
    10 انظروا لا تحتقروا احد هؤلاء الصغار لاني اقول لكم ان ملائكتهم في السماوات كل حين ينظرون وجه ابي الذي في السماوات
    11 لان ابن الانسان قد جاء لكي يخلص ما قد هلك
    12 ماذا تظنون ان كان لانسان مئة خروف و ضل واحد منها افلا يترك التسعة و التسعين على الجبال و يذهب يطلب الضال
    13 و ان اتفق ان يجده فالحق اقول لكم انه يفرح به اكثر من التسعة و التسعين التي لم تضل
    14 هكذا ليست مشيئة امام ابيكم الذي في السماوات ان يهلك احد هؤلاء الصغار
    15 و ان اخطا اليك اخوك فاذهب و عاتبه بينك و بينه وحدكما ان سمع منك فقد ربحت اخاك
    16 و ان لم يسمع فخذ معك ايضا واحدا او اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين او ثلاثة
    17 و ان لم يسمع منهم فقل للكنيسة و ان لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني و العشار
    18 الحق اقول لكم كل ما تربطونه على الارض يكون مربوطا في السماء و كل ما تحلونه على الارض يكون محلولا في السماء
    19 و اقول لكم ايضا ان اتفق اثنان منكم على الارض في اي شيء يطلبانه فانه يكون لهما من قبل ابي الذي في السماوات
    20 لانه حيثما اجتمع اثنان او ثلاثة باسمي فهناك اكون في وسطهم
    21 حينئذ تقدم اليه بطرس و قال يا رب كم مرة يخطئ الي اخي و انا اغفر له هل الى سبع مرات
    22 قال له يسوع لا اقول لك الى سبع مرات بل الى سبعين مرة سبع مرات
    23 لذلك يشبه ملكوت السماوات انسانا ملكا اراد ان يحاسب عبيده
    24 فلما ابتدا في المحاسبة قدم اليه واحد مديون بعشرة الاف وزنة
    25 و اذ لم يكن له ما يوفي امر سيده ان يباع هو و امراته و اولاده و كل ما له و يوفي الدين
    26 فخر العبد و سجد له قائلا يا سيد تمهل علي فاوفيك الجميع
    27 فتحنن سيد ذلك العبد و اطلقه و ترك له الدين
    28 و لما خرج ذلك العبد وجد واحدا من العبيد رفقائه كان مديونا له بمئة دينار فامسكه و اخذ بعنقه قائلا اوفني ما لي عليك
    29 فخر العبد رفيقه على قدميه و طلب اليه قائلا تمهل علي فاوفيك الجميع
    30 فلم يرد بل مضى و القاه في سجن حتى يوفي الدين
    31 فلما راى العبيد رفقاؤه ما كان حزنوا جدا و اتوا و قصوا على سيدهم كل ما جرى
    32 فدعاه حينئذ سيده و قال له ايها العبد الشرير كل ذلك الدين تركته لك لانك طلبت الي
    33 افما كان ينبغي انك انت ايضا ترحم العبد رفيقك كما رحمتك انا
    34 و غضب سيده و سلمه الى المعذبين حتى يوفي كل ما كان له عليه
    35 فهكذا ابي السماوي يفعل بكم ان لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لاخيه
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 2:18 pm

    الأصحاح التاسع عشر

    مدعُوُّو الملكوت

    يقدّم لنا الإنجيلي متّى عيِّنات من المدعوِّين للملكوت من متزوّجين وبتوليّين وأطفال وأغنياء ورعاة:

    1. الملكوت والحياة الزوجيّة 1-9.

    2. الملكوت والبتوليّة 10-12.

    3. الملكوت والأولاد 13-15.

    4. الملكوت والغِنى 16-26.

    5. الملكوت والرعاة 27-30.

    1. الملكوت والحياة الزوجيّة

    باب الملكوت ضيق وقليلون هم الذين يجدونه، لكنّه في جوهره هو شخص السيِّد نفسه الذي يحملنا فيه، ويدخل بنا إلى حضن أبيه، فنكون معه شركاء في مجده. هذا الباب مفتوح للمتزوّجين كما للبتوليّين، للأطفال كما للناضجين، للفقراء كما للأغنياء، للرعاة والرعيّة. إنه يمس حياة كل من يقبله فيجعلها حياة فردوسيّة أبديّة.

    فمن جهة المتزوّجين، يقدّم لنا السيِّد مفهومًا جديدًا للحياة الزوجيّة خلاله نتفهم لقاء المتزوّجين مع التمتّع بالملكوت.

    "وجاء إليه الفرّيسيّون ليجرّبوه، قائلين له:

    هل يحلّ للرجل أن يطلِّق امرأته لكل سبب؟

    فأجاب وقال لهم: أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرًا وأنثى.

    وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته،

    ويكون الاثنان جسدًا واحدًا.

    إذًا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد،

    فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان" [3-6].

    أراد الفرّيسيّون أن يجرّبوه ربّما لأنهم سمعوا ما قاله بخصوص التطليق في الموعظة على الجبل، فقدّموا له سؤالاً لعلّه يجيب بخلاف ما ورد في شريعة موسى رافضًا التطليق (إلا لعلّة الزنا)، فيُحسب في أعينهم كاسرًا للشريعة. أمّا هو فاستغلّ الفرصة ليقدّم لهم "الحياة الزوجيّة" في مفهوم روحي عميق ومن منظار إلهي كحياة فردوسيّة، وليس عقدًا اجتماعيًا مجرّدًا، خلالها يختبر الزوجان اتّحاد النفس بالله، فينجذِبا خلال هذه الحياة المقدّسة إلى تذوّق الملكوت الداخلي. ويلتهب قلباهما نحو الحياة السماويّة الأخرويّة ليدخلا إلى عرس أبدي، وكأن الزواج ليس عائقًا عن الملكوت وإنما هو ظلُّه، خلاله يختبر المؤمنون بحق الانطلاق نحو زواج روحي مع العريس الأبدي بفعل الروح القدس.

    والعجيب أن السيِّد المسيح قد بارك البشريّة وقدّس أعمالها، فجاء ابنًا للإنسان ليقدّس بنيّ البشر، ويقدّس الحياة البشريّة ويرفع من شأنها. بطفولته قدّس الطفولة التي احتقرها البشر زمانًا طويلاً، وبمشاركته للقدّيس يوسف أعماله اليوميّة قدّس العمل اليومي، بصلواته وأصوامه قدّس عبادتنا، ببتوليّته قدّس الحياة البتوليّة، فما هو موقفه من الحياة الزوجيّة؟ لقد قدّس السيِّد المسيح الحياة الزوجيّة بأن قدّمها فيه بطريقة فائقة كعريس يمد يده للبشريّة كلها ويتقبّلها عروسًا له، دافعًا حياته مهرًا لها وواهبًا إيّاها روحه القدّوس عطيّته المجّانيّة للعروس الواحدة. إنه كعريس واحد للعروس الواحدة، يقدّم لنا صورة حيّة للحياة الزوجيّة خلالها استمدّت الأسرة المسيحيّة كيانها وتقديسها. إن كان السيِّد يقول: "أما قرأتم أن الذي خلق منذ البدء خلقهما ذكرًا وأنثى" [4]. إنما يدخل بنا إلى آدم الأول وحواء، فنفهم الحياة الزوجيّة خلال آدم الثاني وحواء الجديدة التي هي عروسه الكنيسة.

    لقد خلق الله الرجل أولاً ثم المرأة من جنبه، صورة حيّة للعريس الأبدي الواحد الذي فيه أوجدت الكنيسة مقدّسة خلال جنبه المطعون. يرى المتزوّجون في آدم الأول وحواء الأولى مثالاً حيًا للحياة الزوجيّة الأمينة والوحدة الأسريّة، يعرف آدم حواء كمعينة تسنده في وحدته وسط الفردوس يحبّها كجسده ويعرف موضعها الحقيقي أنها في جنبه، تشاركه كل شيءٍ. أمّا هي، فتعرف آدم رأسًا لها ليس متعاليًا، لأنها ليست من قدميه، ولا بغريبة عنه لأنها واحد معه من جسده! ويرى المتزوّجون في آدم الثاني العريس الحقيقي الذي فَتح جنبه بالحب، لا لتخرج منه حواء، بل لتدخل فيه جموع البشريّة المؤمنة عروسًا واحدة، جسده المقدّس! هذا ما تؤكّده الكنيسة في ليتورجيّة الزواج فتركّز في صلواتها وطلباتها وألحانها على الكشف عن هذه العلاقة الروحيّة التي تربط العريس الملك الأبدي بعروسه الكنيسة المقدّسة ‎. لقد تلقَّفت الكنيسة هذا الفكر عن الرسول بولس أثناء حديثه عن العلاقات الأسريّة، إذ يقول: "أيها النساء اِخضعْن لرجالكُن كما للرب، لأن الرجل هو رأس المرأة، كما أن المسيح هو رأس الكنيسة وهو مخلّص الجسد. ولكن كما تخضع الكنيسة للمسيح كذلك النساء لرجالهن في كل شيء. أيها الرجال أحبُّوا نساءكم كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها."

    إن كان السيِّد قد قدّس الحياة الزوجيّة بتقديم حياة عُرْسيّة ملكوتيّة فائقة، فيه يقبل البشريّة عروسًا له، فإنه أيضًا قدّس الزواج الذي يتمّ هنا على الأرض بين الرجل والمرأة، بحضوره عرس قانا الجليل كأول عمل له بعد عماده. هذا هو الطريق الثاني لمباركته هذه الحياة. يقول القدّيس أغسطينوس: [بحضور الرب العرس الذي دُعي إليه أراد بطريقة رمزيّة أن يؤكّد لنا أنه مؤسِّس سرّ الزواج، لأنه يظهر قوم قال عنهم الرسول أنهم مانعون عن الزواج (1 تي 4: 3)، حاسبين الزواج شرًا من صنع الشيطان.]

    يكشف لنا السيِّد هذه الحياة الزوجيّة بقوله: "من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدًا واحدًا. إذًا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد، فالذي جمعه الله لا يفرِّقه إنسان" [5-6].

    لقد تمّم السيِّد هذا العمل أيضًا، وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [ترَك أباه إذ أظهر ذاته كمن هو غير مساوٍٍ للآب بإخلاء نفسه وأخذ شكل العبد (في 2: 7) وترك أمُّه المجمع الذي منه وُلد حسب الجسد، ملتصقًا بامرأته أي كنيسته.]

    خلال هذا العرس الأبدي يتمتّع المتزوّجون بهذا الحب الذي به يلتصق كل منهما بالآخر، وكما يقول الرسول: "هذا السرّ عظيم، ولكني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة، وأمّا أنتم الأفراد فليُحب كل واحد امرأته هكذا كنفسه، وأما المرأة فلتهب رجلها" (أف 32:5-33).

    يقول الآب يوحنا من كرونستادت: [لنفهم العبارة يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته إمّا بالمعنى الحرفي للكلمات أو المعنى الرمزي، إذ يلتصق الإنسان بالمسيح حيث الحب الأسمى والأقدس، الذي هو أعظم من الحب للزوجة.]

    إذ حدّ السيِّد التطليق حتى كاد أن يمنعه تمامًا إلا في حالة الزنا (مت 5: 31-32)، ظنّوا أنه يكسر الوصيّة الموسويّة، قائلين: "فلماذا أوصى موسى أن يُعطي كتاب طلاق فتطلَّق؟ قال لهم: إن موسى من أجل قسوة قلوبكم أذن لكم أن تطلِّقوا نساءكم، ولكن من البدء لم يكن هكذا. وأقول لكم إن من طلَّق امرأته إلا بسبب الزنا وتزوَّج بأخرى يزني، والذي يتزوَّج بمطلَّقة يزني" [7-9].

    في هذا يقول القدّيس أغسطينوس: [لم تأمر الشريعة الموسويّة بالطلاق بل أمرت من يطلق امرأته أن يعطيها كتاب طلاق، لأن في إعطائها كتاب طلاق ما يهدِّئ من ثورة غضب الإنسان. فالرب الذي أمر قساة القلوب بإعطاء كتاب طلاق أشار إلى عدم رغبته في الطلاق ما أمكن. لذلك عندما سُئل الرب نفسه عن هذا الأمر أجاب قائلاً: إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذِن لكم، لأنه مهما بلغت قسوة قلب الراغب في طلاق زوجته، إذ يعرف أنه بواسطة كتاب الطلاق تستطيع أن تتزوّج من آخر، يهدأ غضبه ولا يطلّقها. ولكي ما يؤكّد رب المجد هذا المبدأ، وهو عدم طلاق الزوجة باستهتار جعل الاِستثناء الوحيد هو علّة الزنا. فقد أمر بضرورة احتمال جميع المتاعب الأخرى (غير الزنا) بثبات، من أجل المحبّة الزوجيّة ولأجل العفّة. وقد أكّد رب المجد نفس المبدأ بدعوته من يتزوّج بمطلَّقة زانيًا.]

    ارتباط الزوجين معًا صورة حيّة للوحدة بين المخلّص وكنيسته إلى الأبد، فإن كان الرسول البتول يقول: "وأما المتزوّجون فأوصيهم لا أنا بل الرب، أن لا تُفارق المرأة رجلها، ولا يترك الرجل امرأته" (رو7: 2-3)، فكم بالأحرى يهتمّ الله ألا يفارق كنيسته ولا ينزعها من أحضانه الأبديّة، مقدّمًا كل إمكانيّاته الإلهيّة لثباتها فيه إلى الأبد.

    2. الملكوت والبتوليّة

    إذ سمع التلاميذ كلمات السيِّد رأوا في الرباط الزوجي الذي لا ينحل إلا بالزنا أمرًا غاية في الصعوبة، فقالوا له: "إن كان هكذا أمر الرجل مع المرأة فلا يوافق أن يتزوَّج" [10]. لم يكن التلاميذ قد أدركوا بعد سرّ الملكوت كما يليق ولا فهموا "الاتّحاد"، لهذا رأوا في الحياة الزوجيّة كما عرضها السيِّد تكاد تكون مستحيلة. أمّا المؤمن فإذ يتذوّق الملكوت السماوي في قلبه ويختبر ثباته في عرسه الأبدي وحلول عريسه في داخله يتقبّل زوجته من يديه، فيرى في اتّحاده معها عملاً إلهيًّا فائقًا يقوم به الروح القدس نفسه.

    لقد ظنّ التلاميذ البتوليّة أسهل من الزواج، لكن السيِّد صحَّح لهم مفهومهم معلنًا أنه كما الاتّحاد الزوجي هو صورة للحياة الملكوتيّة الأبديّة، فإن البتوليّة أيضًا تقدّم صورة حيّة لهذه الحياة وبشكلٍ أعمق. إنه يقول: "ليس الجميع يقبلون هذا الكلام، بل الذين أُعطى لهم. لأنه يوجد خصيان وُلدوا هكذا من بطون أمَّهاتهم. يوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خَصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات من استطاع أن يقبل فليقبل" [11-12].

    ليست البتوليّة الحقّة هروبًا من الزواج بسبب صعوبة الحياة الزوجيّة، لكنها دخول في الحياة الملكوتيّة الأبديّة. إن كان طريق الزواج المسيحي يبدو صعبًا، فإن الحياة البتوليّة الحقيقية هي هبة ليست للجميع، إذ يقول: "ليس الجميع يقبلون هذا الكلام بل الذين أُعطيَ لهم" [11].

    ليست كل بتوليّة حسب الجسد هي بتوليّة حقَّة، فقد ميّز السيِّد بين ثلاثة أنواع من البتوليّة:

    أولاً: يوجد خصيان وُلدوا هكذا من بطون أمّهاتهم، يقصد بهم غير القادرين على الحياة الزوجيّة بسبب مرض جسدي. هؤلاء تُحسب بتوليّتهم - إن صح التعبير - ليست إلا عجزًا عن الزواج، يحمل الجانب السلبي، فلا تُقدّم شيئًا كبتوليّة.

    ثانيًا: يوجد خصيان خصاهم الناس، هؤلاء غالبًا ما كانوا نوعًا من العبيد اِئْتمنهم السادة على ممتلكاتهم، فخصُوهم لخدمة الرجال والنساء معًا في بيوت سادتهم. فيُحرم هؤلاء الخصيان من حياتهم الزوجيّة لأجل خدمة سادتهم! هذه صورة مرّة للحياة البتوليّة - إن صح التعبير - التي لا تُقدَّم عن عجز كالفئة السابقة وإنما يتقبّلونها إرضاءً للناس. إنهم يحملون صورة التقوى والعفّة لا من أجل الملكوت، وإنما من أجل كرامةٍ زمنيّةٍ ومجدٍ باطلٍ، وهذه أخطر صورة للحياة المسيحيّة الشكليّة.

    ثالثًا: يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات، وهذه فئة روحيّة رائعة تضم في الحقيقة جميع المؤمنين العاملين بالحب لله بكونهم بتوليّين روحيّين، عذارى ينتظرون العريس، وعلى وجه الخصوص جماعة البتوليّين روحًا وجسدًا من أجل الرب.

    البتوليّون من أجل الملكوت السماوي هم الذين تقدّموا لصليب ربّنا يسوع المسيح، لا ليُحرموا من الحياة الزوجيّة عن عجز ولا من أجل الناس، وإنما اشتياقًا للتكريس الكامل روحًا وجسدًا للعريس الأبدي. هؤلاء يناجيهم السيِّد، قائلاً: "أختي العروس جنّة مُغْلقة، عين مُقْفلة، ينبوع مختوم" (نش 4: 12). أنها ليست عاجزة ولا مقفرة، إنّما هي جنّة تكتظ بكل أنواع الأشجار وعين ماء وينبوع لا ينضب، لكنها لا تترك هذا كلّه لآخر غير عريسها. إنها بتول لا تعاني حرمانًا، كما لا تُسلّم ذاتها إلا لمن قدّم حياته لها.

    هذا ويلاحظ أن الحياة البتوليّة ليست إلزاميّة إذ يختم السيِّد حديثه هكذا: "من استطاع أن يقبل فليقبل" [12]. يقول القدّيس جيروم: [لا يوجد إلزام ترتبط به، فإن أردت أن تنال المكافأة إنّما يكون ذلك بكامل حريتك.] ويقول القدّيس أمبروسيوس: [أن ما يعلنه السيِّد هنا ليس بوصيّة ملزِمة لكنها مشورة يقبلها الراغبون في درجات الكمال.]

    يحذّرنا القدّيس كبريانوس لئلا نعتمد على بتوليّة الجسد وحدها حتى وإن كانت من أجل الرب، إنّما يلزم الجهاد في بتوليّة النفس خلال التمتّع بالحياة الكنسيّة المقدّمة. لقد خشَىَ َعلى البتوليّين من الكبرياء خلال بتوليّتهم الجسديّة، إذ يقول: [ليت الذين صاروا خصيانًا من أجل ملكوت السماوات مرّة يُرضون الله في كل شيء، ولا يضادّون كهنة الله ولا رب الكنيسة خلال عثرة شرّهم.]

    3. الملكوت والأولاد

    رأينا التلاميذ يسألون السيِّد عمَّن هو أعظم في ملكوت السماوات فقدّم لهم ولدًا، قائلاً: "الحق أقول لكم إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات" (مت 18: 3). والآن نرى الأولاد يُقدّمون إليه ليضع يديه عليهم ويصلّي. حقًا لقد انتهرهم التلاميذ، "أمّا يسوع فقال: دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات. فوضع يديه عليهم ومضى من هناك" [14-15].

    إن كان المتزوّج يتلمَّس مفهوم الملكوت السماوي خلال حياته الزوجيّة المقدّسة والاتّحاد الزوجي الفائق، والبتول يلتهب قلبه حنينًا نحو الملكوت كعذارى تترقَّب عريسها، فإن الأولاد الصغار هم المَثل الحيّ الذي يُقدّم لكل مؤمن ليكون له حق العضويّة في هذا الملكوت. لم يقدّم الأولاد كفئة بين فئات كثيرة تتمتّع بالملكوت، وإنما هي الفئة الوحيدة التي يلتزم الكل أن يدخل إليها لينعم بالملكوت، فالملكوت إنّما هو ملكوت البسطاء! إذن لنرجع ونصر مثلهم، نحيا ببساطتهم فنكون بحق أبناء الملكوت.

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هذه هي حدود الحكمة الحقيقيّة: أن تكون بسيطًا بفهم. هذه هي الحياة الملائكيّة، نعم لأن نفس الطفل الصغير نقيّة من كل الشهوات.]

    لنقف قليلاً عند حديث السيِّد مع تلاميذه بخصوص الأولاد: "دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات"، ففي هذا الحديث نكتشف أمرين:

    أولاً: ليس هناك طريق وُسطى، إمّا ندعو الأولاد للتمتّع بالسيِّد المسيح، أو نقف أمامهم عثرة فنمنعهم. إمّا نعمل لحساب الملكوت، فنجمع أبناء الملكوت، أو لحساب مملكة الظلمة، فنعوق الآخرين عن الحياة مع الله. هذا هو ما أعلنه السيِّد بقوله: "من لا يجمع معي فهو يفرّق".

    ثانيًا: إن عملنا لحساب الملكوت، فندعو الأولاد، يتحقّق هذا بإقتدائنا بالأولاد. لنحمل فينا روح البساطة كأولاد لله البسيط، حتى نقدر أن نلتقي بالأولاد فنحملهم بالحب إلى السيِّد المسيح محب البشر!

    4. الملكوت والغِنى

    يروي الإنجيلي عن لقاء بين السيِّد المسيح وشاب غني:

    "وإذا واحد تقدّم وقال له:

    أيها المعلّم الصالح،

    أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبديّة؟" [16].

    جاء هذا الشاب وكأنه يمثّل الأغنياء، وجاءت إجابة السيِّد تكشف عن إمكانيّة دخول الأغنياء الملكوت خلال الباب الضيق. ولكن قبل أن يجيبه على سؤاله قال له: "لماذا تدعوني صالحًا؟! ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله" [17]. إنه لم يقل "لا تدعوني صالحًا"، إنّما رفض أن يدعوه هكذا كمجرد لقب، ما لم يؤمن بحق أنه الصالح وحده. فقد اِعتاد اليهود على دعوة رجال الدين بألقابٍ لا تليق إلا بالله وحده، وقد أراد السيِّد تحذيرهم بطريقة غير مباشرة. وكأنه السيِّد يقول له: إن آمنت بي أنا الله فلتقبلني هكذا وإلا فلا. هذا وقد أكّد السيِّد نفسه أنه صالح، فيقول: "أنا هو الراعي الصالح" (يو 10: 11)، كما يقول: "من منكم يبكِّتني على خطيّة؟" (يو 8: 46)

    لقد عُرف الأغنياء بالمظاهر الخارجيّة وحب الكرامات، وكأن السيِّد المسيح بإجابته هذه أراد أن يوجِّه الأغنياء إلى تنقية قلوبهم من محبّة الغنى بطريق غير مباشر، مع رفض محبّة الكرامات والألقاب المبالغ فيها.

    لقد أظهر هذا الشاب شوقه للحياة، لذلك قدّم له السيِّد إجابة عن اشتياقه، وكما يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [الذين ينحنون أمامه بعنق عقولهم للطاعة يهبهم وصايا ويعطيهم نواميس. ويوزِّع عليهم الميراث السماوي، ويقدّم لهم البركات الروحيّة، فيكون بالنسبة لهم مخزنًا لعطايا لا تسقط.]

    لقد أجابه السيِّد: "إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا" [17]. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [إن كنت لا تريد أن تحفظ الوصايا، فلماذا تبحث عن الحياة؟ إن كنت تتباطأ في العمل، فلماذا تُسرع نحو الجزاء؟]

    دخل السيِّد مع الشاب في حوار حول حفظ الوصايا، حتى يكشف له نقطة ضعفه، ألا وهي محبّة المال. وجاءت النصيحة: "إن أردت أن تكون كاملاً، فاذهب وبع أملاكك، وأِعطِ الفقراء، فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني" [21].

    يقول القدّيس جيروم: [هذه هي ذروة الفضيلة الكاملة الرسوليّة أن يبيع الإنسان كل ما يملك ويوزِّعه على الفقراء (لو 18: 22)، متحرّرًا من كل عائق ليعبر إلى الممالك السماويّة مع المسيحٍٍٍ.] [خادم المسيح الكامل ليس له شيء بجانب المسيح.] [ترْجِم كلماته إلى عمل، فإنك إذ تتعرى تتبع الصليب حيث العرس، وتصعد سلّم يعقوب الذي يسهل صعوده لمن لا يحمل شيئًا.] كما يقول: [يَََعد الشيطان بمملكة وغنى ليُحطم الحياة، أمّا الرب فيَعدْ بالفقر ليحفظ الحياة.]

    يقول القدّيس كبريانوس: [إن كان الكنز في السماء، فيكون القلب والعقل والمشاعر في السماء، ولا يستطيع العالم أن يغلب الإنسان الذي ليس فيه شيء يمكن أن يُغلب. إنك تستطيع أن تتبع الرب حرًا بلا قيود كما فعل الرسول - وكثيرون في أيامهم، الذين تركوا مالهم وأقرباءهم والتصقوا بالمسيح برباطات لا تنفك.]

    يقول القدّيس أغسطينوس: [إن كانت لديهم الإرادة أن يرفعوا قلوبهم إلى فوق، فليدّخروا ما يحبّونه هناك. فإنهم وإن كانوا على الأرض بالجسد فليسكنوا بقلبهم مع المسيح. لقد ذهب رأس الكنيسة أمامهم، ليت قلب المسيحي أيضًا يسبقه إلى هناك... فإن كل مسيحي يذهب في القيامة إلى حيث ذهب قلبه الآن. لنذهب إلى هناك بذاك العضو (القلب) الذي يمكنه الآن أن يذهب. فإن إنساننا بكلّيته سيتبع قلبه ويذهب إلى حيث ذهب القلب... لنرسل أمتعتنا مقدّمًا إلى حيث نستعد للرحيل.]

    كثيرون نَفَّذوا هذه الوصيّة بطريقة حرفيّة، فمن أجل الدخول إلى الكمال باعوا كل شيء وأعطوا الفقراء، ليكون السيِّد المسيح نفسه كنزهم. لكن فيما هم يبيعون بطريقة حرفيّة باعوا ما في القلب فلم يعد للعالم مكان فيه. فالبيع الخارجي يلزم أن يرافقه بيع داخلي وشراء، أي بيع من القلب مع اقتناء للسيّد المسيح ليملأ القلب، الذي سبق فأسره حب الغنى واهتمامات بالحياة.

    هذا ما أكّده الآب موسى، قائلاً: [إننا نرى بعضًا ممن زهدوا أمور هذا العالم، ليس فقط الذهب والفضة، بل والممتلكات الضخمة يتضايقون ويضطربون من أجل سكِّينة أو قلم أو دبُّوس أو ريشة، بينما لو وجَّهوا أنظارهم نحو نقاوة القلب بلا شك ما كانوا يضطربون من أجل الأمور التافهة، فكما لا يبالون بالغنى العظيم، يتركون أيضًا كل شيء.]

    ويقدّم لنا الكتاب المقدّس أبانا إبراهيم مثالاً حيًا للغني الذي باع من قلبه من أجل الرب، مع أنه لم يعش كفقير. ففي الظهيرة كان يترقَّب مجيء غريب يشاركه الطعام، ويطلب من زوجته أن تهيئ الطعام بيديها ولا تتركه لجاريتها وخَدَمها. إنه يعيش كمن لا يملك شيئًا، فقد باع كل شيء، ليس في القلب موضع للغنى أو الهمّ. يظهر ذلك بوضوح في أكثر من موقف، فعندما حدثت مخاصمة بين رعاة مواشيه ورعاة مواشي لوط في محبّة سأل ابن أخيه أن يختار الأرض التي تروق له دون أن يضع قلبه على موضع معيّن، قائلاً له: "لا تكن مخاصَمة بيني وبينك، وبين رعاتي ورعاتك، لأننا نحن أخَوان. أليست كل الأرض أمامك، اعتزل عنّي، إن ذهبت شمالاً فأنا يمينًا وإن يمينًا فأنا شمالاً" (تك 13: 8-9). وعندما أُنقذ لوط والملوك الخمسة والنساء وكل ممتلكاتهم في كسرة كدرلعومر، إذ أراد أن يترك ملك سدوم لإبراهيم الممتلكات مكتفيًا بأخذ النفوس، أصرّ إبراهيم ألاّ يأخذ خيطًا ولا شِراك نعْل، ولا من كل ما هو له (تك14: 23).

    إذ نعود إلى الشاب نراه غير قادرٍ على تنفيذ الوصيّة وقد مضى حزينًا لأنه كان ذا أموال كثيرة. هنا وجّه السيِّد حديثه لتلاميذه: "الحق أقول لكم أنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات. وأقول لكم أيضًا أن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله" [24]. لم يقل السيِّد "أنه يستحيل"، وإنما "يعسُر"، ومع هذا فإنه إذ بُهت التلاميذ جدًا قائلين: "إذًا من يستطيع أن يخلُص؟" نظر إليهم يسوع ربّما نظرة عتاب مملوءة ترفُّقًا، وقال لهم: "هذا عند الناس غير مستطاع، ولكن عند الله كل شيء مستطاع" [26]. إنه يعاتب تلاميذه الذين لم يُدركوا بعد أنه ليس شيء غير مستطاع لدي الله. حقًا إن الله قادر أن يعبُر بالجمل من ثقب إبرة، بتفريغ قلب الغَني من حب الغِنى وإلهاب قلبه بحب الكنز السماوي.

    وللقدّيس جيروم تعليق جميل على ذلك، إذ يقول: [لكن ما هو مستحيل لدى البشر ممكن لدى الله" (مر 10: 27). هذا ما نتعلّمه من المشورة التي قدّمها الرسول لتيموثاوس: "أوْصِ الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يُلقوا رجاءهم على غير يقينيّة الغِنى، بل على الله الحيّ الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتّع، وأن يصنعوا صلاحًا، وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة، وأن يكونوا أسخياء في العطاء، كرماء في التوزيع، مدّخرين لأنفسهم أساسًا حسنًا للمستقبل لكي يمسكوا بالحياة الحقيقيّة (الأبديّة)" (1 تي 6: 17-19). ها نحن نتعلّم كيف يمكن للجمل أن يعبُر من ثقب إبرة، وكيف أن حيوانًا بسنام على ظهره إذ يُلقي عنه أحماله يمكن أن يصير له جناحيّ حمامة (مز 55: 6)، يستريح في أغصان الشجرة التي نمت من حبّة الخردل (مت 13: 31-32). وفي إشعياء نسمع عن الجِمال بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا تحمل ذهبًا ولبانًا لمدينة الرب (إش 60: 6). على هذه الجِمال الرمزيّة أحضر التجَّار الإسماعيليّون (تك 37: 25) روائح وبخور وبلْسم الذي ينمو في جلعاد لشفاء الجروح (إر 8: 22) ولسعادتهم اشتروا يوسف وباعوه، فكان مخلّص العالم هو تجارتهم.]

    يحذّر القدّيس أغسطينوس الفقراء لئلا يتّكلوا على فقرهم في ذاته كجواز لهم بالدخول إلى الملكوت، قائلاً: [ِاستمعوا أيها الفقراء إلى المسيح... من كان منكم يفتخر بفقره ليَحْذر من الكبرياء لئلا يسبقه الغَني بتواضعه. اِحذروا من عدم الشفقة لئلا يفوق عليكم الأغنياء بورعهم. اِحذروا من السُكر لئلا يفوق عليكم الأغنياء بوقارهم. إن كان ينبغي عليهم ألا يفتخروا بغناهم، فلا تفتخروا أنتم بفقركم.] وفي نفس المقال يحذِّر أيضًا الأغنياء قائلاً: [الكبرياء هو الحشرة الأولى للغِنى، إنه العُثْ المُفسد الذي يتعرّض للكل ويجعله ترابًا.] مرّة أخرى يحدّث الاثنين معًا فيقول: [أيها الأغنياء اُتركوا أموالكم، أيها الفقراء كُفُّوا عن السلب! أيها الأغنياء وزّعوا إيراداتكم، أيها الفقراء لجِّموا شهواتكم. استمعوا أيها الفقراء إلى الرسول نفسه: "وأمّا التقوى مع القناعة فهي تجارة عظيمة" (1 تي 6:6)... ليس لكم منزلاً مشتركًا مع الأغنياء، لكن تشاركونهم في السماء وفي النور. اطلبوا القناعة والكفاف ولا ترغبوا فيما هو أكثر.]

    5. الملكوت والرعاة

    ختم الإنجيلي هذا الأصحاح بالرعاة بعد أن عرض بطريقٍ أو آخر المدعوّين للملكوت من متزوّجين وبتوليّين وأطفال وأغنياء. لقد قال بطرس: "ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك، فماذا يكون لنا؟"

    لماذا ترك الحديث عن التلاميذ أو الرعاة كمدعوّين للملكوت حتى النهاية؟

    أولاً: لأن الراعي الحكيم وهو يقود شعب الله بالروح القدس في مراعي الملكوت يبقى وراء القطيع، يحتل آخر الصفوف، فيطمئن على كل شخص أنه لم ينحرف عن الطريق الملوكي. إنه ينتظر حتى النهاية لكي يحمل على منكبيْه كل ضعيف قد تخلَّف عن موكب إخوته الأقوياء. هكذا يمتثل الراعي بمسيحه الراعي الصالح الذي احتلّ آخر الصفوف ليحتضن كل بشر ويحملهم إلى حضن أبيه.

    ثانيًا: ربّما أراد الوحي أن يؤكّد للرعاة أن يهتمّوا بخلاص أنفسهم أثناء رعايتهم للآخرين. فالراعي أكثر عرضة لضربات العدوّ من الشعب، يلزمه أن يجاهد مهتمًّا بأبديته. أمّا علامة اهتمامه بخلاص نفسه فهي تركه كل شيء، قائلاً مع الرسول بطرس: "ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك" [27].

    ويُعلّق الأنبا بفنوتيوس على هذه العبارة الرسوليّة، قائلاً: [لم يتركوا شيئًا سوى الشِباك البالية، لذلك فإن عبارة "تركنا كل شيء" يُفهم منها ترك الخطايا التي هي بالحقيقة أهم وأخطر... فإن ترك التلاميذ لممتلكاتهم الأرضيّة المنظورة تركًا تمامًا ليس سببًا كافيًا لينعموا بالمحبّة الرسوليّة، ويتسلّقوا بشوق واجتهاد المرحلة الثالثة التي هي شاهقة وتخص قليلين.]

    يقول القدّيس جيروم: [خادم المسيح الكامل لا يطلب شيئًا بجانب المسيح وإلاَّ فهو ليس بكامل.]

    سأل القدّيس بطرس السيِّد المسيح: ماذا يكون لنا؟

    أجاب: "الحق أقول لكم إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضًا على إثني عشر كرسيًا، تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر. وكل من ترك بيوتًا أو اِخوة أو أخوات أو أبًا أو أمّا أو امرأة أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي، يأخذ مائة ضعف، ويرث الحياة الأبديّة. ولكن كثيرون أوَّلون يكونون آخرين، وآخرون أوَّلين" [28-30].

    سيقف التلاميذ في يوم الرب العظيم كديّانين للأسباط الإثني عشر، لأن ما كان ينبغي لهؤلاء أن يفعلوه، أي الكرازة بالمسيّا الملك قد تخلّوا عنه ليقوم التلاميذ البسطاء به، تاركين كل شيء من أجل الملكوت.

    هذه المكافأة الأبديّة يرافقها مكافأة في هذا العالم "مائة ضعف". يُعلّق الآب ثيوناس على ذلك، قائلاً: [بالأحرى إن جزاء المكافأة التي وعد بها الرب هو مائة ضعف في العالم لمن كان زهدهم كاملاً.... ويتحقّق هذا بحقٍ وصدقٍ. لا يضطرب إيماننا، لأن كثيرين استغلّوا هذا النص كفرصة لبلبلة الأفهام، قائلين بأن هذه الأمور (مائة ضعف) تتحقّق جسديًا في الألف سنة... لكن الأمر المعقول جدًا، والواضح وضوحًا تامًا أن من يتبع المسيح تخِِفْ عنه الآلام العالميّة والملذّات الأرضيّة، متقبِّلاً اخوة وشركاء له في الحياة، يرتبط بهم رباطًا روحيًا، فيقتني حتى في هذه الحياة حبًا أفضل، في هذه الحياة مئة مرّة عن (الحب المتأسِّس على الرباط الدموي)...]

    لتوضيح ذلك تقول بأن الله يهب المؤمن في هذه الحياة مائة ضعف مقابل ما تركه من أجل المسيح، بجانب الحياة الأبديّة. فالراهب الذي يرفض الزواج يُحرَم من وجود زوجة وأولاد له، فإذا به في حياته الرهبانيّة يتقبّل سلامًا فائقًا، ولذّة روحيّة خلال اتّحاده مع عريس نفسه تفوق كل راحة يقتنيها زوج خلال علاقته الأسريّة.

    الراهب الذي يترك بيته بقلبٍ محبٍ بحق يجد البرّيّة كلها بيته، وكما نعلم عن راهب معاصر جاء من أثيوبيا بعد أن باع كل شيء من أجل المسيح، فردّ له الله عطاياه مضاعفة، إذ صارت تستأنِس له الوحوش المفترسة والضارة، فيعيش في البرّيّة في طمأنينة أكثر أمانًا ممن يعيشون في القصور. إنه يملك في قلبه مئات الأضعاف ممّا يملكه الأغنياء وعلى مستوى أعظم!

    يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [هل يصير الإنسان زوجًا لزوجات كثيرات أو يجد على الأرض آباء كثيرين عِوض الآب الواحد، وهكذا بالنسبة للقرابات الأرضيّة؟! لسنا نقول هذا، إنّما بالأحرى إذ نترك الجسديّات والزمنيّات نتقبّل ما هو أعظم، أقول نتقبّل أضعافًا مضاعفة لأمور كنّا نهملها... إن ترك بيتًا يتقبّل المواضع التي هي فوق، وإن ترك أبًا يقتني الآب السماوي. إن ترك اخوته يجد المسيح يضمُّه إليه في أخوة له. إن ترك زوجة يجد له بيت الحكمة النازل من فوق من عند الله، إذ كتب: "قل للحكمة أنتِ أختي واِدع الفهم ذا قرابة" (أم 7: 4). فبالحكمة تجلب ثمارًا روحيّة جميلة، بها تكون شريكًا في رجاء القدّيسين، وتُضَمْ إلى صحبة الملائكة. وإذ تترك أُمّك تجد أمًّا لا تقارن، أكثر سمُوًّا "أورشليم العُليا التي هي أمّنا (جميعًا) فهي حُرَّة" (غل 4: 26)... فإن من يُحسب مستحقًا لنوال هذه الأمور يُحسب وهو في العالم سامٍٍ وموضع إعجاب، إذ يكون مزيَّنًا بمجد من قبل الله والناموس.]


    1 و لما اكمل يسوع هذا الكلام انتقل من الجليل و جاء الى تخوم اليهودية من عبر الاردن
    2 و تبعته جموع كثيرة فشفاهم هناك
    3 و جاء اليه الفريسيون ليجربوه قائلين له هل يحل للرجل ان يطلق امراته لكل سبب
    4 فاجاب و قال لهم اما قراتم ان الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا و انثى
    5 و قال من اجل هذا يترك الرجل اباه و امه و يلتصق بامراته و يكون الاثنان جسدا واحدا
    6 اذا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد فالذي جمعه الله لا يفرقه انسان
    7 قالوا له فلماذا اوصى موسى ان يعطى كتاب طلاق فتطلق
    8 قال لهم ان موسى من اجل قساوة قلوبكم اذن لكم ان تطلقوا نساءكم و لكن من البدء لم يكن هكذا
    9 و اقول لكم ان من طلق امراته الا بسبب الزنا و تزوج باخرى يزني و الذي يتزوج بمطلقة يزني
    10 قال له تلاميذه ان كان هكذا امر الرجل مع المراة فلا يوافق ان يتزوج
    11 فقال لهم ليس الجميع يقبلون هذا الكلام بل الذين اعطي لهم
    12 لانه يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون امهاتهم و يوجد خصيان خصاهم الناس و يوجد خصيان خصوا انفسهم لاجل ملكوت السماوات من استطاع ان يقبل فليقبل
    13 حينئذ قدم اليه اولاد لكي يضع يديه عليهم و يصلي فانتهرهم التلاميذ
    14 اما يسوع فقال دعوا الاولاد ياتون الي و لا تمنعوهم لان لمثل هؤلاء ملكوت السماوات
    15 فوضع يديه عليهم و مضى من هناك
    16 و اذا واحد تقدم و قال له ايها المعلم الصالح اي صلاح اعمل لتكون لي الحياة الابدية
    17 فقال له لماذا تدعوني صالحا ليس احد صالحا الا واحد و هو الله و لكن ان اردت ان تدخل الحياة فاحفظ الوصايا
    18 قال له اية الوصايا فقال يسوع لا تقتل لا تزن لا تسرق لا تشهد بالزور
    19 اكرم اباك و امك و احب قريبك كنفسك
    20 قال له الشاب هذه كلها حفظتها منذ حداثتي فماذا يعوزني بعد
    21 قال له يسوع ان اردت ان تكون كاملا فاذهب و بع املاكك و اعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء و تعال اتبعني
    22 فلما سمع الشاب الكلمة مضى حزينا لانه كان ذا اموال كثيرة
    23 فقال يسوع لتلاميذه الحق اقول لكم انه يعسر ان يدخل غني الى ملكوت السماوات
    24 و اقول لكم ايضا ان مرور جمل من ثقب ابرة ايسر من ان يدخل غني الى ملكوت الله
    25 فلما سمع تلاميذه بهتوا جدا قائلين اذا من يستطيع ان يخلص
    26 فنظر اليهم يسوع و قال لهم هذا عند الناس غير مستطاع و لكن عند الله كل شيء مستطاع
    27 فاجاب بطرس حينئذ و قال له ها نحن قد تركنا كل شيء و تبعناك فماذا يكون لنا
    28 فقال لهم يسوع الحق اقول لكم انكم انتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الانسان على كرسي مجده تجلسون انتم ايضا على اثني عشر كرسيا تدينون اسباط اسرائيل الاثني عشر
    29 و كل من ترك بيوتا او اخوة او اخوات او ابا او اما او امراة او اولادا او حقولا من اجل اسمي ياخذ مئة ضعف و يرث الحياة الابدية
    30 و لكن كثيرون اولون يكونون اخرين و اخرون اولين
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 2:26 pm

    الأصحاح العشرون

    مستحقُّو الملكوت

    بعد أن تحدّث عن مدعُوِّي الملكوت قدّم لنا الإنجيلي مفهومًا جديدًا للاستحقاق للملكوت المسيحاني:

    1. مثَل العاملين لحساب الملكوت 1-16.

    2. الملكوت والصليب 17-19.

    3. الملكوت وأم ابنيّ زبدي 20-28.

    4. الملكوت والاستنارة 29-33.

    1. مثَل العاملين لحساب الملكوت:

    يشبّه السيِّد ملكوت السماوات برجلٍ رب بيت خرج يستأجر فعَلَة لكرمه، فاتِّفق معهم في الصباح على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه، وخرج أيضًا في نحو الساعة الثالثة ليستأجر آخرين قيامًا في السوق كبطّالين وأرسلهم إلى كرمه، وهكذا في نحو الساعة السادسة والساعة التاسعة فعل ذلك، وتكرّر الأمر نحو الساعة الحادية عشر حيث سأل الواقفين كل النهار بطّالين عن وقوفهم هناك، فأجابوا: "لأنه لم يستأجرنا أحد". وفي المساء استدعى رب البيت وكلائه ليعطيهم الأجرة، مبتدئًا من الآخرين إلى الأوّلين. وإذ أعطى فعَلَة الساعة الحادية عشر دينارًا دينارًا، وجاء دور الأوّلين ظنّوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا هم أيضًا دينارًا دينارًا. وفيما هم يأخذون تذمّروا على رب البيت.

    ويلاحظ في هذا المثل الآتي:

    أولاً: يقول السيِّد: "فإن ملكوت السماوات يشبِه رجلاً رب بيت خرج مع الصبح ليستأجر فعَلَة لكرْمه" [1]. من هو هذا الرجل رب البيت الذي يستأجر الفعلة إلا "كلمة الله الحيّ" الذي هو رب السماء والأرض، يرى في خليقته السماويّة والأرضيّة بيته الذي يدبّر أموره ويهتمّ به؟! أمّا كرْمه فهو القلب الذي فيه يُقيم مملكته، كقوله "ملكوت الله في داخلكم". إنه يزرع برّه فينا بروحه القدّوس مُعلنًا ذاته في داخلنا. ملكوته هو تجلّيه فينا!

    ثانيًا: ما أجمل تعبير السيِّد عن ملكوت السماوات وهو يشبهه برجلٍ رب بيت يخرج من ساعة إلى ساعة عبر النهار كلّه يستأجر فعَلَة من السوق ليعملوا في كرمه. إنه يخرج في الساعات الخمس حسب الترتيب اليهودي باكر والثالثة والسادسة والتاسعة والحادية عشر للعمل طوال اليوم خلال الفَعََلة في كرْمه.

    ما هي هذه الساعات إلاّ مراحل حياة الإنسان عِبر كل حياته، فباكر تُشير إلى الطفولة، والثالثة إلى الصبوّة، والسادسة حيث وقت الظهيرة تُشير إلى الشباب، والتاسعة تُشير إلى الرجولة، والحادية عشر إلى الشيخوخة، أي إلى الساعة الأخيرة من حياتنا. هكذا يدعونا الله للعمل منذ طفولتنا المبكّرة مشتاقًا أن يكون كل العمر مكرسًا لحساب ملكوته ويبقى يدعونا فاتحًا ذراعية بالحب لنا حتى اللحظات الأخيرة من عمرنا فإنه لا ييأس قط منّا، مشتاقًا أن نستجيب لدعوته، ونعمل لحسابه. إن الكرم مفتوح لنا والصوت الإلهي لا يتوقّف مادام الوقت يُدعى اليوم، ومازلنا نحمل نفسًا ولو كان الأخير! لهذا يقول الرسول بولس: "عظوا أنفسكم كل يوم مادام الوقت يُدعى اليوم لكي لا يُقسَّى أحد منكم بغرور الخطيّة" (عب 3: 13).

    هكذا يخرج السيِّد إلينا ليدعونا للعمل، مشرقًا علينا بنوره ليجعل يومنا كلّه نهارًا بلا ليل، فنعمل بلا توقف، إذ يقول: "ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني مادام نهار، يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل. مادمتُ في العالم، فأنا نور العالم" (يو 9: 4، 5). إنه يخرج إلينا ليدعونا لا بالكلام وإنما بالعمل، إذ يعمل فينا أعمال أبيه ليجتذبنا إليه مادام الوقت نهار، ونوره مشرق فينا، لئلاّ نوجد مُصِرّين على عدم قبوله، فنختم حياتنا بليْلٍ قاتمٍ حيث لا يقدر أحد أن يعمل.

    إن كان الله قد وعد الكل بالدينار، هذا لا يعني أن يؤجِّل الإنسان توبته وطاعته للعمل في كرم الرب، وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [هل أولئك الذين استأجرهم في كرْمه، عندما جاءهم صاحب الكرم في الساعة الثالثة كمثال قالوا له... انتظر إننا لا نذهب حتى الساعة السادسة؟ أو أولئك الذين وجدهم في الساعة السادسة، هل قالوا: إننا لسنا ذاهبين إلاّ في الساعة التاسعة؟... إذ نعطي الكل بالتساوي، لماذا نذهب ونُتعب أنفسنا أكثر ما يلزم؟... فإنه ما كان يعطيهم لو لم يذهبوا... بل يجاوبهم: ألا تريدون أن تعملوا الآن يا من لا تعرفون إن كنتم ستعيشون حتى تكبروا في السن أم لا؟ لقد دُعيتَ في الساعة السادسة، تعال، حقًا إن صاحب الكرم يعدك بدينار، إن أتيت في الساعة الحادية عشر، لكنّه لم يعدك أنك تعيش حتى الساعة السابعة؛ لا أقول الحادية عشرة بل ولا السابعة. إذن لا تؤجّل، فإن الذي دعاك يؤكّد لك المكافأة، لكن الأيام غير مؤكدة.]

    ويقول القدّيس أغسطينوس أيضًا: [إن السيِّد في هذا المثل قد فتح الباب للجميع، فلا ييأس أحد، إنه يكرّر الدعوة قابلاً الجميع، لكن لنبدأ أيضًا لئلا نتحطّم بالرجاء الفاسد خلال التأجيل، إذ يقول: لا تؤجل، لا تغلق أمامك الباب المفتوح الآن. هوذا واهب المغفرة فاتح الباب أمامك، فلماذا تؤجِّل؟ لتبتهج، فإن الباب مفتوح وأنت لم تقرع، لكن هل يبقى مفتوحًا إلى الأبد بالنسبة للذين سيقرعون ويبقون خارجًا؟... إنك لا تعلم ما سيحدث غدًا.]

    ثالثًا: دعوة السيِّد لنا للعمل في كرمه ليست فقط دعوة عمليّة ومستمرّة عبر كل حياة الإنسان من طفولته حتى شيخوخته، وإنما هي أيضًا دعوة للإنسانيّة عِبر التاريخ كلّه من مهدِه حتى نهايته على الأرض. يقول الأب غريغوريوس (الكبير): [لا يوجد زمن توقّف فيه الرب عن إرسال فعَلَة للعمل في كرْمه، أي تعليم شعبه.]

    الله ينزل إلينا عبر التاريخ كله، من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل، وكأنّه من ساعة إلى أخرى، يطلب فعَلَة يستأجرهم من السوق، لكي يدخل بهم إلى كرْمه الإلهي، ليهبهم المكافأة الأبديّة عند مساء حياتنا الزمنيّة.

    لقد نزل إلينا في الصباح الباكر للبشريّة عندما بدأ التاريخ الإنساني بخليقته آدم، الذي أقامه ليعمل في الجنّة، وكان يأمل فيه أن يحمل على الدوام صورته ومثاله، يسيطر على حيوانات البرّيّة وطيور السماء وأسماك البحر (تك 1: 28)، لكنّ سرعان ما خرج هزيلاً يحني ظهره للعصيان، فقد سلطانه على أفكاره وأحاسيسه وعواطفه وكل جسده! ولم يتركه الرب هزيلاً مختفيًا وراء أوراق التين التي تجف فتفضحه، بل قدّم له الثوب الجلدي ليستر جسده، ويقدّمه له خلال الوعد بذبيحته المقدّسة لستر حياته الداخليّة.

    ونحو الساعة الثالثة عندما بدأ تاريخ البشريّة من جديد، وذلك خلال فلك نوح ومعموديّته بالطوفان الإلهي، نزل الرب يطلب له فعَلَة يعملون في كرمه، مقيمًا ميثاقًا مع نوح ومع نسله من بعده (تك 9: انجيل متى Icon_cool.

    ونحو الساعة السادسة، إذ بدأت البشريّة المؤمنة تاريخًا جديدًا خلال أب المؤمنين إبراهيم، نزل إليها الرب ليقطع عهدًا معها في شخص إبراهيم ليجعله أبًا لجمهور من الأمم (تك17 : 4-انجيل متى Icon_cool، ووضع له علامة العهد في جسد كل ذكر من نسله خلال الختان، فظهر فعَلَة جبابرة من الآباء مثل اسحق ويعقوب.

    وفي نحو الساعة التاسعة أيضًا عندما تسلّمت البشريّة المؤمنة الناموس المكتوب بإصبع الله على جبل سيناء على يدي موسى، طلب الله فعَلَة له، هم أنبياء العهد القديم الذين يعملون لحساب ملكوته.

    أخيرًا في وقت الساعة الحادية عشرة، أي الساعة الأخيرة (1 يو 1: 28)، في ملء الزمان نزل الرب متجسّدًا لكي يجمعنا نحن الذين كنّا بطّالين طول النهار، ضمّنا من الأمم التي لم تكن تعرف الله كل أيامها، كما من السوق لم يستأجرها أحد من قبل، ودخل بنا إلى كرْمه الإلهي لنعمل بروحه القدّوس لحساب ملكوته السماوي.

    هذه هي الساعات الخمس لنهار البشريّة كلها الزمني، وقد جاءت بنا أواخر الدهور لننتظر مجيئه الأخير، ونقبل المكافأة من يديه مع كل أحبّائنا الفعَلَة الذين سبقونا في العمل.

    v يا لهذه النعمة العظيمة التي لا توصف! إبراهيم المؤمن لم يدخل بعد الفردوس... أمّا اللص فدخله. وموسى لم يدخل، أمّا هذا اللص فدخله بالرغم من مخالفته الناموس.

    وهذا ما يقوله القدّيس بولس الرسول مندهشًا: "حيث كثرت الخطيّة ازدادت النعمة جدًا" (رو 5: 20). إن هؤلاء الذين احتملوا ثقل النهار وحده لم يدخلوا بعد، أمّا صاحب الساعة الحادية عشرة فدخل. فلا يتذمّر أحد على رب البيت لأنه سوف يقول له: يا صاحب ما ظلمتَك؛ أو ما يحلّ لي أن أفعل ما أريد بمالي؟

    القدّيس كيرلّس الأورشليمي

    رابعًا: وللعلامة أوريجينوس تفسير رمزي لهذه الساعات الخمس، فإنها وإن كانت تُشير إلى الحقبات الخمس السابقة (آدم، نوح، إبراهيم، موسى، السيِّد المسيح)، لكنها تمثّل دعوة الله لنا خلال الحواس الخمس لكي ما يدخل إلى قلبنا ويقيم مملكته فينا.

    فالمرحلة الأولى التي تبدأ بآدم تمثل دعوة الله لنا خلال حاسة اللمس، فقد قالت حواء للحيّة "قال الله لا تأكلا منه ولا تمسّاه لئلا تموتا" (تك3: 3). فإن كان الله قد أوصاهما ألا يمسَّا ثمرة الشجرة حتى لا يتعرّضا للسقوط، فبالروح القدس يستخدم الله اللمس كطريق لأكل ثمرة شجرة الحياة والتمتّع بالملكوت الداخلي. لقد لمست المرأة نازفة الدم هُدْب ثوب المسيح، فتمتّعت بقوة خرجت منه، إذ يقول السيِّد: "قد لمسني واحد لأني علمت أن قوّة قد خرجت منّي" (لو 8: 46). إن كانت حواء قد فقدت الملكوت باللمس، فإن الأمم في شخص نازفة الدم تمتّعت بالملكوت خلال اللمس!

    والمرحلة الثانية التي تبدأ بنوح ترمز للتمتّع بملكوت السماوات خلال تقديس حاسة الشمّ. فإنه إذ قدّم نوح ذبيحة شكر لله بعد تجديد الخليقة بالطوفان "تنسَّم الرب رائحة الرضا" (تك 8: 21)... هكذا يتنسَّم الله رائحة الرضا خلال ذبيحة المسيح عنّا، ونحن أيضًا نتنسَّم خلاله رائحة محبّته الفائقة، فننجذب إليه، ونتَّحد معه في الابن الوحيد الجنس.

    والمرحلة الثالثة التي تبدأ بأب الآباء إبراهيم، هذا الذي أضافَ الله وملاكين على مائدته فصار رمزًا لتقديس حاسة التذوّق.

    والمرحلة الرابعة التي يشار إليها بموسى النبي الذي ارتفع على جبل سيناء ليسمع صوتًا يدوي في الأعالي عند استلامه الناموس صار رمزًا لتقديس حاسة السمع.

    والمرحلة الأخيرة يُشار إليها بمجيء ابن الله متجسّدًا، فرأيناه بعيوننا (1 يو 1: 1) فتقدّست حاسة النظر.

    هكذا ملكوت الله الداخلي وهو يفوق الحواس، إنّما ينطلق فينا لنعمل لحسابه خلال تقديس حواسنا بالروح القدس.

    خامسًا: في هذا المثل يضم السيِّد فعَلَة الساعة السادسة مع فعَلَة الساعة التاسعة إذ يقول: "وخرج أيضًا نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل كذلك" [5]، لأن فعَلَة هاتين الساعتين يمثّلان دعوة الشعب اليهودي للعمل، السادسة تمثل عهد الآباء يبدأ بإبراهيم فاسحق ثم يعقوب والتاسعة تمثل عهد الأنبياء يبدأ بموسى حتى ما قبل مجيء السيِّد المسيح. لكن الدعوة لم تكن في كل مراحلها هكذا، ففي المرحلة الأولى دُعيت البشريّة كلها للعمل في شخص آدم، والثانية أيضًا في شخص نوح، والأخيرة انطلقت الكرازة للأمم خلال كنيسة العهد الجديد. إن كان في الساعتين السادسة والتاسعة قدّم عهوده ووعوده ونبوّاته وناموسه خلال الآباء والأنبياء للشعب اليهودي، فقد حانت الساعة الأخيرة ليجد في السوق "آخرين قيامًا بطّالين" [6]، يسألهم: لماذا وقفتم ههنا كل النهار بطّالين؟! إنهم جماعة الأمم الذين عاشوا كل نهارهم في حالة بِطالة لا عمل روحي لهم، أضاعوا كل عمرهم في العبادات الوثنيّة الباطلة، فصاروا بطّالين كآلهتهم. لكنهم في تواضعٍ وانكسار قلبٍ قبلوا دعوة السيِّد المسيح، معترفين بحالهم: "لأنه لم يستأجرنا أحد" [7]. كانوا في شوقٍ للدعوة والعمل، فوجدوا في الصليب دعوتهم، وفي الروح القدس قوّة للعمل!

    سادسًا: يكرّر السيِّد في هذا المثل كلمة "خرج" [ع 3، 5-6]؛ وقد كرّر معلّمنا متّى هذه الكلمة كثيرًا حينما تحدّث عن عمل الله مع البشريّة. وكأنه أراد أن يؤكّد لنا حقيقة هامة، وهي أن الله في حبّه للبشريّة لم ينتظرها ترتفع إليه، إذ تعجز عن فعل هذا، ولا طلب مبادرتها بالاعتذار عن خطئها، وإنما دائمًا وأبدًا هو الذي يبدأ بالخروج إليها بطريقة أو أخرى. خرج إليها في كل ساعة من ساعات النهار، وكأن لا عمل له غير خلاص الإنسان ومصالحته. إنه خرج إلينا بأعمال محبّته خلال خلقته كل شيء لأجلنا، وخرج إلينا بتقديمه ناموسه الإلهي، وخرج إلينا بإرساله الأنبياء وأخيرًا جاء إلينا بنفسه. خرج إلينا خلال تخلِّيه عن أمجاده، وخرج إلينا إلى الجلجثّة ليلتقي بنا على الصليب فيحملنا إليه خارج المحلّة.

    سابعًا: الدينار الذي قدّمه السيِّد المسيح للعاملين في كرمه - في رأي العلاّمة أوريجينوس - هو الخلاص. فقد وهب لأصحاب الساعة الحادية عشرة نعمة الخلاص، الأمر الذي تمتّع به أيضًا السابقون.

    ويرى القدّيس أغسطينوس أن الدينار الذي يوهب للفعَلَة إنّما هو الحياة الأبديّة، قائلاً: [في هذا الأجر نتساوى جميعًا، يكون الأول كالآخر، والآخر كالأول، لأن ذلك الدينار هو الحياة الأبديّة، وفي الحياة الأبديّة الكل متساوون. بالرغم من اِختلاف ما يبلغ إليه القدّيسون فيضيء البعض أكثر والآخر أقل، إلاّ أن عطيّة الحياة الأبديّة متساوية للجميع، فلا تكون طويلة لواحد وقصيرة لآخر هذه التي هي أبديّة للجميع بلا نهاية.]

    ويرى القدّيس جيروم: "الدينار" يحمل صورة الملك، لذلك إذ تذمر الأوّلون وهم يتسلّمون المكافأة كان يوبّخهم، [إذ تتسلّمون المكافأة التي وعدت بها أي صورتي ومثالي، فماذا تطلبون بعد؟!] أخيرًا يمكننا القول أن المكافأة هي التمتّع بالسيِّد نفسه فينا!

    لكن هل الذي ينال المكافأة أي الخلاص أو الامتثال بالسيِّد المسيح نفسه خلال التمتّع به داخلنا يتذمر؟ إن ما قاله السيِّد مجرّد مثال ليكشف جوانب معيّنة أو فكرة معيّنة. فما عناه السيِّد هو نزع أنانيّة اليهود الذي يظنّون أن الخلاص لهم وحدهم والمسيّا قادم لهم دون غيرهم، فلو أنهم علموا أن ما يتمتّعوا به لا يمكن أن ينالوا ما هو أكثر منه [10]، لما تذمروا على فتح باب الخلاص للأمم وتقديم المسيّا حياته للجميع. لكن في المساء لا يوجد حسد ولا غيرة بل هي "ملكوت الحب".

    ثامنًا: كان السيِّد رقيقًا للغاية في عتابه بالرغم من الكلمات الجارحة التي سمعها من المتذمرين الذين قالوا:" هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة، وقد ساويْتهم بنا نحن الذين احتملنا ثِقل النهار والحر" [12]. فمن جهة دعوا إخوتهم "هؤلاء الآخرون" كمن يستنكفون منهم، أمّا السيِّد فيجيب أحدهم: "يا صاحب"، وكأنه يتحدّث معه كصديق مع صديقه يتحاجج معه، وليس كرّبٍ يأمر عبده؛ ومن جانب آخر يتذمَّرون أنهم احتملوا ثقل النهار وحرّه مع أن أعمالهم باطلة إن قورنت بالمكافأة الأبديّة المعدّة لهم.

    تاسعًا: سرّ التذمر هو الحسد، فقد أخذوا مالهم، ما اتفق به السيِّد معهم، لكن ما أحزنهم أن ينال اخوتهم مثلهم. لم يقم حزنهم على حرمانهم من شيء، وإنما من أجل الخير الذي ناله الغير. لهذا وبّخهم السيِّد: "يا صاحب ما ظلمتك، أمّا اتّفقت معي على دينار؟ فخذ الذي لك واذهب، فإني أريد أن أعطي الأخير مثلك، أو ما يحلّ لي أن أفعل ما أريد بمالي؟! أم عينك شرّيرة لأني أنا صالح؟! هكذا يكون الآخرون أوّلين والأوّلون آخرين" [13-15].

    عاشرًا: يختم السيِّد المسيح حديثه: "هكذا يكون الآخرون أوّلين، والأوّلون آخرين، لأن كثيرين يُدعون، وقليلين يُنتخبون" [16].

    الملكوت والصليب

    إذ كان السيِّد يقترب إلى أورشليم ليقدّم نفسه حملاً للفصح كان يبرز مفهوم ملكوت السماوات والدعوة إليه والاستحقاق له. خلال أعماله الخلاصيّة من صلب وموت وقيامة. فإن لا ملكوت بغير الصليب، ولا حق لنا للتمتّع به والعمل لحسابه خارج دم السيِّد المسيح غافر الخطايا. لهذا بعدما عرض الإنجيلي المثل السابق الخاص بالمدعوّين للملكوت خلال كل التاريخ البشري من يهود وأمم قال: "وفيما كان يسوع صاعدًا إلى أورشليم أخذ الاثني عشر تلميذًا على انفراد في الطريق، وقال لهم. ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يسلَّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت. ويسلّمونه إلى الأمم لكي يهزءوا به ويجلدوه ويصلبوه، وفي اليوم الثالث يقوم" [17-19].

    لقد أخذ تلاميذه على انفراد ليحدّثهم عن الأسرار الخاصة بالملكوت التي لم يكن ممكنًا للجماهير اليهوديّة في ذلك الحين أن تتقبّلها، وحتى التلاميذ كانوا غير مدركين لها. ففي المظهر الخارجي تجتمع المدينة لاستقباله كملك، أمّا هو فعيناه تتطلّعان إلى الصليب بكونه طريق الملكوت الأوحد، وكأن السيِّد يُشير إليهم أنه قادم للصليب بإرادته، يعمل ما هو ذاهب إليه، وبهذا يشجّعهم أيضًا على حمل الصليب معه.

    v سبق فأخبر تلاميذه عن آلامه حتى إذ يتيقّظون متوقّعين حدوثها يستعدّون لملاقاتها.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v بهذا يتعلّمون أنه يعرف مقدّمًا آلامه العتيدة، وأنه كان يمكنه بسهولة أن يتجنّبها، لكنّه ذاهب ليلتقي بها بإرادته. لقد أخبرهم أن كل هذه الأمور التي سبق فأعلنها الأنبياء القدّيسون يدبّرها الله حتى لا يتعثّر أحد عندما تتحقّق.

    القدّيس كيرلّس الكبير

    v لأنه محب البشر فقد رحَّب بالموت الذي بدونه لهلك العالم في خطاياه.

    القدّيس كيرلّس الأورشليمي

    3. الملكوت وأم ابني زبدي

    بينما كان السيِّد يتَّجه نحو أورشليم ليقدّم حياته فدية عن البشريّة، فيتأهَّل الجميع للتمتّع بالملكوت السماوي تقدّمت إليه أم ابنيّ زبدي، وقد أدركت كيف اهتزّت قلوب الكثيرين تطلب السيِّد المسيح ملكًا، فاشتاقت أن يجلس ابناها واحد عن يمينه والآخر عن يساره في الملكوت. كانت أم ابنيّ زبدي تمثل الفكر اليهودي، فتطلب لابنيها المُلك الزمني بطريقة ماديّة ملموسة، تحمل السلطة والعظمة، ولم تعلم أن الملكوت الخفي هو في الصليب الحامل لقوة القيامة.

    هنا يوجِّه السيِّد حديثه نحو ابنيها ليكشف لهما طريق العظمة الحقيقيّة، قائلاً: "لستما تعلمان ما تطلبان؛ أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا؟! وأن تصطبغا بالصبغة التي اَصطبغ بها أنا؟! قالا له: نستطيع. فقال لهما: أمّا كأسي فتشربانها، وبالصبغة التي اَصطبغ بها أنا تصطبغان، وأما الجلوس عن يميني وعن يساري، فليس لي أن أُعطيه إلا للذين أُعِدّ لهم من أبي" [22-23]. لقد وجَّه أفكارهما إلى كأس الصليب وصبغة الألم، يشربان كأسه ويُدفنان معه في معموديّته (صبغته) ليقوما معه. وإذ ظنَّا أنهما يستطيعان ذلك لم يحطِّم نفسيَّتِهما، وإنما وجَّهها إلى الآب الذي يُعد الإكليل لكل أحد. وكأنه أراد أن يقول لهما: وأنتما تظنّان أنكما قادران على شرب كأسي والدخول معي إلى معموديّة موتي، إنّما تحتاجان إلى قوّة من الأعالي لكي تستحقّا المجد الإلهي. إنكما ستشربان كأسي وتُدفنان معي، لكن هذا ليس عملكما الذاتي، إنّما هو عمل إلهي يوهَب لكما مجانًا.

    يقول القدّيس أمبروسيوس: [يمكننا أن نفهم "ليس لي أن أعطيكم" بمعنى آخر وهو أنّني قد جئتُ لكي أعلِّم التواضع..، ما جئتُ لأُظهِر العدل بل لأقدّم حنوًا (أي أنه ليس وقت لتقديم الإكليل).]

    ليتنا نتقدّم إلى حضرة ربّنا يسوع المسيح كأم ابنيّ زبدي، فيقدّم كل منّا روحه وجسده كابنين له، لا ليطلب لهما راحة زمنيّة أو كرامة باطلة مؤقّتة، وإنما لكي يدخل بهما روحه القدّوس إلى كأسه فيشربانها ويتمتّعا بالدفن معه، ويقوما حاملين سِمات المُقام من الأموات سرّ مجد لهما. عندئذ ينتظر الإنسان الإكليل الأبدي.

    يُعلّق العلاّمة أوريجينوس على كلمات السيِّد لأم ابنيّ زبدي، قائلاً: [من يشرب الكأس التي شربها الرب يسوع سوف يجلس ويملك ويحكم إلى جانب ملك الملوك. هذا هو كأس الخلاص، من يأخذه يدعو باسم الرب. وكل من يدعو باسم الرب يخلُص (يؤ 2: 32، أع 2: 21، رو 10: 13).]

    يشجّعنا القدّيس جيروم على الجهاد لننال مجدٍ أعظمٍ في الحياة الأبديّة خلال التواضع، قائلاً: [لو أننا جميعًا نكون متساوين في السماء فباطلاً نتّواضع هنا لنصير عظماء هناك.]

    أخيرًا يرى القدّيس أمبروسيوس في تصرُّف هذه الأم جانبين، الأول أنها أخطأت في طلبها، أمّا الثاني فيغفر لها خطأها أنها بقلب الأم المملوء محبّة لم تفكر في نفسها بل في ابنيها.

    لا طريق للمجد الأبدي خارج الصلب معه والدفن أيضًا. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هكذا يليق بنا أن نسلك في نفس الطريق حتى نشاركه المجد والكرامة... ما أمجد الآلام! بها نتشبّه بموته.] لكننا لا نقدر أن ندخل هذا الطريق بأنفسنا، لذا يؤكّد لنا السيِّد أنه اختارنا (يو 15: 16)، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [الفضل هنا هو لصاحب الدعوة، وما على المدعوّين إلاّ الطاعة .] كما يقول: [لا نقدر أن نجري في طريق الله إلاّ محمولين على أجنحة الروح.] [الذين يعاقبون فمن أجل العدالة، أمّا الذين يكلّلون فمن أجل النعمة. فلو أنهم مارسوا ألف عمل صالح إنّما يتمتّعون بالسماء والملكوت مقابل هذه الأعمال الصغيرة لأجل حرّية النعمة، فيرتفعون إلى ما لا يقاس.]

    أما ما يستدر حنو الله فيوهب لنا بلا كيل فهو تواضعنا، إذ يقول الإنجيلي: "فلما سمع العشرة اغتاظوا من أجل الأخويْن. فدعاهم يسوع، وقال: أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم، والعظماء يتسلّطون عليهم، فلا يكون هذا فيكم. بل من أراد أن يكون فيكم عظيمًا، فليكن لكم خادمًا. ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبدًا. كما أن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" [24-28].

    لم يكن سهلاً على التلاميذ حتى هذه اللحظات أن يتفهّموا سرّ الملكوت السماوي، لهذا اغتاظوا من أجل الأخويْن، وعِوض أن يفرحوا ويتهلّلوا بكل نفسٍ تلتقي مع الملك لكي تملك معه اغتاظوا. كان الملكوت حتى هذا الوقت سباقًا نحو المجد الأرضي وحب السيطرة، لكن السيِّد وجَّه أنظارهم إليه هو بكونه ما جاء ليخدِمهُ الآخرون بل يخدِم الآخرين، مقدّمًا حياته فِدية عنهم. لم يأتِ ليسود مع أنه هو السيِّد، وإنما جاء كعبدٍ ليمد يده فيغسل الأقدام المتّسخة. فالملكوت في جوهره هو اتّحاد مع الله في ابنه يسوع المسيح، وبروحه ندخل في سِباق نحو اِحتلال الصفوف الأخيرة، كعبيد نخدم الآخرين لنرفعهم بالروح القدس من عبوديّة الخطيّة إلى مجد أولاد الله خلال اتّحادهم بابن الله الوحيد! ما أجمل تعبير الرسول بولس: "اسْتعبَدت نفسي لكثيرين". ما كان يمكنه أن يقبل هذا، ولا استطاع أن ينفّذ ما لم يتّحد في الابن الوحيد الذي صار عبدًا من أجلنا! بقدر ما تُصلب الأنا ويرفض الإنسان الكرامة ينطلق بالروح القدس نحو أمجاد الملكوت السماوي، متنعّمًا بثماره أيضًا هنا كمجدٍ داخليٍ ونعمٍ إلهيّة لا تُقدر.

    يقدّم لنا القدّيس أغسطينوس تعليقًا على كلمات السيِّد بخصوص خدمة الآخرين والبذل من أجلهم، هكذا: [كل واحد هو خادم للمسيح على نفس الطريقة التي بها المسيح أيضًا خادم. ومن يخدم المسيح هكذا يكرمه أبوه كرامة عظيمة، إذ يجعل ابنه معه، ولا يعوزه شيئًا من السعادة الأبديّة.] ويكمّل القدّيس حديثه عن الخدمة والخدّام، قائلاً: [لا تفكّروا فقط في الأساقفة والكهنة الصالحين، وإنما كونوا أنتم أيضًا خدّاما للمسيح بالطريقة الخاصة بكم، خلال حياتكم الصالحة وتقديم الصدقة والكرازة باسمه والتعليم قدر ما تستطيعون. فكل أب عائلة يعرف خلال هذا اللقب العاطفة التي يحملها كوالد لهذه العائلة. لينذِر كل أهل بيته، ويعلّمهم وينصحهم ويُصلِح من أمرهم من أجل المسيح ومن أجل الحياة الأبديّة. بهذا يمتلئ البيت من العمل الكنسي ويقوم الأب بنوع من العمل الأسقفي، خادمًا المسيح ليبقى معه إلى الأبد. فإنه حتى خدمة الآلام السامية جدًا قد مارسها كثيرون من طبقتكم (أي من الشعب). فإن كثيرين من الشبَّان والعذارى، من الرجال والنساء، آباء وأمهات، ليسوا أساقفة ولا كهنة خدموا المسيح بتسليم حياتهم للاستشهاد من أجله، فكرَّمهم الأب بقبول أكاليل مجد متزايدة.]

    4. الملكوت والاستنارة

    إن كنّا قد رأينا الله نفسه رب البيت هو الذي اختارنا لملكوته، ودعانا كفعَلَة في كرْمه، موضّحًا لنا أنه لا يمكن أن نتمتّع بملكوته خارج صليبه، ومؤكِّدًا التزامنا بالصليب معه كعطيّة إلهيّة، فنحمل صليب ربّنا بروح الخدمة في تواضع، فإن الإنجيلي يختم الحديث بتفتيح عينيّ الأعميين الجالسين على الطريق عند أريحا قبل دخوله أورشليم ليُصلب.

    لعلّ هذه هي آخر معجزة علنيّة صنعها السيِّد قبل دخوله أورشليم ليُصلب ليؤكّد حاجة البشريّة - اليهود والأمم - إلى البصيرة الداخليّة كعطيّة شفاء إلهي حتى يعاينا الملكوت السماوي. لقد عاش اليهود زمانًا طويلاً كنسل إبراهيم حسب الجسد، يحفظون الناموس ويسجّلون النبوّات، ومع هذا كانت بصيرتهم الداخليّة قد أصابها العمى الروحي بسبب تفكيرهم الحرفي والمادي. وكأن الأمم أيضًا قد قضوا زمانهم في العبادة الوثنيّة التي ثقَّلت نفوسهم بالظلمة، فلا يطلبون غير متعة الجسد وكرامة العالم. لقد وقف الجميع - اليهود والأمم - كأعميين في الطريق لم يدخلا بعد إلى أورشليم، غير قادرين على معاينة الأمجاد، حتى يتقدّم ابن داود الملك المسيّا الذي تنتظره البشريّة، يسألهما: "ماذا تريدان أن أفعل بكما؟" [32].

    في الوقت الذي فيه يُعلِن متّى البشير تفتيح أعين الأعميين إشارة إلى استنارة بصيرة المؤمنين من اليهود والأمم، اكتفي الإنجيليّان مرقس ولوقا بذكر أعمى واحد ممثِّلاً البشريّة في قبولها الإيمان ككنيسة واحدة بلا تمييز بين يهودي وأممي. يقول القدّيس أغسطينوس: [من هما الأعميان الجالسان على الطريق؟ إنهما هذان الشعبان اللذان جاء المسيح ليشفيهما!... اليهود والأمم، محقّقًا ما وعد به إبراهيم "ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تك 22: 18). لذلك ذهب أيضًا الرسول بعد قيامة الرب وصعوده إلى الأمم عندما ازدرى بهم اليهود... لذلك أيضًا دعا السيِّد حجر الزاوية (1 تس 2: 20) "الذي جعل الاثنين واحدًا" (أف 2: 14)، إذ يضم حجر الزاوية حائطين في اتّجاهين مختلفين. وأي اِختلاف مثلما كان بين المختونين والغُرْل، فقد أقام حائطًا من اليهود وآخر من الأمم، جمعهما معًا حجر الزاوية، لأن "الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأسًا للزاوية" (مز 118: 22)... إذن، فالأعميان اللذان كانا يصرخان إلى الرب إنّما هما الحائطان في هذا المثال.]

    ويعلّل الأب غريغوريوس (الكبير) ذكر هذه المعجزة قبل دخول السيِّد أورشليم ليُصلب، قائلاً: [إذ كان التلاميذ لا يزالوا جسديّين لم يستطيعوا فهم كلمات السرّ، لذلك تمّم المعجزة. لقد فتح عينيّ الأعمى لكي يثبت إيمانهم خلال علامات من السماء.]

    إن عدنا للأعمى أو الأعميين، فإنه ما كان يمكن أن يتمتّع بتفتيح عينيّه ما لم يدرك أولاً حاجته إلى النور وإدراكه لقوة السيِّد المسيح الشافي النفس والجسد.

    يقول البابا كيرلّس الكبير: [وُجد أناس كثيرون حول يسوع... لكن الأعمى شعر بحضرته وتمسَّك به في قلبه هذا الذي لم تستطع عيناه الجسديَّتان أن تراه.] أمّا سرّ شفائه فهو صوت المسيح واهب النور، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [صوت المسيح نور للأعمى، لأنه كلمة النور الحقيقي.]

    عند شفائهما يقول الإنجيلي: "وقف يسوع وناداهما" [33]. إذ اقتربا إليه بقلبيهما بالإيمان نعِما بالاقتراب إليه أيضًا بالجسد وسمعا صوته. الإيمان يُحضرنا إلى السيِّد المسيح حتى نستحق الوجود معه وسماع صوته.

    كان الأعميان يصرخان، قائلين: "ارحمنا يا سيّد يا ابن داود" [30]، ومع هذا يسألهما: "ماذا تريدان أن أفعل بكما؟" إنه يقدّس الإرادة الإنسانيّة التي كلَّلنا بها. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [الله لا يقيِّد رغباتنا أو إرادتنا بعطاياه، لكن ما نكاد نبدأ ونُظهر الاستعداد حتى نجده يعرض علينا فرصًا عديدة للخلاص.]

    أما الصرخات التي يلزمنا أن نقدّمها للسيّد أثناء اجتيازه، فهي صرخات الإيمان العامل. يقول القدّيس أغسطينوس: [من أجل محبّة هذا النور أريد أن أحثِّكم أيها الأحباء إنه يلزم أن تصرخوا بالأعمال الصالحة عندما يجتاز يسوع، فيسمع صوت إيمانك ويقف يسوع غير المتغيِّر... يفتح أعينكم.]

    v حب المسيح!

    اُطلب النور الذي هو المسيح!

    إن كان الأعمى يحبّ نور الجسد، كم بالأكثر يلزمنا أن نتوق إلى نور النفس؟ لنصرخ إليه لا بكلمات وإنما بالحياة الفاضلة...

    الجماهير تنتهر الأعمى لكي لا يصرخ! يوجد مسيحيّون ليسوا بقليلين، هؤلاء يطلبون أن يعوقوننا عن الحياة، وذلك كالجمهور الذي سار مع المسيح وأعاقوا الصارخ للمسيح. كان الأعمى جائعًا للنور من حنوّ المسيح.

    يوجد مسيحيّون كهؤلاء لكي نغلبهم ونحيا في الفضيلة، فتكون حياتنا هي الصوت الصارخ للمسيح. لنحيا الحياة الفاضلة؛ بهذا نصرخ إليه!

    القدّيس أغسطينوس

    v عملنا جميعه في هذه الحياة أيها الإخوة أن تُشفى عينا القلب اللتان بهما نُعاين الله! هذا هو غاية احتفالنا بالأسرار المقدّسة، وهدف البشارة بكرم الله!

    v أيعطيك الله العين التي بها ترى الشمس التي خلقها، ولا يهبك تلك التي بها تراه هو نفسه خالقها، وقد خلقك على صورته؟ لقد وهبك إيّاها أيضًا! لقد أعطاك كليهما، لكن بمحبتك للعينين الخارجيّتين أكثر من العين الداخليّة، وباحتقارك للأخيرة صرت مريضًا وجريحًا.

    القدّيس أغسطينوس

    1 فان ملكوت السماوات يشبه رجلا رب بيت خرج مع الصبح ليستاجر فعلة لكرمه
    2 فاتفق مع الفعلة على دينار في اليوم و ارسلهم الى كرمه
    3 ثم خرج نحو الساعة الثالثة و راى اخرين قياما في السوق بطالين
    4 فقال لهم اذهبوا انتم ايضا الى الكرم فاعطيكم ما يحق لكم فمضوا
    5 و خرج ايضا نحو الساعة السادسة و التاسعة و فعل كذلك
    6 ثم نحو الساعة الحادية عشرة خرج و وجد اخرين قياما بطالين فقال لهم لماذا وقفتم ههنا كل النهار بطالين
    7 قالوا له لانه لم يستاجرنا احد قال لهم اذهبوا انتم ايضا الى الكرم فتاخذوا ما يحق لكم
    8 فلما كان المساء قال صاحب الكرم لوكيله ادع الفعلة و اعطهم الاجرة مبتدئا من الاخرين الى الاولين
    9 فجاء اصحاب الساعة الحادية عشرة و اخذوا دينارا دينارا
    10 فلما جاء الاولون ظنوا انهم ياخذون اكثر فاخذوا هم ايضا دينارا دينارا
    11 و فيما هم ياخذون تذمروا على رب البيت
    12 قائلين هؤلاء الاخرون عملوا ساعة واحدة و قد ساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثقل النهار و الحر
    13 فاجاب و قال لواحد منهم يا صاحب ما ظلمتك اما اتفقت معي على دينار
    14 فخذ الذي لك و اذهب فاني اريد ان اعطي هذا الاخير مثلك
    15 او ما يحل لي ان افعل ما اريد بما لي ام عينك شريرة لاني انا صالح
    16 هكذا يكون الاخرون اولين و الاولون اخرين لان كثيرين يدعون و قليلين ينتخبون
    17 و فيما كان يسوع صاعدا الى اورشليم اخذ الاثني عشر تلميذا على انفراد في الطريق و قال لهم
    18 ها نحن صاعدون الى اورشليم و ابن الانسان يسلم الى رؤساء الكهنة و الكتبة فيحكمون عليه بالموت
    19 و يسلمونه الى الامم لكي يهزاوا به و يجلدوه و يصلبوه و في اليوم الثالث يقوم
    20 حينئذ تقدمت اليه ام ابني زبدي مع ابنيها و سجدت و طلبت منه شيئا
    21 فقال لها ماذا تريدين قالت له قل ان يجلس ابناي هذان واحد عن يمينك و الاخر عن اليسار في ملكوتك
    22 فاجاب يسوع و قال لستما تعلمان ما تطلبان اتستطيعان ان تشربا الكاس التي سوف اشربها انا و ان تصطبغا بالصبغة التي اصطبغ بها انا قالا له نستطيع
    23 فقال لهما اما كاسي فتشربانها و بالصبغة التي اصطبغ بها انا تصطبغان و اما الجلوس عن يميني و عن يساري فليس لي ان اعطيه الا للذين اعد لهم من ابي
    24 فلما سمع العشرة اغتاظوا من اجل الاخوين
    25 فدعاهم يسوع و قال انتم تعلمون ان رؤساء الامم يسودونهم و العظماء يتسلطون عليهم
    26 فلا يكون هكذا فيكم بل من اراد ان يكون فيكم عظيما فليكن لكم خادما
    27 و من اراد ان يكون فيكم اولا فليكن لكم عبدا
    28 كما ان ابن الانسان لم يات ليخدم بل ليخدم و ليبذل نفسه فدية عن كثيرين
    29 و فيما هم خارجون من اريحا تبعه جمع كثير
    30 و اذا اعميان جالسان على الطريق فلما سمعا ان يسوع مجتاز صرخا قائلين ارحمنا يا سيد يا ابن داود
    31 فانتهرهما الجمع ليسكتا فكانا يصرخان اكثر قائلين ارحمنا يا سيد يا ابن داود
    32 فوقف يسوع و ناداهما و قال ماذا تريدان ان افعل بكما
    33 قالا له يا سيد ان تنفتح اعيننا
    34 فتحنن يسوع و لمس اعينهما فللوقت ابصرت اعينهما فتبعاه
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 2:30 pm

    الأصحاح الحادي والعشرون

    دخول الملك أورشليم

    تقدّم لنا الأصحاحات الثمانية الأخيرة (21-28) صورة حيّة للأسبوع الأخير لحياة السيِّد المسيح على الأرض الذي قدّم لنا فيه نفسه فِصحًا ليعبُر بنا من ملكوت الظلمة إلى ملكوته الأبدي. وقد حرص الإنجيليّون أن يسجّلوا لنا صورة تفصيليّة عن هذا الأسبوع الذي غيّر مجرى حياة البشريّة.

    1. دخوله أورشليم 1-11.

    2. تطهير الهيكل 12-14.

    3. تسبيح الأطفال 15-16.

    4. في بيت عنيا 17.

    5. شجرة التين العقيمة 18-22.

    6. جدال الرؤساء معه 23-26.

    7. مثل الابنين والكرم 27-32.

    8. مثل الكرّامين الأشرار 33 -44.

    9. إدراك الرؤساء أمثلته 45-46.

    1. دخوله أورشليم

    "ولما قربوا من أورشليم وجاءوا إلى بيت فاجي عند جبل الزيتون،

    حينئذ أرسل يسوع تلميذين. قائلاً لهما:

    اذهبا إلى القرية التي أمامكما،

    فللوقت تجدان أتانًا مربوطة وجحشًا معها،

    فحلاّهما وأتياني بهما.

    وإن قال لكما أحد شيئًا، فقولا:

    الرب محتاج إليهما،

    فللوقت يرسلهما" [1-3].

    كانت أورشليم تكتظ بالملايين في ذلك الوقت، جاءوا يشترون خرافًا يحتفظون بها لتقديمها فِصحًا عنهم، أمّا السيِّد المسيح - حمل الله - فتقدّم بنفسه متَّجهًا نحو أورشليم ليقدّم نفسه فِصحًا عن البشريّة بإرادته. إنه ليس كبقيّة الحملان التي تُذبح فتؤكل وتُستهلك، إنّما يقدّم جسده ذبيحة حب قادرة أن تقيم من الموت وتهب حياة أبديّة لمن ينعم بها. إنه الكاهن والذبيحة في نفس الوقت الذي يتقدّم إلى الصليب، كما إلى المذبح لكي يرفع البشريّة المؤمنة إلى الحياة الجديدة التي فيه، ويحملها معه إلى سماواته.

    لقد "جاءوا إلى بيت فاجي"، وهي قرية صغيرة جنوب شرقي جبل الزيتون، يسكنها الكهنة ليكونوا قريبين من الهيكل بأورشليم. يرى البعض أن "بيت فاجي" تعني بالعبريّة "بيت التين"، وقد سبق فرأينا في "التينة" رمزًا للكنيسة من جهة وحدتها حيث تضم بذورًا كثيرة داخل غلاف الروح القدس الحلو، خلاله يكون للكل طعمًا شهيًا، وبدونه تصير البذور بلا قيمة لا يمكن أكلها. هذه هي الكنيسة الواحدة المملوءة حلاوة خلالها يرسل السيِّد تلميذيْه ليحلاّ باسمه المربوطين، ويدخلا بالقلوب إلى أورشليم العُليا، أي رؤية السلام.

    ويرى العلاّمة أوريجينوس أن "بيت فاجي" تعني "بيت الفَكْ"، وكأنها تذكرنا بالفكْ الذي يُلطم عليه المؤمن الحقيقي (الخد الأيمن) فيُحوّل الآخر لمن يلطمه، مقدّمًا له الحب ليكسر شرّه. كما يذكِّرنا بالفكْ الذي ضرب به شمشون الأعداء فأهلكهم، وقد أفاض ماءً أنعشه وقت عطشه (قض 15: 19). هكذا لا نستطيع أن نلتقي بالمسيّا المخلّص كفاتح لأورشليمنا الداخليّة ما لم نقدّم خدِّنا الأيمن وأيضًا الأيسر بالحب لمضايقينا، محتملين شرّهم بصبرٍ حقيقيٍ.

    هذا هو باب التمتّع بمسيحنا - الفِصح الحقيقي - الذي أفاض علينا ينبوع مياه حيّة كما مع شمشون (قض 15: 19) هو ينبوع ماء روحه القدّوس الذي يروي القلب ليحوِّله من بريَّة مقفرة إلى جنّة الله المثمرة.

    يقول الإنجيلي: "ولما قربوا من أورشليم وجاءوا إلى بيت فاجي عند جبل الزيتون" [1]... ما هو جبل الزيتون الذي جاء إليه السيِّد قبيل دخوله أورشليم الذي اكتظّ بأشجار الزيتون، إلا السيِّد المسيح نفسه، الذي هو نفسه "الطريق"، هو بدايته وهو نهايته. به يدخل إلينا، وفيه يستقر! وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [لعلّ المسيح نفسه هو الجبل، فمن هو ذاك الجبل إلا الذي يقدر أن يقدّم أشجار زيتون مثمرة، لا كالأشجار التي تنحني بسبب ثِقل ثمارها، وإنما تذخر بالأمم خلال كمال الروح؟! إنه ذاك الذي خلاله نصعد وإليه نبلغ. إنه الباب وهو الطريق؛ هو الذي ينفتح لنا، وهو الذي يفتح.]

    يقول أيضًا القدّيس أمبروسيوس: [لقد جاء إلى جبل الزيتون لكي يغرس الزيتون الصغير بقوّته السماويّة... إنه الزارع السماوي؛ وكل غرس يغرسه في بيت الله يعلن: "أمّا أنا فمثل زيتونة خضراء في بيت الله، توكّلت على رحمة الله إلى الدهر والأبد" (مز 52: انجيل متى Icon_cool.]

    عند جبل الزيتون أرسل السيِّد تلميذين، قائلاً لهما: "اذهبا إلى القرية التي أمامكما". بعث بتلميذيه إلى قرية ليأتيا بالأتان والجحش المربوطين بعد حلّهما، ليستخدمهما في دخوله أورشليم. معلنًا احتياجه إليهما، وقد رأى آباء الكنيسة أن كل كلمة وردت بخصوص هذا الحدث تحمل معنى يمس خلاص البشريّة، نذكر على سبيل المثال:

    أولاً: الأتان والجحش يمثّلان رمزيًا العالم في ذلك الحين وقد انقسم إلى اليهود والأمم... فالرب محتاج إلى كل البشريّة حتى وإن انحطّت في فكرها إلى الأتان والجحش من جهة معرفتهم لله وسلوكهم الروحي. وكما يقول المرتّل: "صرتُ كبهيمة عندك، ولكنّني دائمًا معك" (مز 73: 22-23). في تواضع إذ يشعر الإنسان بعجزه عن إدراك أسرار الله يرى نفسه وقد صار كبهيمة عاجزة عن التفكير، فيحمل كلمة الله داخله، ويصير هو نفسه كأورشليم الداخليّة. إنه يتقبّل عمل السيِّد في حياته كما من خلال تلميذيه، يحلانه من الرباطات الأولى بالروح القدس ويقدّمانه للسيِّد كمركبة إلهيّة تنطلق في حرّية، نحو أورشليم العُليا (غل 4: 26) عِوض قريته الأولى وأعمال العبوديّة الحقيرة.

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد شبّه البشر بهذين الحيوانين لوجود مشابهات معهما... فالحمار حيوان دنس (حسب الشريعة) وأكثر الحيوانات المستخدمة للحمل غباءً، فهو غبي وضعيف ودنيء ومثقّل بالأحمال. هكذا كان البشر قبل مجيء المسيح إذ تلوّثوا بكل شهوة وعدم تعقل، كلماتهم لا تحمل رقّة، أغبياء بسبب تجاهلهم لله، فإنه أيّة غباوة أكثر من احتقار الشخص للخالق وتعبُّده لعمل يديه كما لو كان خالقه؟! كانوا ضعفاء في الروح، أدنياء، إذ نسبوا أصلهم السماوي وصاروا عبيدًا للشهوات والشيّاطين. كانوا مثقّلين بالأحمال، يئنّون تحت ثقل ظلمة الوثنيّة وخرافاتها.]

    ويقول القدّيس كيرلّس الكبير في هذا: [لقد خلق إله الكل الإنسان على الأرض بعقلٍ قادرٍ على الحكمة، له قُوى الفهم، لكن الشيطان خدعه؛ ومع أنه مخلوق على صورة الله أضلَّه، فلم تعد له معرفة بالخالق صانع الكل. انحدر الشيطان بسكان الأرض إلى أدنى درجات عدم التعقّل والجهل. وإذ عرف الطوباوي داود ذلك، أقول بكى بمرارة قائلاً: "والإنسان في كرامة لم يفهم، يشبه البهائم بلا فهم" (مز 49: 12). من المحتمل أن الأتان الأكبر سنًا ترمز لمجمع اليهود إذ صار بهيميًّا، لم يعطِ للناموس اهتمامًا إلا القليل، مستخفًا بالأنبياء والقدّيسين، وقد أضاف إلى ذلك عصيانه للمسيح الذي دعاه للإيمان ولتفتيح عينيّه، قائلاً: "أنا هو نور العالم، من يؤمن بي فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة" (يو 8: 12). الظلمة التي يتحدّث عنها هنا بلا شك تخص الذهن وتعني الجهل والعُمى وداء عدم التعقّل الشديد. أمّا الجحش الذي لم يكن بعد قد اُستخدم للركوب فيمثِّل الشعب الجديد الذي دُعيَ من بين الوثنيّين. فهذا أيضًا قد حُرم بالطبيعة من العقل؛ كان هائمًا في الخطأ، لكن المسيح صار حكمته "المذخَّر فيه جميع كنوز الحكمة (وأسرار) العلم" (كو 2: 3). لذلك أُحضر الجحش بواسطة تلميذين أرسلهما المسيح لهذا الغرض. ماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن المسيح دعا الوثنيّين بإشراق نور الحق عليهم، يخدمه في ذلك نظامان: الأنبياء والرسل. فقد رُبح الوثنيّون للإيمان بكرازة الرسل الذي يستخدمون كلمات مقتبسة من الناموس والأنبياء. يقول أحدهم للذين دُعوا بالإيمان لمعرفة مجيء المسيح: "وعندنا الكلمة النبويّة وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن اِنتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضعٍ مظلمٍ، إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم" (2 بط 1: 19)... فإذ تفجّر النهار بإشراق نور الحق لم تعد الكلمة النبويّة سراجًا صغيرًا بل صار يضاهي أشعة كوكب الصبح.

    لقد أُحضر الجحش من قرية، مشيرًا بذلك إلى حال فكر الوثنيّين غير المتمدِّن، إذ لم يكن كمن تعلَّم في مدينة، وإنما كمن عاش بطريقة ريفيّة خشنة وفَظّة... هؤلاء لا يستمرّون على هذا الحال بخصوص الذهن غير المتمدِّن، وإنما يتغيّرون إلى حالة من السلام والحكمة بخضوعهم للمسيح معلّم هذه الأمور. إذن، لقد أُهملت الأتان، إذ لم يركبها المسيح مع أنها سبق فاُستخدمت للركوب ومارست الخضوع لراكبيها، مستخدمًا الجحش الذي كان بلا مران سابق ولم يستخدمه أحد... وكما سبق فقلت لقد رفض المجمع اليهودي الذي سبق فامتطاه الناموس، وقبل الجحش، الشعب الذي أُخذ من الأمم.]

    هذا التفسير الرمزي للقدّيس كيرلّس الكبير أخذه عن العلاّمة أوريجينوس القائل: [رَمَزَ للمجمع اليهودي القديم بالأتان، إذ كان مقيَّدًا بخطاياه. وكان أيضًا معها الجحش مقيَّدًا، كرمز للشعب الحديث الولادة من الأمم. وإذ اقترب المخلّص وصار الطريق لأورشليم السماويّة مفتوحًا أمر بحلِّها خلال تعاليم تلاميذه الذين أعطاهم الروح القدس، قائلاً: "اقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تُغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أُمسكت" (يو 20: 22-23). كما يقول: [كان احتياجه هكذا أنه إذ يجلس عليهما يحرّرهما من الأتعاب، مصلحًا من أمْر من يجلس عليهما، لا بمعنى أنه هو الذي يستريح بواسطتهما.]

    ويقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [يعني بالجحش الكنيسة والشعب الجديد الذي كان قبلاً غير طاهر وقد صار طاهرًا، إذ استقرّ يسوع عليه.]

    ثانيًا: يتحدّث القدّيس جيروم عن التلميذين اللذين أرسلهما السيِّد، قائلاً: [أرسل تلميذيه، أحدهما لأهل الختان والآخر للأمم.] أمّا القدّيس هيلاري أسقف بواتييه فيرى أن التلميذين قد أرسلا إلى الأمم، أحدهما إلى السامرة التي كانت لها بعض المعرفة عن الله والآخر لبقيّة الأمم، قائلاً: [الأتان والجحش يشيران إلى دعوة الأمم المزدوجة. فالسامريّون عبدوا الله خلال طقوسهم، وقد أُشير إليهم بالأتان، أمّا الأمم فيُشار إليهم بالجحش إذ لم يكونوا بعد قد تدرّبوا على الحمل. هكذا أرسل (السيِّد) اثنين لتحرير من كانوا تحت رباطات الخزعبلات. فآمنت السامرة بواسطة فيلبس، وآمن كرنيليوس بالمسيح كبكر عن الأمم بواسطة بطرس.]

    لاحظ القدّيس جيروم في إنجيل لوقا البشير أن للجحش أصحاب كثيرون، وكأن هذا الشعب خاضع ليس لخطيّةٍ واحدٍ أو لشيطانٍ واحدٍ بل لكثيرين، هؤلاء الذين اِستسلموا خلال كرازة الرسل، تاركين إيّاه لسيِّده الحقيقي يسوع المسيح.

    ثالثًا: يتحدّث القدّيس أمبروسيوس عن السلطان الإلهي الذي وُهب للتلميذين ليحلاّ الأتان والجحش، قائلاً: [ما كان يمكن حلهما إلا بأمر الرب، فاليد الرسوليّة التي من قبل الرب تحلِّهما.] ويقول العلاّمة أوريجينوس: [هذه الأتان كانت حاملة أولاً بلعام (عد 22)، والآن تحمل المسيح، هذه التي حلّها التلاميذ، فتحرّرت من الرباطات التي كانت تقيّدها، ذلك لأن ابن الله صعد عليها ودخل بها في المدينة المقدّسة أورشليم السماويّة.]

    ويقول القدّيس جيروم: [كما أرسل (السيِّد) تلميذيه ليحلاّ الجحش ابن الأتان ليمتطيه، هكذا يرسلهما إليك ليحلاّك من اهتمامات العالم وتركك للّّبْْن والقش الذي لمصر فتتبعه بكونه موسى الحقيقي، وتدخل إلى أرض الموعد خلال البرّيّة.]

    رابعًا: طلب السيِّد من تلميذيه أن يقولا لصاحب الأتان والجحش: "الرب محتاج إليهما". حقًا إنه يتطلّع إلى البشريّة كلها لا كمن يتعالى عليها، بل كمن هو محتاج إلى الجميع، يطلب قلوبنا مسكنًا له، وحياتنا مركَّبة سماويّة تحمله.

    لاحظ القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيِّد لم يطلب منهما أن يقولا: "ربَّك محتاج إليهما"، ولا أن يقولا "ربّنا محتاج إليهما"، بل قال "الرب"، وذلك [لكي يُدركون أنه رب البشريّة كلها، حتى الخطاة منتمون إليه، وإن كانوا بكامل حرّيتهم قد اِنتموا إلى الشيطان.]

    والعجيب أن صاحب الأتان والجحش لم يجادلهما بل سلَّم بملكِه للسيِّد، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان الذي لم يعرف المسيح خضع له، فكم بالأحرى يليق بتلاميذه أن يقدّموا له كل شيء.]

    خامسًا: يُعلن الإنجيلي متّى أن ما يحدث قد سبق فأنبأ به زكريّا النبي: "فكان هذا كلّه لكي يتمّ ما قيل بالنبي القائل: قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك يأتيك وديعًا راكبًا على أتان وجحش ابن أتان" [4]. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ عرف النبي، أعني زكريّا، حقد اليهود ومقاومتهم للمسيح عند صعوده للهيكل، سبق فحذَّرهم، معطيًا لهم هذه العلامة لكي يعرفوه.]

    لقد أعلن السيِّد المسيح حبّه لعروسه فتصاغر أمامها لكي يخدمها، فعند دخوله إلى أورشليم ليمد يده للنفس البشريّة كعروس له، لم يتَّخذ لنفسه مركبًا وخيلاً ورجالاً يجرون أمامه، كما فعل أبشالوم بن داود عند دخوله مدينة أبيه (2 صم 5: 1)، ولا اِتخذ لنفسه عجلات وفرسانًا كما فعل أدونيا (1 مل 1: 5)، ولم يبوِّق قدَّامه بالبوق والناي كما حدث مع سليمان (1 مل 1: 38-40). الجالس في سماء السماوات سبق فأرسل إلى إيليّا مركبة ناريّة، أمّا هو فركب أتانًا وجحش ابن أتان، مع أنه هو الذي رآه إشعياء جالسًا على كرسي عظمته على مركبة الكاروبيم على كرسي عال مرتفع وأذياله تملأ الهيكل (إش 6: 1) وكما ينشد القدّيس يعقوب السروجي قائلاً:

    [حبَّك أنزلك من المركبة إلى الجحش العادي.

    عِوض جنود الكاروبيم غير المفحوصين، يبجِّلك جحش متواضع في بلدنا!

    أنزلتْكَ المراحم من بين العجل والوجوه وأجنحة اللهب، لكي يبجّلك ابن الأتان في المركبة. يجاهر السمائيّون ببهائك، وهنا الجحش الحقير المزدرى به يحملك بين السمائيّين.

    كاروبيم النار يباركونك طائرين، وهنا الأطفال يمجّدونك بتسابيحهم.

    ملائكة النور... يهيّئون طريقه، والتلاميذ هنا يلقون قدامه ثيابهم.

    نزل الجبار من عند أبيه ليفتقد مكاننا، وبإرادته بلغ إلى منتهى التواضع.

    ركب الجحش ليفتقد بالتواضع شعبه.

    زكريّا النبي حمل قيثارة الروح، وأسرع قدّامه بترتيل نبوّته بابتهاج، شدّ أوتاره وحرَّك صوته وقال: "افرحي يا ابنة صهيون واهتفي واصرخي، لأن ملكك يأتي، وها يبلغ راكبًا جحشًا ابن أتان" (زك 9:9).]

    ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على استخدام السيِّد للأتان والجحش، قائلاً: [إن كان النبي قد عاش قبل مجيئه بزمان طويل يقول "هوذا" (زك 9:9)، ليوضّح أن من يتكلَّم عنه هو ملكهم حتى قبل أن يولد. متى رأيتموه لا تقولوا: ليس لنا ملك إلا قيصر، فقد جاء إليكم ليخلّصكم إن فهمتموه، أمّا إن لم تفهموه فيأتي ضدَّكم. جاء "وديعًا" حتى لا تهابوا عظمته، بل تُحبُّون رقَّتِه. لا يأتي جالسًا على مركبة ذهبيَّة، ولا ملتحفًا بالأرجوان، ولا راكبًا على فرس ناري، كمن يشتاق إلى الخصام والصراع، وإنما يأتي على أتان صديقًا للهدوء والسلام.]

    سادسًا: إلقاء الثياب تحته، "فذهب التلميذان وفعلا كما أمرهما يسوع. وأتيا بالأتان والجحش، ووضعا عليهما ثيابهما، فجلس عليهما. والجمع الأكثر فرشوا ثيابهم في الطريق" [6-8].

    سبق فقلنا أن تقديم الثوب إلى شخص يُشير إلى ترشيحه للرئاسة (إش 3: 6)، وهنا تقدّم التلاميذ نيابة عن الكنيسة يُعلنون قبولهم العريس رأسًا ورئيسًا.

    ألقوا بالثوب القديم ليتمتّعوا بالسيِّد المسيح نفسه كثوب البرّ الذي يلتحفون به ويختفون فيه. نزعوا ثوب السجن مع يهوياكين (إر 52: 33) حتى يقدروا أن يجالسوا العريس ملك الملوك، فيسمعوا مناجاته: "ما أحسن حبِّك يا أختي العروس... رائحة ثيابِك كرائحة لبنان" (نش 4: 11). أمّا هم فيردّدون: "فرحًا أفرح بالرب، تبتهج نفسي بإلهي، لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص، كساني رداء البرّ، مثل عريس يتزيَّن بعمامة ومثل عروس تتزيّن بحليّها" (إش 61: 10).

    يتحدّث القدّيس جيروم عن هذه الثياب، قائلاً: [ثياب التلميذين التي وضعاها على الحيوان تُشير إلى تعليم الفضيلة أو تفسير الكتاب المقدّس وإلى الحق الذي للكنيسة، فإن لم تتزيّن النفس بهذه الأمور وتلتحف بها لا تستحق أن تحمل الرب.]

    سابعًا: استخدموا سعف النخيل وأغصان الزيتون، "وآخرون قطعوا أغصانًا من الشجر وفرشوها في الطريق" [8]. جاء في إنجيل يوحنا "فأخذوا سعوف النخل، وخرجوا للقائه" (يو 12: 13).

    أعلن الشعب عن فرحة الكنيسة بنصرتها بالرب. وقد اختلط سعف النخل بأغصان الزيتون، وكأن روح النصرة قد امتزجت بروح السلام، إذ دخل الأسد ليرقد في القبر، فيفزع الموت، ويفجِّر أبواب الجحيم، مقدّمًا سلامًا فائقًا للنفس بارتفاعها فوق الموت، ودخولها إلى حضن الآب في مصالحة أبديّة. يقول القدّيس أغسطينوس: [سعف النخيل شعار للمدح، يعني النصرة، فقد كان الرب قادمًا للنصرة على الموت بالموت، وهزيمة الشيطان رئيس الموت بصليبه الغالب.]

    ولعلّ أغصان الشجر هنا تُشير إلى نبوّات العهد القديم التي تقتطعها لكي تفرش لنا طريق دخول المسيّا المخلّص إلى قلبنا، فإنه ما كان يمكن للعالم أن يتقبّل ربّنا يسوع بكونه المسيّا المخلّص لو لم تُفرش هذه النبوّات أمامه في أذهاننا وقلوبنا تُعلن عن شخصه.

    ثامنًا: صرخات الجموع "والجموع الذين تقدّموا والذين تبعوا، كانوا يصرخون، قائلين: أوصانا لابن داود، مبارك الآتي باسم الرب، أوصنا في الأعالي" [9].

    استقبلته الجماهير بفرح وتهليل كملك "ابن داود"، إذ وحده يقدر أن يخلّصهم، ويرتفع بهم إلى الأعالي. لكن ماذا يعني بالجموع التي تقدّمته والتي تبعته. يقول القدّيس جيروم: [جموع الذين آمنوا بالرب قبل الإنجيل (التي تقدّمته)، والذين آمنوا به بعد الإنجيل (تبعته)، فالكل يسبّح معًا بصوت واحد ويشهدون له.] هذا التفسير الرمزي التقطه القدّيس جيروم عن العلاّمة أوريجينوس القائل: [يمكننا القول بأن الذين تقدّموه هم الأنبياء القدّيسون الذين عاشوا قبل مجيئه، أمّا الذين تبعوه، فهم الرسل الذين التصقوا به بعد مجيء الله الكلمة. أعلن الكل نفس الشيء، متّحدين معًا بصوت واحد: إن المخلّص قد تأنّس.] ويقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [السابقون أعلنوا بالنبوّة عن المسيح الآتي، والآخرون سبَّحوا معلنين أن مجيئه قد تحقّق.]

    هكذا استقبلته الجماهير، تقدّمته جماعة بالتهليل ممثّلة رجال العهد القديم الذين رأوه بعينيّ الإيمان خلال النبوّة، وتبعته جماعة خلفه تسبِّحه كممثّلة لرجال العهد الجديد الذين تمتّعوا بما اشتهاه الأنبياء.

    أما تسابيحهم فتركّزت في إعلان الخلاص، قائلين: "أوصنا" أو "هوشعنا"، وهي كلمة عبريّة تركت في أغلب الترجمات كما هي، لذلك يراها القدّيس أغسطينوس أداة تعجّب تكشف عن حالة ذهنيّة أكثر منها معنى خاص، وإن كان أغلب الآباء والدارسين يرون فيها معنى "خلصنا". وكما يقول القدّيس جيروم: [أنها تعني أن مجيء المسيح هو خلاص العالم.]

    أما قوله "أوصنا لابن داود... أوصنا في الأعالي" فكما يقول العلاّمة أوريجينوس: [مدحوا ناسوتيتّه بصراخهم: "هوشعنا يا ابن داود"، ومدحوا إصلاحه، هذا يعني أن الخلاص هو في الأعالي، مشيرًا بوضوح إلى أن مجيء المسيح يعني الخلاص الذي لا يمس البشر وحدهم بل المسكونة كلها، رابطًا الأرضيّات بالسماويات (في 2: 10).] ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على قوله "مبارك الآتي باسم الرب قائلاً: [لنفهم من قوله "باسم الرب" بالأكثر "اسم الله الآب"، وإن كان يمكن أن يُفهم على أنه باسمه هو بكونه الرب... لقد قال بنفسه: "أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني، إن أتى أحد باسم آخر فذلك تقبلونه" (يو 5: 43). فإن المعلّم الحقيقي للتواضع هو المسيح الذي أخلى نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب (في 2: انجيل متى Icon_cool، لكنّه لم يفقد لاهوته بتعليمه التواضع. فبالواحد هو مساوٍ للآب، وبالآخر هو مشابه لنا نحن. بذاك الذي هو مساوي للآب دعانا إلى الوجود، وبالذي صار به مشابهًا لنا، خلَّصنا من الهلاك.]

    تاسعًا: "ولما دخل أورشليم اِرتجَّت المدينة كلها قائلة: من هذا؟. فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل" [10-11]. هكذا إذ دخل يسوعنا الحيّ إلى أورشليمنا الداخليّة ليُقيم ملكوته فينا بالصليب يرتج القلب كلّه مقدّمًا كل مشاعره وأحاسيسه وحبّه للملك الجديد، فيستعيد سلامه ويدخل إلى المصالحة مع السماء، بل ويصير سماءً جديدة!

    2. تطهير الهيكل

    إذ يدخل الرب أورشليمنا الداخليّة إنّما يدخل إلى مقدسه، يقوم بنفسه بتطيره، فيصنع سوطًا يطرد به باعة الحمام ويقلب موائد الصيارفة وهو يقول: "مكتوب بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة للصوص" [13].

    ما هو هذا السوط إلا الروح القدس الذي يرسله الابن من عند الآب ليبكِّت على خطيّة، ويهب التوبة الداخليّة، ويعطي حِلاً من الخطيّة خلال الكنيسة؟!

    بالروح القدس الناري يعيد الرب لمقدسه فينا قدسيَّته التي فقدها، بتحويل حياتنا الداخليّة عن "حياة الصلاة" إلى عمل تجاري حتى في الأمور الروحيّة. عِوض أن يكون القلب خزانة إلهيّة تضم في داخلها السيِّد المسيح نفسه كنزًا سماويًا لا يفنى يرتبك بحسابات الصيارفة وتجارة الحمام، فينزع عنه سلام الله الفائق ليقتني لنفسه ارتباكات زمنيّة خانقة للنفس.

    يرى القدّيس جيروم أن الكهنة اليهود كانوا يستغلِّون عيد الفِصح حيث يأتي اليهود من العالم كلّه لتقديم الذبائح، فحوَّلوا الهيكل إلى مركز تجاري، أقاموا فيه موائد الصيارفة ليقدّموا القروض للناس لشراء الذبائح، يقدّمونها لا بالربا إذ تمنعه الشريعة، وإنما مقابل هدايا عينيّة، هي في حقيقتها ربا مستتر.

    هذه صورة مؤلمة فيها يتحوّل هيكل الرب عن غايته، ويفقد الكهنة عملهم الروحي، ويحوِّلون رسالتهم إلى جمع المال. وكما يقول العلاّمة أوريجينوس: [ليُطرد كل إنسان يبيع في الهيكل، خاصة إن كان بائع حمام... أي يبيع ما يكشفه له الروح القدس (الحمامة) بمالٍ ولا يُعلّم مجَّانًا، يبيع عمل الروح فيُطرد من مذبح الرب.] يفقد الرعاة عملهم الروحي ويحوِّلون كلمة الله ومواهب الروح القدس وعطاياه إلى تجارة. وكما يقول القدّيس جيروم: [يدخل يسوع كل يوم إلى هيكل أبيه ويطرد من كنيسته في كل العالم أساقفة وكهنة وشمامسة وشعبًا موجِّهًا إليهم ذات الاتهام، أنهم يبيعون ويشترون. وما أقوله عن الكنائس يطبِّقه كل واحد على نفسه، إذ يقول الرسول "أنتم هياكل الله وروح الله ساكن فيكم". ليخلوا بيت قلبنا من كل تجارة ومقر للبائعين والمشترين ومن كل رغبة للحصول على هدايا، لئلا يدخل الرب ثائرًا ويُطهّر هيكله بلا تراخٍ بطريقة أخرى غير السوط، فيُقيم من مغارة اللصوص وبيت التجارة بيتًا للصلاة.]

    يُعلّق القدّيس جيروم على طرد باعة الحمام وقلب موائد الصيارفة هكذا: [يظن معظم الناس أن أعظم معجزاته هي إقامة لعازر من الأموات أو تفتيح عينيّ المولود أعمى... وفي نظري أن أعجَبَها هي أن شخصًا واحدًا منبوذًا بلا اعتبار (ليس له مركز ديني معيَّن) قُدِّم للصلب استطاع أن يضرب بسوط الكتبة والفرّيسيّين الثائرين ضدّه، والذين يشاهدون بأعينهم دمار مكاسبهم، فيطرد الجمع الكبير ويقلب الموائد ويحطَّم الكراسي، فإن لهيبًا ناريًا ملتهبًا كان يخرج من عينيّه، وعظمة لاهوته تشعْ على وجهه، فلم يتجاسر الكهنة أن يمدُّوا أيديهم عليه.]

    على أي الأحوال، بحسب الحسابات البشريّة خسر الهيكل في نظر القادة الدينيّين في ذلك الوقت الكثير، إذ طرْد الباعة والمشترين وقلبْ موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام، لكن بمنطق الإيمان نال الهيكل قدسيَّته بحلول السيِّد نفسه فيه، الأمر الذي لا يهمهم في شيء. عِوض التجارة الزمنيّة حلّ الكنز السماوي نفسه يملأ الهيكل سلامًا ومجدًا، واهبًا نورًا لعيون العمي وإمكانيّة للعرج أن يمشوا، إذ قيل "وتقدّم إليه عًمي وعرج في الهيكل فشفاهم" [14]. وكما يقول القدّيس جيروم: [لو لم يقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام ما كان يستحق العمي والعرج أن يستردّوا النور، ويصيروا سريعين في المشي.]

    إذ يحلّ الرب في القلب يحطَّم الشرّ وكل ما يتعلق به، لتحل بركة الرب فينا، فعِوض العمى الروحي تنفتح أعيننا الداخليّة لمعاينة السماويّات، وتشفي أرجلنا الداخليّة لتنطلق النفس بقوة الروح نحو الأبديّة، بعد أن توقَّفت زمانًا طويلاً لا تقدر على السير في الطريق الملوكي.

    3. تسبيح الأطفال [15-17]

    بينما انفتحت ألسنة الأطفال والرُضَّع بالتسبيح [16] غضب رؤساء الكهنة والكتبة. الأطفال الصغار لم يقرأوا النبوّات ولا رأوا المعجزات، لكن قلوبهم البسيطة انفتحت للملك فطفقت ألسنتهم العاجزة تنطق بالفرح الداخلي والمجيد. أمّا رؤساء الكهنة والكتبة فقد أُؤتُمنوا على النبوّات وقاموا بشرحها، وجاء المجوس يؤكّدونها، ونظروا المعجزات، لكن قلوبهم المتحجِرة أُغلقت أمام الملك، فامتلت غمًا، وعِوض التسبيح صرخوا غاضبين: "أتسمع ما يقول هؤلاء؟" [16]. حقًا لقد أعلن الأطفال ملكوت الله المُفرح بينما كشف رؤساء الكهنة بضيقهم عن ملكوت الشرّ فاقد السلام. يقول الأب موسى: [أينما وُجد ملكوت السماوات فبالتأكيد تكون الحياة الأبديّة بفرح، وحيثما وُجد ملكوت الشيطان فبلا شك يوجد الموت والقبر، ومن يكون في ملكوت الشيطان لن يقدر أن يحمد الله، إذ يخبرّنا النبي، قائلاً: "ليس الأموات يسبّحون الرب، ولا من ينحدر إلى أرض السكوت، أمّا نحن الأحياء الذين نعيش لله وليس للخطيّة أو للعالم فنُبارك الرب من الآن وإلى الدهر. هللويا (مز115: 17-18).]

    4. في بيت عنيا

    "ثم تركهم وخرج خارج المدينة إلى بيت عنيا،

    وبات هناك" [17].

    إن رجعنا إلى سفر حزقيال نجد الله يهتمّ بمن يسمِّيهم "البقيَّة" وهم جماعة قليلة أطاعت الرب وسمعت له، يهتمّ الله بها حتى وسط التأديبات القاسية التي خضع لها الشعب بكهنته ورؤسائه. هنا أيضًا إن كانت أورشليم قد ثارت ضدّ السيِّد خلال الكتبة والفرّيسيين والصدّوقيّين مع الكهنة ورؤساء الكهنة، لكنّه وجد موضع راحة في قرية قريبة تُسمى "بيت عنيا"، إنه يهتمّ أن يذهب إلى هذا البيت الذي هو بيت لعازر ومريم ومرثا ليستريح فيه.

    "بيت عنيا" يعني "بيت العناء أو الألم". فإن كان العالم يجري وراء الترف واللذّة الزمنيّة فلا يجد الرب راحته إلا في القلب الذي يصير "بيت عنيا"، محتملاً الآلام من أجل الملكوت. لقد خرجت الألوف في أورشليم تستقبل السيِّد، لكنّه لم يجد قلوبًا منفتحة لاستقباله مثل أصحاب هذا البيت!

    يُعلّق القدّيس جيروم على ذهاب السيِّد إلى بيت عنيا قائلاً: [كان شديد الفقر بعيدًا كل البعد عن التملُّق فلم يجد في المدينة الكبيرة (أورشليم) مأوى أو مسكنًا، إنّما سكن عند لعازر وأختيْه في بيت صغير جدًا في بيت عنيا.]

    5. شجرة التين العقيمة

    ما كان يمكن أن تقوم مملكة السيِّد إلا بهدم مملكة الظلمة، لهذا إذ أراد غرس كرمه المقدّس التزم أن يحطَّم التينة العقيمة. حقًا لقد كان للتينة ورقها الجذّاب، يأتي إليها الجائع ظنًا أنه يجد ثمرًا، لكنّه يرجع جائعًا. هكذا كان لليهود ورقهم الأخضر من معرفة عن الله وحفظ للشريعة وتسجيل للنبوّات. لكن مع هذا كلّه لم تكن لهم الحياة الداخليّة التي تقدّم ثمرًا. لقد ارتبطوا بالشكل الخارجي البرّاق دون التمتّع بالأعماق الحيّة، اهتموا بالحرف دون الروح. لذلك فإن ما فعله السيِّد، هو هدم للحرف لإقامة الروح الواهب الحياة.

    وقف السيِّد أمام شجرة التين العقيمة فجفَّت بكلمةٍ من فيهِ، وكما يقول القدّيس جيروم: [تبدَّدت ظلمة الليل بأشعة ضوء الصباح.]

    ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على لَعن شجرة التين، بقوله:

    [أدرك الرب يسوع أن شجرة معيّنة تستحق أن تصير يابسة، إذ لها الورق دون الثمر. هذه الشجرة هي مجمع اليهود... كان لديهم كل كتابات الأنبياء التي لم تكون إلا أوراقًا، والمسيح جائع يطلب ثمرًا فيهم فلا يجد، إذ لم يجد نفسه بينهم. فمن ليس له المسيح ليس له ثمر. من لا يتمسَّك بوحدة المسيح لا يكون له المسيح، وأيضًا من ليس له المحبّة... اسمع الرسول يقول: "وأما ثمر الروح فهو محبّة" (غل 5: 22) مظهرًا عظمة هذا العنقود خلال هذه الثمرة.]

    [إننا نجد شجرة التين تُلعن لأن لها ورق بلا ثمر، ففي بداية الجنس البشري لذ أخطأ آدم وحواء صنعا لنفسيهما إزاريْن من أوراق التين (تك3: 7)، هذه التي تُشير إلى الخطايا. نثنائيل أيضًا كان تحت شجرة التين كمن هو تحت ظل الموت، هذا الذي رآه الرب الذي يهتمّ بمن قيل عنهم: "الجالسون في أرض ظلال الموت أشرّق عليهم نور" (إش 9: 2).]

    إذ يبست الشجرة تعجّب التلاميذ لهذا، فقال لهم السيِّد: "الحق أقول لكم إن كان لكم إيمان ولا تشكّون فلا تفعلون أمر التينة فقط، بل إن قلتم أيضًا لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر فيكون" [21]. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [إنه قد جفَّت تينة اليهود التي رفضت أن تحمل المسيح فيها ثمرًا حيًا، لهذا يقول الرب "أوصَى الغَيْم أن لا يُمطر عليها مطرًا" (إش 5: 6)، لكن بالإيمان انطلق السيِّد المسيح الجبل الحقيقي وانطرح في بحر الأمم، ليتحقّق القول النبوي "جعلتُك نورًا للأمم ليكون خلاص إلى أقصى الأرض" (إش 49: 6).]

    إن كان لنا الإيمان بالمسيح يسوع ربَّنا، فإنه ليس فقط يجفِّف تينتنا العقيمة التي اِحتلَّت مقدِسه في قلوبنا، وإنما يدخل بنفسه إلينا كما ينطرح الجبل في البحر ليكون سرّ خلاص لنا. بالإيمان ننعم بكل شيء في المسيح يسوع مادمنا نناله فينا، وكما يقول القدّيس مار فيلوكسينوس: [الإيمان يعطي الإنسان قوّة إلهيّة فيه، حيث يؤمن أن كل شيء يريده يفعله!]

    6. جدال الرؤساء معه

    إذ وجَّه السيِّد ضربة لتحطيم مملكة الخطيّة، خاصة الرياء مقيمًا مملكة البرّ، ثار رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب، وكأنهم قاموا يدافعون عن الظلمة، إذ سألوه: "بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان؟" [23]. ولم يكن هذا التساؤل بقصد التمتّع بالمعرفة الروحيّة لبنيانهم، وإنما بقصد اقتناص الفرصة لمهاجمته، لهذا لم يُجب سؤالهم، إنّما ردّ عليه بسؤال، إذ قال لهم: "وأنا أيضًا أسألكم كلمة واحدة، فإن قلتم لي عنها أقول لكم أنا أيضًا بأي سلطان أفعل هذا. معموديّة يوحنا من أين كانت: من السماء أم من الناس؟" [24-25].

    لقد سألوه بمكرٍ: بأي سلطان تفعل هذا؟ وكما يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [إنهم ظنّوا بهذا يجرحون مشاعره ككاسر للناموس الموسوي، إذ لم يكن من سبط لاوي بل من سبط يهوذا، ليس له حق التعليم وشرح الناموس الخ. ولم يُدركوا أنه هو نفسه واضع الناموس.]

    أجابهم السيِّد بحكمة، فكتم مكرهم بسؤالهم عن القدّيس يوحنا المعمدان، إذ "فكّروا في أنفسهم قائلين: إن قلنا من السماء، يقول لنا فلماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا من الناس، نخاف من الشعب، لأن يوحنا عند الجميع مثل نبي" [26].

    بقدر ما نتقدّم للسيِّد بقلبٍ بسيطٍ ندخل إلى أسراره، إذ يفرح بنا ويقودنا بروحه القدّوس إلى معرفة أسراره غير المُدركة. أمّا من يستخدم مكر العالم فلا يقدر أن يدخل إليه، بل يبقى خارجًا محرومًا من معرفته. لقد فقد الفرّيسيّون والكهنة وشيوخ الشعب بساطتهم، إذ طلبوا مجدهم الذاتي، ممّا دفعهم إلى الخوف من الناس فلم يدخلوا إلى الحق. وكما يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [لاحظ مكر الفرّيسيّين الشديد فقد هربوا من الحق، رفضوا النور، ولم يشعروا بخوف عند اِرتكاب الخطيّة.]

    7. مثل الابنين والكرْم

    إذ يهدم السيِّد الشرّ يقدّم تبريرًا وتوضيحًا لتصرُّفه، والآن إذ دخل أورشليم وقد هاج الرؤساء الدينيّون عليه قام بتوضيح ضرورة طردهم من الكرم ليقيم غيرهم، قادرين على الرعاية بمفهوم جديد يليق بملكوته.

    في المثل الذي بين أيدينا يَظهر رب المجد كرب بيت يسأل ابنيه أن يعملا في كرْمه - أي كنيسته - لحساب ملكوت السماوات، والأول يمثّل الأمم، الذين بدءوا حياتهم برفض العمل، لكنهم ندِموا أخيرًا ومضوا يعملون في الكرْم، أمّا الثاني فيُشير لليهود الذين قالوا "ها أنا يا سيّد" [30]، لكنهم لم يمضوا. حقًا لقد قبل اليهود العمل في الملكوت لكنهم قبلوه بالكلام دون العمل، لذلك طَردوا أنفسهم بأنفسهم من الكرْم، ليتركوا مكانهم للأمم الذين لم يسمعوا لله أولاً لكنهم عادوا ليُطيعوه. ما أصعب على نفس هؤلاء المؤتمنين على كلمة الله أن يتركوا الكراسي - بسبب عدم إيمانهم بالحق - للعشّارين والزواني الذين سبقوهم إلى ملكوت الله بالإيمان.

    8. مثل الكرّامين الأشرار

    لخّص السيِّد تاريخ الخلاص كلّه في هذا المثل، فيه أوضح محبّة الله المترفّقة، إذ غرس كرمًا وأحاطه بسياج، وحفر فيه معصرة، وبنى برجًا، وسلّمه إلى كرّامين، وسافر. لقد ائتمنهم على الكرم بعد أن قدّم لهم كل الإمكانيّات للعمل، لكن إذ أرسل عبيده يطلب ثمرًا، جلَد الكرّامون بعضهم، وقتلوا بعضًا، ورجموا بعضًا. وتكرّر الأمر في دفعة أخرى، وأخيرًا "أرسل إليهم ابنه قائلاً: يهابون ابني. وأما الكرّامون فلما رأوا الابن قالوا بينهم: هذا هو الوراث، هلمّوا نقتله، ونأخذ ميراثه. فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه" [37-39].

    في المثل السابق ظهر اليهود كأصحاب كلام بلا عمل، ففقدوا مركزهم ليحل محلَّهم من بالعمل أعلنوا ندمِهم على ماضيهم. أمّا هنا فالسيِّد يكشف لهم أنهم عبر التاريخ كلّه لم يكونوا فقط غير عاملين، وإنما مضطهِدين لرجال الله في أعنف صورة، حتى متى جاء ابن الله نفسه الوارث يُخرجونه خارج أورشليم ليقتلوه!

    لقد أصدر الحكم عليهم من أفواههم، إذ سألهم: "فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرّامين؟" قالوا له "أولئك الأردياء يهلكهم هلاكًا رديًا، ويسلّم الكرْم إلى كرّامين آخرين، يعطونه الأثمار في أوقاتها" [40-41] وختم السيِّد على الحكم بقوله: "أمَا قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البنّاؤون هو قد صار رأس الزاوية، من قِِبَل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا. لذلك أقول لكن إن ملكوت الله يُنزع منكم ويعطي لأُمَّة تعمل أثماره. ومن سقط على هذا الحجر يترضَّض، ومن سقط هو عليه يسحقه" [42-44]. هكذا بلغ بهم السيِّد إلى النتيجة، ألا وهي الحاجة إلى هدْم البناء القديم ليقوم ملكوت الله على أساس جديد.

    ما هو الحجر المرفوض؟ قيل أنه عند بناء هيكل سليمان وَجد البنّاؤون حجرًا ضخمًا، فظنّوا أنه لا يصلح لشيءٍ فاحتقروه، ولكن إذ احتاجوا إلى حجر في رأس الزاوية لم يجدوا حجرًا يصلح مثل ذلك الحجر المُحتقر. وكان ذلك رمزًا للسيِّد المسيح الذي احتقره رجال الدين اليهودي، ولم يعلموا أن الحجر الذي يربط بين الحائطين في الهيكل الجديد، يضم فيه من هم من اليهود ومن هم من الأمم، ليصير الكل أعضاء في الملكوت الجديد.

    شرح القدّيس كيرلّس الكبير هذا المثل في شيء من التفصيل، إذ قال: [إن كان أحد يفحص مدلول ما قيل هنا بعينيّ الذهن الفاحصين يجد كل تاريخ بني إسرائيل مختصرًا في هذه الكلمات. فمن هو الذي غرس الكرم، وماذا يُفهم بالكرم المغروس قد أوضحه المرتّل بقوله عن الإسرائيليّين... "كرمَة من مصر نُقلت، طَردت أُممًا وغرستْها، هيَّأت قدامها فأصَّلت أصولها فملأت الأرض" (مز 80: 8-9). ويُعلن النبي الطوباوي إشعياء ذات الأمر بقوله: "كان لحبيبي كرْم على أَكَََمَة خصبة" (إش 5: 1)، ويتحدّث بأكثر قوّة موضّحًا ما سبق أن قيل بطريقة غامضة: "إن كرم رب الجنود هو بيت إسرائيل وغرس لذّته رجال يهوذا" (إش 5: 7). إذن الله هو غارس الكرم، سافر لمدة طويلة. إن كان الله يملأ الكل وليس غائبًا عن أي كائن بل هو موجود، فكيف سافر صاحب الكرم زمانًا طويلاً؟ هذا يعني أنهم بعد أن رأوه في شكل نار عند نزوله على جبل سيناء مع موسى الذي تكلم معهم بالشريعة كوسيطٍ، لم يعد يهبهم حضرته بطريقة منظورة، وإنما استخدم التشبيهات مأخوذة عن الأعمال البشريّة، فكانت علاقته بهم علاقة من هو سافر عنهم في رحلة بعيدة.

    إذن كما قلت، لقد سافر ومع هذا كان مهتمّا بكرْمه، يشغِل ذهنه. وإذ أرسل لهم خدّامًا أمناء على مراحل ثلاث مختلفة ليطلب المحصول أو الفاكهة من مخازن كرْمه. لم يترك فترة فاصلة بين هذه المراحل لم يُرسل الله فيها أنبياء أو أبرارًا ينصحون إسرائيل ويَحثّونه على تقديم ثمار حسب الشريعة لأمجاد الحياة. لكنهم كانوا أشرّارًا وعصاه ومتحجّري القلب، وكانت قلوبهم قاسية لا تقبل النصيحة حتى أنهم لم يصغوا للكلمة التي تنفعهم. فنرى إشعياء النبي وهو شخص يمكن القول إنه ذاب من كثرة الأتعاب والمشقّات بلا نفع، قائلاً: "يا رب من صدّق خبرّنا" (إش 53: 1). فبتجاهلهم للمرسلين إليهم "أرسلوهم فارغين" (لو 20: 10)، إذ لم يكن لهم من شيء صالح يقدّمونه لله مُرسلهم. وقد وبّخ إرميا أيضًا جموع اليهود مع حكّامهم بسبب عجرفتهم، وأنذره قائلاً: "من أُكلِّمه وأُنذره فيسمع؟! ها إن أُذنهم غلْفاء فلا يقدرون أن يَصغوا. ها إن كلمة الرب قد صارت لهم عارًا لا يُسرُّون بها" (إر6: 10). وفي موضع آخر يحدّث أورشليم هكذا: "داويْنا بابل فلم تُشفَ، دعوهما ولنذهب كل واحد إلى أرضه، لأن قضاءها وصل إلى السماء" (إر 51: 9). وكما قلت أنه يدعو أورشليم بابل، لأنها لا تختلف عن فارس (عاصمتها بابل) في عصيانها وارتدادها، ولأنها لم ترد أن تخضع للشرائع المقدّسة. وأيضًا ربّما لأنها صارت محتقرة، لأن ليس لها معرفة الله، إذ اختارت أن تتعبّد للخليقة دون الخالق ولعمل يديها، لأن إسرائيل كان مخطئًا بالارتداد عن الإيمان وعبادة الأوثان. هذا هو الطريق الذي به يطردون المرسلين إليهم بخزي.

    إذ تأمّل رب الكرْم مع نفسه قال: "ماذا أفعل؟!" (لو 20: 13). ويليق بنا أن نفحص بدقّة معنى هذا القول. هل يستخدم صاحب الكرْم هذه الكلمات، لأنه لم يعد له خدّام آخرين؟ بالتأكيد لا، فإن الله لا ينقصه خدّام لتحقيق إرادته المقدّسة. لكنّه كطبيب يقول للمريض: ماذا أفعل؟ من هذا نفهم أن الطبيب قد استخدم كل مصدر للفن الطبّي ولكن بلا نفع. لهذا نؤكد أن رب الكرْم قد مارس كل رقَّة ورعاية مع كرْمه، لكنّه دون أن ينتفع الكرْم بشيء، لهذا يقول: ماذا أفعل؟ وما هي النتيجة؟ لقد أراد أن يحقّق هدفًا أعظم إذ قال "أرسل ابني الحبيب، لعلّهم إذ رأوه يهابونه". فبعد إرساله الخدّام أرسل الابن كواحد لا يُحصى بين الخدّام إذ هو الرب والابن الحقيقي. إن كان قد أخذ شكل العبد من أجل التدبير لكنّه هو الله، ابن الله الآب نفسه، له سلطان طبيعي. فهل كرّم هؤلاء ذاك الذي جاء بكونه الابن والرب والمالك، بكونه وارثًا كل ما يخصّ الله الآب؟! لا، بل قتلوه خارج الكرْم، وقد دبّروا فيما بينهم عملاً غبيًا مملوء جهالة وشرًا، قائلين: "هلمّوا نقتله لكي يصير لنا الميراث". لكن اخبرني، كيف نقبل هذا؟ هل أنت ابن الله الآب؟ هل يكون لك الميراث طبيعيًا؟ إن كنت تطرد الوارث بعيدًا عن الطريق، فكيف تصير أنت ربًا تطمع في الميراث؟! كيف لا يكون هذا أمرًا مضحكًا وسخيفًا؟! فالرب بكونه الابن وكوارثٍ حقيقيٍ له السلطان لدى الآب قد صار إنسانًا، دعا الذين آمنوا به إلى شركة مملكته فيكون مالكًا معهم، أمّا هؤلاء فقد أرادوا نوال المملكة بمفردهم دونه، مغتصبين لأنفسهم الميراث الربّاني. هذا الهدف كان مستحيلاً ومملوء جهالة، لذلك يقول عنهم الطوباوي داود في المزامير: "الساكن في السموات يضحك بهم والرب يستهزئ بهم" (مز 2: 4). ولهذا طرد رؤساء مجمع اليهود بسبب مقاومتهم إرادة الله، مطالبًا إيّاهم بتسليم الكرْم الذي أُؤتُمنوا عليه ولم يُثمر. لقد قال الله في موضع آخر: "رعاة كثيرون أفسدوا كرمي، داسوا (دنّسوا) نصيبي، جعلوا نصيبي المشتهَى برّيّة خربة، جعلوه خرابًا" (إر 12: 10). وقيل على لسان إشعياء: "قد اِنتصب الرب للمخاصمة وهو قائم لدينونة الشعوب، الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم، وأنتم قد أكلتم (حرقتم) الكرم" (إش 3: 13-14). فإذ ردُّوا الأرض بلا ثمر كأشرار، فإنهم بعدلٍ يسقطون تحت ضيقات قاسية بسبب إهمالهم وقتلهم للرب.

    "ويعطي الكرم لآخرين"، من هم هؤلاء الآخرون؟ أجيب إنهم جماعة الرسل القدّيسين، والمبشّرون بالوصايا الإنجيليّة وخدّام العهد الجديد. الذين يعرفون كيف يهذّبون الناس بطريقةٍ لائقةٍ بلا لومٍ، ويقودونهم في كل شيء بما يَسُر الله بطريقة رائعة. هذا ما تتعلَّمه من قول الله على لسان إشعياء لأُمَّة اليهود أي مجمعهم: "وأرُد يدي عليكِ... وابحث عنك لأُنقّيكِ والذين لا يطيعونني يهلكون، وأنزع عنكِ فاعلي الشرّ وأخضع المتعجرفين، وأعيد قُضاتك كما في الأول ومشيريكِ كما في البداءة" (إش 1: 25) الخ. وكما قلت يُشير بهذا إلى مبشري العهد الجديد الذين قيل عنهم في موضع آخر في إشعياء: "أمّا أنتم فتُدعون كهنة الرب، تُسمُّون خدّام الله" (61: 6). أما كون الكرْم قد أُعطيَ لكرّامين آخرين، ليس فقط للرسل القدّيسين، وإنما أيضًا للذين جاءوا بعدهم، وإن كانوا ليسوا من دم إسرائيلي، فهذا يعلنه إله الجميع بقوله على لسان إشعياء عن كنيسة الأمم وعن بقيّة إسرائيل: "ويقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حُرَّاثيكم وكرَّاميكم" (إش 61: 5). فإنه بحق كثير من الأمم حُسِبوا كقدّيسين، وقد صاروا معلِّمين ومدرِّبين، وإلى الآن يوجد رجال من أصل أممي يحتلُّون مراكز كبرى في الكنائس يبذرون بذار التقوى التي للمسيح في قلوب المؤمنين ويردُّون الأمم الذين أُؤتُمنوا عليهم ككروم جميلة في نظر الله.]

    ويُعلّق القدّيس كيرلّس أيضًا على كلمات السيِّد عن نفسه أنه الحجر المرفوض، هكذا: [المخلّص هو الحجر المختار وقد رذَله هؤلاء الذين كان يجب عليهم بناء مجمع اليهود، وقد صار رأس الزاوية. يشبِّهَه الكتاب المقدّس بحجر زاوية، لأنه يجمع الشعبين معًا: إسرائيل والأمم في إيمان واحد وحب واحد (أف2: 15).]

    9. إدراك الرؤساء أمثلته

    "ولما سمع رؤساء الكهنة والفرّيسيّون أمثاله

    عرفوا أنه تكلَّم عليهم.

    وإذ كانوا يطلبون أن يمسكوه،

    خافوا من الجموع،

    لأنه كان عندهم مثل نبي" [45-46].

    لقد أدرك رؤساء الكهنة والفرّيسيّون كلمات الرب بعقولهم لكنهم لم يقبلوها بروح الحب والبنيان، وعِوض أن يقدّموا توبة عما ارتكبوه فكّروا في الانتقام منه.


    1 و لما قربوا من اورشليم و جاءوا الى بيت فاجي عند جبل الزيتون حينئذ ارسل يسوع تلميذين
    2 قائلا لهما اذهبا الى القرية التي امامكما فللوقت تجدان اتانا مربوطة و جحشا معها فحلاهما و اتياني بهما
    3 و ان قال لكما احد شيئا فقولا الرب محتاج اليهما فللوقت يرسلهما
    4 فكان هذا كله لكي يتم ما قيل بالنبي القائل
    5 قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك ياتيك وديعا راكبا على اتان و جحش ابن اتان
    6 فذهب التلميذان و فعلا كما امرهما يسوع
    7 و اتيا بالاتان و الجحش و وضعا عليهما ثيابهما فجلس عليهما
    8 و الجمع الاكثر فرشوا ثيابهم في الطريق و اخرون قطعوا اغصانا من الشجر و فرشوها في الطريق
    9 و الجموع الذين تقدموا و الذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين اوصنا لابن داود مبارك الاتي باسم الرب اوصنا في الاعالي
    10 و لما دخل اورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة من هذا
    11 فقالت الجموع هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل
    12 و دخل يسوع الى هيكل الله و اخرج جميع الذين كانوا يبيعون و يشترون في الهيكل و قلب موائد الصيارفة و كراسي باعة الحمام
    13 و قال لهم مكتوب بيتي بيت الصلاة يدعى و انتم جعلتموه مغارة لصوص
    14 و تقدم اليه عمي و عرج في الهيكل فشفاهم
    15 فلما راى رؤساء الكهنة و الكتبة العجائب التي صنع و الاولاد يصرخون في الهيكل و يقولون اوصنا لابن داود غضبوا
    16 و قالوا له اتسمع ما يقول هؤلاء فقال لهم يسوع نعم اما قراتم قط من افواه الاطفال و الرضع هيات تسبيحا
    17 ثم تركهم و خرج خارج المدينة الى بيت عنيا و بات هناك
    18 و في الصبح اذ كان راجعا الى المدينة جاع
    19 فنظر شجرة تين على الطريق و جاء اليها فلم يجد فيها شيئا الا ورقا فقط فقال لها لا يكن منك ثمر بعد الى الابد فيبست التينة في الحال
    20 فلما راى التلاميذ ذلك تعجبوا قائلين كيف يبست التينة في الحال
    21 فاجاب يسوع و قال لهم الحق اقول لكم ان كان لكم ايمان و لا تشكون فلا تفعلون امر التينة فقط بل ان قلتم ايضا لهذا الجبل انتقل و انطرح في البحر فيكون
    22 و كل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه
    23 و لما جاء الى الهيكل تقدم اليه رؤساء الكهنة و شيوخ الشعب و هو يعلم قائلين باي سلطان تفعل هذا و من اعطاك هذا السلطان
    24 فاجاب يسوع و قال لهم و انا ايضا اسالكم كلمة واحدة فان قلتم لي عنها اقول لكم انا ايضا باي سلطان افعل هذا
    25 معمودية يوحنا من اين كانت من السماء ام من الناس ففكروا في انفسهم قائلين ان قلنا من السماء يقول لنا فلماذا لم تؤمنوا به
    26 و ان قلنا من الناس نخاف من الشعب لان يوحنا عند الجميع مثل نبي
    27 فاجابوا يسوع و قالوا لا نعلم فقال لهم هو ايضا و لا انا اقول لكم باي سلطان افعل هذا
    28 ماذا تظنون كان لانسان ابنان فجاء الى الاول و قال يا ابني اذهب اليوم اعمل في كرمي
    29 فاجاب و قال ما اريد و لكنه ندم اخيرا و مضى
    30 و جاء الى الثاني و قال كذلك فاجاب و قال ها انا يا سيد و لم يمض
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 2:34 pm

    الأصحاح الثاني والعشرون

    مقاومو الملكوت

    إذ كانت الأيام تقترب جدًا ليتمجّد السيِّد على الصليب، معلنًا ملكوته السماوي الداخلي، كان العدوّ يقاوم بعنفٍ، مكثّفًا كل الطاقات للعمل ضدّ الملكوت.

    1. المدعوُّون المعتذرون 1-14.

    2. سؤاله بخصوص الجزية 15-22.

    3. سؤاله بخصوص القيامة 23-33.

    4. سؤاله عن الوصيّة العُظمى 34-40.

    5. السيِّد يسألهم عن نفسه 41-46.

    1. المدعوُّون المعتذرون

    يقدّم لنا السيِّد المسيح ملكوت السماوات بكونه عُرسًا صنعه ملك لابنه، ومع ذلك كان العرس ثقيلاً على المدعوّين "الذين لم يريدوا أن يأتوا" [3]. إنهم لم يكونوا مدعوّين للمشاركة من بعيد كمتفرجين ولا مجرّد أصدقاء، وإنما كعروس تتَّحد بالابن العريس على مستوى أبدي. إنها دعوة للدخول للفرح الدائم بلا انقطاع. لكن النفس من أجل بؤسها الداخلي ترفض الفرح لتعيش في غمٍ نابع لا عن ظروف خارجيّة، وإنما عن قلب مغلق لا يريد أن ينفتح للرب واهب السلام والفرح.

    هذا المثل كما يقدّمه لنا السيِّد المسيح ينطبق على اليهود خاصة القادة، الذين رفضوا ملكوت المسيّا السماوي، وهو بطريق أو آخر ينطبق على كل نفسٍ ترفض ملكوته الحقيقي في داخلها.

    العُرس الملوكي

    وجعل يسوع يكلّمهم أيضًا بأمثال، قائلاً:

    يشبه ملكوت السماوات إنسانًا ملكًا صنع عرسًا لابنه.

    وأرسل ليدعو عبيده المدعوّين إلى العرس،

    فلم يريدوا أن يأتوا" [1-3].

    ما هو هذا الملكوت السماوي إلا الكنيسة التي في حقيقتها هي عرس دائم، فقد أقامها الآب لابنه ينعم بها، وتنعم هي بحلوله في وسطها، وبإتكائها على صدره، تتقبّل منه أسرار أبيه، وتتمتّع بإمكانيّاته الإلهيّة، حتى ترتفع به وفيه إلى حضن أبيه، تنعم بشركة أمجاده.

    هذا هو العرس الذي اشتهى الآباء والأنبياء أن ينعموا به إذ رأوه من بعيد خلال الرموز والنبوّات حتى جاءت القدّيسة العذراء تحني رأسها بالطاعة والخضوع لله أمام الملاك جبرائيل، قائلة: "ليكن لي كقولك" (لو 1: 38)، فقبلت العُرس في داخلها. وكما يقول الأب غريغوريوس (الكبير): [يمكننا بوضوح وثقة أن نقول بأن الآب صنع للملك ابنه العُرس خلال سرّ التجسّد، حيث التصقت به الكنيسة المقدّسة، وكانت أحشاء العذراء الأم هي حجال العُرس... لهذا يقول المرتّل: "جعل في الشمس مظلَّته، مثل العريس الخارج من خدره" (راجع مز 18: 6). إنه مثل العريس الخارج من خدره، لأن الله المتجسّد خارج من أحشاء العذراء غير الدنسة ليتَّحد بالكنيسة.]

    حقًا إن الآب القدّوس الذي أرسل روحه إلى الأحشاء البتوليّة ليتمّم التجسّد الإلهي بحلول الكلمة الإلهي فيها، مقدّمًا للبشريّة العريس الحقيقي، مشتهى الأمم، هذا الذي رفضه اليهود، يودّ أن يجعل من كل مؤمن ملكوتًا سماويًا بحلول العريس في داخله، يُقيم فيه عرسًا روحيًا وفرحًا سماويًا لا يقدر العالم أن ينزعه! لقد بدأ السيِّد خدمته بدخوله عرس قانا الجليل ليقدّسه معلنًا أن رسالته تنطلق بدخوله إلينا ليقيم عرسنا الداخلي متقدّما كعريس أبدي، قادر وحده أن يتّحد بنا ويقدّسنا ويكشف لنا أسراره الإلهيّة الفائقة. حقًا إن دعوته لنا، إنّما هي دعوة لقبوله عريسًا أبدياً مشبع لنفوسنا!

    إرسال العبيد

    إن كان لا يمكن لعريسٍ أن يغتصب قلب من يطلبها كعروسٍ له بغير إرادتها؛ حتى إن أمكنه ذلك، فإنه لن يستريح ما لم ينبع حبّها له من قلبها بكامل حريَّتها، هكذا لا يريد السيِّد أن يغتصب قلوب شعبه بغير إرادتهم، إنّما يكتفي بتكرار الدعوة وإعلان فيض محبّته العمليّة نحوهم، مقدّمًا لهم وعوده الأبديّة، تاركًا لهم كامل الحرّية أن يقبلوه أو يرفضوه!

    يقول السيِّد أنه أرسل عبيده، وإذ رفضوا عاد فأرسل عبيدًا آخرين [4]، فأمسكوهم وشتموهم وقتلوهم [6]. بالنسبة لليهود العبيد الأوّلون هم الآباء الأوّلون كإبراهيم واسحق ويعقوب الذين نالوا الوعد ووضعوا ملامح الطريق الملوكي، حتى قال السيِّد "أبوكم إبراهيم تهلّل بأن يرى يومي فرأى وفرح" (يو 8: 56). لكن اليهود لم يسمعوا لهم ولا سلكوا على منوالهم إذ يوبّخهم السيِّد: "لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم" (يو 8: 39). وعِوض أن يفرحوا كأبيهم بيوم مجيئه رفضوا وقاوموا عمله الإلهي. أمّا العبيد الآخرون فهم الأنبياء الذين رسموا بكل وضوح خلال النبوّات كل ما يخصّ المسيّا الملك في تفاصيل كثيرة، لكن قتلة الأنبياء (مت 23: 37) يرفضون قبول نبواتهم عمليًا. وكما قتل آباؤهم الأنبياء ها هم يريدون أن يقتلوا من تنبَّأوا عنه.

    يرى القدّيس هيلاري أسقف بواتييه أن العبيد الآخربن هم الرسل الذين جاءوا يعلنون لليهود العرس الذي تحدّث عنه أنبياؤهم، لكنهم رفضوه وجاء تلاميذهم أي خلفهم يكرّرون الدعوة.

    ما فعله السيِّد مع اليهود فعله معنا جميعًا، فإنه لا يمل من إرسال عبيد لدعوتنا لهذا العرس بكل طريقة لكي نقبَّله عاملاً فينا. يدعونا خلال خدّامه وإنجيله والأحداث المحيطة بنا، ويتّكلم بروحه فينا. إنه "واقف على الباب يقرع" ينتظر أن ندخل به إلى قلبنا كما إلى جنّته، نجلس فيها سويًا، وننعم بالاتّحاد معه!

    الدعوة

    كانت ولا تزال دعوته إلينا خلال عبيده: "هوذا غذائي أعددته، ثيراني ومسمّناتي قد ذُبحت، وكل شيء مُعد؛ تعالوا إلى العرس" [4].

    إنها دعوة إلهيّة: "تعالوا إلى العرس"، تحمل قوّة وسلطانًا تقدر أن تجتذب القلب إلى العريس ليتَّحد معه ويكون معه واحدًا، لكن دون إلزام أو إجبار. وقد دفع العريس ثمن الدعوة بقوله: "هوذا غذائي أعددته، ثيراني ومُسمَّناتي قد ذُبحت، وكل شيء مُعد". تكلفة الدعوة هي حياته التي بذلها لمصالحتنا مع أبيه صاحب الدعوة، مقدّمًا لنا جسده ودمه المقدّسين طعامًا وشرابًا روحيًا لوليمة الملكوت الجديد. لقد صار كل شيء معدًا لدخولنا إلى الوليمة المقدّسة التي هي في جوهرها ارتفاع إلى الحياة السماويّة، فقد أرسل لنا روحه القدّوس في كنيسته، عمله أن ينطلق بكل نفس خلال التوبة إلى الحضرة الإلهيّة، ويرتفع بها من مجدٍ إلى مجدٍ، ليدخل بها إلى الهيكل الإلهي لتشارك الملائكة ليتورجيَّاتهم وتسابيحهم وتفتح فاهها لتتقبّل عريسها في داخلها سرّ فرح أبدي لا ينقطع. هكذا ينشغل الثالوث القدّوس بهذا العرس، فالآب هو صاحب الدعوة، والابن هو العريس الذي يدفع تكلفة العرس، والروح القدس هو الذي يعمل فينا ليهيئنا للعرس.

    ما هي هذه الوليمة التي أُعدَّت إلا تحقيق النبوّات بتقديم السيِّد المسيح عمله الخلاصي خلال الصليب، ذبيحة سرور ورضا لدى الآب وشبع للنفس البشريّة. لهذا يقول:"ثيراني ومُسمَّناتي قد ذُبحت، وكل شيء مُعد" [4]. لقد أُعدَّت المائدة المشبعة لله والناس!

    يرى العلاّمة أوريجينوس أن هذه المائدة الإلهيّة هي كلمة الله، فالثيران المذبوحة إنّما هي منطوقات الله العظيمة المُعدة لنا كطعامٍ روحيٍ، والمسمنات هي كلماته العذبة الشهيَّة. كأنه بمجيء الكلمة المتجسّد وارتفاعه على الصليب دخل بنا إلى سرّ الكلمة لنكتشف عظمتها ودسمها.

    ويرى القدّيس هيلاري أسقف بواتييه أن الثيران إنّما ترمز للشهداء الممجَّدين الذين شهدوا للرب مقدِّمين حياتهم ذبائح مختارة، والمُسمنات تُشير إلى الروحيّين الذين ينتعشون بالخبز السماوي ليحلِّقوا كالطيور، فيقدّمون كشبع للآخرين من الدسم الذي أكلوه. وكأننا إذ ننعم بملكوت السماوات خلال عضويّتنا الحقيقية للكنيسة المقدّسة ندخل إلى الوليمة التي تشبعنا، هذه التي قدّم الشهداء حياتهم ثمنًا للشهادة، والروحيّون جهادهم الدسم ثمنًا لحبّهم لمن فداهم. حقًا إن دماء الشهداء وجهاد الروحيِّين لا يضيع بل يبقى رصيدًا تعيش عليه الأجيال، لا لينتهي، إنّما ليضيفوا إليه أرصدة جديدة بشهادتهم وجهادهم القانوني. لهذا تترنَّم الكنيسة في ختام ثيؤطوكيَّات الواطس: "يأتي الشهداء حاملين عذاباتهم، ويأتي الصدّيقون حاملين فضائلهم، ويأتي ابن الله في مجده ومجد أبيه".

    قابلو الدعوة ورافضوها

    هذه الوليمة كما يكشفها لنا الوحي الإلهي في سفر الأمثال، تقدَّم لا للحكماء المتَّكلين على فهمهم، وإنما للذين هم في الشوارع والطرقات، يجوعون للحكمة الإلهيّة ويعطشون. لمثل هؤلاء تُقدّم الوليمة فيتناولوا الذبيحة المقدّسة، وينعموا بخمر الفرح الأبدي، فتبني الحكمة بيتها فيهم، بل يصيرون هم أنفسهم بيت الحكمة، حيث يسكن السيِّد المسيح، الحكمة ذاته، فيهم. جاء في سفر الأمثال: "الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدّتها السبعة، ذبحت ذبْحها، مزجت خمرها، أيضًا رتَّبت مائدتها، أرسلت جواريها تنادي على ظهور أعالي المدينة: من هو جاهل فلْيَمل إلى هنا، والناقص الفهم قالت له: هلمّوا كلوا من طعامي واشربوا من الخمر التي مزجتها، اُتركوا الجاهلات فتحيوا وسيروا في طريق الفهم" (أم 9: 1-6).

    إنها دعوة للعطاش إلى الحكمة، يُحرم منها من يظن في نفسه أنه في حالة شبع؛ دعوة للخطاة الراجعين، ينعمون بها أكثر ممن يظنّون في أنفسهم أنهم أبرار. فقد أقيمت الوليمة للابن الضال كطلب الآب المحب: "اِخرجوا الحُلًَّة الأولى وأَلبسوه، واجعلوا خاتمًا في يده وحذاء في رجليه، وقدّموا العجل المسمَّن واذبحوه، فنأكل ونفرح، لأن ابني هذا كان ميّتًا فعاش، وكان ضالاً فوُجد، فابتدأوا يفرحون" (لو 15: 22-24). أمّا الابن الأكبر، وإن كان لم يفعل ما ارتكبه أخوه، لكنّه وقف خارجًا حزينًا من أجل الوليمة المقامة والفرح الذي يملأ بيت أبيه.

    في المثال الذي قدَّمه السيِّد يُظهر المدعوين متهاونين بالوليمة كالابن الأكبر السابق ذكره، إذ يقول: "ولكنهم تهاونوا ومضوا واحد إلى حقله وآخر إلى تجارته. والباقون أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم" [5--6]. إنهم بالفعل هم الابن الأكبر، إذ هم جماعة اليهود الذين سبقوا الأمم في معرفة الله ولم يصنعوا شرورًا كالابن الأكبر أي الأمم، لكنهم لم ينعموا بالوليمة التي قُدّمت للابن الأصغر. لقد "تهاونوا" معتمدين على بنوَّتهم لإبراهيم ونوالهم الناموس والوعود وتمتّعهم بالنبوّات. "ومضوا واحد إلى حقله وآخر إلى تجارته". عاد الشعب إلى حقله، أي إلى الانشغال بالأمور الزمنيّة، والكهنة إلى تجارتهم أي إلى الهيكل يمارسون فيه "التجارة بالدين" عِوض العبادة الروحيّة. هكذا تركوا "المسيح" العريس ووليمته السماويّة لينشغلوا بالأمور الأرضيّة.

    مساكين هم هؤلاء المتهاونون بالوليمة، واحد منهم يُحرم منها بسبب حقله أي ذاته أو الأنا ego التي تثْقل نفسه فيبقى مرتبطًا بالحقل الذي يظنُّه باقيًا له إلى الأبد، أي يرتبط بالأرض ولا يقدر أن يرتفع إلى السماويات. هكذا تربطه الأنا بما هو حوله، فلا يقدر أن يتبرّر ليرتفع فوقها ويتّسع قلبه فوق حدودها! وآخر يُحرم من الوليمة من أجل تجارته، فتتحوّل العبادة إلى بيع وشراء من أجل الأنا أيضًا كما في الهيكل في أيام السيِّد المسيح، فيكون قلبه مركزًا للأعمال البشريّة لحساب مكاسب زمنيّة ومديحٍ زمنيٍ عِوض الأمجاد الأبديّة والأفراح الإلهيّة الدائمة، أمّا الثالث فيُحرم من العرس بسبب حبّه للشر، فيقابل العبيد المرسلين إليه للدخول إلى الوليمة بالسب والشتم بل والقتل، كأنما يتقدّمون إليه بأذيَّته. هكذا القلب الشرّير خلال البصيرة المظلمة يرى حتى الدعوة إلى العرس شرًا يقاومه بالشرّ!

    يا للعجب! عندما يدعو الله الناس للفرح الأبدي يتذمَّرون ويرفضون، بل ويتطاولون على خدّامه بالسب والقتل. وعندما يطلب منهم النوح للتوبة يفرحون ويتهلّلون حسب أهواء قلبهم الشرّير. يقول إشعياء النبي: "ودعا السيِّد رب الجنود في ذلك اليوم إلى البكاء والنوح والقرعة والتنطُّق بالمسح، فهوذا بهجة وفرح وذبح ونحر غنم، أكل لحم وشرب خمر، لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت" (إش 22: 12-13). لهذا يقول السيِّد الرب: "بمن أشبِّه هذا الجيل؟! يشبه أولادًا جالسين في الأسواق ينادون إلى أصحابهم ويقولون: زمّرنا لكم فلم ترقصوا، نُحنا لكم فلم تلطِموا" (مت 11: 16-17). يدعوهم للعرس فيأبون الحضور، ويسألهم النوح على خطاياهم فيرفضون. لهذا يُعلن السيِّد غضبه على هذا الشعب الرافض الدعوة، مقدّمًا إيّاهم للأمم إذ يقول: "فلما سمع الملك غضب وأرسل جنوده وأهلك أولئك القاتلين وأحرق مدينتهم. ثم قال لعبيده: أمّا العرس فمستعد، وأمّا المدعوُّون فلم يكونوا مستحقِّين. فاذهبوا إلى مفارق الطرق وكل من وجدّتموه فادعوه إلى العرس" [7-9].

    لقد غضب الملك من أجل مقاومي الملكوت الذين كان يجب أن يفرحوا بالدعوة ويكرزون بها، فصاروا رافضين لها، بل ومضطهدين للداعين إليها. لقد ألزموا الملك المسيّا أن يرفضهم، فتنفتح أبواب عرسه للأمم الذين يتشبَّهون بملكة سبَأْ التي سمعت بخبر سليمان لمجد الرب (1 مل 10: 1) فأسرعت إليه تسمع حكمته. يقول الوحيّ: "فأتت إلى أورشليم بموكبٍ عظيمٍ جدًا، بجمال حاملة أطيابًا وذهبًا كثيرًا جدًا وحجارة كريمة، وأتت إلى سليمان وكلّمته بكل ما كان بقلبها، فأخبرها سليمان بكل كلامها. لم يكن أمر مخفيًا عن الملك لم يخبرها به" (1مل10: 2-3). جاءت الأُمميَّة إلى أورشليم قاتلة الأنبياء، وارتفعت بقلبها نحو مدينة الملك العظيم، نحو السماء عينها، جاءت منطلقة بموكب عظيم جدًا تحت قيادة روح الله القدّوس، لتلتقي بسليمان الحقيقي واهب الحكمة وكاشف القلوب، الذي لا يُخفي عنه شيء. جاءت تُمثِّل كنيسة الأمم التي تقدّمت بجمالها، المحمَّلة بالأطياب والذهب الكثير جدًا والحجارة الكريمة. ما هذه الأطياب إلا مشاعر الحب التي كانت قبلاً مُمتصَّة بالكامل في الشهوات، فصارت الآن تحمل رائحة المسيح الذكية؟! والذهب الذي كان يستخدم في صنع الأصنام والآلهة الوثنيّة، وقد صار رمزًا للحياة الجديدة السماويّة وقبول ملكوت المسيح فينا؟! والحجارة الكريمة التي كانت لزينة الهياكل الوثنيّة وملابس الكهنة الوثنيّين، قد صارت الآن رمزًا للمسيح نفسه "اللؤلؤة كثيرة الثمن" (مت 13: 46)، ولأبواب أورشليم العليا وأساستها (رؤ 21: 19، 21)!

    كانت الأمم تعيش في الحياة المترفة المملوءة بالنجاسات، وكان الغنى عائقًا لها عن معرفة الله، كالجمل الذي لا يدخل من ثقب إبرة (مت 19: 24). لكنها إذ قبلت الكرازة بالإنجيل استطاع الجمل أن يحمل كل إمكانيّاتها مقدّسة للرب، فيعبُر بها خلال الباب الضيق "ثقب الإبرة"، ليقدّم مشاعرها وغناها من ذهب وحجارة كريمة لخدمة العُرس الجديد.

    رأت كنيسة الأمم سليمان الحقيقي، مصدر الحكمة، والبيت الذي بناه (1 مل 10: 4) أي كنيسته كبيتٍ ملوكيٍ لها؛ وطعام مائدته ومجلس عبيده (1 مل 10: 5)، لتجلس وتأكل من المائدة المعدَّة: الثيران والمُسمَّنات المذبوحة... تتناول من مذبحة سرّ حياتها وشبعها. لقد دخلت إلى أسرار العرس حتى "لم يبق فيها روح بعد" (1مل10: 5).
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 2:36 pm

    هكذا انفتح الباب للأمم وصارت الدعوة للبشريّة كلها، إذ يقول السيِّد: "فاذهبوا إلى مفارق الطرق وكل من وجدّتموه فاِدعوه إلى العرس" [9]. يقول العلاّمة أوريجينوس عن هؤلاء العبيد الذين أرسلهم السيِّد إلى مفارق الطرق هم الرسل أو الملائكة، الذين عهد إليهم دعوة الأمم، فإن العرس بالحق مُعد. وإن كانت الطرق تُشير إلى العالم فإن مفارقه كما يقول القدّيس هيلاري أسقف بواتييه إنما تعني الدعوة لغفران كل الخطايا الماضية التي سقطت فيها البشريّة. إنها دعوة للجميع ولمغفرة كل الماضي!

    ثوب العرس

    انفتح باب الخلاص على مصراعيه ليدخل الكل إلى الوليمة، ولكن يلزم أن يلتحف بلباس العرس، إذ يقول السيِّد: "فلما دخل الملك لينظر المتّكئين رأي هناك إنسانًا لم يكن لابسًا لباس العرس. فقال له: يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العرس؟ فسكت. حينئذ قال الملك للخدّام: اِربطوا رجليه ويديه وخذوه واِطرحوه في الظلمة الخارجيّة. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون" [11-14].

    حقًا إن الدعوة مفتوحة للجميع، إذ الله "يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1تي 2: 4)، لكن ليس الكل يقبل نعمة الله التي تقدّسه، بل قليلون هم الذين يقبلونها ويتجاوبون معها، فيصير لهم ثوب "الحياة المقدّسة" اللائق بالعرس الإلهي. يقول صفنيا النبي: "لأن الرب قد أعد ذبيحة قدْس مدعوِّيه. ويكون في يوم ذبيحة الرب إني أعاقب الرؤساء وبني الملك وجميع الأمم اللابسين لباسًا غريبًا" (صف 1: 7-انجيل متى Icon_cool. فإن كانت الدعوة قد وجِّهت للأمم الذين كانوا في الطرقات، فصاروا رؤساء وبني الملك، لكنهم إن لم يحملوا الثوب المقدّس في الرب يُطردون. يكون حالهم كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم كمن يهتمّ بثياب خارجيّة مُوَشَّاة بالذهب بينما تلتحف نفسه الداخليّة بالخرق الباليّة، أو كمن يسكن في قصر فخم مزيَّن بستائر ذهبية، بينما يبقى هو عاريًا يلبس الخِرق. ثوب العْرس عنده هو الحياة الداخليّة المقدّسة والمعلنة خلال التصرّفات العمليّة. حقًا إن الذين يدخلون العرس بثياب دنسة هم أكثر شرًا من الذين احتقروا الدعوة ورفضوها. فإن الآخرين احتقروا صاحب الدعوة برفضهم إيّاها، أمّا الأوّلون فاحتقروه بدخولهم الوليمة بحياة دنسة وثياب داخليّة نجسة لا تليق بكرامة صاحب الوليمة.

    يرى البعض أن لباس العرس ما هو إلا الإنسان الجديد الذي ننعم به في مياه المعموديّة كصورة خالقه، والذي يلتزم المؤمن بالحفاظ عليه ناميًا بواسطة روح الله القدّوس خلال حياة التوبة العمليّة المستمرّة والجهاد الروحي القانوني. يقول القدّيس هيلاري أسقف بواتييه: [ثوب العرس هو نعمة الروح القدس والبهاء الذي يضيء الحالة السماويّة التي يتقبّلها بالاعتراف الصالح الذي للإيمان، فيصير المؤمن بلا دنس ولا عيب إلى اجتماع ملكوت السماوات.] وكأن ثوب العرس هو الحياة الجديدة التي صارت لنا كعطيّة الروح القدس نتقبّلها بالإيمان الحق خلال مياه المعموديَّة بتمتّعنا بالإنسان الجديد. لكن ليس كل من اِعتمد يحتفظ بثوب عرسه... إنما يلتزم خلال إيمانه أن يسلك بالوصيّة الإنجيليّة بالروح القدس الساكن فيه. لهذا يقول القدّيس جيروم: [ثوب العرس هي وصايا الرب والأعمال التي تتمِّم الناموس والإنجيل، فتصير ثوبًا للإنسان الجديد، فمن يوجد في يوم الحكم حاملاً اسم "مسيحي" وليس له هذا الثوب يُدان.]

    ويحدّد القدّيس أغسطينوس الثوب في وصيّة واحدة يلتزم بها المسيحي هي "المحبّة". حقًا إن جميع الداخلين إلى الكنيسة أي ملكوت السماوات ينالون المعموديّة وقد يصومون ويصلّون. لكن سِمة المحبّة الحقيقيّة هي الثوب البهي الذي بدونه لن ينعم أحد بالوليمة، ويحدّد القدّيس على وجه الخصوص محبّة الأعداء بكونها المحك الحقيقي الذي يكشف عن حبّنا لله والقريب. لقد أعلن السيِّد محبّته للأعداء على الصليب طالبًا لهم الغفران، وحمل الشهيد استفانوس ذات الروح أثناء رجمه، معلنًا أنه يلبس ثوب العرس الأبدي. في محبّة الأعداء تتم كل الوصايا ويُعلن بهاء الإنسان الجديد الذي نلناه في مياه المعموديّة، وتظهر قوّة الروح القدس العامل فينا... بمعنى آخر ما يقوله القدّيس أغسطينوس إنما يكمّل ما قاله الآباء الآخرون.

    فيما يلي مقتطفات مختصرة لكلمات القدّيس أغسطينوس في هذا الشأن:

    v ثوب العرس، هل هو المعموديّة؟ بلا شك بدون المعموديّة لا يدخل أحد إلى الله، لكن ليس كل من ينال المعموديّة يأتي إليه، لذلك لا يمكننا أن نتطلّع إلى المعموديّة كثوب العرس... هنا ثوب العرس! "وأما غاية الوصيّة فهي المحبّة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء" (1تي1: 5). هذا هو ثوب العرس! لكنّها ليست أيّة محبّة!

    v يُرتدى ثوب العرس تكريمًا للعرس، أي تكريمًا للعروس والعريس... إذن فلتكرم العريس ولتكرم العروس ولتكن ابنًا لهما!

    v ليكن لكم الإيمان العامل بالحب، فإن هذا ثوب العرس. يا من تحبُّون المسيح حِبُّوا بعضكم بعضًا، حِبُّوا أصدقائكم وأعداءكم، ولا يكن هذا ثقلاً عليكم... أن تحبُّوا زوجاتكم وأولادكم هذا ليس بالأمر الكافي ليكون ثوبًا للعرس.

    آمنوا بالله! لتحبُّوا الله أولاً، وليمتد حبّكم له مقتنصين كل أحدٍ له. ألك عدو؟ اِقتنصه (بالحب) لله، لك زوجة وابن وعبد، أحضرهم لله. يوجد غريب! اِقتنصه لله، اِحضر عدوّك، فإنه لا يعود بعد عدوًا لك.

    لتصير فينا المحبّة كاملة ولتنتعش فتتكمّل، بهذا نرتدي ثوب العرس.

    القدّيس أغسطينوس

    v بحق تدعى المحبّة ثوب العرس، فقد اِلتحف به خالقنا عندما جاء إلى عرسه مع الكنيسة. خلال حب الله فقط وَحَّد الابن الوحيد نفوس المختارين من البشر معه. لهذا يقول يوحنا: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد" (يو 3: 16)... فمن يأتي إلى وليمة العرس بدون ثوب العرس إنّما هو ذاك الذي له إيمان بدون حب.

    الأب غريغوريوس (الكبير)

    وإذ يتكلَّم القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن المحبّة يقول أنها الثوب الملوكي الذي يلتحف به الإنسان فيصير كملكةٍ تدخل إلى العرش لتلتقي بالملك السماوي، ولا يقدر أحد من رجال البلاط أن يعترض طريقها.

    ويرى الأب غريغوريوس (الكبير) أن هذا الثوب الملوكي للعرس إنّما يُنسج بين عارضتين، هما محبّة الله ومحبّة القريب. فالحب هو طبيعة تتّسم بها النفس، لا تقدر أن تفصل محبّة الله عن القريب ولا القريب عن الله، الأمر الذي تحدّثنا عنه في دراستنا لسفر زكريّا (الأصحاح الثاني).

    موقف غير اللابسين للثوب

    يقول السيِّد "فقال له: يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العُرس، فسكت" [12]. لقد اِنتهى الزمان الذي كان يمكن فيه أن ينسج ثوب العرس، لذا يصمت من ليس لهم الثوب، إذ ليس لهم عذر ولا إمكانيّة للعمل!

    v لا يوجد في هذه الساعة موضع للتقدّم ولا فرصة للاعتذار لذلك يشهد كل الملائكة والعالم نفسه عن خطاياه.

    القدّيس جيروم

    v من يخطئ ولم يتجدّد ولا لبس الرب يسوع المسيح ليس له عذر، لذلك قيل "فسكت".

    العلاّمة أوريجينوس

    الظلمة الخارجيّة

    "قال الملك للخدّام:

    أربطوا رجليه ويديه وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجيّة،

    هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" [13].

    الإنسان الذي رفض بالحب أن يلبس ثوب العرس، فينال الحلّ من الخطيّة، مُقيِّدًا نفسه بنفسه بخطاياه خلال عدم محبّته، يسلّمه الملك المسيح للخدّام لكي يُربط، فيُحرم من حرّية الروح وحرّية الجسد، لا يقدر أن يحرّك رجليه ولا يديه، إذ لا يعرف أين يذهب ولا ماذا يفعل. لقد اختار أن يبقى في الظلمة الداخليّة، إذ انطمست بصيرته الداخليّة عن التمتّع بالحياة الجديدة وإدراك أسرار مسيحه، لهذا ينال أيضًا الظلمة الخارجيّة... هي امتداد لما صنعه بنفسه في داخله. أمّا البكاء وصرير الأسنان فيشير كما يقول القدّيس جيروم إلى قيامة الجسد ليشترك مع النفس في مرارة الظلمة الخارجيّة.

    كثيرون يُدعوْن، وقليلون يُنتخَبون

    في حديث السيِّد المسيح عن ملكوت السماوات يميّز بين وليمتين، الأولى وليمة العُرس التي نتحدّث عنها هنا، وهي تمثل الكنيسة الحاضرة التي تحمل عريسها في داخلها، ويجتمع فيها المؤمنون كأعضاء جسد المسيح يلبسون ثياب العرس، وإن كان يتسلّل معهم وبينهم من هم بغير هذه الثياب. أمّا الوليمة الأخرى (مت 8: 11) فهي امتداد للوليمة الحاضرة لا يوجد فيها إلا لابسو ثياب العرس.

    يصف السيِّد وليمة العرس التي نعيشها الآن فيقول: "لأن كثيرين يُدعوْن، وقليلين يُنتخَبون" [14]. ويُعلّق الآباء على هذا القول الإلهي هكذا.

    v كثيرون هم الذين يأتون إلى العُرس، وقليلون هم الذين يجلسون على المائدة.

    العلاّمة أوريجينوس

    v الصالحون كثيرون فإن قورنوا بالأشرار نجدهم قليلين. كثيرة هي حبوب الحنطة، لكنَّها إن قورنت بالتِبن تحسب قليلة.

    القدّيس أغسطينوس

    يتطلّع الأب غريغوريوس (الكبير) ليرى الكنيسة وقد اختفت الحنطة وسط التبن، فظهر كثير من الأشرار والخطاة وقليل من الأبرار الصالحين، لذلك يشبهها بفلك نوح المتسع من أسفل حيث يضم الحيوانات والثعابين، أمّا الإنسان والطيور ففي الطبقة العليا الضيقة. الجسديون من أسفل يملأون الفلك، أمّا الروحيّون فقليلون من أعلى. حقًا يتطلّع الرب إلى الكنيسة ليجد الأبرار كالسوسنة المحاطة بكثير من الأشواك (نش 2: 2). في مرارة يقول الإنسان لابس ثوب العرس: "صرت أخًا للتنانين وصاحيًا للنعام" (راجع أي30: 29). هذه هي الكنيسة أنها تضم قدّيسين، لكن الأشرار كالتنانين والمهملين كالنعام يتسلّلون إليها.

    2. سؤاله بخصوص الجزْيَة

    إن كان السيِّد قد فضح القادة الدينيّين لليهود بأمثاله لأجل توبتهم، فإنهم عِوض إصلاح موقفهم ورجوعهم عن العناد ازدادوا قسوة، فتكاتفوا معًا على مقاومته بكل طريقة.

    "حينئذ ذهب الفرّيسيّون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة.

    فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيّين، قائلين:

    يا معلّم نعلم أنك صادق وتُعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد،

    لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس.

    فقل لنا ماذا تظن،

    أيجوز أن تُعطي جزية لقيصر أم لا؟" [15-17]

    يمكننا أن نتوقَّع من الهيرودسيّين مثل هذا السؤال، إذ يهتمّون بجمع الجزية فيقدّمون منها نصيبًا لقيصر ويغتصبون الباقي لحسابهم الخاص، أمّا ما هو عجيب فإن الذين يثيرونه هم الفرّيسيّون الذين كانوا يطلبون التحرّر من الاستعمار الروماني، ويحسبون هذه الجزية علامة عبوديّة ومذلّة، ويتطلّعون إلى الهيروديسيّين كخونة ضدّ أمّتهم وناموسهم. لكن من أجل الخلاص من المسيح ومقاومة عمله كانوا يعملون مع الهيروديسيّين متجاهلين أفكارهم نحوهم التي نشأوا عليها زمانًا.

    "فعلم يسوع خبثهم، وقال: لماذا تجرِّبونني يا مراءون؟" [18]. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد دعاهم مُرائين حتى متى عرفوا أنه قارئ قلوب البشر لا يتجاسروا بعد أن يتمّموا خططهم.]

    يكمّل السيِّد حديثه، قائلاً: "أرُوني معاملة الجزية، فقدّموا له دينارًا. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟. قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. فلما سمعوا تعجّبوا وتركوه ومضوا" [19-22].

    كان ذلك الموقف فرصة يُعلن فيها السيِّد مبدأً روحيًا يلتزم به تلاميذه، ألا وهو "أعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، والعجيب أنه قدّم إعطاء قيصر حقّه قبل إعطاء الله حقّه. التزام المسيحي بالطاعة لقيصر أو للرؤساء وتقديم حقوق الوطن عليه من ضرائب والتزامات أخرى أدبيّة وماديّة فيه شهادة حق لحساب الله نفسه. يقول القدّيس بولس: "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتَّبة من الله، حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة... لذلك يلزم أن يُخضع له ليس بسبب الغضب فقط بل أيضًا بسبب الضمير، فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضًا... فاعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام" (رو 13: 1-7).

    يقول القدّيس أمبروسيوس: [يلزم الخضوع له كما للرب، وعلامة الخضوع هو دفع الجزية]، وأيضًا يقول: [يركّز الرسول على أن نرُد له ليس فقط المال، بل الكرامة والمهابة.]

    إذن ليست هنا ثنائيّة بين عطاء قيصر حقّه وعطاء الله حقّه، فإن كليهما ينبعان عن قلبٍ واحدٍ يؤمن بالشهادة لله خلال الأمانة في التزامه نحو الآخرين ونحو الله.

    في هذا المبدأ أيضًا احترام الكنيسة لقيصر، تعطيه حقّه في تدبير أموره، فلا تتدخل في السياسة، وإنما تلتزم بعملها الروحي. فالكنيسة ليست دولة داخل دولة، ولا هي منعزلة عن قيصر، إنّما تحبّه وتكرمه وتعطيه حقّه. هكذا تقدّم له حقّه، لكن ليس على حساب حق الله وشهادتها له.

    ويرى بعض الآباء في هذه العبارة الإلهيّة معنى رمزيًا، فإن كان قيصر يمثّل الجسد فإن الله يمثّل النفس، وكما يقول العلاّمة أوريجينوس: [لنعطِ الجسد بعض الأشياء أي الضروريّات كجزية لقيصر، أمّا الأمور الخاصة بطبيعة نفوسنا والتي تقودنا للفضيلة فيجب أن نقدّمها لله.] أمّا القدّيس هيلاري أسقف بواتييه فيقول: [لنرد لله ما هو لله أي نقدّم له الجسد والنفس والإرادة، عملة قيصر هي من الذهب وعليها ختم صورته، وعملة الله عليها صورته. لنعطِ المال لقيصر ولنحتفظ بالضمير الذي بلا عيب لله.]

    ما أحوجنا أن نفتح القلب بالروح القدس للسيِّد المسيح، فيصير بكامله له، عندئذ لا نحتاج إلى مجهود في تقديم كل حياتنا له، مقدّمين ما للمسيح للمسيح. فإن تقدَّست كل الحواس وانفتحت أبوابها لتتقبّل ما هو للمسيح تقدّم كل الحياة للمسيح. أمّا إن انفتحت أبواب الحواس لمشتهيات العالم وشهواته فلا يكون فينا ما هو للمسيح لنقدّمه له، بل نقدّم ما للعالم للعالم. في هذا يقول القدّيس هيلاري: [إن كان ليس لقيصر شيء لدينا فلا نلتزم أن نرد له شيئًا، ولكن إن كنّا نعتمد عليه وننعم بمميزات حكمه نلتزم أن نرد ماله.] ليتنا إذن لا نكون مدينين لأحد بشيء، ولا للشيطان أو الخطيّة حتى لا نلتزم له برد الضعف، إنّما نكون مدينين لله بكل عطاياه المجّانيّة ومحبّته فنقدّم له حياتنا وحبّنا.

    في أسلوب آخر يقول القدّيس أغسطينوس: [كما يطلب قيصر صورته على العملة هكذا يطلب الله صورته فينا.] بمعنى أن من يجد صورته فينا يمتلكنا ويستعبدنا، فإن رأى الله صورته فينا لا نقدر أن نهرب منه، وإنما من حقّه أن يمتلكنا ويستعبدنا، وإن رأى العالم فينا صورته يستعبدنا ويذلِّنا تحت قدميه.

    نستطيع أن نقول بأن هذا الدينار الذي أمسك به السيِّد وقد حمل ختم قيصر وكتابته ليس إلا النفس البشريّة التي حملت صورة الله ومثاله، حتى بعد سقوطها عاد الروح القدس فختمها من جديد، لتحمل صورة الملك وسجل فيها كلمته، لنلتزم أن نقدّم للملك السماوي عُملته الروحيّة تحمل صورته وكتابته. وكما أن العُملة إن أُهملت زمانًا تحتاج إلى تنظيفها لتظهر الصورة والكتابة من جديد، هكذا بالتوبة المستمرّة تظهر صورة خالقنا متجليّة في حياتنا.

    ويقدّم لنا العلاّمة أوريجينوس تفسيرًا رمزيًا آخر لكلمات السيِّد هنا، إذ يقول: [يحمل الإنسان صورتين؛ الأولى استلمها من الله عند الخلقة كما يقول سفر التكوين: "على صورة الله خلقه" (تك 1: 27)، والأخرى صورة الإنسان الترابي (1 كو 15: 49) التي أخذها بسبب عصيانه وخطيَّته عند طرده من الفردوس وقد أغراه "رئيس هذا العالم" (يو 12: 31). كما أن العُملة أو الفلس بها صورة لسلطان هذا العالم، هكذا من يتمّم أعمال رئيس الظلمة (أف 6: 12) يحمل صورته. لذلك يأمر يسوع بإرجاع هذه الصورة ونزعها عنّا حتى نتقبّل الأصل الذي عليه خلقنا مشابهيّن لله. بهذا نرد ما لقيصر لقيصر وما لله لله... بنفس المعنى يقول بولس: "كما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضًا صورة السماوي" (1 كو 15: 49). فالقول "اِعطوا ما لقيصر لقيصر" إنّما يعني: [اتركوا صورة الترابي، اِلقوا عنكم الصورة الأرضيّة لتنعموا بصورة الإنسان السماوي، عندئذ تعطوا ما لله لله.]

    3. سؤال بخصوص القيامة

    إذ كان السيِّد المسيح يتحدّث عن الملكوت السماوي كملكوت أبدي، تقدّم إليه الصدّوقيّون الذين سيطر عليهم الفكر المادي، خاصة في تفسير الكتاب المقدّس بطريقة حرفيّة، فلم يستطيعوا أن يقبلوا عودة الجسد بعد انحلاله لذلك أنكروا القيامة، فاصطدموا بكلمات السيِّد في هذا الشأن. سألوه: "يا معلّم، قال موسى إن مات أحد وليس له أولاد يتزوّج أخوه بامرأته ويقيم نسلاً لأخيه. فكان عندنا سبعة إخوة وتزوَّج الأول ومات. وإذ لم يكن له نسل ترك امرأته لأخيه. وكذلك الثاني والثالث إلى السبعة. وآخر الكل ماتت المرأة أيضًا. ففي القيامة لمن من السبعة تكون زوجة، فإنها كانت للجميع؟" [24-28].

    يقول العلاّمة أوريجينوس: [يرجع خطأ كل الصدّوقيّين إلى عدم فهمهم لعبارات الأنبياء، كأن يقرأون في إشعياء: "لا يتعبون باطلاً ولا يلدون للرعب، لأنهم نسل مباركي الرب وذرّيتّهم معهم" (إش 65: 23)، وفي فصل البركة في التثنية: "ويبارك ثمرة بطنك" (تث 28: 4). فيعتقدون أن هذا يتحقّق عند القيامة دون أن يفهموا أنه يتنبأ عن البركة الروحيّة. فبولس "الإناء المختار" (أع 9: 15) يدرك تمامًا أن البركة المُشار إليها في الناموس لا تعني الجانب الجسداني، إنّما يفسرها بطريقة روحيّة، فيقول لأهل أفسس: "مبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحيّة في السمويّات" (أف 1: 3)... يسقط الصدّوقيّون في نفس الخطأ حين يقرأون في المزامير (بطريقة حرفيّة): "امرأتك مثل كرْمة مخصبة في جوانب بيتك، بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك هكذا يُبارَك الرجل المتَّقي الرب" (مز 128: 3-4)... بينما الذين يفهمون العبارة عن أورشليم الروحيّة يُدركون أنها "أورشليم العُليا التي هي أُمِّنا جميعًا، فهي حرة" (غل 4: 26)، ويرون أن فيها تتحقّق هذه الخيرات الواردة في المزمور.]
    Ranea Rashad
    Ranea Rashad
    مشرفة عامة
    مشرفة عامة


    عدد المساهمات : 1029
    تاريخ التسجيل : 13/04/2010
    العمر : 37

    انجيل متى Empty رد: انجيل متى

    مُساهمة  Ranea Rashad الأحد مايو 23, 2010 2:37 pm

    قدّموا للسيِّد المسيح القصة السابقة ظانِّين أنها لغز لا يمكن حلُّه، لكن السيِّد كعادته يستخدم حتى المقاومة كفرصة لتقديم المفاهيم الإيمانيّة السليمة. فقد انتهز السيِّد هذه الفرصة ليحدّثنا عن مفهوم الحياة الملكوتيّة العتيدة، مؤكِّدًا أنها لا تقوم على مفاهيم أرضيّة، ولا يرتبط فيها الأعضاء برباطات جسديّة، إذ يقول: "تضلُّون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوّة الله. لأنهم في القيامة لا يزوِّجون ولا يتزوَّجون، بل يكونون كملائكة الله في السماء. وأما من جهة قيامة الأموات، أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل. أنا إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب، ليس الله إله أموات بل إله إحياء" [29-32].

    لقد أجاب السيِّد سؤالهم من جانبين: من الجانب المنطقي، فإن الحياة الأبديّة هي حياة فائقة على مستوى ملائكي، ومن الجانب الكتابي أن الله إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب، إنّما هو إله أحياء لا إله أموات.

    في الحياة الأبديّة نمارس حياة ملائكيَّة فلا يوجد زواج. هنا يسترعي القدّيس يوحنا الذهبي الفم اِنتباهنا أنه ليس لأنهم لا يتزوَّجون هم ملائكة، وإنما لأنهم ملائكة فهم لا يتزوَّجون. لذلك فإن غايتنا - حتى بالنسبة للرهبان - أن ننعم بالحياة الملائكيّة لا عدم الزواج في ذاته.

    يقول القدّيس كيرلّس الكبير أن الصدّوقيّين بشرِّهم اقتربوا إلى السيِّد المسيح مخلّص الكل، الذي هو الحياة والقيامة (يو 11: 25)، وكانوا يسعون لإنكار القيامة حتى يفقدوا العالم كلّه الرجاء، وكان يمكن للسيِّد المسيح أن يؤكّد لهم القيامة من كتابات الأنبياء (هو 13: 14، إش 36: 19، مز 104: 29) لكنّه لم يدخل معهم في مناقشات كلاميّة، إنّما قدّم لهم تذوّقا جديدًا للقيامة، ملهبًا قلب مؤمنيه نحوها للتمتّع بالحياة الملائكيّة الفائقة.

    ربّما نتساءل: هل في السماء نتجاهل القرابات الجسديّة؟

    يجيب القدّيس أغسطينوس: [لا يوجد في ملكوت السماوات قرابات زمنيّة من هذا النوع: "لأنه ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حرّ، ليس ذكر وأنثى" (غل 3: 28)، "بل المسيح الكل في الكل" (كو 3: 11)... لو سألنا مسيحيًّا صالحًا له زوجة، وقد يكون لديه أبناء منها عمَّا إذا كان يرغب في أن تكون له علاقة جسديّة بزوجته في ملكوت السماوات، فبالرغم من محبّته لزوجته في الحياة الحاضرة وارتباطه بها، سيجيب بلا تردّد رافضًا بشدة أن تكون علاقته بها في السماء علاقة جسديّة، لأنه يهتمّ بتلك الحياة التي فيها يلبس الفاسد عدم فساد، وهذا المائت عدم موت. هل لي أن أسأله مرّة أخرى، عمَّا إذا كان يرغب في أن تكون زوجته معه بعد القيامة هناك، حتى يكون لها ذلك التغيّر الملائكي الذي وعد به الرب القدّيسين، فإنه سيجيب بالإيجاب بشدَّة، قدر ما رفض بشدة في الحالة الأولى... وهذا ما ينطبق أيضًا على الأبوَّة والأمومة وبقيّة العلاقات الجسديّة... فهناك لا نقول لأحد "أبي" بل جميعنا نقول لله "أبانا"، ولا نقول لأحد "أمِّي"، بل نقول جميعنا لأورشليم السماويّة "أُمِّنا"، ولا نقول لأحد "أخي" بل يقول كل للآخر "أخانا". حقًا سيكون هناك زواج من جانبنا، إذ نتقدّم جميعًا كزوجة واحدة لذاك الذي خلَّصنا من نجاسة هذا العالم بسفك دمه.]

    ويجيب القدّيس جيروم قائلاً: [عندما يُقال: لا يزوَّجون لا يتزوِّجون يظهر أن التمايز الجنسي قد انتهى.] [حقًا سيكونون ممجّدين وينعمون بالسموّ الملائكي، لكنهم مع هذا يبقون بشريّين، فيبقى الرسول بولس وهو بولس ومريم هي مريم.] مرّة أخرى في حديثه ضدّ أتباع جوفنيانوس يقول: [إن كان الوعد لنا أن نكون كالملائكة، ولا يوجد بين الملائكة جنسان متمايزان، فإنّنا سنكون بلا تمايز جنسي كالملائكة. على أي الأحوال، فإنّنا إذ نقوم من الأموات نحمل الجنس الذي لنا لكننا لا نمارس وظيفة الجنس.]

    يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [إذ تنزع كل شهوة جسديّة ولا يكون فيهم موضع للملذّات الجسديّة. يشبهون الملائكة، مقدّمين خدمة روحيّة غير ماديّة، فيصيرون كأرواح مقدّسة، وفي نفس الوقت يحسبون مستحقِّين لمجد يتمتّع به الملائكة.]

    إن عدنا إلى القصة التي رواها الصدّوقيّون، فإنها ربّما تمثل قصَّة الكنيسة كلها. فالمرأة التي تحدّثوا عنها هي الكنيسة التي ارتبطت بعريسها الأبدي ليملأ قلبها، لكن من خلال واقعها الزمني الذي يُشار له بالرجال السبعة، لأن الزمن يُشار إليه برقم 7 (عدد أيام الأسبوع) ارتبطت بأعمال الناموس كرجل لها فظن اليهود أنهم أبرار، لكن يلزمهم أن يتقبّلوا العريس الأبدي إن ماتوا عن البِرّ الذاتي أو الأعمال البشريّة الزمنيّة الذاتيّة. هذه الكنيسة إذ تقوم لعريسها الأبدي تحمل الطبيعة الملائكيّة، ولا يقوى عليها الموت، فلا تحتاج إلى الزيجات الجسديّة بعد انقضاء الدهر.

    نحن في العالم نحتاج إلى الزواج بسبب موت الجسد، لكننا إذ نصير كالملائكة لا تدخل إلينا الخطيّة ولا نسقط تحت الموت، فلا حاجة إلى زواجٍ لإنجاب أجيال تالية عِوض الجيل القائم.

    4. سؤاله عن الوصيّة العُظمى

    "وأما الفرّيسيّون فلما سمعوا أنه أبكَمَ الصدّوقيّين اجتمعوا معًا.

    وسأله واحد منهم وهو ناموسي ليجرّبه قائلاً:

    يا معلّم أيّة وصيّة هي العُظمى في الناموس؟

    فقال له يسوع: تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك.

    هذه هي الوصيّة الأولى والعُظمى.

    والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك.

    بهاتين الوصيّتين يتعلَّق الناموس كلّه والأنبياء" [34-40].

    سمع الفرّيسيّون أنه أبكَمَ الصدّوقيّون. وقد ميّز العلاّمة أوريجينوس بين حالة البُكْم وحالة الصمت المقدّس. فقد أصيب الصدّوقيّون بالبُكْم كعلامة فشل، لم يجدوا بعد كلمة يمكنهم أن ينطقوا بها ضدّ الحق، أمّا الصمت المقدّس فهي حالة توقف إرادي عن الكلام مع الناس، لكي تنفرد النفس بالحديث مع الله. الصمت ليس علامة فشل وعجز بل انطلاق للنفس نحو الله تناجيه ويناجيها.

    v بهاء الحق يُسكت على الدوام صوت الباطل المرّ والمضر.

    v يصمت البار إذ يُعلّم أن للسكوت وقت وللكلام وقت (جا 3: 7)، لكنّه لا يصير أبكمًا. إنّما هذه سِمة خاصة بالصدّوقيّين - وكل من يُعلّم بالباطل، إذ هم يبكمون ولا يصمتون. فإنهم وإن كانوا بُكمًا عن الحق لكنهم غير صامتين، هكذا قال الرب للبحر وليس للإنسان أن يبكم، منتهرًا إيّاه إذ كان عاصفًا.

    العلاّمة أوريجينوس

    إذ سمع الفرّيسيّون أنه أبْكَم الصدّوقيّين اجتمعوا معًا، إذ شعروا بمهابة السيِّد المسيح وخشوا أن يلتقوا به فرادى، تقدّموا كجماعة... وعندئذ تقدّم فرّيسي ناموسي بمكر يجرّبه في الناموس ذاته، بسؤاله: "يا معلّم أيّة وصيّة هي العُظمى في الناموس؟" ربّما توقع الناموسي في السيِّد أن يميّز بين الوصايا الموسويّة فيكون بهذا قد احتقر الناموس، أو ربّما سمعوا عن موعظته التي ألقاها على الجبل مكملاً الناموس، فظنّوا أنه يجيب بأن الناموس ناقص، وأنه قد جاء ليكمّله، فيجدوا ما يشتكون به عليه. لكن السيِّد أجاب بحكمة وبالحق معلنًا أن الوصيّة الأولى والعظمة هي محبّة الله من كل القلب والنفس والذهن، وأن الوصيّة التاليّة ليست بأقل منها بل مثلها أن يحب الإنسان قريبه مثل نفسه.

    بهذه الإجابة المختصرة قدّم لنا السيِّد مفهوم الوصيّة بمنظار مسيحي، أن الوصايا وِحدة واحدة لا تنفصل عن بعضها البعض، فإن كان حبّنا لله بلا حدود هو أعظم الوصايا، فإن حبّنا لإخوتنا ليس بأقل منها، إذ لا يمكننا أن نحب الله غير المنظور خارج حبّنا لإخوتنا المنظورين. وبحبّنا لله والإنسان إنّما تكمل جميع الوصايا والأنبياء. هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد أراد السيِّد تأكيد حقيقة هامة وهي أن الوصايا ليست موضوع بحث عقلي ومناقشات ومجادلات، وإنما هي حياة حب يعيشها الإنسان ويحياها.

    v هؤلاء وحدهم يتقبّلون داخلهم عظمة الوصيّة وأولويَّتها، ليس من يحبُّون الرب إلههم فحسب، إنّما يضعون في أنفسهم أن يحقّقوا هذا خلال شروط ثلاثة؛ أي بكل قلبهم يتمسَّكون في داخلهم بكمال هذا الحب وأفكاره وأعماله؛ وبكل نفسهم أي يكونون على استعداد أن يبذلوها من أجل الخدمة لله الذي خلق كل شيء، عندما يتطلّب ذلك نشر كلمته؛ فإن الله يُحَبْ من كل النفس عندما لا يُمسك أي جزء من النفس خارج حفظ الإيمان؛ ويحبّونه بكل الفكر، فلا يفكِّرون بشيء ولا ينطقون إلا في الإلهيّات.

    العلاّمة أوريجينوس

    v قريبي إنسان مثلي على صورة الله، يليق بي أن أُحبّه كما أُحِب نفسي... يلزمني أن أهتم به كما بجسدي ودمي، وأتعامل معه بالحب واللطف والحنو، غافرًا له أفكاره كما أغفر لنفسي أفكاري، وكما أشتاق إلى العفو من الآخرين عن ضعفاتي.

    الأب يوحنا من كرونستادت

    كيف يعتمد كل الناموس والأنبياء على هاتين الوصيّتين؟

    v من يتمّم كل ما هو مكتوب بخصوص حب الله وحب القريب يستحق أن يتقبّل هبات الله العُليا، أوِّلها كلمة الحكمة خلال الروح القدس، خلالها تأتي كلمة المعرفة حسب نفس الروح (1 كو 12: انجيل متى Icon_cool. وإذ يتأهّل لكل هذه العطايا يفرح بحكمة الله ويمتلئ قلبه بحب الله، وتستنير نفسه بنور المعرفة وذهنه بكلمة الله.

    v من له المحبّة لن يفرح بالظلم، وإنما يفرح على الدوام بالحق.

    v من له المحبّة يحتمل كل التجارب بصبرٍ، ولا يكون له الإيمان جزئيًا بل الإيمان بكل شيء، ولا يكون رجاؤه جزئيًا بل يترجَّى كل شيء. ليس شيء لا تحتمله المحبّة.

    العلاّمة أوريجينوس

    5. السيِّد يسألهم عن نفسه

    إن كان قادة الفكر اليهودي قد قاوموا الملكوت بكل الطريق، فإن السيِّد أفحمهم بكشفه عن حقيقة شخصه كرب داود، إذ سأل الفرّيسيّين: "ماذا تظنّون في المسيح، ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح ربًا، قائلاً: قال الرب لربِّي اِجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك. فإن كان داود يدعوه ربًا، فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة" [42-46].

    لم يستطع أحد أن يجيبه إذ كشف لهم أن المسيّا ابن داود إنّما هو ربُّه الذي يخضع مقاوموه تحت قدميه. وكأن السيِّد كان يُحذّرهم من المقاومة، إذ جاء ليُخلّص لا ليدين. إنه يفتح الباب لقبولهم حتى لا يوجدوا في يوم الرب العظيم كأعداء مقاومين.

    v المسيح هو ابن داود وربُّه. إنه رب داود على الدوام وابنه حسب الزمن... هو رب داود المولود من الآب، وابن داود المولود ابنًا للعذراء مريم الذي حُبل به منها بالروح القدس. فلنتمسَّك بكليهما بشدة... فلو لم يهبنا ربّنا يسوع المسيح أن يصير إنسانًا لهلك الإنسان.

    القدّيس أغسطينوس

    v الكلمة معنا بكونه الله وقد أخذ شكلنا ولم يحتقر بشريَّتنا المتواضعة حتى يخلّص من هم تحت السماء.

    القدّيس كيرلّس الكبير


    1 و جعل يسوع يكلمهم ايضا بامثال قائلا
    2 يشبه ملكوت السماوات انسانا ملكا صنع عرسا لابنه
    3 و ارسل عبيده ليدعوا المدعوين الى العرس فلم يريدوا ان ياتوا
    4 فارسل ايضا عبيدا اخرين قائلا قولوا للمدعوين هوذا غدائي اعددته ثيراني و مسمناتي قد ذبحت و كل شيء معد تعالوا الى العرس
    5 و لكنهم تهاونوا و مضوا واحد الى حقله و اخر الى تجارته
    6 و الباقون امسكوا عبيده و شتموهم و قتلوهم
    7 فلما سمع الملك غضب و ارسل جنوده و اهلك اولئك القاتلين و احرق مدينتهم
    8 ثم قال لعبيده اما العرس فمستعد و اما المدعوون فلم يكونوا مستحقين
    9 فاذهبوا الى مفارق الطرق و كل من وجدتموه فادعوه الى العرس
    10 فخرج اولئك العبيد الى الطرق و جمعوا كل الذين وجدوهم اشرارا و صالحين فامتلا العرس من المتكئين
    11 فلما دخل الملك لينظر المتكئين راى هناك انسانا لم يكن لابسا لباس العرس
    12 فقال له يا صاحب كيف دخلت الى هنا و ليس عليك لباس العرس فسكت
    13 حينئذ قال الملك للخدام اربطوا رجليه و يديه و خذوه و اطرحوه في الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء و صرير الاسنان
    14 لان كثيرين يدعون و قليلين ينتخبون
    15 حينئذ ذهب الفريسيون و تشاوروا لكي يصطادوه بكلمة
    16 فارسلوا اليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين يا معلم نعلم انك صادق و تعلم طريق الله بالحق و لا تبالي باحد لانك لا تنظر الى وجوه الناس
    17 فقل لنا ماذا تظن ايجوز ان تعطى جزية لقيصر ام لا
    18 فعلم يسوع خبثهم و قال لماذا تجربونني يا مراؤون
    19 اروني معاملة الجزية فقدموا له دينارا
    20 فقال لهم لمن هذه الصورة و الكتابة
    21 قالوا له لقيصر فقال لهم اعطوا اذا ما لقيصر لقيصر و ما لله لله
    22 فلما سمعوا تعجبوا و تركوه و مضوا
    23 في ذلك اليوم جاء اليه صدوقيون الذين يقولون ليس قيامة فسالوه
    24 قائلين يا معلم قال موسى ان مات احد و ليس له اولاد يتزوج اخوه بامراته و يقم نسلا لاخيه
    25 فكان عندنا سبعة اخوة و تزوج الاول و مات و اذ لم يكن له نسل ترك امراته لاخيه
    26 و كذلك الثاني و الثالث الى السبعة
    27 و اخر الكل ماتت المراة ايضا
    28 ففي القيامة لمن من السبعة تكون زوجة فانها كانت للجميع
    29 فاجاب يسوع و قال لهم تضلون اذ لا تعرفون الكتب و لا قوة الله
    30 لانهم في القيامة لا يزوجون و لا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء
    31 و اما من جهة قيامة الاموات افما قراتم ما قيل لكم من قبل الله القائل
    32 انا اله ابراهيم و اله اسحق و اله يعقوب ليس الله اله اموات بل اله احياء
    33 فلما سمع الجموع بهتوا من تعليمه
    34 اما الفريسيون فلما سمعوا انه ابكم الصدوقيين اجتمعوا معا
    35 و ساله واحد منهم و هو ناموسي ليجربه قائلا
    36 يا معلم اية وصية هي العظمى في الناموس
    37 فقال له يسوع تحب الرب الهك من كل قلبك و من كل نفسك و من كل فكرك
    38 هذه هي الوصية الاولى و العظمى
    39 و الثانية مثلها تحب قريبك كنفسك
    40 بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله و الانبياء
    41 و فيما كان الفريسيون مجتمعين سالهم يسوع
    42 قائلا ماذا تظنون في المسيح ابن من هو قالوا له ابن داود
    43 قال لهم فكيف يدعوه داود بالروح ربا قائلا
    44 قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى اضع اعداءك موطئا لقدميك
    45 فان كان داود يدعوه ربا فكيف يكون ابنه
    46 فلم يستطع احد ان يجيبه بكلمة و من ذلك اليوم لم يجسر احد ان يساله بتة

      مواضيع مماثلة

      -

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس أبريل 18, 2024 11:30 pm